وضع داكن
28-03-2024
Logo
العقيدة الإسلامية - الدرس : 05 - مسالك العقيدة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

مسالك العقيدة:

 أيها الأخوة, لازلنا في موضوع العقائد وهو أن الإنسان في تحركاته، وفي مواقفه، وفي حركاته وسكناته إنما ينطلق من قناعات، أو من مفاهيم، أو من معتقدات، وهذه العقيدة إن صح التعبير فلها مسالك:
المسلك الأول: أن تتيقن عن طريق الحواس وهذا هو اليقين الحسي، وقد تحدثنا عنه من قبل.
المسلك الثاني: أن تتيقن عن طريق الاستدلال الفكري أو اليقين الاستدلالي، إذا ظهرت ذات الشيء فالإدراك حسي، وإذا غابت ذاته وبقيت آثاره فالاستدلال فكري.
المسلك الثالث: إذا غاب الشيء وغابت آثاره فلابد من الخبر الصادق وهو مسلك ثالث من مسالك العقيدة، وقد ذكرنا يستحيل على الجمع الغفير تواطؤهم على الكذب، فإذا روى الجمع الغفير عن الجمع الغفير فهذا تواتر، والتواتر أحد مسالك اليقين.

كيف تقنع الملحد بأن القرآن كتاب الله ؟

 كيف نؤمن بالقرآن الكريم ؟ هذا سؤال مهم، بين المسلمين لا أحد يقول: هذا الكتاب ليس كتاب الله، لكنك لو جلست أمام ملحد وقال لك: أثبت لي أن هذا الكتاب هو كتاب الله هنا المحك إما أن تقول: والله هذا كتاب الله يا أخي فهذا لا يكفي، وقد تكون قانعاً أنه كتاب الله، ولكنك لن تستطيع أن تقنع أحداً بذلك إلا إذا ملكت الحجة والدليل، ولذلك لابد من تدبر هذا القرآن فإذا تدبرته توصلت إلى أنه يستحيل على بشر أن يصوغه لأن هذا الكتاب معجزة، فإذا بدا لك إعجازه اللغوي و البياني، وإعجازه التشريعي، و التاريخي، والرياضي، إذا بدا لك أنه كتاب معجز، وأن كائناً ما كان من البشر لا يستطيع أن يأتي به من عنده، إذاً هذا الذي أتى به هو رسول الله، مِن أين نستنبط أن هذا الكتاب هو كتاب الله ؟ مِن إعجازه، وكيف نعرف إعجازه ؟ مِن تدبره لذلك قال الله سبحانه وتعالى:

﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾

(سورة محمد الآية: 24)

 حينما قال:

 

﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً﴾

 

( سورة الفرقان الآية: 30)

 فسّر المفسّرون هذه الآية على وجوه عديدة، فبعضهم فسرها أن هجر القرآن هو هجر سماعه، أو هجر تلاوته، أو هجر العمل به، أو هجر الاحتكام إليه، أو هجر تدبره.

ينبغي على المسلم أن لا يكون ساذجاً في فهم كتاب الله:

 لذلك أن تصدق الناس فيما قالوه لك من دون تحقق، وتبصّر، وتعمق، فهذا التصديق الساذج العفوي غير المجهد لا يصمد أمام الشهوات، ولا أمام الضغوط، ولا أمام المغريات، لذلك ينتكس الإنسان لماذا ؟ لأن شخصًا زلزله إذ سأله سؤالاً، والإيمانُ يُبنَى على بحث، وفهم، وتدبر، وعقل، ومناقشة، ومذاكرة، واستدلال، وتحقق، فإنه لا يصمد في الشدائد، أما في الرخاء فلا بأس, إذا كنت متأكداً وموقناً أن هذا القرآن كلام الله، وأنه قطعي الثبوت قطعي الدلالة وأن الله إذا قال في القرآن:

﴿إنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾

( سورة الحج الآية: 38)

 تستطيع أن تواجه الجبال الراسيات بإيمانك بهذا الكتاب، وإذا قرأت هذا الكتاب وتيقنت أنه كلام الله وقرأت قوله تعالى:

﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾

(سورة الأعراف الآية: 128)

 تبقى متفائلاً حينما يدخل في قلوب الناس اليأس، ولو أن اليأس أصبح على الناس جميعاً لبقيتَ وحدك متفائلاً هكذا قال الله لك، فالموضوع موضوع خطير جداً.
 إذا جلست إلى منكر وقال لك: هذا القرآن من كلام محمد، فقد كان إنساناً عبقرياً فذّا، استطاع أن يقنع الناس أنه كلام من عند الله من السماء وصاغه بأسلوبه البلاغي الرفيع وهذا هو الأمر، فكيف ترد عليه ؟ فالإيمان يجب أن يُبنى على البحث العلمي، والتحقق والتدقيق، والمناقشة والحوار، والقضية أخطر قضية يواجهها المسلم في هذه الأيام، إذا كان هذا القرآن قطعي الثبوت قطعي الدلالة فقد انتهى الأمر.

﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾

(سورة الجاثية الآية: 21)

 نصدق هذه الآية نطمئن، فالمؤمن له معاملة خاصة مهما ضاقت الأمور، ومهما ضيّق الله على عباده الفجّار، يقول المؤمن: أنا مؤمن وقد وَعَدَني الله أن يعاملني معاملة خاصة،

 

﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾

 

(سورة الجاثية الآية: 21)

 أبداً القضية قضية إيمان، وإن هذا الكلام من عند خالق الأكوان، وإن زوال الكون أهون من عدم تحققه، فإذا ثبت لك أن هذا القرآن كلام الله، وأنك إذا قرأته بثَّ في نفسك الأمن والطمأنينة, وقطعت العلائق مع الخلق ووصلتها مع الحق، وإذا تدبرت هذا القرآن ودرست ما فيه من تشريع، ودرست آيات المواريث، وآيات الأحوال الشخصية، والآيات الكونية, فحياتك التي تعيشها في ظل القرآن لا تقدر بثمن.

آيات الله الكونية والتشريعية دليل على صدق القرآن:

 أخ كريم قال لي: فكرت في الليل وفي النهار فتأملت أنه لو أن الليل دائم، أو النهار دائم لاستحالت الحياة على وجه الأرض هناك أسباب جغرافية، لو أن الليل دائم تصبح الأرض كوكباً جليدياً لا حياة عليه، ولو أنه نهار دائم لكانت الحرارة 350 درجة فوق الصفر مستحيلة، ولو تصورنا ليلاً دائماً بحرارة معتدلة فالأمر فوضى، قال الله عز وجل:

﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾

(سورة القصص الآية: 72)

 ولو أن الليل سرمداً إلى يوم القيامة مَن إله غير الله يأتيكم بنهار ؟

 

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾

 

(سورة فُصّلت الآية: 37)

﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً ﴾

(سورة النبأ الآية: 10- 11)

﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً ﴾

(سورة الإسراء الآية: 12)

 جعل الله عز وجل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، إذا تدبرت آيات القرآن الكونية والتشريعية، وآيات الأحوال الشخصية، وآيات المواريث، وآيات التاريخ، وآيات الأخبار المستقبلية إذا تدبرتها و درست إعجازها اللغوي و البياني والرياضي والحسابي فستجد شيئًا عجيبًا، فإن كلمة (يوم) مثلاً وَرَدَتْ ثلاثمئة وخمساً وستين مرة بالعد الدقيق، وإن كلمة (شهر) وردت اثنتي عشرة مرة، إذا تدبرت القرآن الكريم تيقنت أنه يستحيل على بشر أن يأتي بمثله إذاً هو من عند الله، وهذا الذي جاء به هو رسول الله، فالإيمان بالقرآن قبل الإيمان بالرسول، تؤمن بالقرآن عن طريق مضمونه، ثم تؤمن بالرسول عن طريق الاستنتاج، وهذا الذي جاء بالعصا فإذا هي ثعبان مبين هو رسول الله قطعاً، لأن هذا الشيء فوق طاقة البشر، وهذا الذي أحيا الميت إنه رسول الله قطعاً لأن هذا فوق طاقة البشر، والذي جعل البحر طريقاً يبساً هو رسول الله دون أدنى شك

مصادر التشريع: القرآن وما صح عن النبي عليه الصلاة والسلام من الحديث.

 نستنتج أن هذا الكتاب قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وما قاله النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بناءً على هذا أيضاً قطعي الثبوت قطعي الدلالة، ولو أنك عاصرت النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعت من لسانه الصادق، فهذا الذي قاله استناداً إلى كتاب الله قطعي الثبوت قطعي الدلالة، لأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يُوحَى، وهناك وحيٌ متلوٌّ هو القرآن الكريم ووحي غير متلو هو السنة المطهرة، إذاً عندنا مصدران إخباريان من أعلى مستوى: القرآن, وما صح عن النبي العدنان، هذا بالنسبة إلى الذين سمعوا من النبي، أما بالنسبة إلينا فالأمر مختلف، القرآن تولى الله حفظه بنص القرآن:

﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾

(سورة الحجر الآية: 9)

 أما الحديث الشريف فهناك الصحيح، و الضعيف، و الحسن، و الموضوع، و حديث صحَّ عن رسول الله، و صحيح لم يصح سنده إلى رسول الله, و ما زلنا في موضوع المسلك الثالث من مسالك اليقين القطعي وهو مسلك الخبر الصحيح، أول خبر هو كلام الله لأنه ثبت لدينا بعد التدبر وبعد التفهم أنه معجزة النبي عليه الصلاة والسلام، وأن الذي جاء به هو نبي ورسول، ما قاله القرآن فهو حق، وما قاله النبي فهو حق، أو الأصح ما صح أنه قاله النبي فهو حق.

أقسام الحديث المتواتر:

1- التواتر اللفظي:

 

 أما نحن فعلينا أن نُقسّم ما روي عن النبي إلى أقسام، أول قسم هو التواتر اللفظي فَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّه عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ))

(أخرجه البخاري عن عمر بن الخطاب في الصحيح)

 أي رواه الجمع الغفير، عن الجمع الغفير، عن الجمع الغفير، ويستحيل تواطؤا هؤلاء جميعاً على الكذب, لاختلاف اتجاهاتهم ومشاربهم وعصورهم وما شاكَلَ ذلك.

 

2- التواتر المعنوي:

 أما إذا روى الحديث الشريف رجل واحد، فهذا الحديث الشريف من أحاديث الآحاد، ولا يرقى إلى مرتبة قطعي الثبوت و الدلالة، أحاديث الآحاد تصنف عند علماء الحديث على أنها ظنيّة الثبوت، ظنية الدلالة، لكن بعض الأحاديث التي رواها الآحاد رويت بعد النبي صلى الله عليه وسلم وتلقتها الأمة جميعاً بالقبول دون أن تنكر ذلك، فسمّى العلماء هذا النوع من الأحاديث تواتراً معنوياً، فالتواتر المعنوي له حكم التواتر اللفظي, عندنا القرآن " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ "، و الأحاديث المتواترة باللفظ، والأحاديث المتواترة بالمعنى، وهذه مصادر صحيحة يمكن أن نسلك بها إلى اليقين القطعي.

حكم القرآن والسنة الصحيحة من حيث مفهوم التكفير:

1- من أنكر حجة القرآن والحديث المتواتر قطعي الدلالة والثبوت يعتبر كافراً بإجماع الأمة:

 و مَن أنكر عقيدة قطعية الثبوت، قطعية الدلالة جاءت في كتاب الله، أو مَن أنكر حديثاً متواتراً قطعي الثبوت، قطعي الدلالة فهو كافر، وكذلك إذا أنكرت شيئاً قاله الله عز وجل، فإذا قال الله عزَّ وجل:

﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾

(سورة البقرة الآية: 276)

 ليس من المعقول يا أخي أن تقول: هذا عصر حديثٌ مبني على البنوك والفوائد فهذا الكلام كفْر، وإذا أنكرت آية قرآنية قطعية الثبوت، قطعية الدلالة فهو كفر صريح.

2- من أنكر حديثاً قطعي الدلالة ظني الثبوت أو العكس لا يعتبر كافراً بإجماع الأمة: 

 أما من أنكر شيئاً ورد في السنة المطهرة ولكن رواه الآحاد، أي روى حديثاً قطعي الثبوت ظني الدلالة، أو ظني الثبوت قطعي الدلالة، أو ظني الثبوت ظني الدلالة، فهذا لا يكفّر جاحده، لأن هذا الشيء ظني وليس قطعياً، وما دام ظنياً فلا يكفّر جاحده، وقد جاء الحديث الشريف عن طريق الآحاد, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ))

(أخرجه مسلم عن أبي هريرة في الصحيح)

 لست ملزماً أن آخذ هذا الحديث على ظاهره و عندئذ أضطر إلى التأويل حتى ينسجم هذا الأثر النبوي مع روح الدين، ومع روح الآيات القرآنية، وشيء آخر علينا أن نأتي ببعض الشواهد، قال تعالى:

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾

(سورة النحل الآية: 43)

 و ربنا عز وجل جعل الخبر الصادق مسلكاً أساسياً للعقيدة الصحيحة، وفي الدرس الماضي أتينا بآيات على مسلك الاستدلال العقلي، وعلى مسلك الإدراك الحسي، واليوم " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ "، هذا الخبر الصادق مسلك ثالث، شاهد آخر:

﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾

(سورة يونس الآية: 94)

 و هذه الآية شاهد على التواتر " فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ "، إذا كان هؤلاء جميعاً تكلموا بكلام واحد، فهذا الكلام الواحد أيضاً يرقى إلى مرتبة اليقين.

 

حجة تصديق الأنبياء  العصمة والمعجزة:

 ومِن أين تأتي حتمية الخبر الصادق ؟ إذا ورد هذا الخبر على لسان النبي عليه الصلاة والسلام، ولماذا نعتقد أنّ ما ورد على لسان النبي صادق ؟ لأن النبي عليه الصلاة والسلام مؤيّد بالمعجزات، معصوم عن الكذب بنص الكتاب وهو الرسول:

﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾

(سورة الشعراء الآية: 153-155)

 قالوا لسيدنا صالح: " مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ "، أنت بشر, " قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ " خرجت من الجبل ناقة, فجاء بآية أنه مِن الصادقين، فالأنبياء لماذا نصدقهم ؟ لأنهم مؤيدون بمعجزة ومعصومون عن الكذب، ولأن كلام الأنبياء يرقى إلى مستوى الخبر الصادق, حيث يستحيل في مقياس العقل السليم اتفاقُهم على الكذب بعد إخبار الناس من حيث حتمية الخبر الصادق " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ".

دليل من القرآن جمع فيه اليقين الحسي والاستدلالي والإخباري:

 هناك شاهد دقيق جداً، هذا الشاهد في المسلك الأول وهو الإدراك الحسي، والمسلك الثاني الاستدلال العقلي، والثالث الخبر اليقيني:

﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾

(سورة الأحقاف الآية: 4)

 " أروني " إدراكاً حسياً، " أم لهم شركاء في السموات " هل هناك دليل على أنهم شركاء الله عز وجل ؟ هذا المسلك الثاني " اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " هذا اليقين الإخباري فجُمِعتْ المسالك كلها في هذه الآية.

شروط صحة الخبر الصادق:

1- العدالة والضبط  وأن يكون غير متهم:

 من تعاريف القرآن الكريم: الكلام المعجز، المتعبد بتلاوته، الذي رواه الجمع الغفير عن الجمع الغفير. وفيما سوى التواتر وأقوال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كيف نرجح الخبر الصادق ؟ وضع العلماء شرطين:
الشرط الأول: العدالة.
الشرط الثاني: الضبط أي الأهلية.
 ورووا الحديث الشريف التالي:

((من عامَلَ الناس فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوَّتُه، وحرمت غيبته))

(ذكره الخطيب البغدادي في الكفاية عن الحسن بن علي مرفوعاً)

 فإذا أخلف وعده، أو ظلمهم، أو كذبهم، فقد سقطت عدالته، وهذا الإنسان لا يؤخذ منه شيء, أصبح كاذباً، وهناك أشياء ذكرتها لو فعل الإنسان أحدها جرحت عدالته وكانت روايته غير صادقة، فمَن أكل في الطرق، ومَن بال في الطريق، ومَن مشى حافياً، ومن قاد بغلاً أو كلباً عقوراً خاف الناس منه، ومن أطلق لفرسه العنان وأسرع في قيادة السيارة يفقد عدالته، ومن تنزه في الطرقات تجرح عدالته، ومن أكل لقمة من حرام تُجرح عدالته، ومن طفف بتمرة وخفّف الوزن مقدارَ تمرةٍ تُجرح عدالته، ومَن علا صياحه في البيت حتى يسمعه مَن في الطريق تُجرح عدالته، ومن صحب الأراذل تُجرح عدالته، ومن كان حديثه عن النساء تُجرح عدالته، ثلاث وثلاثون نقطة، إذا فعل المسلم أحدها جرحت عدالته, وأصبحتْ روايته غير صادقة ولا تقبل شهادته ولو قال: رأيت الهلال بعيني لا يصدَّق على رؤيته لأنه فاقد العدالة، فالعلماء وضعوا شرطين أساسيين: العدالة والضبط، الضبط أن يكون واعياً, آدمياً، وعندنا صفة ثالثة أنه غير متهم.

ذكر مثال على صفة الراوي غير المتهم:

 حدثني رجل صالح مِن المؤمنين الطيبين الطاهرين، يسكن في بيت، وطلب أصحاب البيت منه بيتَهم، ولكن ليس بإمكانه أن يخرج منه، فرفع الأجرة، مرة، ومرتين، وثلاثاً إلى أن بلغت الأجرة نصف راتبه، فأصحاب البيت اتفقوا مع أحد المحامين على تلفيق تهمة لهذا الرجل بالإفساد الأخلاقي، وفي قانون الإيجار هذه التهمة تُخلي المستأجر، فأقيمت عليه دعوى أنه كان يكشف عورته أمام جارته، والرجل كان يغض بصره عن محارم الله، ولا ينظر إلى امرأة في الطريق، هكذا إيمانه، فلما رُفعت القضية إلى القاضي طلب القاضي شاهداً، فالشاهد بنت صاحبة البيت، هذه متهمة بأنها تشهد لصالح أمها، وفي القضاء الأصول والفروع لا تقبل شهادتهم، فلما جاء بشاهدة ثانية، وهي طالبة تسكن عندهم، وهي طالبة جامعية، وعرفت أن هناك تلفيقاً قالت: أنا أشهد معه فلما كان يوم الدعوى طلبها القاضي، فقالت: إنني أعرف هذا الرجل من سنوات عدة، أنه إذا لَمَحَنِي عن بُعْدِ 50 متراً غضَّ بصره عني، فسقطت الدعوى.

مراتب الأخبار الصحيحة:

1- النقل عن الوحي:

 هناك ست مراتب للأخبار الصحيحة:
المرتبة الأولى: أن تنقل عن الوحي، ولا يجوز أن ينقل عن الوحي إلا النبي حصراً وهو الذي أوحي إليه، وهو مؤيّد بالمعجزة ومعصوم عن الكذب، وهذه أول مرتبة.

2- النقل عن الرسول:

 المرتبة الثانية: أن تنقل عن الرسول عقيدة أو أصلاً في الدين أو سورة من القرآن وهذا لا يصح إلا بالتواتر اللفظي أو المعنوي وهي عقيدة يكفر جاحدها، وأن تكفر إنساناً بخبر آحاد لا يجوز، وليس هناك عقيدة ما بفكرٍ جامد إلا إذا ثبتت بالتواتر اللفظي وهذه المرتبة الثانية.

3- درجة الاتهام بالزنا:

 

 المرتبة الثالثة: الاتهام بالزنا لا يصح إلا بأربعة شهود، لقول النبي عليه الصلاة والسلام:

((قَذْفُ مُحْصَنَةٍ يَهْدِمُ عَمَلَ مَائَةِ سَنَةٍ))

(أخرجه الطبراني في المعجم الكبير عن حذيفة)

 ويبدو أن طبيعة النفوس ميَّالة إلى تصديق أخبار الزنا، لأن في أخبار الزنا فضيحة كبيرة جداً وتحطيماً لمعنويات الإنسان لذلك قال النبي العدنان: ((قَذْفُ مُحْصَنَةٍ يَهْدِمُ عَمَلَ مَائَةِ سَنَةٍ)) والله سبحانه وتعالى لم يقبل إلا أربعة شهداء قال سبحانه:

﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾

( سورة النور الآية: 4)

 تُروَى قصة - الله أعلم بصحتها - لكن لها مغزى، أن امرأة كانت تغسل امرأة ميتًا وقد اتهمتها بالزنا في قلبها، وفي أثناء التغسيل التصقت يدها بجسم الميت، ولم تجد أية محاولة لرفعها عنها، حتى خُيّر أهل الميت بين قطع قطعة من جسد الميت كي تنزع يدها أو قطع يد المرأة، رُفع الأمر إلى الإمام مالك وهو من أكابر التابعين يقال: ((لا يفتى ومالك في المدينة)) فقال: هذه المرأة ربما اتهمت الميت بالزنا فاجلدوها ثمانين جلدة، ومع الضربة الثمانين رُفِعَت اليد عن جسدها لذلك: " وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ "، إذا قال عن امرأة: الله أعلم وهزّ قميصه كناية عن الزنا، فما انتهت القضية بل يجب أن يقام عليه حد البهتان: " فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ ".

4- إثبات الحقوق بين الناس:

 المرتبة الرابعة: الحقوق بين الناس " سند, دين, قضية, بيع بيت " يلزم لها شاهدا عدل، " فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ".

5- درجة الأخبار العادية:

 في الأمور العادية جداً شاهد واحد، قال: إنه حدث زلزال ومات فيه 35000 فهل سمعت الخبر ؟ نعم أنا سمعت, إذًا هي صحيحة سواء كانوا 35 أو 34 فلا توجد حقوق في هذه القضية، فيكفي شاهد واحد في الأمور العادية، أخبار جغرافية، كسوف، فروق، زلزال، ضحايا، كارثة، نقل خبر، هل سمعت أنهم سيسمحون بالاستيراد ؟ فيجيب: نعم, هذا الخبر يكفي فيه شاهدٌ واحد.

6- درجة المصلحة:

 أما في الحالة السادسة: مِن أغرب الحالات فقد يكون هؤلاء السائقون يركبون سياراتهم، فالسائق الماهر يؤشِّر بتألقٍِ بالمصباح هناك دورية أمامك فيصدقه مباشرةً، إذاً القضية تمس مصلحة إنسان من دون تحقق فليكن كذاباً على كل حال خذ احتياطك, إذا كان الأمر متعلقاً بمصلحة ما فأيّ إشارة يأخذ الإنسان احتياطه، يعتبره خبراً ويصدقه، وهو غير محتاج أن يسأل صاحبه عن كون الخبر صحيحاً وهل أنت عدل ؟ لا حاجة، القضية متعلقة بالمصلحة.

خلاصة الدرس:

  عندنا اليوم ثلاثة مسالك للعقيدة الصحيحة، أول مسلك اليقين الحسي، والمسلك الثاني اليقين الاستدلالي، والمسلك الثالث الخبر الصادق وأخذنا التفصيلات كلها، وشروط صحة الخبر: أن يرويه الإنسان المتصف بالعدالة والضبط وغير متهم، وصحة الأخبار مسلسلة على ست مراتب، ثم أول درجة الخبر الصادق القرآنُ الكريم ثم حديث النبي صلى الله عليه وسلم المتواتر وهو ما رواه الجمع عن الجمع وهذا كله متعلق بالعقيدة، وبقي علينا مسلك رابع هو الإضاءة الفطرية والإشراق الروحي, وهذا مسلك مهم جداً نتناوله في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور