وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 6 - سورة مريم - تفسير الآيات 77 - 98 الغيب
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . 


  الترابط الوجودي بين الكفر والانحراف :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس السادس من سورة مريم .

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ﴾ .. فهذا الكافر الذي أنكر عظمة الله عزَّ وجل ، ولم يعبأ بآياته ، لا آياته القُرآنية ، ولا آياته الكونية ، هذه الآيات التي بثَّها الله في السماوات والأرض لم يعبأ بها ، استخف بها ، لم تلفت نظره ، ولا آيات القرآن المُعْجِزَة ، لا هذه  ولا تلك ، الكفر الإنكار والإعراض ، والإيمان التصديق والإقبال ، المؤمن يصدِّق بآيات ربه الكونية والقرآنية ، ويقبل عليه ، والكافر يكذِّب بآيات ربه الكونية والقرآنية ، ويُعْرِضُ عنه ، فالكافر يكذب بآيات الله ، لا يعبأ بها ، لا يؤمن بها ، لا يوقِّرُها ، لا يُعظمها ، لا تملأ قلبه ، وهو بالمقابل يعرض عن الله عزَّ وجل ، يدير ظهره لهذا الدين ، يلتفت إلى الدنيا ، يَنْكَبُّ عليها ، تشغله دنياه ، يسعى لمصالحه ، ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا﴾ أفرأيته أيها المؤمن ؟ انظر إلى أخلاقه ، انظر إلى قيمه ، انظر إلى صفاته النفسية ، انظر إلى علاقاته الاجتماعية ، انظر إلى تعامله مع الناس ، انظر إلى الكِبر الذي سيطر عليه ، انظر إلى العُجْبِ الذي استحوذ على لُبِّه ، انظر إلى حبه لذاته ، انظر إلى بغضه للآخرين ، انظر إلى قسوة قلبه ، انظر إلى إخلافِه مواعيدَه ، انظر إلى أخذه ما ليس له ، انظر إلى بذاءته ، انظر إلى حقارته ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا﴾ أيْ ..

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) ﴾

[ سورة الماعون  ]

هذا الترابط الوجودي بين الكفر وبين الانحراف ..

﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾

[ سورة القصص ]

أفرأيت أيها المؤمن ؟ يَدَعَمُ هذه الآية آيةٌ أخرى :

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) ﴾

[ سورة العلق  ]

انتهت الآية ، أي هل نظرت إليه ؟ هل نظرت إلى أخلاقه ؟ هل نظرت إلى علاقاته ؟ إلى معاملته ؟ إلى صفاته ؟ إلى قِيَمِهِ ؟ ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا﴾ جعل الدين وراء ظهره ، جعل هذا القرآن العظيم مهجوراً ، لم يَرَ في هذا القرآن نظاماً معجزاً ، شاملاً ، كاملاً ، يصلح للتطبيق في كل مكانٍ وزمان ، رآه كتاباً انقضى وقته وانتهى زمنه ، ولا يصلُحُ لهذا الزمان ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا﴾ هذا الترابط  .

(( قال عليه الصلاة والسلام : عن عبد الله بن عمر  : أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ خطب الناسَ يومَ فتحِ مكةَ فقال : يا أيها الناسُ إنَّ اللهَ قد أذهبَ عنكم عبيةَ الجاهليةِ وتعاظُمَها بآبائها ، فالناسُ رجلانِ رجلٌ بَرٌّ تقيٌّ كريمٌ على اللهِ ، وفاجرٌ شقيٌّ هيِّنٌ على اللهِ ، والناسُ بنو آدمَ وخلقَ اللهُ آدمَ من الترابِ ، قال اللهُ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ . ))

[  عارضة الأحوذي : خلاصة حكم المحدث : صحيح : الترمذي وابن حبان باختلاف يسير  ]

فالكافر من لوازم الكفر الإعراض ، ومن نتائج الإعراض الأخلاق الذَميمة ، ومن لوازم الإيمان الإقبال ، ومن نتائج الإقبالِ الأخلاق الفاضلة ، فكأن الإيمان مجموعةٌ من القِيَمِ الخُلُقِيَّة ، لذلك الذي يميز المؤمن عن غير المؤمن ليس الصلاة والصيام ، لا ، الذي يميّز المؤمن عن غير المؤمن أخلاقه العالية ، إن الصلاة كما قال عليه الصلاة والسلام دعائم لهذا الدين : عن عبد الله بن عمر :

(( بُنِيَ الإسْلَامُ علَى خَمْسٍ : شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ ، وإقَامِ الصَّلَاةِ ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ ، والحَجِّ ، وصَوْمِ رَمَضَانَ.  ))

[  صحيح  البخاري ]

هذه الخمس ليست هي الدين ، إنما بني عليها الدين ، فمن ظنّ الدين صلاةً جوفاء ، وصياماً لا معنى له ، فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً .

 

لا يتحقق هدفٌ على وجه الأرض إلا بتوفيق الله :


﴿ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً﴾ .. هذه الآية مطلقةٌ ، بعضهم قال في معناها : إن هذا الكافر يتبجَّح ، ويتحدَّى ، ويقول : حتى في اليوم الآخر لي حظٌ كبير في هذا اليوم ، ﴿ لَأُوتَيَنَّ ﴾ في اليوم الآخر إذا رُدِدتُّ إلى ربي مالاً وولداً ، وبعضهم قال : في الدنيا ، هذا الذي يحسب حساباتٍ دقيقة ، وينسى أن الله عزَّ وجل بيده كل شيء ، مستغنٍ عن رحمة الله ، مستغنٍ عن حفظه ، مستغنٍ عن توفيقه ، مستغنٍ عن إمداده ، مستغنٍ عن ألوهيته ، يقول : أنا سأفعل كذا وكذا ، يخطط لمستقبله ، سأشتري البيت في عام كذا ، سأتزوَّج ، وغاب عنه أنه ربما وقع ضحية حادثٍ طفيفٍ جعله مشلولاً ، ربما نَمَتْ بعض الخلايا في جسده نمواً غير منضبط فأصبحت حياته جحيماً ، فهذا الذي يخطط لمستقبله ويقول : ﴿ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً﴾ ولا ينتبه إلى أن الله عزَّ وجل هو الموفِّق :

﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) ﴾

[ سورة هود ]

لا يتحقق هدفٌ على وجه الأرض إلا بتوفيق الله ، لا يوجد زراعةٍ ، ولا صناعةٍ ، ولا تجارةٍ ، ولا زواجٍ ، ولا صحةٍ ، ولامعالجة  ﴿ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً﴾ يُخَطّطون وقد غفلوا عن الواحد الديَّان ، قالوا : هذه المركبة سوف تنطلق في الساعة كذا وكذا من القاعدة ، بعد سبعين أو ثمانين ثانية ستكون في المدار الأول ، بعد كذا وكذا ، تعود بعد ثمانية أيام ، وسنسميها : المتحدي ، وبعد ثوانٍ معدودة أصبحت كتلةً من اللهب ، مثل ، ﴿ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً﴾ .

 

صاحب الأفق الضيق هو من يخطط لمستقبله ويغفل عن الله عزَّ وجل : 


الذي يخطط لمستقبله ويغفل عن الله عزَّ وجل إنسانٌ غبي ، ضيق الأفق ، بل هو معتوه لأنه ينسى القوة الكبرى في الكون ، في الكون حقيقةٌ كُبرى هي كل شيء ، وهي الله عزَّ وجل ، لأن هذه الحقيقة إذا غفلتَ عنها لأَلف سببٍ وسبب يمكن أن تُخْفِقَ في كل مسعاك ، لأَلف سببٍ وسبب يمكن أن تحبطَ كل أعمالك ، لأَلف سببٍ وسبب يمكن أن تكون صفر اليدين ، قد يفقد الإنسان بعض أعضائه ، قد يفقد عقله ، فهذا البيت الذي اشتراه لا يستمتع به ، يؤخذ إلى المستشفى ، يفقد أهله ، يفقد أولاده ، فالإنسان كما يقول العامة - وهو كلامٌ لطيفٌ جداً- الإنسان تحت ألطاف الله عزَّ وجل .

لا تقل : سأفعلنَّ كذا وكذا ، هذا كلام الأحمق ، هذا كلام الجاهل ، هذا كلام الغافل ، هذا كلام الذي لا علم له ، قل : إن شاء الله ، إن مكنني ربي ، إن يَسَّرَ لي ، إن وفَّقَني ، إن أراد لي ، إن سمح لي .

فهذا الكافر الذي كفر بآيات الله الكونية والقرآنية ، لم يعبأ بها ، لم يعظمها ، لم تملأ عقله ، لم تملأ وجدانه ، لم تملأ حياته ، حياته ليست معنيةً بهذه الحقائق الدينية ، فلذلك يقول : سأفعل كذا وكذا ، وهذا متمثِّل أكثر ما يبدو في المجتمعات الغَربية ، يفعلون كل شيء ، وكأن الله غير موجود ، يأتي مرضٌ يجعل حياتهم جحيماً ، يَدبُّ القلق فيهم ، ترتعد فرائصهم خوفاً من هذا المرض الذي انتشر الآن في بلاد الغرب بأرقامٍ خيالية ، إنه نقص المناعة ، أين تخطيطهم ؟ خططوا لدنيا عريضة ، بَنَوْها على أنقاض الآخرين ، بنوها على أنقاض الشعوب ، بنوها على فقر الشعوب ، وعلى استغلالهم ، فجاءت الأمراض والأوبئة ، وجاءت المخدرات إلى مجتمعاتهم ، فهذا الذي يقول : ﴿لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً﴾ هذا الكلام من لوازم الكُفر ، من لوازم الغَفْلَةِ عن الله عزَّ وجل .

 

لا يعلم الغَيْبَ إلا الله :


رَبُّنا سبحانه وتعالى يقول : ﴿ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ ﴾ .. أيْ هل عرف في عِلْمِ الغيب أنه سيكون كذا وكذا كما خطط ؟ إنه أحمق .. ﴿ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً﴾ ؟ هل سبق عهدٌ من الرحمن له أم أنه اطّلع على علم الغيب ؟ أي لا يستطيع إنسانٌ أن يقول : سأفعل كذا وكذا إلا بسببين ، أن يكون قد اطّلع على علم الغيب الذي هو من عند الله ، والذي لا يعطيه الله عزَّ وجل إلا لمن يصطفي من أنبيائه .

﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)﴾

[ سورة الجن  ]

﴿ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ ﴾ .. لا يعلم الغَيْبَ إلا الله ، وكل من يزعم أنه يعلم الغيب فهو كذَّاب ، قل لا أعلم الغيب ، هكذا قال عليه الصلاة والسلام :

﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)﴾

[  سورة الأعراف  ]

إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام وهو مَن هو في رِفعة الشأن ، إنه قمة البشر ، إنه سيِّد ولد آدم ، إنه سيد الأنبياء والمرسلين ، ومع ذلك لا يعلم الغيب ، فمن يدَّعي ممن دونه أنه يعلم الغيب فهو كذَّاب ﴿ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ ﴾ حتى يَصِحَّ أن يقول هذا الكلام : ﴿ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ﴾ أَلَه علمٌ بأن المستقبل سيكون كما أراد ؟ هل اتخذ عند الله عهداً والله سبحانه وتعالى لن يخلف عهده ؟ لا .

 

ردعُ الله لمن افترى عليه الكذب :


﴿ كَلَّا ﴾ أداة ردعٍ ونفيٍ .. ﴿ كَلَّا ﴾ .. فرقٌ كبيرٌ بينها وبين لا ، قد تُسأل : هل أنت جائعٌ ؟ فتقول : لا ، تنفي أنك جائع ، لكن قد يُسأل الإنسانُ يقال له : هل أنت سارقٌ ؟ لا ينبغي أن يقول كلمة : لا ، بل يجب أن يقول : كلا ليس هذا من شأني ، إن الذي يقول : كلا ، ليس ينفي فقط ، بل ينفي ويرْدَع السائل .. ﴿ كَلَّا ﴾ الله سبحانه وتعالى يردع هؤلاء عن هذا الشطط في القول ، عن هذا القول الفاسد ، عن هذه الفِرْيَة ، عن هذا الكذب .

 

كُلّ شيء مكتوب مسجَّلٌ :


﴿ كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ﴾ .. هذه الكلمة سُجِّلَتْ عليه ، وسوف يواجه بها يوم القيامة ﴿ كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ﴾ .

أيها الإخوة المؤمنون ؛ الإنسان عليه أن يضبط لسانه مع حضرة الله عزَّ وجل ، الذنب كما قال عليه الصلاة والسلام ، عن أنس بن مالك :

(( الذنْبُ شؤمٌ علَى غيرِ فاعِلِهِ ، إِنْ عَيَّرَهُ ابْتُلِيَ بِهِ ، و إِنِ اغتابَهُ أثِمَ ، وإِنْ رضِيَ بِهِ شارَكَهُ ))

[ ضعيف الجامع : خلاصة حكم المحدث : ضعيف ]

لا ينبغي للإنسان أن يقول لإنسان مرتكب معصية : هنيئاً له ، لقد كنت شريكه في الإثم ، لا ينبغي أن تعيِّره ، تبتلى به ، يجب أن يكون الإنسان دقيقاً في ألفاظه دقةً مُتناهية ، وإلا وقع في شَرِّ عمله ﴿ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ ﴾ واللهِ الذي لا إله إلا هو لو يعلم الإنسان مَغَبَّةَ هذه الآية أن الذي يقول ، ويتبجَّح ، ويتحدى ، وينسى أنه عبدٌ فقير ، ينسى أنّ حياته بيد الله العلي الكبير ، ينسى أن رزقه بيد الله ، ينسى أن نجاحه بتوفيق الله ، ينسى أن الذي حَصَّلَهُ في هذه الدنيا من رحمة الله ، هذا الذي ينسى : ﴿ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ ﴾ هذه الكلمات الغبيَّةُ الجاهلة سجلت في صحيفته ، وسوف يحاسب عليها في الآخرة ، البشر مع من هُم من طينتهم ، لو أنك تورَّطت بكلمة ، وكتبت عليك ، ثم استدعيت ووجِهْتَ بها ، ترتعد فرائصك من إنسان لا يملك من أمره شيئاً ، فكيف لو كانت هذه الكلمة بحقِّ الواحد الديَّان وسألك عنها يوم القيامة وحاسبك عنها حساباً عسيراً ؟ 


توعد الله عز وجل بالعذاب الأليم لكل من يتفوه بكلمات فيها تكبر وتحدّ :


﴿ كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً ﴾ .. هناك رجل عنده معمل للحلويات في قُطر عربي مجاور ، حدَّثني بعض من أثق بحديثه عنه قال : إنه يُصَدِّرُ كل يومٍ طائرةً محملةً بهذه الحلويات إلى بعض دول النفط ، أي كان هذا الإنسان في أوج نجاحه ، الملايين تتدفق عليه ، دخل مرةً إلى معمله وقد رأى بعض العُمَّال لا يجيدون عَجْنَ العجين ، فوضع كتلة العجين على الأرض ، وعركها بقدميه ، وبحذائه ، وقال لعماله : هكذا يُعْرَكُ العجين ، ما هي إلا أشهرٌ معدودة حتى قُطِعَتْ رجلاه من ركبتيه ، هذا الذي يتحدى ، هذا الذي يتكبَّر ، هذا الذي يظن أنه كل شيء ، وهو لا شيء ، ﴿ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ ﴾ كُتبتْ هذه الكلمة في صحيفته ، سُجِّلَتْ ، وسوف يواجه بها يوم القيامة ، وقد يواجه بها في الدنيا قبل الآخرة ﴿ كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً ﴾ وسوف يتحمَّل مَغَبَّةَ هذه الكلمة ، سوف يلقى ألوان العذاب جزاءً وفاقاً لهذه الكلمات التي تفوَّه بها . 

 

مع الموت نفقد كل شيء :


﴿ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ﴾ .. هذا الذي أوتي المال والولد ، وأوتي الجاه العريض ، وجاءته الدنيا ، وهي راغمة ، واستعلى بها على الناس ، كل مكتسباته ، وكل عِزِّه ، وكل جبروته ، إنما جاءه من المال الوفير الذي هو بين يديه ، ﴿ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ﴾ لابدَّ من أن يموت ، وحينما يموت يفقد كل شيءٍ في ثانيةٍ واحدة ، ليس في الكَفَنِ جيب ، هل أحدٌ منكم رأى في الكفن جيباً لوَضْع دفتر الشيكات ؟ لا ، ولا جيب ، قماشٌ أبيضٌ من أرخص أنواع الأقمشة يُلَفُّ به ، ويوضع في القبر ، أحد كبار الأثرياء بنى لنفسه قبراً هذا القبر آيةٌ في الجمال والفخامة ، كَلَّفَ الملايين ، بناه في جبلٍ أخضر مُشْرِفٍ على البحر ، أيْ حتى لو مات هذا قبره ، كان يركب طائرته الخاصة فوق البحر فسقطت الطائرة في البحر ، استقدمت زوجته مجموعةً من أمهر الغواصين من بلاد الغرب لانتشال جُثَّتِهِ من البحر ، ودفعت هذه الزوجة أيضاً مئات مئات الألوف ، ما تمكَّن الغوَّاصون إلا أن ينتشلوا جثة الطيار ، أمَّا هو فلم يُتَح له أن يدفن في هذا القبر ﴿ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ﴾ .

 أحد أكبر أغنياء العالم كان يُقْرِضُ الدولة من حينٍ لآخر ، دخل إلى بعض مستودعات الذهب التي يملكها ، فأُغلق عليه الباب خطأً ، فجعل يصيح ملء فمه ، ولا أحد يستمع إليه ، إلى أن جرح يديه ، وكتب على حائط هذا المستودع : أغنى أغنياء العالم يموت جوعاً ﴿ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ﴾ هذا البيت الذي تتباهى به ليس لك ، البيت الحقيقي هو المثوى الأخير ، هذه المركبة التي تتيه بها ليست لك ، إنها لله وُضِعت بين يديك ، أعرابيٌ أجاب أَدَقّ إجابة ، وأصح إجابة ، وأوجز إجابة ، كان يقودُ قطيعاً من الإبل قيل له : لمن هذا القطيع ؟ قال : لله في يدي ، أي هذا البيت لله تسكنه أنت الآن ، ليس لك ، والدليل لابدَّ من أن يخرج أحدنا من بيته بشكلٍ أفقي دون أن يعود ، والذي يُعَدُّ بطلاً ليتحدى ولا يخرج من بيته ، مهما كنت قد اعتنيت بهذا البيت لابدَّ من أن تخرج منه بشكلٍ أفقي من دون أن تعود ﴿ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ﴾ وكذلك مركبته ، وكذلك محله التجاري ، وكذلك وجاهته ، وكذلك ممتلكاته ﴿ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً ﴾ .. أين جماعتك ؟ .. ﴿ وَيَأْتِينَا فَرْداً ﴾ ، أين عُزْوَتُك ؟ .. ﴿ وَيَأْتِينَا فَرْداً﴾ ، أين خُطورتك ؟ .. ﴿ وَيَأْتِينَا فَرْداً ﴾ ، الإنسان أحياناً في الحياة الدنيا يوجد حوله أشخاص ، هذا حوله إخوة ، هذا حوله أقارب ، هذا حوله تلاميذ ، هذا حوله أتباع ، كل إنسان يعتز بمن حوله ، لكن البشر جميعاً سيقدمون على الله عزَّ وجل فُرادى ..

﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)﴾

[ سورة الأنعام  ]

لا تخلو الحياة الدنيا من بعض الأصدقاء ، تتصل بفلان ، تُوسِّط فلاناً الآخر صديق فلان ، يُخرجك بسند كفالة ، ممكن ، هذه في الدنيا ، فلان يكتب كلاماً لمصلحتك في الضبط ، هذا ممكن في الدنيا ، لكن يوم القيامة .. ﴿ وَيَأْتِينَا فَرْداً ﴾ .

 

كل معبود بالباطل يصير عدواً لعابده يوم القيامة :


﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً ﴾ هذا هو الحُمْقُ بعينه ، أن تتخذ من دون الله إلهاً لتعتزَّ به ، فقد يعتزُّ فلانٌ بقريبه إذا كان في مكانٍ مرموق ، وقد يعتز الإنسان بماله ، ويَعُدُّ ماله إلهاً له ، يعتز به ، وقد يعتز فلانٌ بكذا وكذا ، ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً﴾ .. قال علماء التفسير : إن كانت هذه الآية موجَّهَة إلى من اتخذ أشخاصاً من بني البشر ، اتخذهم آلهة يعبدهم من دون الله ، ويرجوهم ، ويخشاهم ، ويطيعهم ليكونوا له عزاً ، فهؤلاء الأشخاص يوم القيامة سيكفرون بهذه العبادة ، ويقولون : يا من كنت مغفلاً نحن بشر مثلك ، لا نستحقُّ العبادة ، نحن ضعاف ، نحن مفتقرون إلى الله ، إن هؤلاء الذين اتُّخذوا آلهةً من دون الله سيكفرون بعبادتهم ، وسيشهدون ضدهم ﴿ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً﴾ وقال علماء التفسير : وإذا كان هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أصناماً فإن الله عزَّ وجل ينطقهم يوم القيامة ليكونوا شهودَ إثباتٍ على كفر هؤلاء ﴿ كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ﴾ .

 

من اختار الكفر يصبح همه فقط إيذاء الناس وإيقاع الضرر بهم :


﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً﴾ .. معنى تؤزُّهم أي تُهَيِّجُهُم ، تستفزِّهم ، تحرِّضهم ، الذي يجعلك في حيرةٍ من أمر بعض الناس أن هذا الإنسان يحب أن يؤذي ، لماذا يؤذي ولا مصلحة له شخصية في هذا الأذى لكن يحب أن يؤذي ؟ هذا الإنسان تنطبق عليه هذه الآية : ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ لو أن الله عزَّ وجل قال : ألم تر أنّا أرسلنا الشياطين عليهم ، لكان هذا المعنى غير مستقيم ، لكن الله عزَّ وجل يقول: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ أي بعد أن كفروا ، واختاروا الكفر بمحض اختيارهم استحقوا أن تأتيهم الشياطين ليؤزُّوهم أزَّاً ، فعندئذٍ تجد الكافر لا همّ له إلا إيذاء الناس ، يؤذيهم ، يسلبُهُم بعض ممتلكاتهم ، يأخذ ما عندهم ، يوقِع بهم الضرَر ، قد يكون الجار كذلك ، يرتاح إذا أوقع جاره في ورطة ، يشفى غليله إذا سَبَّب لجاره بعض المتاعب ، هناك أشخاصٌ تحارُ في أمرهم ، لماذا يؤذون ولا مصلحة لهم في هذا الأذى ؟ هؤلاء كما قلت قبل قليل تنطبق عليهم هذه الآية ، لذلك قال بعضهم : إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما استعملك ، فهناك أشخاصٌ يحبُّهم الله عزَّ وجل يستعملهم في الخير ، إذا أحبّ الله عبداً جعل حوائج الناس إليه ، إذا أحبّ الله عبداً طَرَقَ الناس بابه ، إذا أحبّ الله عبداً أجرى الخير على يديه ، خَلَقَ الفضل ونسبه إليه ، فانظر كيف خلق الفضل ونسبه إليك ؟ وهناك أشخاصٌ مفاتيح للشر ، يستخدمهم الله عزَّ وجل لتأديب عباده ، فلا يجري على يديهم إلا الشر . 

 

الإنسان بضعة أيام معدودة :


﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً *فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً﴾ .. كل شيءٍ معدود هو شيءٌ قليل ، حياتنا في هذه الدنيا أيامها معدودة ، إذاً هي قليلة ، الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يومٌ انقضى بِضْعٌ منه ، كل شيءٍ معدودٌ هو قليل ، فهذا الذي يتمنَّى على الله عزَّ وجل أن يُدَمِّرَ هذا الجار الظالم ، أو هذا القريب الجاحد ، لا ..﴿ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً ﴾. . أيْ أيامهم معدودة لابدَّ من أن تنقضي ..

الليل مهما طال فلا بدّ من طلوع الفجر     والعمر مهما طال فلابدَّ من نزول القبر

* * *

وسبحان من قهر عباده بالموت .

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته            يوماً على آلةٍ حدباء محمول

فإذا حملت إلى القبــــور جنـــــازة            فاعـــــلم بأنــــك بعدها محمول

* * *

واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا .

 القضية سهلة ، محسومة ، واضحة .. ﴿ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً﴾ أحياناً تُستخدم بعض العبارات يقالُ لك : فلان انتهى ، لكن القضية قضية وقت ، أي بقي له أيام معدودة ، أحياناً يقول الطبيب هكذا : انتهى . أي بقي له أيام ، ميئوسٌ من شفائه ، فهذا الذي أعرض عن الله عزَّ وجل ، وركب رأسه ، وعصى ربه ، وجحد نعمته ، وتنكَّب طريق الحق ، وأراد أن يطفئ نور الله ، الإنسان قد يقول : ليت الله يهلكه ، لا ..﴿ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ﴾ له عند الله أجلٌ لا ينقص ولا يزيد :

﴿ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)﴾

[ سورة طه  ]

لزاماً هلاك الكفار ﴿ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ﴾ .

 

تكريم الله للمؤمنين وفداً وفداً :


﴿ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً * يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً﴾ ما هذا التبجيل ؟ ما هذا التكريم يا رب العالمين ؟ هؤلاء المتقون يذهبون إلى الرحمن وفداً ، علامة التكريم ، وعلامة الإسعاد ، وفدٌ كريم يَقْدِمُ على الله عزَّ وجل ، يرحَّب بهم ، يقال لهم :

﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)﴾

[ سورة الزمر  ]

﴿ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)﴾

[ سورة الواقعة  ]

﴿ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً﴾   وفدٌ رفيع المستوى ، تقام له الزينات ، وينزل في أرقى البيوتات ، ويقدَّمُ له ما لَذَّ وطاب ، هذا شأن الدنيا ، الوفود رفيعة المستوى يُحْتَفَلُ بها احتفالاً كبيراً ، فكيف بالمتقين الذين أمضوا حياتهم في طاعة الله ، أمضوا حياتهم في التقرُّب إليه ، أمضوا حياتهم في خدمة عباده ؟ هؤلاء يوم القيامة يحشرون إلى الرحمن وفداً ، هنيئاً لهم ، نرجو الله أن نكون منهم . 


إهانة الله للمجرمين وسوقهم إلى الجحيم بالسلاسل :


أما المجرمون فلا يحشرون ولكن يُساقون .. ﴿ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً﴾ لابدَّ من أنكم رأيتم أحداً أُلقي القبض عليه بجريمة ، كيف يساق إلى سيارة رجال الضابطة ؟ هل يقابَل بالترحيب ؟ وهل يقالُ له : تفضل ، أم يستقبل بالضرب والركل ؟ ﴿ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً﴾ .. سَوْق :

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾

[ سورة القصص  ]

مُحْضَر أي ألقي القبض عليه ، ووضعت في يديه الكلاليب ، واقتيد إلى مصيره المحتوم ، هذه هي الخسارة .. 

 

الآلهة الذين يعبدهم الإنسان من دون الله لا يملكون له الشفاعة :


﴿وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً * لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ﴾ .. أيْ هؤلاء الآلهة الذين عبدوهم من دون الله لا يملكون لهم الشفاعة ، تماماً في الدنيا عصابة سرقة ألقي القبض عليها ، زعيم العصابة كان قبل إلقاء القبض عليه يُصدر الأوامر لأفراد عصابته ، ويأمر ، وينهى ، ويطمئن ، فإذا ألقي القبض عليه مع أفراد عصابته ليقل أحدهم له : خلَّصنا يا زعيم ، يا معلم خلصنا ، ﴿ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ﴾ هؤلاء الآلهة الذين عبدتموهم من دون الله ، يخاطب الله الكفار: ﴿ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ﴾ لا يستطيعون كَشْفَ الضر عنكم ولا تحويله ، لا يملكون لأنفسهم ضَرَّاً ولا نفعاً ، فإن كانوا عاجزين عن أن يملكوا لأنفسهم نفعاً أو ضراً فهم عن أن يملكوا لكم نفعاً أو ضراً أعجز .

 

المؤمن تناله شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام :


﴿ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً﴾ .. قال علماء التفسير : العهد هو الإيمان والعمل الصالح ، أي من كان في الدنيا مؤمناً ، ومن كان ذا عملٍ صالحٍ ربما نالته شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام ، من مات غير مشركٍ بالله عزَّ وجل ، هكذا ورد في بعض الأحاديث الصحيحة . 

 

الافتراء على الله عندما ادّعوا أن له ولداً وانفطار السماء لهذا القول :


﴿ وَقَالُوا ﴾ .. العرب قالوا : إن الملائكة بنات الله ، واليهود قالوا : عُزَيِر بن الله ، والنصارى قالوا : المسيح بن الله .. ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً ﴾ لمَ يتخذ الرحمن ولداً ؟ أهو كالبشر يحتاج إلى من يخلِّد ذكره ؟ أهو كالبشر في سنه ، في خريف العمر يحتاج إلى من يساعده ؟

﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)﴾

[ سورة الإسراء ]

﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً *لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً﴾ أيْ شيئاً عظيماً ، افتراءً كبيراً ، وصفاً لا حدود لفظاعته . 

﴿ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً دّاً * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ﴾ .. إذا كانت السماء بما فيها من أجرام تتفطَّرُ أنْ سمعت أنَّ هناك أُناساً يزعمون أن الله عزَّ وجل اتخذ ولداً ، فما بال هؤلاء الذين يعقلون يزعمون هذا الزَعم ؟! ﴿ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ﴾ من هذا القول الفظيع ، ﴿ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً﴾ .. أيْ هذا الجبل الأَشَمّ لو سمع أن هناك من يدَّعي أن الله عزَّ وجل قد اتخذ ولداً ، إن هذا الجبل ينهَدُّ ويصبح رُكاماً .

 

الله تعالى ليس كمثله شيء وليس من شأنه أن يتخذ ولدًا :


﴿ وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً ﴾ .. سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء ، ليس بمتبعضٍ ، ولا متجزِّئ ، ولا صورةٍ ، لا يُسأل عنه بمتى كان لأنه خالق الزمان ، ولا أين هو لأنه خالق المكان ، وكل ما خطر في بالك فالله بخلاف ذلك ، عَلِمَ ما كان ، وعَلِمَ ما يكون ، وما سيكون ، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ﴾ .

﴿ وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً ﴾ هو أعظم من ذلك ، ليس كمثله شيء ، هو فوق كل شيء ، وليس تحتَهُ شيء ، وهو في كل شيءٍ لا كشيءٍ في شيء ، ليس كمثله شيء .

 

كل مخلوق يأتي ربَّه عبداً فرداً :


﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً ﴾ .. بما فيهم سيدنا المسيح عيسى بن مريم سيأتي الرحمن عبداً ، بما فيهم عُزير سيأتي الرحمن عبداً . 

 

قدرة الله وإحاطته بكل شيء علمًا :


﴿ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً ﴾ .. هؤلاء البشر معنى أحصاهم أي أحاط بهم ، وقد عدَّهُم عدَّا ، أحياناً إنسان يهرب من مكان عمله فيوقِّع عنه رفيقه ، يرفع الدوام للمدير يرى أن الكل في دوامهم كالمعتاد ، والأمور تجري على ما يرام ، ويكون أحد هؤلاء قد خَرَجَ قبل نهاية الدوام ، فهذا الذي يَقْبَع وراء مكتبه ليس في إمكانه أن يحيط بكل موظفيه ، وأن يحصيهم ، وأن يعدَّهم عداً ، الإنسان قاصر ؛ معلوماته تأتيه من الآخرين ، لابدَّ من أن يكلف أناساً بضبط الدوام ، لضبط الدخول ، متى دخل ؟ متى خرج ؟ لكن الله سبحانه وتعالى محيطٌ بكل شيء ، لقد أحصاهم ، ما دام الله عزَّ وجل يسمع صوت النملة السوداء على الصخرة الصمَّاء في الليلة الظَلْمَاء ، نملةٌ سوداء تمشي على صخرة صماء في ليلةٍ ظلماء ، وما تسقط من ورقةٍ إلا هو يعلمها ، تجوَّلْ في البساتين في الخريف ، ما أكثر الأوراق التي تتساقط ّ

﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)﴾

[ سورة الأنعام  ]

لذلك : ﴿ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً ﴾ معنى أحصاهم أحاط بهم ، ﴿ وَعَدَّهُمْ عَدّاً﴾ فرداً فرداً ، حالةً حالة ، ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً ﴾ أي الإنسان يوم القيامة كما قلنا قبل قليل : ليس له جماعة ، ولا أقارب ، ولا من يقوِّي شأنه ، ولا من يُدافع عنه ، ولا من يتوسَّط له ،﴿ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً﴾ .

 

معاني قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً:  


1 ـ الله سبحانه وتعالى يُلقي في قلب الناس جميعاً مَحَبَةَ المؤمن :

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً﴾ .. واللهِ الذي لا إله إلا هو لو لم يكن في كتاب الله من إكرامٍ للمؤمن إلا هذه الآية لَكَفَت ، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً﴾ .. قال العلماء : المعنى الأول أن الله سبحانه وتعالى يُلقي في قلب الناس جميعاً مَحَبَةَ المؤمن .

يُنَادى له في الكون أنا نحبه               فيسمع مَن في الكون أمر مُحِبنا

* * *

 2 ـ الله تعالى سيؤتي كل إنسان سؤله :

وبعضهم يقول : إن المودَّة هنا تعني تحقيق ما يحب ، فكل مؤمنٍ يحبّ أن يلقى الله ، يحبّ أن يدخل الجنة ، يحبّ رضوان الله ، الله سبحانه وتعالى سيؤتيه سُؤْلَهُ . 

3 ـ هذه المودة بين الله وبين المؤمنين أثمن ما في الوجود :

والمعنى الثالث : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً﴾ أيْ هذه المودة بين الله وبين المؤمنين أثمن ما في الوجود ، يا محمد ، جبريل عليه السلام جاء سيدنا محمد قال له : يا محمد قل لصاحبك : إن الله راضٍ عن أبي بكر ، فهل هو راضٍ عن الله ؟ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ﴾ إذاً : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ﴾ فالمودة مطلقةٌ ؛ إما أنها بينك وبين الناس ، يجعل الله عزَّ وجل قلوب الناس تهفو إليك ، يحبونك ويعجبون لهذه المحبة ، لأن الله عزَّ وجل تجلَّى عليك ، فجعل القلوب تهفو إليك ، أنت كمؤمن هكذا يحبك الناس ، ومن علامة صدق إيمانك محبَّة الناس لك ، ومن علامة النفاق بُغض الناس لك ، علامة الإخلاص محبة الناس ، ألسنة الخلق أقلام الحق ، إذاً : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً﴾ .. قيل: (( المؤمنونَ بَعضُهمْ  لبعضٍ نَصَحَةٌ متوادُّونَ ؛ وإن بَعُدَت مَنازِلُهم وأَبدانُهمْ، والفَجَرةُ بَعضُهمْ لبعضٍ غَشَشَةٌ مُتخاوِنونَ ؛ وإن اقترَبَت مَنازِلُهُمْ وأَبدانُهُم . ))

شيء آخر في الحديث القدسي :

(( عن معاذ بن جبل  قال اللهُ تعالى : وَجَبَتْ محبتي للمُتَحابِّينَ فِيَّ ، والمتجالسين فِيَّ ، والمتزاورين فِيّ ، والمتباذِلين فِيَّ . وفي روايةٍ قال : يقولُ اللهُ - تعالى - : المتحابُّونَ في جلالي ؛ لهم مَنابِرُ من نورٍ يَغْبِطُهم النبيونَ والشهداءُ . ))

[ هداية الرواة  :خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح  :أخرجه أحمد ، ومالك في ((الموطأ)) ]

المعنى الأول .

المعنى الثاني أن الذي ترغبه وتحبه الله سبحانه وتعالى سيؤتيك إياه ﴿ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ﴾ هذا الذي أحبوه سيجعله لهم ، سيقَدره لهم ، سيكافئهم به .

 والمعنى الثالث : هو أنك إذا كنت في طاعة الله ، وعبَدتَهُ حق العبادة يدنيك منه ، إنك إذاً في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر ، إذاً يدافع الله عنك ، تشعر بهذه المودة ..

﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)﴾

[ سورة البروج ]

 

الموت مصير كل إنسان :


﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً ﴾ .. خَصمون ، شديدو الخصومة . 

﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ ﴾ اذهب إلى تدمر حيث آثار التدمريين ، مملكةٌ ذات شأنٌ كبير كانت في بادية الشام ، وهذه آثارها تدلُّ عليها ، اذهب إلى البتراء حيث قوم ثمود .

﴿ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)  ﴾

[ سورة الفجر  ]

اذهب إلى أهرامات مصر .

﴿ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)﴾

[ سورة الفجر  ]

﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ ﴾ هل هناك أحدٌ يجيبك ؟ هل هناك أحدٌ يذكرك ؟ هل هناك أحدٌ تتحدَّثُ إليه ؟ ﴿ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ﴾ صوتاً ، أحد الشعراء وقف في إيوان كسرى ، وقد نُقِشَت على حائطه لوحةٌ تصويريةٌ رائعةٌ جداً عن معركةٍ تاريخيةٍ جرت بين الفُرس والروم ، فقال وقد كانت الصورة رائعةً :

يَغتَلي فيهـــمُ ارْتِيابـــــــيَ حَتّــــى        تَتقَرّاهُـــــــمُ يَـــــــدايَ بلَمْـــــــــــــــــــــسِ

***

 خرس إذا نودوا ، وهكذا ، ونحن على هذا الطريق سائرون ، لابدَّ من أن يأتي يومٌ لا يبقى فيه واحدٌ منا فوق الأرض ، أبداً ، بعد مئة عام كلنا تحت أطباق الثرى ، كلنا في قبور مبثوثة هنا أو هناك ، شاهدة ؛ هنا قبر فلان ، كان إنساناً ، كان موظفاً ، كان تاجراً ، كان عالماً ، كان ذا شأنٍ كبير ، كان أديباً ، كان مؤرِّخَاً ، كان مهندساً ، كان طبيباً ، أين هم ؟ ﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ﴾ لذلك قالوا : الدنيا ساعة اجعلها طاعة والنفس طمّاعة عوّدها القناعة .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور