وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 4 - سورة مريم - تفسير الآيات 59 - 65 معنى الخلْف والخلَف
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . 


  الفرق بين الخَلَف والخلْف :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الرابع من سورة مريم .

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً * فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ﴾ .. قال العلماء : الخَلْفُ شيء ، والخلَف شيءٌ آخر ، فالخلْف - بتسكين اللام - الذرية السيِّئة ، والخَلَفُ الذرية الصالحة ، فإذا قلت لرجلٍ فقد أباه تقول له : خير خلَفٍ لخير سلف ، أما الخلْف فهي الذرية السيئة .

 

العلاقة الترابطية بين إضاعة الصلاة واتباع الشهوات :


ربنا سبحانه وتعالى بعد أن ذكر عن هؤلاء الأنبياء العظام ، وعن صفاتهم الراقية ، وعن شكرهم ، وعن عرفانهم ، وعن طاعتهم ، وعن محبتهم ، وعن أعمالهم الطيبة ، وعن نفسيتهم السامية ، بعد أن ذكر عن كل هؤلاء قال تعالى : ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾ من بعد هؤلاء الأنبياء .. ﴿ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ﴾ .. هناك علاقةٌ ترابطيةٌ بين إضاعة الصلاة واتباع الشهوات ، من أضاع الصلاة اتَّبع الشهوات ، من أقام الصلاة ابتعد عن الشهوات ، والمقصود بالشهوات الشهوات الدنِيَّة ، لأنك إذا تزوَّجت فبهذه الشهوة ترقى إلى الله عزَّ وجل ، وإذا كسبت المال الحلال وأنفقته في وجوهه المشروعة فبهذا الكسب وبهذا الإنفاق ترقى إلى الله عزَّ وجل ، ولكن الشهوات التي وردت في هذه الآية فإنما تعني الشهوات المُنْحَطَّة التي ما شرعها الله عزَّ وجل ، ولا سمح بها ، أن تعتدي على أعراض الآخرين هذه شهوةٌ منحطة ، طبعاً هذا الاعتداء مبعثُه الشهوة ، ولكن هذه الشهوة إنما أودعت فيك لترقى بها إلى الله عزَّ وجل ، عن طريق الزواج إيجاباً ، ولترقى بها إلى الله عزَّ وجل سلباً عن طريق الابتعاد عن المحرَّمات ، فكل الشهوات التي أَودعها الله في الإنسان من أجل أن يرقى بها رُقِيّاً في حالتين ؛ في حالة الإيجاب ، وفي حالة السلب ، فإذا ابتعد عن المحرمات من الشهوات يرقى إلى الله عزَّ وجل ، فإذا أخذ منها ما سمح الله به حصراً يرقى إلى الله عزَّ وجل ، لكن اتباع الشهوات هنا المقصود به اتباع الشهوات التي حرَّمها الله عزَّ وجل ، والتي ما أنزل الله بها من سلطان ، والتي نهى عنها النبي العدنان ، اتباع الشهوات هنا الشهوات الخسيسة ، المنحطة ، التي تجعل من الإنسان حيواناً بهيمياً ، فكأن هناك علاقةٌ ترابطيةٌ بين إضاعة الصلاة وبين اتباع الشهوات .

 

إضاعة الصلاة لا يعني تركها ولكن يعني تفريغها من مضمونها :


ما إضاعةُ الصلاة ؟ مِن المُجْمَع عليه ليس معنى إضاعة الصلاة تركها ، ولكن تأخيرها عن وقتها ، أو عدم الاستقامة قبلها ، إن لم تستقم قبل الصلاة فلا تنعقد الصلة بينك وبين الله عزَّ وجل ، والصلاة ليست أقوالاً ، وأفعالاً تفتتح بالتكبير ، وتختتم بالتسليم فحسب بل هي صلةٌ بالله عزَّ وجل ، وإقبالٌ عليه ، واتصالٌ به ، واقتباسٌ من كمالاته .

﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)  ﴾

[ سورة العنكبوت  ]

أعيد هذه العبارة مرةً ثانية .. ليست الصلاةُ في حقيقتها أقوالاً وأفعالاً تفتتح بالتكبير ، وتختتم بالتسليم فحسب ، بل هي إقبالٌ على الله عزَّ وجل ، واتصالٌ به ، واستمدادٌ من كمالاته ، لأنك إذا اتصلت بالله عزَّ وجل مصدرِ الحقِ ، والخيرِ ، والجمالِ لابدَّ من أن تنعكس هذه الصفات على قلبك ، لابدَّ من أن يفيض قلبُك بالخير ، لابدَّ من أن تحب الحق ، وأن تكون ناصراً له ، لابدَّ من أن تبتعد عن كل دَنِيَّة ، لأن الصلاة كما أرادها الله عزَّ وجل تنهى عن الفحشاء والمُنكر .

لا تجد مؤمناً يصلي صلاةً صحيحة يؤذي الناس ، أو يأخذ ما ليس له ، أو يعتدي على حقوقهم ، أو على أعراضهم ، أو على أشخاصهم ، لا تجد مؤمناً حقاً يُصلي صلاةً صحيحة ، وهو مسيءٌ إلى الناس ، من لوازم المصلي أنه محسن ، من لوازم المصلي أنه مُنْصِف ، من لوازم المصلي أنه يخجل من الله عزَّ وجل ، يشيع فيه الحياء ، والحلم ، والعفو ، مكارمُ الأخلاق يمكن أن تشتق بعضها من خلال الصلاة ، لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، فإذا ضُيِّعَت الصلاة تضييع الصلاة ألا تكون مستقيماً قبل الصلاة ، فإن لم تكن مستقيماً قبل الصلاة وقفت لتصلي وأنت في حجابٍ عن الله عزَّ وجل ، لأن المعاصي ، والمخالفات ، والاعتداءات ، والتقصير هذه كلها حُجُبٌ بينك وبين الله عزَّ وجل ، كلما ازداد حجم المعصية ازداد الحجاب ثخانةً ، وكلما خفَّت المعصية رَقَّ الحجاب ، فإذا استقمت على أمر الله عزَّ وجل ارتفع الحجاب بينك وبين الله ، عندئذٍ أقبلت عليه ، ورأيت الطريق مُيَسَّرةً إليه ، ورأيت أن أجمل ما في الحياة أن تكون مع رب الأرباب ، أن تكون مصلياً ، يا موسى أتحب أن أكون معك ؟  فصُعق هذا النبي الكريم وقال : يا رب كيف ذلك ؟ قال : أما علمت أنني جليس من ذكرني وحيثما التمسني عبدي وجدني ؟ ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ﴾ من بعد هؤلاء الأنبياء العظام خَلَفَ خَلْفٌ سيِّئون ، من علامة سوئهم أنهم أضاعوا الصلاة ﴿ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ﴾ هناك علاقةٌ ترابطيةٌ بين إضاعة الصلاة وبين اتباع الشهوات ، إضاعة الصلاة بعدم الاستقامة قبل الصلاة ، هذا الذي يبيع ويشتري ، ويملأ عينيه من الحرام ، لا يستطيع أن يعقد الصلة بينه وبين الله عند أذان الظهر ، يستطيع أن يذهب إلى المسجد ، ويتوضَّأ كما أمر النبي عليه الصلاة والسلام ، وأن يصلي السنة ، وأن يصلي الفريضة ، وأن يُتِم حركات الصلاة ، ولكن لا يستطيع أن يتصل بالله عزَّ وجل ، لأن المخالفات التي ارتكبها في دكَّانه في أثناء البيع والشراء حالت بينه وبين انعقاد الصلة مع الله عزَّ وجل ، فمن أطلق بصره في الحرام ، أو من غَشَّ في بيعه وشرائه ، أو من حلف يميناً كاذبةً ، أو مَن فعل من المعاصي ما شاء ، هذا يضيِّع عليه الاتصال بالله عزَّ وجل ، هذا يضيِّع الصلاة ، تضييع الصلاة ألا تكون مستقيماً فيما بين الصلاتين ، إن لم تكن مستقيماً فيما بين الصلاتين أضعت الصلاة ، بمعنى أن صلاتك أصبحت جوفاء لا معنى لها ، أصبحت أقوالاً وأفعالاً تفتتح بالتكبير ، وتختتم بالتسليم ، وانتهى الأمر ، لأن :

(( الصلاة عماد الدين فمن أقامها فقد أقام الدين ، ومن هدمها فقد هدم الدين . ))

[ الجامع الصغير عن علي بسند ضعيف  ]

وقال بعض العلماء : من أضاع الصلاة التي هي عماد الدين فهو للعبادات الأخرى أشد إضاعةً ، أضيع لغيرها من العبادات هي عماد الدين . 

 

الغي والهلاك جزاء إضاعة الصلوات واتباع الشهوات :


﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ﴾ .. والغَيُّ هو الشر ، ومن علامات قيام الساعة كما جاء في بعض الأحاديث الشريفة هلاك العرب ، لماذا هلاكهم ؟ لأنهم ضيَّعوا الصلاة ، واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً . 

 

عبادة الله و العودة إلى الدين سبب للتمكين :


أما إذا عادوا إلى دينهم ، واتصلوا بربهم ، فزكت نفوسهم ، وطابت أعمالهم ، واستقامت سريرتهم ، وائتلَفُوا فيما بينهم، وكانوا صفاً واحداً على من عاداهم ، عندئذٍ يعودُ لهذه الأمة مَجْدها ، ويصدق عليها قول الله عزَّ وجل :

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)  ﴾

[  سورة النور ]

لا يكون التبديل إلى الأمن بعد الخوف ، ولا يكون التمكين بعد الضعف ، ولا يكون الاستخلاف حاصلاً إلا بشرطٍ واحد: ﴿ يَعْبُدُونَنِي ﴾ ، هذه الآية تصحُّ على مستوى الأمة وتصح على مستوى الفرد ، أنت وحدك إذا أقمت الصلاة ، وجَهِدْتَ أن تتصل بالله عزَّ وجل ، ولَنْ تتصل به إلا إذا كنت مستقيماً على أمره ، إذا اتصلت بالله سَمتْ نفسك فكنت أبعد الناس عن الشهوات المُنحطة ، وعن الانغماس في المحَرَّمات ، وعن اتباع الشهوات التي لا ترضي الله عزَّ وجل ، كأن إقامة الصلاة واتباع الشهوات شيئان متناقضان ، وجود أحدهما ينقض وجود الآخر ، كأن إقامة الصلاة واتباع الشهوات شيئان متناقضان ، بمعنى أن أحدهما ينقض الآخر ، وجود أحدهما ينقض الآخر﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ ﴾ ضيَّعوها بعدم الاستقامة ، ضيعوها بالتفلُّت من قواعد الدين ، ضيعوها بمخالفة أوامر الشرع ، ضيعوها بالاستخفاف بمجالس العلم ، ضيعوها بالانغماس في الشهوات ، ﴿ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ﴾ مِن لوازم تضييع الصلاة اتباع الشهوات ، ومِن نتائج اتباع الشهوات تضييع الصلاة ، إذاً هناك علاقةٌ ترابطيةٌ بين إضاعة الصلاة وبين اتباع الشهوات .

 

الصلاة عماد الدين :


مَن ضبط شهوته اتصلت نفسه بالله عزَّ وجل ، من أسباب الاتصال بالله عزَّ وجل ترك الشهوات الخسيسة :

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) ﴾

[  سورة النازعات  ]

شيءٌ رائع ، هذه الآية دقيقةٌ جداً ، كأن الدين كله هو الصلاة ، الصلاة عماد الدين ، الصيام من أجل الصلاة ، والحج من أجل الصلاة ، والزكاة من أجل الصلاة ، والصلاة من أجل الصلاة ، الصلاة عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين ، ومن هدمها فقد هدم الدين ، إذاً اتباع الشهوات سببٌ لإضاعة الصلاة ، إضاعة الصلاة من لوازمها اتباع الشهوات ، لا يجتمع في الإنسان إقامةٌ للصلاة واتباعٌ للشهوات ، شيئان متناقضان أحدهما ينقض الآخر ، معنى إضاعة الصلاة عدم الاستقامة فيما بين الصلوات ، ومعنى إضاعة الصلاة تأخيرها عن وقتها ، ومعنى إضاعة الصلاة تركها ، ضيَّعها فتركها ، ضيعها فأخَّرها ، ضيعها بأن لم يستقم قبلها فوقف أمام ربه كأنه خُشُبٌ مُسَنَّدة ، لم يفقه منها شيئاً ، وفي بعض الأحاديث تقول الصلاة لصاحبها ؛ لمن لم يستقم قبلها فوقف وقفةً جوفاء لا معنى لها ، تقول له الصلاة .. عن عبادة بن الصامت :

(( إذا أحسنَ الرجلُ الصلاةَ فأتمَّ ركوعَها وسجودَها قالتْ الصلاةُ : حفِظَكَ اللهُ كما حفظْتَنِي ، فتُرفعُ ، وإذا أساءَ الصلاةَ ، فلمْ يُتِمَّ ركوعَها وسجودَها ، قالت الصلاةُ : ضيَّعَكَ اللهُ كما ضيعتَني فَتُلَفُّ كمَا يُلَفُّ الثوبُ الخَلَقُ فيضربُ بها وجهُهُ . ))

[  السيوطي : الجامع الصغير : خلاصة حكم المحدث : صحيح  ]

تقول له الصلاة : ضيَّعك الله كما ضيّعتَني ، ما هذه الصلاة ؟

وهذا الإنسان الذي يرى زيداً من الناس يصلي ، وقد أصابه بالأذى ، رأى عمْراً يصلي ، وقد أكل مال زيد ، رأى فلاناً يصلي ، وقد اعتدى على عُبَيد ، رأى فلاناً يصلي ، وقد تجاوز حدوده ، ظلم الآخرين ، عندئذٍ يسهم هذا الذي يصلي ولم يستقم بتضعيف قيمة الدين في نظر هؤلاء ، إنه أداةٌ للتنفير من الدين ، لذلك الإمام علي كرم الله وجهه يقول : " قوام الدين والدنيا أربعة رجال ؛ عالمٌ مستعملٌ علمه ، وجاهلٌ لا يستنكف أن يتعلم ، وغني لا يبخل بماله ، وفقيرٌ لا يبيع آخرته بدنياه ، فإذا ضيَّع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلَّم ، وإذا بخل الغني بماله باع الفقير آخرته بدنيا غيره " ، الصلاة عصام الدين ، وركن اليقين ، والصلاة عماد الدين فمن أقامها فقد أقام الدين ومن هدمها فقد هدم الدين .  


صور عن جزاء من أضاع الصلاة :


﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ﴾ وقد لقي مضيِّعو الصلاة ومتبعو الشهوات هذا الغَي :

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)  ﴾

[ سورة النحل  ]

وقد لَقِيَتْ القُرى التي أضاعت الصلاة واتبعت الشهوات لقيت ذلك الغي .

﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)  ﴾

[ سورة الأنعام  ]

لقد ذاقت القُرى التي أضاعَتْ الصلاة ، واتبعت الشهوات ذاقت ذلك الغَي ، لقد أذاقها الله ذلك الغي .. ﴿ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ﴾ اعملوا ما شئتم ، جميع البشر مجزيّون بما عملوا ، إن لكلّ حسنةٍ ثواباً ، ولكل سيئةٍ عقاباً ، لكن رحمة الله واسعة ، باب التوبة مفتوح ، لو أن مجتمعاً بأكمله ضيَّع الصلاة ، واتبع الشهوات فاستحق الهلاك ، استحق الغَي أيْ الشر ، نقصٌ في الأموال والأولاد ، شحٌ في السماء ، ضيقٌ في الأرزاق ، قهرٌ للضُعفاء ، خصوماتٌ لا تنتهي ، تمزقٌ للحياة الاجتماعية ، تسيُّبٌ في الأعمال ، هذا هو الغَي ﴿ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ﴾ إذا كان المجتمع كله قد ضيَّع الصلاة واتبع الشهوات فلابدَّ من أن يلقى ذلك الغَي ، وقد لقي ذلك الغَي ، والشواهد على هذا كثيرة ، لكن الله عزَّ وجل جلَّت حكمته ، ووسعت رحمته كل شيء ، لكن الله عزَّ وجل فتح باب التوبة لآحاد المسلمين ، أي أيها المسلم لو أن المجتمع كله فسد ، وضيع الصلاة ، واتبع الشهوات ، واستحق الهلاك ، أنت إذا استقمت وحدك ، إذا رجعت إلى الله ، واستقمت على أمره ، وعقدت الصلة بينك وبينه ، وحسنت عملك ، وتقرَّبت إليه ، وأحسنت للخلق ، أنت وحدك تنجو من هذا الغَي الذي وعد الله به تاركي الصلاة ، ومتبعي الشهوات ، جاءت الآية الأولى في صيغة الجَمع ، وجاء باب التوبة في صيغة المُفرد ، أي آحاد المسلمين إذا عادوا إلى ربهم ، واتبعوا أمر دينهم ، وأحكموا صلتهم لن تنطبق عليهم هذه الآية ، أبداً ، ولو كنت في مجتمعٍ فاسد ، ولو كنت في مجتمعٍ قد ضيَّع الصلاة ، ولو كنت في مجتمعٍ قد اتبع الشهوات ، ولو كنت في مجتمعٍ يستحق الغَي من الله عزَّ وجل .

 

التوبة عِلمٌ وندمٌ وإقلاعٌ وعزيمة :


﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً ﴾ .. معنى تاب : الإمام الغزالي رضي الله عنه في كتاب إحياء علوم الدين ، وفي باب التوبة يُعَرِّف التوبة بأنها عِلمٌ ، وندمٌ ، وإقلاعٌ ، وعزيمة ، فالذي يفعل السوء ولا يدري أنه سوء ، هذا كيف يتوب ؟ لابدَّ من أن تحضر مجالس العلم حتى تعرف ما هو حقٌ ، وما هو باطل ، ما هو حلالٌ ، وما هو حرام ، ما يجوز ، وما لا يجوز ، ما يُرضي الله ، وما لا يرضيه ، يجب أن تعلم ، فإذا علمت أن هذا العمل لا يرضي الله ، أنّ هذه الطريقة في البيع والشراء لا ترضي الله ، أنّ إخفاء العَيب لا يرضي الله ، أنْ تبيعَ بسعرين من دون سببٍ مشروعٍ لا يرضي الله ، أن تزيد في الثمن بزيادة الأجل لا ترضي الله ، أن تبيع بضاعةً محرّمةً لا يرضي الله ، أن تطلِق لبناتك العنان يفعلْن ما يشأْنَ بدافع التربية الحديثة ، الحرية ، لا يرضي الله .

إن لم تجلس في مجالس العلم ، وتعرف من خلال هذا المجلس حدود الله وشرعه ، وما يجوز ، وما لا يجوز ، كيف تتوب ؟ فقوام التوبة العلم ، العلم بالحلال والحرام .

 

لوازم التوبة :


من لوازم التوبة الندم على ما مضى ، يكره التائب أن يعود في الكفر كما يكره الرجل أن يُلقى في النار .

من لوازم التوبة الندم على ما مضى .

من لوازم التوبة الإقلاع الفوري عن المعصية ، لا يوجد تسويف ، غداً أتوب ، وبعد غدٍ أتوب ، وسوف أتوب ، وفي أول العام القادم أتوب ، وبعد الفحص أتوب ، وبعد الزواج أتوب .

ومن لوازم التوبة العَزْمُ الأكيد في المستقبل على ألا يعصي الله ، علمٌ ، وندمٌ ، وتوبة ، وإقلاعٌ ، فإذا كانت المعاصي قد تعلَّقت بها حقوق العباد فلابدَّ من إصلاح ، فلان له بذمتك مبلغٌ من المال ، وطالبك به كثيراً حتى يئس منك ، وأنت عدت إلى الله لابدَّ من أن تؤدي هذا المبلغ إليه ، كل حقوقٍ ماديةٍ ، أو أدبيةٍ ، معنويةٍ ، أو ماليةٍ يجب أن تؤدَّى مع التوبة .

 

المكارم الأخلاقية هي أثرٌ من آثار الصلاة :


 ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾ العمل الصالح في هذه الآية كلمةٌ عامة تشمل العبادة كلها ﴿ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾ أطاع الله في العبادات ، وفي المعاملات ، وفي مكارم الأخلاق ، في الإسلام عقائدَ ، وعبادات ، ومعاملات ، ومكارم أخلاق ..

العقائد أن تؤمن بالله ، واليوم الآخر ، والملائكة ، والكتاب ، والنبيين .

والعبادات أن تشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وأن تؤدي الصلاة ، وأن تصوم رمضان ، وأن تزكي ، وأن تحج البيت إذا كنت مستطيعاً ، هذه العبادات .

المعاملات يجب أن تعرف أحكام البيوع ، وأحكام الزواج ، وأحكام الطلاق ، وأحكام الإرث من أجل أن تعبد الله وفق شرعه .

وأما مكارم الأخلاق فإذا اتصلت بمنبع الأخلاق ، إذا اتصلت بمصدرها اشتقَّتْ نفسُك من كمال الله كمالاً ، فإذا أنت رقيقُ الحاشية ، رحيم القلب ، لطيف ، حليم ، شفوق ، عَفُوٌ ، كريم ، سَخِيّ ، هذه المكارم الأخلاقية التي يذوب لها الإنسان إنما هي أثرٌ من آثار الصلاة ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ﴾ ، هنا ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ﴾ بالجمع ﴿ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ﴾ أَيْ إذا فسد المجتمع ، واتجه نحو الدنيا ، وصار مادياً ، قيمة المرء فيه بقدر ما يملك ، وتغلَّب القوي على الضعيف ، وضاع الحق مع الباطل ، وصار الإنسان بين مجتمعٍ من الذئاب ، إذا كنت في مثل هذا المجتمع فَلُذْ بالتوبة ، والإيمان ، والعمل الصالح ، عندئذٍ يقبل الله عملَ أولئك ، ويجزيهم على هذا العمل الطيِّب بإدخالهم الجنة ﴿ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً ﴾ .

 

الطاعة هي القرابة من القواعد الثابتة في القرآن الكريم :


من القواعد الثابتة في القرآن الكريم أنه :

﴿ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)﴾

[  سورة الإسراء  ]

﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)  ﴾

[  سورة المدثر ]

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) قَالَ : ( يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا . ))

[ رواه البخاري ومسلم  ]

((  عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسام : مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه . ))

[  صحيح ابن حبان أخرجه في صحيحه ]

هذا هو الشرع .. " يا سعد بن أبي وقاص لا يغرنَّك أنه قد قيل : خال رسول الله ، فالخلْق كلهم عند الله سواسية ، ليس بينه وبينهم قرابةٌ إلا طاعتهم له " ، الطاعة هي القرابة ..

﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) ﴾

[ سورة المسد ]

عم رسول الله .. 

(( سلمان منا آل البيت . ))

[ ضعيف الجامع : لا يصح مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ويصح موقوفا عن علي رضي الله عنه ]

 هكذا الإسلام ، سيدنا عمر رضي الله عنه خرج من المدينة ، وكان أميراً للمؤمنين ، خرج إلى ظاهر المدينة ليستقبل سيدنا بلالاً ، سيدنا الصديق كان إذا ذُكِر عند عمر قال عنه : " هو سيدنا وأعتق سيدنا " أي بلالاً ، هكذا الإسلام ، كل الناس سواسية كأسنان المشط . 

﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً ﴾ لك أن تقول : شيّا وشيئا ، شيّاً على التخفيف ، وشيئاً على التحقيق ، كأن تقول : تاريخ وتأريخ ، كفُواً وكفُؤاً . 

 

الجنة هي دار الإقامة والاستقرار لا همّ فيها ولا حزن :


﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً ﴾ .. جنات عدنٍ ، وعلى نعوته : "وسيشع إلى مثواه الأخير " إذا كان القبر هو المثوى الأخير ، فالبيت في الدنيا هو المثوى المؤقت ، فاعتَنِ به ما شئت ، بالغ في تزيينه ، إنه مثوى مؤقت ، أمّا : ﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾ في الجنة لا يوجد قلق ، الإنسان في الدنيا ولو حَصَّل منها ما يريد قلقٌ خفيٌ كثير يعتلج في نفسه ، كم أعيش ؟ هل أصل إلى الستين أم أموت في الخمسين أم في الأربعين ؟ هذا القلق مِن مُفارقة الدنيا ، قلقٌ مزعج ، هل أبقى في هذا البيت ؟ هل يسمح لي دخلي أن أبقى فيه أم أضطر إلى بيعه وشراء بيتٍ أصغر منه ؟ هل تبقى لي هذه المركبة ؟ هل يبقى لي هذا المحل الجيِّد ؟ هل تبقى زوجتي صحيحة البدن أم يصيبها المرض ؟ الحياة كلها مُقلقات ، لكن الجنة هي جنة عدنٍ ، جنة الإقامة ، جنة الاستقرار ، جنة الخلود ، لا قلق ، ولا همّ ، ولا حزن ، هل تبقى المواد متوافرة أم يصيبها اختناق ؟ في الجنة لا يوجد اختناق مواد ، المواد متوافرة ، الفاكهة لا مقطوعةٌ ولا ممنوعة ، أحياناً هناك فاكهة مقطوعة لها مواسم ، وقد تكون متوافرة حولَنا ولكن ممنوعة ، لا مقطوعة ولا ممنوعة ، هكذا الجنَّة .

 

العاقل لا يعيش لحظته :


﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ ﴾ .. الإنسان المفكِّر لا يعيش وقته ، الإنسان كلما ضاق فكره ، وكان محدوداً عاش لحظته ، وغاب عما سيكون ، فالإنسان الذي يعيش لحظته ، ولا يفكر في مستقبله إنسان محدود ، سمكاتٌ ثلاثة كانوا في غدير ، مرَّ صيَّادان ، فتواعدا أن يرجعا ليصيدا ما فيه من السمك ، قال : فسمَعت السمكات قولهما ، أمَّا أكيسُهنَّ ، أيْ أعقلهَّن فإنها ارتابت وتخوَّفت ، وقالت : العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها ، ولم تعرج على شيءٍ حتى خرجت من الغدير ، وأما الكيسة الأقل عقلاً والأقل ذكاءً فبقيت في مكانها حتى عاد الصيادان ، فذهبت لتخرج من حيث خرجت رفيقتها فإذا بالمكان قد أُغلق ؛ فقالت : فرَّطتُ ، وهذه عاقبة التفريط ، غير أن العاقل لا يقنط من منافع الرأي ، ثم إنها تماوتت فطفت على وجه الماء ، فأخذها الصيادان ووضعاها على الأرض بين النهر والغدير ، فوثبت في النهر فنجت ، وأما العاجزة فلم تزل في إقبالٍ وإدبارٍ حتى صيدَتْ ، فالإنسان بين أن يكون كيّساً ، بمعنى أنه عاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها ، الموت حق ، ما منا واحدٌ إلا وسيموت ..

الليل مهما طال فـلا بدَّ من طلوع الفجر           والعمر مهما طال فلابدَّ من نزول القبر

* * *

إذا أيقنا أنه لابدَّ من الموت فماذا أعددنا له ؟ ماذا أعددت للقبر ؟ ما العمل الصالح الذي أعددته للقبر ؟ هل تصلي وأنت تودِّع العمر ؟ هكذا قال النبي الكريم :

(( عن أبي أيوب الأنصاري : إذا قمتَ في صلواتِك فصلِّ صلاةَ مودِعٍ ولا تتكلمْ بكلامٍ تعتذرُ منه واجمع الإياسَ مما في أيدي الناسِ . ))

[ محمد جار الله الصعدي : النوافح العطرة :  خلاصة حكم المحدث : صحيح: أخرجه ابن ماجه ، وأحمد ، والطبراني باختلاف يسير.  ]

فالعاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها ، والأقل عقلاً يحتاط لها بعد وقوعها ، والغبي لا قبل وقوعها ، ولا بعد وقوعها .

 

العاقل من يعدّ لساعة الموت عدتها :


إذاً : ﴿ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ ﴾ خالق الكون وعدنا بالجنة ، ألا نقبل هذا الوعد ؟ ألا نصدقه ؟ تصدق إنساناً مثلك ضعيفاً لا يقوى على أن يحيا ساعةً باختياره ، تصدقه  ولا تصدق خالق الكون ؟! ﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً ﴾ :

﴿ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)﴾

[ سورة يس  ]

يأتي الصوت العظيم : ﴿ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَانُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﴾ البطولة أن يكون الإنسان في هذه الساعة الخطيرة قد أعدَّ لها ما يناسبها ، أما أن يعيش الناس هكذا مع شهواتهم ، مع انحرافاتهم ، مع حظوظهم ، مع مُتعهم ، مع خصوماتهم ، وينسون هذه الساعة فهذا من الحُمق ، قال عليه الصلاة والسلام :

(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ . ))

[ الترمذي : حكم المحدث : صحيح ]

﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً ﴾ مأتيًّا بمعنى  آتياً ، الشيء بعد أن تلتقي به إما أنَّك أتيته ، وإما أنه أتى إليك ، إذا ركبت المصعد إما أنك بهذا المصعد أتيت إلى الطابق الرابع ، وإما أن هذا الطابق الرابع أتى إليك ، تحصيل حاصل ..﴿ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً ﴾ بمعنى : آتياً .


  في الجنة طمأنينة وسلام وأمن وأمان :


﴿ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلَاماً ﴾ ..لا يوجد لغو ، اللغو مُزعج ، أن تستمع إلى كلامٍ باطل ، أن تستمع إلى كلامٍ كاذب ، كلامٍ فيه دَجَل ، كلامٍ ليس واقعياً ، هذا لغو ، كل كلامٍ ليس حقيقياً ، ليس واقعياً ، ليس حقاً ، إنما هو لغوٌ .

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) ﴾

[   سورة المؤمنون ]

الجنةُ ليس فيها لغو ، في الدنيا فقد تضطر إلى أن تجلس مع أُناس يتحدثون كلاماً باطلاً ، كلاماً منحطاً ، كلاماً سخيفاً ، كلاماً لا جدوى منه ، قد ينهشون أعراض بعضهم بعضاً ، قد يتفاخرون بشيءٍ سخيف تافهٍ ، هذا كله لغو ، لكنك في الجنة لن يجمعك الله في الجنة إلا مع الكُمَّل ، مع المؤمنين الصالحين ، مع الأنبياء ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين ، هؤلاء لا يتكلمون اللغو ، كلام لا فائدة منه ، كلام باطل ، كلام مُزخرف ، كلام فيه دجل ، كلام فيه تزوير ، كلام فيه مبالغة ، كلام فيه كذب ، كلام فيه تجاوز ، كلام سخيف بموضوعات تافهة ، لا ، لا ، هذا كله في الجنة غير موجود ، اطمئنوا ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلَاماً﴾ :

﴿ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)  ﴾

[  سورة يس ]

رب العزة يسَلِّم عليهم .

﴿ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)  ﴾

[ سورة الحجر  ]

والملائكة يسلمون عليهم . 

﴿ إِلَّا سَلَاماً ﴾ بمعنى تسليماً ، وبمعنى طمأنينةً ما بعدها قلق ، سلام ، قد أقول لإنسان : سلامٌ عليك ، أي لن ترى مني إلا الخير ، لن ترى مني إلا الأمن ، لن ترى مني إلا الخدمة ، سلامٌ عليك ، وهذا معنى السلام : السلام عليكم ، أي اطمئن أنا إنسان طيب ، خيِّر ، لن أصيبك بالأذى ، لن ينالك مني ضرر ﴿ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ﴾ هذا معنى السلام ، إذاً : ﴿ إِلَّا سَلَاماً ﴾ .

 

اطمئنان أهل الجنة على وفرة الرزق :


وليس في الجنة قلقٌ على الرزق .. ﴿ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ﴾ أحياناً يكون الإنسان ضَيْفاً على أُناس كرماء ، الساعة السابعة تفضل على الأكل ، كله جاهز ، أَكَلَ وزَحَلَ ، غَسّل ثم جلس ، وكذلك عند الظهر تفضل على الأكل ، لا يهتم لشراء الطعام ، ولتأمين المال لشراء الطعام ، واختيار المواد الجيدة ، وكيف يُطبخ ، وكيف يُقدَّم ، هذا كله هذه الهموم في الدنيا لن تكون في الجنة ، لا يوجد قلق أبداً .

 

وراثة الجنة بحسب العمل لا بحسب النسب :


﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلَاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً﴾ لا يوجد الوراثة ، أنا ابن فلان ، هذه ورقة الطابو ، اسمح لي بالجنة ﴿ مَنْ كَانَ تَقِيّاً ﴾ .. الوراثة هنا بحسب العمل لا بحسب النسب ﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً ﴾ والتقوى مباحة لكل الناس ، مفتحةٌ أبوابها لكل الناس ، رحمة الله مبذولة ، رحمة الله واسعة ، موجبات الرحمة متوافرة ، هناك تكافؤٌ في الفُرَص ، أي عبدٍ قال : يا رب ، يقول الله : لبَّيك يا عبدي ، أي عبدٍ قال : يا رب قد تبت إليك ، يقول الله : وأنا قد قبلت ، يا رب أنا قد أذنبت ، يقول : وأنا قد عفوت .

(( عن أنس بن مالك  قال اللهُ تعالى : يا بنَ آدمَ ! إِنَّكَ ما دَعَوْتَنِي ورَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لكَ على ما كان فيكَ ولا أُبالِي يا بنَ آدمَ ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لكَ  ولا أُبالِي  يا بنَ آدمَ ! لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خطَايا ثُمَّ لَقِيْتَني لاتُشْرِكْ بِيْ شَيْئَا لأتيْتُكَ بِقِرَابِها مَغْفِرَةً . ))

[ صحيح الترغيب  حسن لغيره أخرجه الترمذي ]

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)  ﴾

[ سورة الزمر ]

عن عبد الرحمن بن سليمان أبو الجون:

(( للَّهُ أفرَحُ بتوبةِ التَّائبِ مِنَ الظَّمآنِ الواردِ ومنَ العقيمِ الوالِدِ ، ومنَ الضَّالِّ الواجدِ فمَن تابَ إلى اللَّهِ توبةً نصوحًا أنسى اللَّهُ حافِظيهِ وجوارحَهُ وبقاعَ الأرضِ كُلِّها ، خطاياهُ وذنوبَهُ . ))

[  ضعيف الجامع : خلاصة حكم المحدث : ضعيف ]

﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً ﴾ جعلنا الله من أهلها ، والله شيء جميل يا إخوان ، هذه الدنيا قصيرة ، كم سنة ؟! كلها متاعب .. إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء ، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشقاء ، قد جعلها الله دار بلوى - الدنيا دار تكليف ، والآخرة دار تشريف - وجعل الآخرة دار عُقبى ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً ، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي ﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ نعطيها لا بحسب النسب ، لا ، ﴿ مَنْ كَانَ تَقِيّاً ﴾ لذلك :

ليس مَن يقطع طُرُقاً بطلاً                   إنما من يتَّقي الله البطـــل

***

هذه البطولة .

 

الحكمة من نزول القرآن منجماً :


﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ﴾ .. هذه الآية كما قال معظم المفسرين جاءت معترضةً بين سياق هذه الآيات كي تُطَمْئِنَ النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن انقطاع الوحي عنك ليس عن نسيانٍ من ربك ، إنما هو لحكمةٍ بالغة .

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) ﴾

[ سورة الطور ]

اطمئنْ يا محمد ، حتى إن بعض علماء القرآن الكريم يقولون : إن مِن حكمةِ أن ينزل القرآن مُنَجَّماً أن النبي عليه الصلاة والسلام سيواجه متاعب الدعوة ، وسيواجه إعراض المُعرضين ، وتكذيب المكذبين ، وافتراء المفترين ، وإبطال المبطلين ، سيواجه الكفار والمشركين ، سيحاربونه ، سيأتمرون على قتله ، سيخرجونه ، سيضطهدون أصحابه ، لو أن القرآن نزل على النبي دُفعةً واحدة في أول الرسالة وانقطع لاستوحش النبي عليه الصلاة والسلام ، لكن الله عزَّ وجل من أجل أن يؤنسه ، ومن أجل أن يثبِّته ، ومن أجل أن يكون معه دائماً ، جعل هذا القرآن الكريم يُنَزَّلُ على قلبه مُنَجَّمَاً ، فكلما ضاقت به الحيَل ، وكلما اشتدت مؤامرات الكفار عليه جاء الوحي برداً وسلاماً على قلبه الشريف ، فالله سبحانه وتعالى هنا يُطمئن النبي عليه الصلاة والسلام على لسان الملائكة أَنْ أيها النبي نحن الملائكة ..﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ﴾ التنزُّل فيه معنى التراخي ، فيه معنى الطواعية ، أي نتنزَّل مرةً بعد مرة ، شيئاً فشيئاً ، من حينٍ لآخر ، هذا التنزُّل المُتراخي ، المنجَّم ، هذا من تخطيط الله عزَّ وجل .

 

الكون كله مكاناً وزماناً أمره لله :


﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ﴾ بعض العلماء قالوا : هذه (ما) تعني المكانية .. ﴿ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا ﴾ .. أي هذا الذي أمامنا نراه أمرُه لله ، وهذا الذي خلفنا لا نراه أمرُه لله ، وهذا الذي حولنا لا نراه أمره لله ، أي ما أمامنا ، وما هو خلفنا ، وما هو عن جوانبنا كله لله ، هذا المعنى المكاني .

المعنى الزماني ؛ الماضي ، والمستقبل ، والحاضر لله عزَّ وجل ، فالكون مكاناً وزماناً أمرُه لله ، فنحن مأمورون ﴿ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ﴾ الله لا ينسى . 

تُرْوى قصة رمزية : امرأةٌ متقدمةٌ في السن كانت على عهد سيدنا نوحٍ عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ، وقد عَلِمَتْ منه أن هناك طوفاناً سيعُمُّ الأرض ، وسيهلك الكفار جميعاً ، وأخبرها هذا النبي العظيم أن هناك سفينةً سوف يركب فيها المؤمنون ، وينجون من هذا الهول العظيم ، هي تقبَعُ في كوخٍ لها فقالت له : يا نوح لا تنسني ، إذا جاء الطوفان لا تنسني ، يا نوح لا تنسني ، جاء الطوفان ، وصار المَوْجُ كالجبال ، ونسيها هذا النبي العظيم ، وجَلَّ الذي لا ينسى ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :

(( إنما أنا بشرٌ ، أَنسى كما تنسَون ، فإذا نسيتُ فذَكِّروني . ))

[  ابن رجب  : فتح الباري لابن رجب : خلاصة حكم المحدث : صحيح ]

فلما كان هذا النبي الكريم على ظهر السفينة ، وهي كريشةٍ في مهب الريح ، والأمواج من كل جانبٍ كالجبال تذَّكَر هذِهِ المرأة ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، هذه التي رجتنا أن نذكرها ، وأن نأتي بها إلى هذه السفينة نسيناها ، فلما استوت السفينة على الجودي ، وقيل : يا أرض ابلعي ماءَك ، ويا سماء أقلعي ، وغيض الماء ، وقضي الأمر ، واستوت على الجودي ، وجلس نوحٌ مع أصحابه جاءت هذه المرأة فقالت : يا نوح متى الطوفان ؟ الله لا ينسى ، إذا عملتَ عملاً طيباً فالله لا ينسى ، إذا آثرت رضاء الله عزَّ وجل فالله لا ينسى ، إذا خدمتَ عباد الله فالله لا ينسى ، إذا آثرت رضاء الله على شهوتك فالله لا ينسى ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ﴾

 

الله ربُّ كلِّ شيء :


﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ ماذا يوجد بعد ذلك ؟ ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ .. أي رب كل شيء ، هذه بلاغة ، مثلاً :

﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)  ﴾

[  سورة آل عمران ]

واقفون ..﴿ وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ﴾ فقط ، كم حالة للإنسان ؟ إما أنه واقف ، وإما أنه قاعد ، وإما أنه مضطجعٌ ، فإذا كان يذكر الله واقفاً ، وقاعداً ، ومضطجعاً ، أي إنه يذكر الله دائماً ، فإذا كان الله سبحانه وتعالى : ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ إذاً رب كل شيء ، هو المُمِدُّ لكل شيء . 

 

الأمرُ بالعبادة والصبرُ عليها :


﴿ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ﴾ ، ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً﴾ .. فاعبده أي أطعه في كل ما أمرك به ، والعبادة كما تعرفون طاعةٌ طوعية ، لو أنها طاعةٌ قسرية لما كانت عبادةً ، طاعة طوعية ، الإنسان مخيَّر ، لا إكراه في الدين ، طاعةٌ طوعية تسبقها معرفةٌ يقينية ، لا يمكن أن تطيع الله عزَّ وجل في كل ما أمر به إلا إذا أيقنت أن هذا الأمر لمصلحتك ، وأنه ربٌ ، وأنك عبدٌ ، وإنه عليك أن تطيعه ، ولا خيار لك في ذلك ، تسبقها معرفةٌ يقينية ، وتفضي إلى سعادةٍ أبدية ، لكن جلَّت حكمة الله عزَّ وجل من العبادات ما هو متوافقٌ مع طبيعة النفس ، كالأمر بالزواج مثلاً ، الزواج أمرٌ ، النبي الكريم يقول : عن أنس بن مالك :

(( ما بالُ أقوامٍ قالوا كذا وكذا ؟ لكني أُصَلِّي وأنامُ ، وأصومُ وأُفْطِرُ ، وأتزوَّجُ النساءَ ، فمن رغِبَ عنْ سُنَّتِي فليسَ مِنِّي . ))

[  صحيح الجامع: خلاصة حكم المحدث : صحيح ]

وهناك عبادات قد تخالف طبيعة النفس ، فالإنسان أَمْيَل للراحة ، يقال له : قم فَصَلِّ الصبح في وقته ،الإنسان أميل إلى النجاة من المسؤولية ، فالشرع يأمره أن يكون صادقاً ، ولو كان في هذا الصدق متاعب كثيرة ، إذاً الإسلام فيه حج ، والحج فيه مشقة ، عبادةٌ بدنيةٌ ، وماليةٌ ، ومكانيةٌ ، وزمانية ، الصيام فيه مشقة ، فيه ترك الطعام والشراب ، الصلاة فيها جهد ، فالعبادات فيها جُهد ، والأوامر والنواهي قد تكون متناقضةٌ مع رغبات النفس ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام  عن أنس بن مالك :

(( حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ . ))

[  صحيح مسلم  ]

وفي حديثٍ آخر ..

(( عن عبدالله بن عباس  أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مَن أنظَرَ مُعسِرًا أو وضعَ لهُ وقاهُ اللهُ مِن فَيْحِ جهنَّمَ ألا إنَّ عملَ الجنَّةِ حَزنٌ بِرَبوةٍ ثلاثًا ، ألا إنَّ عملَ النَّارِ سَهلٌ بسَهوةٍ ، والسَّعيدُ مَن وُقيَ الفِتنَ وما مِن جرعةٍ أحبَّ إلى اللهِ من جَرعةِ غَيظٍ يكظِمُها عبدٌ ما كظَمها عبدٌ للَّهِ إلَّا ملأَ جوفَه إيمانًا ))

[ ابن كثير المصدر تفسير القرآن العظيم ، حديث حسن ،  أخرجه أحمد واللفظ له ، وابن أبي الدنيا في اصطناع المعروف ]

تصور طريقًا صاعدة ، وعرة ، كلها أكمات ، وكلها حفر ، وأنت راكب دراجة ، فهناك جهدٌ كبير في تخطي هذه العقبات ، وفي صعود هذه الأكمات حتى تبلغ نهاية الطريق ، وفي نهاية الطريق قصرٌ منيف ، وفي هذا القصر كل شيء ، أما الطريق النازلة فطريقٌ ممهدة تحف بها الرياحين والورود ، ولكنها تنتهي إلى حفرةٍ ما لها من قرار ، فإن عمل الجنة حزنٌ بربوةٍ ، وإن عمل النار سهلٍ بسهوةٍ ، قد تشتهي النفس أن تملأ عينيها من محاسن النساء في الطريق ، هذه شهوة الإنسان ، يقول الله عزَّ وجل :

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)  ﴾

[ سورة النور ]

إذاً : (( حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ )) ، ﴿ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ﴾ لو أن عبادة الله عزَّ وجل ألزمتك أن تكبح من جماح نفسك ، وأن تضبط شهوتك ، وأن تضبط مشاعرك وحواسك ، فهذه العبادة ترقى بها إلى أعلى عليين ﴿فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ﴾ اصطبر لهذه العبادة إن لم تعرف حكمتها ، واصطبر لهذه العبادة إن كانت مُتناقضة مع راحتك ، أو مع ميولك الطبيعية ، واصطبر لهذه العبادة إن كلَّفتك جهداً ومالاً ، دفعُ الزكاة على البُخلاء شاق ، أن تدفع من مالك الذي عندك مبلغاً كبيراً هكذا.


  طاعة الله في أمره كله ولو كان هذا الأمر يجلب المشقة :


﴿ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ﴾ هل تعلم له مماثلاً ؟ هل هناك ربٌ آخر تعبده من دونه ؟ هو إلهٌ واحدٌ ، في السماء إله ، وفي الأرض إله ، لا إله إلا هو ، إذاً هذه الآية : ﴿ فَاعْبُدْهُ ﴾ أي أطعُه في كل ما أمرك ، ولو كان أمر الله عزَّ وجل يجلب لك المشقة أحياناً ، وبذل المال أحياناً ، ومعاكسة الشهوات أحياناً ، والتعب أحياناً ، والقلق أحياناً ، أحياناً الموقف السليم أن يكذب الرجل ليرتاح ، لكنَّ المؤمنَ لا يكذب ، يصدق فتأتيه المتاعب ، هذه المتاعب مقدَّسة لأنها كانت بسبب الصدق ، الإنسان أحياناً يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، وقد يكون هذا الأمر جالباً له بعض المتاعب ، فإذا سكت كان في نجاةٍ ﴿ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ﴾ قل الحق ولا تخشَ في الله لومة لائم ..

﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)﴾

[ سورة الأحزاب  ]

لو أن الجنة كلها مسرَّات لأقبل الناس عليها لا حباً بالله عزَّ وجل ، ولكن حباً بأنفسهم ، لكن الله جعل الجنة محفوفةً بالمكاره ، وجعل النار محفوفةً بالشهوات ، هذه حكمة الله ، الرزق الحلال مُتعب ، والحرام سهل ، أحياناً حركة بسيطة تأخذ فيها مئة ألف ، وأحياناً من أجل أن تجمع هذا المبلغ تعمل عاماً بأكمله ليلاً نهاراً ، الحلال مُتعب :

(( من أمس وانياً من طلب الحلال بات مغفوراً له ، وأصبح الله عنه راضياً . ))

[ لا نعرف له أصلا بهذا اللفظ، وقد أشار إلى ذلك الحافظ العراقي بقوله في تخريجه: " أخرجه الطبراني في " الأوسط " من حديث ابن عباس: " من أمسى كالا ... ". وفيه ضعف ". ]

طلب الجنة من غير عملٍ ذنبٌ من الذنوبٌ .

 

الصبر نصف الإيمان :


 إذاً : ﴿ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ﴾ ألا ترضى أن يقول الله لك : يا عبدي اصطبر عليّ ، أنا سوف أكافئك ..

﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)  ﴾

[ سورة الضحى  ]

سوف يأتيك يومٌ تنسى كل شيء : 

(( قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى : أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَر ٍ. قالَ أبو هُرَيْرَةَ : اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ : {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]. ))

[ متفق عليه ]

اصطبر ، اصطبر يا عبدي ، لا تَضِجّ ، لا تَلِجّ ، لا تضق ذرعاً ، اصطبر ﴿ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ﴾ الصبر نصفُ الإيمان ، وقد قيل : الإيمان نصفٌ صبرٌ ، ونصفٌ شكرٌ .

(( والصبر من الإيمان كالرأس من الجسد ، فإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان . ))

[ ضعيف الجامع : رواه ابن أبي شيبة والبيهقي في شعب الإيمان موقوفًا ]

الله عزَّ وجل يقول لك : يا عبدي اصطبر من أجلي ، اصطبر  :

﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)﴾

[  سورة الزمر  ]

﴿ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ﴾ تعبدُ من ؟ خالقَ الكون ، الذي ليس له مماثل ، ولا شبيه ، ولا كفء ، هو الأبدي السرمدي ، هو الأول والآخر ، الظاهر والباطن ، الحيُّ القيوم ، هو كل شيء ﴿ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ﴾ .

 والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور