وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 13 - سورة العنكبوت - تفسير الآيتان 45 - 46 معنى الذكر
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا و زدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

القرآن الكريم كله ودعوة الأنبياء كلها قائمة على تذكير الإنسان بفطرته:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثالث عشر من سورة العنكبوت.

في الدرس الماضي وصلنا إلى قوله تعالى: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾. . بقي من هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ .

أيها الإخوة الأكارم؛ الذكر، والذكرى، والتذكر، من اشتقاق واحد، تذكُّر الشيء أي أن تستعيده، أن تستحضره، والله سبحانه وتعالى يصف القرآن الكريم كله بأنه ذكرى، قال تعالى:

﴿ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54)  ﴾

[ سورة عبس  ]

معنى ذلك أن الإنسان فُطِر على أن يعرف الله، فُطِر على أن يستقيم على أمره، فُطِر على أن يسعى للتقرب منه، فُطِر على أنه لا يرتاح إلا بالإقبال عليه، هذه فطرة الله عز وجل، فالقرآن الكريم كله، ودعوة الأنبياء كلها إنما قائمة على تذكير الإنسان بفطرته، وحينما يهتدي الإنسان إلى فطرته يسعد في الدنيا والآخرة، لذلك يفيدنا في هذه الآية آية أخرى يقول الله فيها سبحانه وتعالى:

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)﴾

[  سورة الروم  ]

 

الوجهة الخالصة والاستقامة التامة: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا:


أقم وجهك أي أن يقيم الإنسان وجهته الخالصة في استقامة تامة إلى الله، وأن يقوِّمها كلما انحرف عن طريق معرفة الله أولاً، وطاعته ثانياً، والتقرب إليه ثالثاً، إنه إن فعل هذا مائلاً إلى الله، تاركاً كل ما سواه، ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾ إن أقمت وجهتك الخالصة إلى الله، وقوّمتها كلما انحرفت في استقامة تامة إليه عن طريق معرفته أولاً، وطاعته ثانياً، والتقرب إليه ثالثاً، مائلاً إليه من كل قلبك، تاركاً كل ما سواه، إنك إن فعلت هذا لزمت فطرتك، انسجمت مع فطرتك، حققت فطرتك، حققت وجودك، وسلامة وجودك، وكمال وجودك، واستمرار وجودك، أي هذا المخلوق لا يسعد إلا بالله، آية دقيقة جداً: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ﴾ أحياناً يلقي الإنسان بصره إلى جهة ثابتة دليل الاهتمام البالغ، إذا كنت تعبئ بشيء، وتخاف أن ينفجر، تبقى عينك على الساعة ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾ أن تقيم وجهك لله في استقامة خالصة وتامة مائلاً إليه، تاركاً كل ما سواه، إن فعلت هذا فقد حققت فطرتك، وحققت سرّ وجودك، وحققت سلامة وجودك، وحققت كمال وجودك، وحققت استمرار وجودك، ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾ إن فعلت هذا فقد لزمت فطرة الله، ﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ .

 

بطولة الإنسان أن يعرف الله في الوقت المناسب:


كلمات قليلة أنقلها لكم من كلمات بعض العارفين بالله، يقول: "في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله" ، مهما بالغت في طمأنينة قلبك عن طريق وفرة المال، عن طريق مركزك القوي، عن طريق تأمين كل حاجاتك، في القلب شعث، تفرق، لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفي القلب وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، لو جلست مع أصدقائك، مع أقربائك، مع محبيك، لو جلست في مكان تحبه وفي زمان تحبه، في القلب وحشة لا يزيلها إلا الإنس بالله، وفي القلب حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفة الله، وفي القلب قلق لا يسكنه إلا الاجتماع على الله ، والفرار إليه، وفي القلب نيران حسرة لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه، وقضائه، والصبر على كل ذلك، وفيه فاقة- أي فقر- لا يسدها إلا محبته، مهما حاولت، كلمة اعرفها في الوقت المناسب، إذا تقدم بك العمر، والإنسان وصل إلى خريف العمر، فإذا قال: والله لا شيء أجمل من معرفة الله، ولا شيء أسعد من قربه، ولا شيء أنفع من طاعته، هذا الكلام إن عرفته في الوقت المناسب فأنت من أسعد الناس، أما إذا عرفته بعد فوات الأوان فهذه مشكلة، البطولة أن تعرف الله في الوقت المناسب. 

إذاً حينما قال الله عز وجل: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ إنك إن ذكرت الله حققت فطرتك، إنك إن ذكرت الله اطمأننت إليه، إنك إن ذكرت الله سعدت بقربه، إنك إن ذكرت الله زال عنك الخوف، والقلق، والحزن، والضياع، والتشتت، والتبعثر، والضيق، والشعور بالوحشة، والشعور بالفقر، كل المشاعر المدمرة التي تحيل حياة الإنسان جحيماً إنها تذوب إذا عرفت الله عز وجل. لذلك: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ .

 

تفصيلات ذكر الله:


الآن ندخل في تفصيلات معنى ذكر الله أكبر؛ قال: الذكر حالة نفسية تحفظ النفس ما يلقى إليها من معرفة، الإنسان في حالة ذكر أو في حالة نسيان.

المعنى الأول: أن حالة تصيب النفس، هذه الحالة تحفظ النفس كل ما يلقى إليها من معرفة، فالإنسان إما أن يكون في حالة ذكر أو في حالة نسيان، أي الذكر يشبه الحفظ، لكن الحفظ حيازة، والذكر استحضار.

قال: والذكر نوعان، ذكر عن نسيان وذكر عن حضور، فلان يذكر إما أنه ذكر بعد أن نسي، وإما أنه دائم الحضور.  

 

أنواع الذكر؛ ذكر بالقلب وذكر باللسان:


يا أيها الإخوة الأكارم؛ والذكر نوعان أيضاً، ذكر لسان وذكر قلب، وربما كان ذكر القلب هو المعني، هو المقصود، قال الله سبحانه وتعالى: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً(43)﴾

[ سورة الأحزاب  ]

أيضاً هذه الآية تلقي ضوءاً كاشفاً على قوله تعالى: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ ، إن أرقى أنواع التفسير أن تفسر القرآن بالقرآن،﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42)﴾ إن فعلتم ذلك ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا(43)﴾ .

ماذا يقول عليه الصلاة والسلام؟ أيها الإخوة الأكارم؛ اقتدوا بسيدنا سعد بن أبي وقاص الذي كان يقول: << ثلاثة أنا فيهن رجل>> وكلمة رجل في القرآن لا تعني أنه مذكر، لا:

﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)﴾

[  سورة النور  ]

أي أبطال، كلمة رجل:

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾

[  سورة الأحزاب  ]

يقول سيدنا سعد: << ثلاثة أنا فيهن رجل، وفيما سوى ذلك فأنا واحد من الناس، ما صليت صلاة فشغلت نفسي بغيرها حتى أقضيها، ولا سرت في جنازة فحدثت نفسي بغير ما تقول حتى أنصرف منها، وما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حق من الله تعالى >> هذا الكلام كلام النبي حقّ من الله تعالى، لأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.

 

أحاديث في فضل الذكر:

 

الحديث الأول:

ماذا يقول عليه الصلاة والسلام في شأن الذكر؟

(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا، قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: حِلَقُ الذِّكْرِ. ))

[ صحيح الترمذي: رواه البيهقي ]

 وهذا المجلس إن شاء الله تعالى من حلق الذكر، نذكر فيه الله سبحانه وتعالى،   ((إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا، قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: حِلَقُ الذِّكْرِ)) المكان الذي يذكر فيه الله خالصاً لوجهه، هذا الحديث الشريف رواه البيهقي.  

الحديث الثاني:

(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَامَّةٍ، تَامَّةٍ، تَامَّةٍ. ))

[ صحيح الترمذي ]

إذاً: أن تذكر الله عز وجل ذكراً خفياً عقب صلاة الفجر، وأن تصلي ركعتي الضحى، كانت لك هذه الصلاة، وهذا الذكر، وتلك صلاة الضحى كأجر حجة وعمرة تامة، تامة، تامة، هذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده والترمذي.  

الحديث الثالث:

(( عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى. ))

[ صحيح الترمذي: أحمد في مسنده ]

أن تذكر الله عز وجل، هذا الحديث أيضاً رواه الإمام أحمد في مسنده. 

الحديث الرابع:

(( روى البخاري مسلم في صحيحيهما عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ. ))

[ صحيح البخاري ]

قال تعالى:

﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) ﴾

[  سورة النحل  ]

﴿  وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ الْقُبُورِ (22)﴾

[  سورة فاطر ]

ليس مـن مات فـاســـتراح بميت              إنما الميت ميت الأحياء

* * *

 << يا كميل، مات خُزان المال وهم أحياء - وهم في أوج حياتهم- والعلماء باقون ما بقي الدهر >> إذاً: الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر ربه كالحي والميت، ها الحديث رواه الإمام البخاري ومسلم في صحيحهما. 

أصحاب النبي عليهم رضوان الله سألوا النبي عليه الصلاة السلام، قالوا: يا رسول الله: أي جلسائنا خير؟ - نجلس مع من؟ نلتقي مع من؟ نخاطب من؟ نصاحب من؟ نحب من؟- أي جلسائنا خير؟ فقال عليه الصلاة والسلام: من ذكركم الله رؤيته، أي إذا رأيتموه تذكرتم ربكم، هناك إنسان إذا رأيته تذكرت الدنيا، إذا رأيته تذكرت الشهوات، إذا رأيته تذكرت الموبقات، وأما الذي يجب أن تجلسْ معه فهو من ذكركم الله رؤيته، وزاد في عملكم منطقه، يعطيك حجة قوية، يحاصرك، فإذا أنت مضطر أن تسير في طريق الإيمان، وذكركم في الآخرة عمله، هناك من يدعو إلى الزهد، وليس زاهداً، هناك من ترى عمله مخالفاً لقوله، عمله في وادٍ، وقوله في واد، فهذا الذي ذكّركم الله رؤيته، وزاد في عملكم منطقه، وذكركم في الآخرة عمله، هذا اجلسوا إليه، وصاحبوه، فالمؤمن عليه أن يختار مؤمناً يصحبه، أن يختار أخاً في الله يتصل به، يمحضه وده، يمحضه محبته، لا أن يوزع قلبه بين أناس غافلين:

﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)﴾

[  سورة الكهف  ]

(( الإمام مسلم في صحيحه يروي من شمائل النبي عليه الصلاة والسلام، أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يذكر الله في كل أحيانه. ))

[ صحيح مسلم : صحيح الجامع ]

في السراء وفي الضراء، في إقبال الدنيا، في إدبار الدنيا، في الشدائد، في الرخاء، في الصحة، في المرض، في الليل، في النهار، في السفر، في الحضر، في الأزمات، في حالات الراحة، النبي عليه الصلاة السلام كان يذكر الله في كل أحيانه، وإن الله أمر المؤمنين ما أمر به المرسلين.  

الحديث الخامس:

ورد: "خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ" .

وهذا من تمام الأدب مع الله عز وجل، "وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي"، "خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ، وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي" ويقال: "إن من الناس مفاتيح لذكر الله تعالى إذا رؤوا ذُكر الله بهم" ، مفتاح لذكر الله تعالى. 

الحديث السادس:

الحديث الأخير: عَنْ جابر بن عبدالله  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( ما اجتمع قومٌ ثمَّ تفرَّقوا عن غيرِ ذكرِ اللهِ عزَّ وجلَّ وصلاةٍ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا قاموا عن أنتنِ جِيفةٍ. ))

[ السيوطي :الجامع الصغير : حكم المحدث:صحيح ]

بوجد رواية أخرى: عَنْ أبي هريرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( ما اجتمعَ قومٌ في مجلسٍ فتفرَّقوا، ولم يذكروا اللهَ ويُصلُّون على النبيِّ، إلا كان مَجْلسُهم تِرَةً عليهم يومَ القيامة.ِ ))

[ السيوطي :الجامع الصغير : حكم المحدث:صحيح ]

وفي رواية ثالثة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

(( مَا مِنْ قَوْمٍ جَلَسُوا مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ إِلا رَأَوْهُ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ))

[ تخريج المسند لشاكر : حكم المحدث:صحيح ]

أن تجلس مجلساً لا تذكر الله فيه. 

 

معاني قوله تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ:

 

1 ـ  ذكر الله أكبر ما في الصلاة:

الآن نعود إلى قوله تعالى: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ ..

يا أيها الإخوة الأكارم؛ آية دقيقة جداً هذه تمهيدات لهذه الآية، يقول الله عز وجل:  ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ .. يقول بعض العلماء: ذكر الله أكبر ما في الصلاة لقوله تعالى:

﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾

[ سورة طه  ]

هدف الصلاة أن تذكر الله.

السؤال: أن تذكره بلسانك أم بقلبك؟ بلسانك وبقلبك، إن ذكرته بلسانك، ولم يكن الذكر في قلبك هذا الذكر الظاهري لا يكفي، المعول عليه هو القلب، والقلب مفتاحه اللسان، لذلك: ﴿وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي(14)﴾ .

المعنى الأول إذاً: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ أي أكبر ما في الصلاة كلها.  

2 ـ ذكر الله للعبد أكبر من ذكر العبد لربه:

الآن عندنا معنى آخر، يا ترى ذكر الله للعبد أم ذكر العبد لربه؟ القرآن حمّال أوجه. المعنى الأول: ذكر الله لعبده، والدليل قال تعالى: 

﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)  ﴾

[  سورة البقرة  ]

يـنادى لـه فـي الكـون أنّا نحـبه          فيسمع من في الكون أمر محبنا

* * *

المعنى الأول: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ﴾ لعباده إذا ذكروه ﴿أَكْبَرُ﴾ ، من ذكرهم له، تَذْكُره ويذكرك، إن ذكرك الله عز وجل ذكره أكبر من ذكرك له، إذا ذكرته أنت مفتقر إليه، لكن إذا ذكرك أغناك، إذا ذكرك رحمك، إذا ذكرك أسعدك، إذا ذكرك حفظك، إذا ذكرك وفقك، إذا ذكرك يسر لك الأمر، إذا ذكرك قربك، ففرق كبير جداً بين أن تذكره وبين أن يذكرك، الله سبحانه وتعالى هكذا يقول: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ ما ذكرني عبدي في ملأ من خلقي إلا ذكرته في ملأ خير منه، لذلك يقول العلماء: ذكر الله للعبد أكبر من ذكر العبد لربه، هذا المعنى، ذكر الله للعبد أكبر من صلاته كلها، هو قطع عمله، وتوجه إلى المسجد، وتوضأ، وصلى، ووقف، إذا ذكرك الله ذكراً فهو خير من كل صلاتك، مهما قلت: أنا بذلت، وتوضأت، وصليت، وأغلقت محلي التجاري، إياك أن تمنّ على الله، لأن ذكر الله لك أكبر من كل صلاتك، بل إن ذكر الله لك أكبر من كل عملك، هكذا جاء في بعض التفاسير. 

المعنى الأول: ولذكر الله أكبر ما في الصلاة.   

المعنى الثاني: ذكر الله للعبد أكبر من ذكر العبد لربه ، ذكر الله للعبد أكبر من صلاته، ذكر الله للعبد أكبر من كل عمله، إذاً أنت لا بعملك، ولكن بفضل الله عز وجل.  

3 ـ ذكر الله أكبر من أن تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر:

هناك معنى كان يجب أن أقوله أول المعاني، وهو أن الله سبحانه وتعالى حينما يقول: ﴿وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ من أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، أن تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر شيء سلبي، هذا المصلي لا يفعل المنكر ولا الفحشاء، هذه هي كل الصلاة؟ لا، ذكر الله أكبر من أن تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر، إنها في حدودها الدنيا، إنها في بداياتها، إنها في حدها الأدنى تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولكن في حدها الأعلى ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ ، كأنك إذا انتهيت عن الفحشاء والمنكر حالة التخلية، فإذا ذكرت الله عز وجل حالة التحلية، أي لا ينبغي أن تكون الصلاة فقط أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، هي أعظم من ذلك، النهي عن الفحشاء والمنكر شيء سلبي، هذا المصلي لا يكذب، لا يسرق، لا يزني، لا يقتل، لا يفحش في الكلام، ولكن هذه الصلاة يجب أن تسمو بالإنسان، أن ترقى به إلى الله عز وجل، فالمعنى الأولي المأخوذ من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ من نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر. 

 4 ـ  ذكر العبد لربه أكبر من كل أركان الصلاة:

الآن المعنى الرابع: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ ذكر العبد لربه أكبر من كل ما في الصلاة، أكبر من أركان الصلاة، أكبر من كل طاعاته، لأن الأعمال الصالحة كلها من أجل أن تصلي، لأن العبادة كلها من أجل أن تصلي، لأن الحج من أجل أن تصلي، لأن الصوم من أجل أن تصلي، لأن الزكاة من أجل أن تصلي، ذكر العبد لربه أكبر من كل أركان الصلاة، من وقوف، وركوع، وسجود، وقراءةٍ، إلى آخره، ذكر العبد لربه أكبر من كل الصلاة، أكبر من كل طاعته، من كل أعماله، لأنها الهدف، الهدف هو أن تسعد بالله عز وجل. 

5 ـ الصلاة ذكر:

بعضهم قال: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ الصلاةُ ذكر، والحقيقة فيها أذكار قولية، الله أكبر، سبحانك اللهم، وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك: 

﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)﴾

[ سورة الفاتحة  ]

هذا ذكر لله عز وجل.

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾

[ سورة الزمر ]

الله أكبر، سبحان ربي العظيم، قال: الصلاة فيها أذكار قولية، ولكن هذه الأذكار القولية مقصدُها وهدفها أن يصل هذا الذكر إلى القلب، اللسان يفنى، أما القلب فيبقى، يقول تعالى:

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾

[ سورة الشعراء  ]

فكلما انتقلت هذه الأذكار من اللسان إلى الجَنان كنت قد أفلحت ونجوت.

شيء آخر؛ الصلاة ذكر بمعنى أنك إذا صليت فأنت ذاكر لربك. قد تجلس مع إنسان تراه نسي الصلاة، هو يصلي، لكن إذا كان هناك حديث مُمتع، أو كان هناك قضية، أو حلّ مشكلة، أو اجتماع ينسى الصلاة، لمجرد أن تنسى الصلاة فأنت ضعيف الاهتمام بربك، لكن الإنسان إذا بادر إلى الصلاة في وقتها، ولم تشغله أعماله عن صلاته، فمجرد أن تأتي الصلاة فأنت ذاكر لله عز وجل، ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ إذا أردت أن تفعل شيئاً، أن تنجز عملاً، أن تكتب رسالة، أن تعقد اجتماعاً، أن تجري محاسبةً، فلا تنسَ أن ذكر الله أكبر، فإذا شغلت بهذا العمل، وسهوت، وتفاعلت معه، ونسيت الصلاة، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام فيما ترويه السيدة عائشة رضي الله عنها كانت تقول: 

(( سَأَلْتُ عَائِشَةَ ما كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم َيَصْنَعُ في بَيْتِهِ؟ قالَتْ: كانَ يَكونُ في مِهْنَةِ أهْلِهِ - تَعْنِي خِدْمَةَ أهْلِهِ  فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ إلى الصَّلَاةِ. ))

[ صحيح البخاري ]

لشدة تعظيمه للصلاة، ﴿وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ .

 

علاقة الآية: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ بختامها: وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ:


لكن لو تساءلتَ أيها الأخ الكريم؛ ما علاقة قول الله عز وجل: ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ ؟ ما من كلمة مناسبة لهذه الآية كقول الله عز وجل: ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ أي يا عبدي إنني أرى عملك، فإن كان عملك صالحاً أعانك على أن تذكرني، وإن ذكرتني ذكرتك، وإن كان عملك سيئاً حجبك عن أن تذكرني، وإن لم تذكرني لا أذكرك. 

إذاً: أن يأتي الله عز وجل بقوله: ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ شيء مهم جداً، أي أن عملك أيها العبد هو سبب صلاتك، وعملك سبب حجابك، إن كان عملك كريماً أْكَرمَك، وإن كان لئيماً أَسْلمك، فانظر إلى عملك. 

كل إنسان بإمكانه أن يدخل إلى قاعة الامتحان، ويجلس على كرسي، وأن يمسك بقلم، وأمامه ورقة، أما إذا لم يكن قد درس فما قيمة هذا الجلوس؟ وما قيمة هذه الأقلام؟ وما قيمة هذه الأوراق والمسودات؟ فالقضية قضية عمل، فمن كان عمله طيباً رأى أن الطريق إلى الله سالك، وأن إقباله على الله سهل، وأن اتصاله بالله محقق، وأنه يكتشف أن الصلاة أسعد ما في الحياة، ومن كان عمله سيئاً، من ظلم الناس، واعتدى عليهم، وأكل أموالهم، وغشهم، واحتال عليهم، واستعلى عليهم، وأهانهم، إن هذا الإنسان لا يستطيع أن يذكر الله عز وجل، فلذلك إذا أردت أن تقيم الصلاة فافحص عملك. 

 

الإعداد لكل صلاة بالاستقامة الكاملة:


الصلاة يجب أن تُعدّ لها بعد أن تنتهي من إقامتها للصلاة القادمة، انتهيت من صلاة الفجر، الآن من صلاة الفجر وحتى صلاة الظهر يجب أن تُعِدّ لصلاة الظهر، تُعِدّ غض البصر، تُعِدّ الصدق، تُعِدّ استقامة اللسان، تُعِدّ ضبط الجوارح، تُعِدّ ألا تقع في غيبة، ولا نميمة، ولا بهتان، ولا فحش، ولا كذب، ولا تدليس، ولا كِبر، ولا استعلاء، ولا طغيان، ولا عدوان، ولا مجاوزة، ولا احتقار، ولا سخرية، هكذا، مادام هناك ضبط للجوارح، وضبط اللسان، وضبط للقلب، إذا أذن الظهر أنت أقمت الصلاة، هذه الساعات الطويلة التي أمضيتها في طاعة الله وخدمة خلقه تعينك على أن تصلي. 

أذن الظهر، وصليت الظهر، الآن تهيئ لصلاة العصر عن طريق الضبط، والخدمة، والعمل الصالح، فلذلك ما من  كلمة أروع أن تكون ذيلاً لهذه الآية من كلمة: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ الله عز وجل يرى، إنك مكشوف أمامه، قال تعالى:

﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)﴾

[  سورة القيامة  ]

إنك مكشوف أمام نفسك، فكيف أمام الله عز وجل؟ يعلم السر وأخفى، يعلم ما خفي عنك، يعلم السر، ويعلم ما يخفى عنك.

أيها الإخوة الأكارم؛ الصلاة عماد الدين، من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، كل ثمار الدين تجنونها في الصلاة،

(( عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: قَالَ: مِسْعَرٌ أُرَاهُ مِنْ خُزَاعَةَ: لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فَاسْتَرَحْتُ، فَكَأَنَّهُمْ عَابُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:  يَا بِلَالُ، أَقِمْ الصَّلَاةَ، أَرِحْنَا بِهَا. ))

[ صحيح الجامع   ]

عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

(( حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ. ))

[ صحيح النسائي   ]

 

في الصلاة اشتقاقُ مسحةٍ من الجمال الإلهي:


أنت إذا اتصلت بمخلوق؛ التفاحة مخلوقة، أعطاها الله شيئاً من جماله، طعمها خاص، إذا تناولت ما لذّ من الطعام والشراب هذا اتصال، لنوع ما حينما تبلع هذه اللقمة ما الذي يحصل؟ يدفع اللسان هذه اللقمة إلى سقف الحلق، هناك أعصاب الذوق والحس، تشعر بالطعم حينما تحاول أن تبتلع هذه اللقمة، اتصال، إذا ألقيت نظرةً على مكان جميل تشعر براحة، إذا ألقيت نظرةً على جبل أخضر، أو على بحر أزرق، أو على طفل وديع، أو على شيء نفيس، هناك تناسق بالألوان، تشعر بشيء من السرور والراحة، ما قولك إنك إذا وقفت بين يدي الله عز وجل تتصل بمنبع الجمال، بأصل الجمال، كل ما في الكون من جمال هو مسحة من جمال الله عز وجل، فلذلك الصلاة هي القصد، قال تعالى:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾

[ سورة الذاريات  ]

حالة الاستغراق في الله، الاستغراق في محبته، وفي الإقبال عليه، وفي القرب منه:

﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)﴾

[ سورة القمر  ]

لذلك: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ من نهيها عن الفحشاء والمنكر، أن تنتهي بها عن الفحشاء والمنكر شيء سلبي، آثار سلبية، أما آثارها الإيجابية أنك إذا ذكرت الله ذكرك الله عز وجل، وإذا ذكرك الله أنعم عليك، وأمدك بمدد منه، وحفظك، ووفقك، ورفع شأنك، وأسعدك، وقربك، وأكرمك، ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ وإذا ذَكَرك الله عز وجل فذِكْره لك خير من كل عملك، من كل صلاتك، من كل طاعتك، أما أنت إذا ذكرته في الصلاة فذكرك له في الصلاة خير من كل أركان الصلاة، ماذا يعني أن تقف، وأن تركع، وأن تسجد، وأنت غافل وساه؟ فلذلك ذكر العبد لربه في الصلاة أهم ما في الصلاة، أكبر ما في الصلاة، أبرز ما في الصلاة، خير ما في الصلاة. 

 

الحكمة من إفراد النور وجمع الظلمات:


آيات الذكر كثيرة جداً من أبرزها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ . النور مفرد، أما الظلمات فجمع، لماذا ؟ الظلمات رمز الباطل، والباطل متعدد، والنور رمز الحق، والحق واحد لا يتعدد، لذلك الحق يجمع والباطل يفرق، الحق واحد، كل من سار في هذا الطريق التقى مع أخيه، أما الباطل فمتعدد: 

﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)﴾

[  سورة الحشر  ]

فمن ثمار الصلاة أن الله سبحانه وتعالى:﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ﴾.

 

أساليب الدعوة إلى الله:


ثم يقول الله عز وجل: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ حينما قال الله عز وجل: أن يا محمد اتْلُ ما أوحي إليك من الكتاب، هذا الكتاب اتله على الناس، ولكن إياك أن تجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، أي الدعوة إلى الله ليس من أهدافها الخصومات، والمشاحنات، وكسر الرأس، وإقامة الحجة، والتحطيم، لا، كلما كنت أقرب إلى الله عز وجل سموت عن هذا المستوى، مع أن الله سبحانه وتعالى أمر النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ .. أحسن اسم تفضيل، أي إذا كان هناك عشر عبارات حسنة فيجب أن تختار الأحسن، إذا كان هناك أساليب كثيرة كلها حسنة يجب أن تختار الأحسن، ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ .

 

هدف الدعوة هداية الناس لا الاستعلاء عليهم:


أنت ليس هدفك أن تقيم عليه الحجة، أن تحقره، أن تصغره، أن تسحقه، أن تنتصر عليه، أن تستعلي عليه، لا، ليس هذا من أهداف المؤمن، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام أدبه الله عز وجل قال تعالى:

﴿ قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)﴾

[  سورة سبأ  ]

من يصدق هذا الكلام؟ كلام الله، قال له: يا محمد قل لهم: ﴿وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُون﴾ أي تطييباً لقلوبهم إن ظننتم أن عملي في الدعوة إلى الله جريمة إنكم لن تُسألوا عن ذلك، وأنتم في معارضتكم، وفي إطفائكم للحق، الله عز وجل علّم النبي أن يسميه عملاً، قال تعالى:

﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)﴾

[ سورة سبأ  ]

أي الحق إما معنا أو معكم، ونحن إما على خطأ أو على صواب، يوجد تسوية كاملة، هذا من أدب المناقشة.

 

طريق عرض الحق:


 لذلك الله عز وجل يقول:

﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)﴾

[  سورة النحل ]

إن دعوت إلى الله، إن دعوت إخوانك، أصدقاءك، أصحابك، تلامذتك، هناك محبة، وثقة، ومودة، ورحمة، بالموعظة الحسنة، أما: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أما إذا جادلت هذا الشخص خصم، هذا الشخص معارِض، هذا الشخص عنده حساسية بالغة، هذا الشخص ينبغي أن ترحمه، أن تتلطف معه، لا أن تستعلي عليه، ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ كأن الله سبحانه وتعالى يعلمنا الطريق إلى عرض الحق، لا تكن عنيفاً، الله سبحانه وتعالى يقول للنبي عليه الصلاة والسلام:

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾

[ سورة آل عمران  ]

أي وأنت رسول، وأنت نبي، وأنت يوحى إليك، وأنت المعصوم، وأنت سيد ولد آدم، لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، فكيف إذا كنت لا نبياً؟ ولا رسولاً؟ ولا يوحى إليك؟ ولا معصوماً؟ وإنسان عادي؟ إذا كان النبي على كماله، وعلى رفعة شأنه، وعلى عصمته، وعلى انفراده بالمقام العالي، وعلى أنه يوحى إليه مأمور أن يكون لطيفاً مع أصحابه، ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ فكيف إذا دعا إلى الله إنسان عادي؟! هذا يجب أن يضاعف من المودة والرحمة والتواضع كي يجذب قلوب الناس إليه.

 

على الإنسان أن يعمل عملاً صالحاّ وفق ما يريد الله لا وفق مزاجه واجتهاده:


﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ إذاً كما قيل:"من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف" ، وقد قلت لكم في درس سابق: 

﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)﴾

[ سورة الأحقاف ]

يجب أن تعمل صالحاً لا وفق مزاجك، ولا وفق اجتهادك، ولكن وفق ما يريد الله سبحانه وتعالى. 

إن شاء الله تعالى في درس قادم نصل إلى الآيات التالية وهي قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)﴾ لماذا كان النبي عليه الصلاة والسلام أمّياً؟ وما الحكمة من ذلك؟ وما كان يضيره لو كان متعلماً يقرأ ويكتب؟ وماذا كان ينتج عن ذلك؟ هذا موضوع دقيق جداً، أمّيّة النبي عليه الصلاة والسلام، إن شاء الله تعالى ندرسه في درس قادم.

 والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور