وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 08 - سورة العنكبوت - تفسير الآيات 24 - 27 تتمة قصة سيدنا إبراهيم مع قومه
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

لا للمودة مع الضلال:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثامن من سورة العنكبوت.

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ(25)﴾ .. هذه الآية الخطيرة، أي رأى هذا الإنسان أن حسن علاقته بالناس القائمة على الضلال أعظم عنده من حسن علاقته مع الله، أي كلمة "الله أكبر" تفيدنا في هذه الآية، إذا رأيت أن علاقتك بالناس، أن حسن علاقتك بالناس، أن هذه المودة بينك وبين الناس، أن تعيش معهم في سلام، أن تنجو من ألسنتهم، من معارضتهم، من رفضهم، من تقريعهم، أن تحافظ على مودتك معهم ولو على حساب عقيدتك، ولو على حساب دينك، هذا النموذج البشري نموذج هالك، الذي يُؤْثر حُسْن علاقته بالناس على حسن علاقته بالله، الذي يُؤْثر الضلالة مع المودة على الهدى مع الجفوة. 

لو أنك اخترت منهج الحق، لو أنك آمنت بالله عزَّ وجل ووقفت عند حدوده، لاشك أن هؤلاء الضالّين سوف يبتعدون عنك، يقطعون معك مودتهم، أنت ممن؟ هل دنياك أغلى عليك من آخرتك أم آخرتك أغلى عليك من دنياك؟ هل حسن علاقتك مع الناس هو كل شيء؟ مثلاً على أضيق من ذلك: هناك من يرجو السلامة في بيته، له زوجةٌ تعيش وفق هواها، فإذا أراد أن يقيدها أو أن يحملها على أمر الله عزَّ وجل لتبرمت، ولخاصمت، ولابتعدت، ولنكَّدت حياته، لذلك يُؤْثر رضاها على رضاء الله عزَّ وجل، من هذه الآية أردت أن أعيد عليكم تفسيرها، مع أني مررت عليها مروراً سريعاً في الدرس الماضي، لشعوري أن هناك مرضاً اجتماعياً خطيراً، هو حينما يضعف إيمان الإنسان، وتقوى عنده علاقاته منع الناس، قد يساير الناس في ضلالهم، إما في اعتقادهم الضّال، أو في سلوكهم المنحرف، كلام الناس مثلاً: يا أخي هكذا المجتمع، نحن نعيش بين الناس، لو أننا جاهرنا بالحق، لو أننا وقفنا هذا الموقف، لو أننا ما صافحنا النساء، لو أننا وقفنا في البيع والشراء موقفاً شرعياً لأصبحنا أضحوكةً بين الناس، لتحدَّث الناس عنا، لساروا بأخبارنا، هذا النموذج الذي يُؤْثر حسن علاقته بالناس على حسن علاقته بالله، الذي يؤثر سلامته على عقيدته، الذي يؤثر دنياه على آخرته، هذا النموذج عند الله مرفوض، بل إنه في صف المنافقين، بل إنه في صف الهالكين. 

 

علاقة الآية السابقة بواقعنا:


طبعاً قد يقول أحدكم: ما علاقة هذه الآية بواقعنا؟ هذا قرآن أيها الإخوة، ما ذكر الله هذه القصة في قرآنٍ يُتلى إلى يوم القيامة إلا لأنها تمثل نموذجاً متكرراً، إذا ذكر الله في كتابه العزيز قصةً تُتلى إلى يوم القيامة إذاً هذه القصة ليس المعنيّ بها أنها وقعت وانتهت، إنها نموذج متكرر، إنها نموذج بشري متكرر، إذاً نحن المعنيون، ﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ، الآية الكريمة في سورة الزمر:

﴿ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)﴾

[ سور الزمر  ]

أي أيعقل أن نعبد غير الله؟ لأن أمرنا كله بيد الله، هو خالقنا، هو مربِّينا، هو مسيرنا، نحن له مِلكاً وتصرُّفاً ومصيراً، إليه المصير، إليه الرجوع، إذاً لا يعقل أن نعبد غير الله:

﴿ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)﴾

[ سور الزمر  ]

ثم يقول الله عزَّ وجل:

﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)﴾

[ سور الزمر  ]

لك مهمةٌ واحدة أن تعبده وأن تشكره، إذاً هذا الذي يؤثر سلامة علاقته بالناس إما علاقته بآبائه وأجداده..

﴿ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) ﴾

[  سور الزخرف  ]

سيدنا إبراهيم حينما قال:

﴿ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ(77)﴾

[ سور الشعراء  ]

أيْ آثار البيئة، آثار العلاقات الاجتماعية، آثار المُحيط، آثار القيَم السائدة، آثار العادات والتقاليد، آثار الإرث الذي ورثناه عن الآباء إذا كان على غير الحق، هذا كله يجب أن يُعَطَّل.

 

عبادة الأوثان من غير غطاء شرعي وعقلي:


﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ﴾ .. أيْ أنتم اتخذتم هذه الأوثان، ولا تملكون حُجَةً على عبادتها، من دون غطاء عقلي، من دون دليل قطعي، لكن مسايرةً مع الناس، أي أردتم السلامة، أردتم هذه المودة بينكم وبين أهلكم، أردتم هذه العلاقة الحسنة مع قومكم، فأيّ إنسان الآن بعد أن ظهر الحق، وأنزل الله هذا القرآن على النبي عليه الصلاة والسلام، أيّ إنسان في عقيدته، أو في مواقفه، أو في حركاته، أو في نشاطه، يؤثر سلامته على حساب عقيدته، يؤثر الضلالة على الهدى، الضلال مع المودة على الهدى مع الجفوة، إذا أردت أن تتخذ من هؤلاء الناس آلهةً فهذا هو الشرك بعينه. 

هناك نقطة ثانية؛ هو أن هؤلاء العامَّة أما الخاصة ماذا قالوا؟ المفكرون من عُبَّاد الأوثان قالوا: إنه لا يمكن لبشرٍ أن يحيط بالله تعالى، ولا أن يُقبِل عليه، إذاً نتخذ هؤلاء الأوثان زلفى إلى الله، أي هم اخترعوا ديناً، هم اخترعوا هذه الفكرة، المُشكلة أنه يجب أن تعبد الله لا على رأيك، ولا وفق هواك، يجب أن تعبد الله كما يريد الله عزَّ وجل، يجب أن تعبد الله وفق أمر الله عزَّ وجل، فما كل إنسان أراد أن يعبد الله على هواه تُقبل هذه العبادة، ودائماً وأبداً أقول لكم كما قال أحد العلماء الأفاضل: إن العمل لا يُقبَل إلا إذا كان خالصاً وصواباً ؛ خالصاً ما ابتغي به وجه الله عزَّ وجل، وصواباً ما وافق أمر الله عزَّ وجل. 

 

التقليد ليس حُجة فاعبد الله وفق ما أمر به:


الفكرة الثانية؛ لو انتقلنا من عامة الناس الذين يحافظون على علاقاتهم مع من حولهم، مع مجتمعهم، مع بيئتهم، مع أهليهم، مع تقاليدهم وعاداتهم، مع تراثهم إن صَحَّ التعبير، مع اعتزازهم بآبائهم، اعتزازهم بطقوس آبائهم، الإنسان أحياناً يولد من أب مشرك فرضاً، أو يعتقد بدين أرضي كالدين البوذي مثلاً، هو يعتز بقومه، وبأمته، وبهذه التقاليد التي ورثها عن آبائه وأجداده، ويرفض الحق، هذا النموذج غير مقبولٍ عند الله عزَّ وجل، إذاً هؤلاء العامة، أما الخاصة فأرادوا أن يعبدوا الله وفق هواهم، نقول: هذا كلام مرفوض، يجب أن تعبد الله كما يريد اللهُ، يجب أن تعبد الله وفق شرع الله، يجب أن تعبد الله كما أمرك الله، إذاً أنت لا يُغتفر لك سوء عملك أن تقول: نيَّتي طيبة، أنا أنوي نية طيبة أردت أن أعبد الله عن طريق هذا الوثن ليقربني إليه زلفى، لا، الله عزَّ وجل جعل شرعةً ومنهاجَاً، المنهاج الطريق الموصل إلى هذا الشرع العظيم، إذاً يجب أن تتقصَّى أن تعبد الله كما يريد الله عزَّ وجل. 

أيضاً أقوال الخاصة: إننا نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى هذا كلامٌ أيضاً مرفوض. 

 

مودة الحياة الدنيا زائلة بزوال سببها:


﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ .. لذلك قالوا: مودة الحياة الدنيا تزول بزوال الدنيا، أما المودة التي بينك وبين إخوتك المؤمنين هذه مودة الدار الآخرة، وشتانَ بين المودتين، مودة الدنيا تنتهي بزوال الدنيا، أساسها مصالح، أساسها أُنْسٌ شيطاني، قد يستأنس العاصي بالعصاة، وشارب الخمر بشاربي الخمر، والمرابي بالمرابين، مودة الدنيا أساسها الأنس الشيطاني، وتنتهي هذه المودة بانتهاء الدنيا. 

 

الفرق بين عداوة الحال وعداوة المآل:


ولكن أيها الإخوة؛ لندقق في هذه الآية.. حينما قال الله عزَّ وجل:  

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)﴾

[ سورة التغابن ]

قد يقرأ الإنسان هذه الآية فيشعر بحرج، زوجتي التي عشت معها عمراً طويلاً، أقرب الناس إليّ، ابني فلذة كبدي كيف يقرر القرآن الكريم أنه عدوٌ لي، العلماء قالوا: في الآية نقطتان: 

الأولى أن من للتبعيض، ليس كل الزوجات، وليس كل الأولاد عدواً للإنسان، لكن بعض الزوجات وبعض الأولاد.  

وأن تكون العداوة حقيقيةً هذا أندر من النادر، ولكن العداوة التي أرادها الله في هذه الآية عداوة مآل. 

ما الفرق بين عداوة الحال وبين عداوة المآل؟ عداوة المآل أن هذه الزوجة التي تحبها حباً جماً، والتي تحرص على إرضائها، وترغب في مودَّتها، وتحرص على أن تكون مسرورة، ضاحكة، قد تكسِبُ مالاً حراماً من أجلها، من أجل إرضائها، قد تحملك على ما لا تستطيع، قد تبحث عن مالٍ حرام كي ترضيها، كي ترضي غرورها، كي تتباهى أمام زميلاتها، أمام صديقاتها، أمام جيرانها، أمام أخواتها، أمام مَن هُم في سنها، حينما ينكشف الغطاء يوم القيامة وترى أن هذه المودَّة التي أردتها مع زوجتك كانت طريقاً إلى النار، هذه المودة التي آثرت بها مودة الله عزَّ وجل، آثرتها على مودة الله، كانت طريقاً إلى الهلاك، عندئذٍ تنشأ عداوةٌ ما بعدها عداوة، كيف يقول ابنٌ يوم القيامة: يا رب لا أدخل النار حتى أدخل أبي قبلي؟ كيف؟ إذا أطلق الأب لابنه العنان، أعطاه المال الوفير ليفعل به ما يشاء، وسافر هذا الابن، وفعل ما فعل، وارتكب الفواحش، وعاد مسروراً، وقد شعر أن أباه يُحِبّه حباً جماً، عاد عاصياً، عاد منحرفاً، عاد منغمساً في وحول الشهوات بمال أبيه، حينما يرى الابن أن أباه بدعمه وبماله وبتوجيهه أوصله إلى النار، يقول: يا رب، لا أدخل النار حتى أدخل أبي قبلي، إذاً هذه العداوة التي ذكرها الله عزَّ وجل في القرآن الكريم ليست عداوة حال في الأعم الأغلب، عداوات الأهل نادرة، سنة الله عزَّ وجل أن يحب الأب ابنه، وأن يحب الابن أباه، وان يحب الزوج زوجته. 

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)﴾

[ سورة الروم ]

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)﴾

[ سورة فصلت ]

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)﴾

[  سورة الروم ]

إذاً هذه المودة التي جعلها الله بين الزوجين مودةٌ دائمة وثابتة في فطرة الإنسان، ولكن إذا استجبت لطلبات الزوجة، وكسبت المال الحرام، وحملتك طلباتها على أن تعصي الله عزَّ وجل، عندما ينكشف الغطاء يوم القيامة، تنكشف لك حقيقةٌ خطيرة هي أن هذه الزوجة التي كانت أقرب الناس إليك، وهذا الابن الذي كان فلذة كبدك انقلب إلى عدو، لأنه كان السبب في الهلاك، إذاً هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ﴾ عداوة المآل في الأعم الأغلب لا عداوة الحال، عداوة المآل أن يحملك حُبُّك لزوجتك على أن تعصي الله، أن يحملك حبك لابنك على أن تعصي الله، أن يحمل حبّ الابن أباه على أن يعصي الله، من أجل أن تبقى المودة مع الأب يسير الابن في طريق الضلال إرضاءً لأبيه، فإذا هذه المودة التي أرادها في الدنيا، وانتهت بانتهاء الدنيا، تصبح أساس العداوة يوم القيامة، لذلك قال تعالى:

﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)﴾

[ سورة الزخرف ]

هذه العلاقات الحميمة، هذه الصداقات المتينة، هذه العلائق الوشيجة بين الناس، يسهرون سهرةً إلى أنصاف الليل، إلى منتصف الليل، الضحك، والسرور، والحبور، والمُزاح، يقول لك: والله لا أشبع من صديقي، ﴿الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ﴾ لذلك المؤمن يُبْدِلُهُ الله عزَّ وجل علاقةً طيبةً دائمةً حتى الآخرة مع المؤمنين، والدليل ربنا سبحانه وتعالى يصف المؤمنين بأنهم على سررٍ متقابلين، أما أهل الدنيا فتنقلب مودتهم عداوة شديدةً يوم القيامة، هذا الكلام كله مأخوذٌ من قوله تعالى: ﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ .


  فطرة التدين عند الإنسان:


عندنا شيء آخر أن الإنسان فطرته فطرة تَدَيُّن، لأن الله عزَّ وجل يقول:

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)﴾

[  سورة الروم ]

أن تقيم وجهك للدين حنيفاً، كما أقول لكم دائماً: العبادة طاعةً طوعية، لو أنها طاعةً قسرية ليست عبادة، طاعةٌ طوعية أساسها معرفةٌ يقينية تفضي إلى سعادةٍ أبدية، بل إنها طاعةٌ طوعيةٌ ممزوجةٌ بمحبةٍ قلبية، والدليل: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ﴾ أن تقيم وجهك للدين حنيفاً هذه هي الفطرة، هذه جِبِلَّتُكَ، هذه طبيعتك، هكذا فطرتَ، لذلك في النفس فراغٌ لا يملؤه إلا الإيمان، في النفس حاجةٌ لا يغطيها إلا معرفة الواحد الديَّان، في النفس قلقٌ لا يسكنه إلا طاعة الرحمن، في النفس آمالٌ لا تدرك إلا بمعرفة الله عزَّ وجل، هذه الفطرة.

 

المعبود الحق له منهج حق:


لكن هؤلاء الذين يعبدون الشمس والقمر، ويعبدون البقر في بعض بلاد الدنيا، ويعبدون أصناماً وآلهةً من صنع أيديهم، هؤلاء لماذا يفعلون هذا؟ قال بعض المحللين: هؤلاء حينما عبدوا الشمس أو القمر أو النجوم، أو عبدوا البقر أو ما سواها، حققوا، أو أشبعوا في نفوسهم فطرة التديُّن، ولكن الشمس والقمر ليس لها منهج تسير عليه أيها الإنسان، فهو يسير مع شهواته، يحقق كل شهواته الأرضية، ويحقق ما فطر عليه من حبّ التديُّن، لذلك سهل جداً أن تعبد صنماً، الصنم ليس له أمر ونهي، ليس له منهج، أما الإله فله منهج. 

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)﴾

[  سورة النور ]

الله عزَّ وجل حرم الربا.

﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)﴾

[  سورة البقرة ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)﴾

[  سورة الحجرات ]

المشكلة أنه أن تعبد الله خالق الكون هذا يلزمه اتباع المنهج، يلزمه افعل ولا تفعل، يلزمه الأمر والنهي، يلزمه منظومة قِيَمٍ يجب أن تسير عليها. إذاً: إذا اتجه الإنسان لعبادة صنمٍ أو حجرٍ أو شمسٍ أو قمرٍ أو نجومٍ أو حيوانٍ إنما يفعل هذا ليتحرر من القيود، من أوامر الدين ونواهيه، أما إذا عبدت الله عزَّ وجل خالق الكون، الله عزَّ وجل أمره ونهيهُ يوصلانك إلى سعادةٍ أبدية، فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر. 

 

المودة التي تنعقد بين الإنسان وبين من يبتغي الآخرة مودةٌ خالدة:


﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ ، إذاً أيها الأخ الكريم ابحث عن مودَّات الدار الآخرة، كوِّن لك أصدقاء من المؤمنين، فهذه المودة التي تنعقد بينك وبينهم هذه مودةٌ خالدة، مودةٌ تستمر بعد الموت، كما قيل: "المؤمنون بعضهم لبعضٍ نصحةٌ متوادون ولو ابتعدت منازلهم، والمنافقون بعضهم لبعضٍ غششة متحاسدون ولو اقتربت منازلهم"، إذاً أنت ابحث عن مودة أهل الدنيا، مودة الآخرة التي تبقى، أما مودة الدنيا فلا تبقى، وكلُّكم يعلم أن الإنسان إذا شُيِّعَ إلى قبره هناك من يتبعه إلى حافة القبر، هم أهله وأقرباؤه وأصدقاؤه، أما ماله غير المنقول فيبقى في مكانه؛ بيته، مكتبه، مركبته، البطولة أو المعول عليه ما يدخل معك في القبر، شيئان؛ مالُك يبقى في مكانه، وأهلُك يَصِلون معك إلى شفير القبر، وأما المُعَوَّلُ عليه فهو ما يدخل معك في القبر، ﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ الآن ربنا عزَّ وجل أراد أن ينقلنا إلى الدار الآخرة ليرينا مصير هذه المودة، هذه العلاقات الطيِّبة، هذه العلاقات الحميمة، من أجل أن تبقى مع قومك رفضت الهدى، من أجل ألا يقال عنك إنك خرجت عَمّا هم عليه أهلُك وأقرباؤك رفضت الهدى، هذه العلاقات الطيبة انظر إلى مصيرها.

 

لا نسب يوم القيامة ولا خُلّة:


﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾ .. العوام يقولون أحياناً: "لعن الله الساعة التي تعرفت فيها عليه"، من الممكن أنَّ إنساناً ينشئ علاقة مع إنسان آخر، يدلك على طريق فيه كسب مال سريع، لكن بطريق غير صحيح، ثم يلقى القبض على هذا الإنسان، ويودع في السجن، ففي أثناء الكسب والإنفاق والصرْف تنشأ علاقة حميمة مع هذا الإنسان، ولكن بعد أن يلقى في السجن يلعن الساعة التي تعرَّف فيها عليه، إذاً: ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾ والحديث الشريف الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سألت السيدة عائشة النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال عليه الصلاة والسلام:

(( تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟! فَقَالَ: الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ. ))

[ صحيح البخاري  ]

معنى غرلاً أي غير مطهرين، فقالت: يا رسول الله أيعرف بعضنا بعضاً؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نعم يا أم المؤمنين إلا في ثلاثة مواطن؛ عند الصراط، وإذا الصحف نشرت، وعند الميزان، وفيما سوى هذه المواقف قد يعرف بعضنا بعضاً، فإذا وقعت عين الأم على ابنها تقول له: يا بني، جعلت لك بطني وعاءً، وحجري وطاءً، وصدري سقاءً، فهل من حسنةٍ يعود عليّ خيرُها اليوم؟ النبي عليه الصلاة والسلام بكى في هذا الموقف العصيب فقال: يقول هذا الابن لأمه: ليتني أفعل هذا يا أماه، ليتني أستطيع أن أفعل ذلك يا أماه، إنني أشكو مما أنت منه تشكين، فهذه العلاقات، علاقات الدنيا، علاقات القرابات، علاقات المودَّات، الشركاء في الدنيا، الجيران، الأصحاب، الأخِلاء، هذه العلاقات كلها تتلاشى، ويأتي الإنسانُ ربَّه فرداً.. 

﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)﴾

[  سورة الأنعام ]

 

أهل النار يوم القيامة يلعن بعضهم بعضاً وينفر بعضهم من بعض:


﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾ .. معنى يلعن، اللعن الإبعاد، الإنسان أحياناً يرى شخصاً بوضع لا يُحتمل، رائحة كريهة، منظر قبيح، تطاول في الكلام، بذاءة في اللسان، ثياب قذرة، تفوح منه رائحةٌ كريهة، فأنت تبتعد عنه ابتعاداً لا حدود له، فيوم القيامة أهل النار يَنْفُرُ بعضهم من بعض، يبتعد بعضهم عن بعض، يلعن بعضهم بعضاً، لأن الإنسان يلبس ثوب عمله، اللؤم، الدناءة، الخيانة، القذارة، الخيانة الزوجية، شُرب الخمر، الاستئثار، الأنانية، أن يعيش على أنقاض الآخرين، أن يبني غناه على فقر الآخرين، أن يبني مجده على أنقاض الآخرين، أن يبني أمنه على خوف الآخرين، أن يبني حياته على موت الآخرين، هذه المواقف اللئيمة، مواقف الخِسَّة والدناءة والقذارة، هذه المواقف أثواب يرتديها الناس يوم القيامة، فكل واحد مشمئز منه، هو يدعو للقرف، وهو يُقَرِّفُ أيضاً كما يقولون.. ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾ .. معنى يكفر، أي هذا الكلام الذي كان يقوله في الدنيا أصبح يوم القيامة لا أساس له، كلام فارغ، كلام لا معنى له، كلام باطل، هذه معنى: يكفر بعضكم ببعض، كل الدعاوى التي كانت تقال في الدنيا أصبحت الآن باطلة، لماذا؟ لأنه كُشِفَ الغطاء، هذه الدعاوى تهاوت، هذه النظريات تهاوت، هذه الأفكار تهاوت، هذه العقائد تهاوت، هذا الطرح إن صح التعبير تهاوى، هذه الفكرة وهذا التصور كله غلط، لا أساس له من الصحة، لا أصل له. إذاً: ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ﴾ الآن هذا الذي ادّعى دعوى باطلة، واعتقد اعتقاداً باطلاً، واعتقد عقيدة زائغة، وتوهم أن الدنيا كل شيء، هذا الاعتقاد الباطل معه سلوك منحرف، سلوك باطل، السلوك أساس العدوان، والانحراف، والتجاوز، والخسة، والدناءة، والقذارة، واللؤم، والخيانة. إذاً: ﴿وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾ ، كما قال الله عزَّ وجل:

﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)﴾

[ سورة طه ]

لا يضل عقله، ولا تشقى نفسه، بالمقابل من اتبع سبيل الشيطان يضلُّ عقله، وتشقى نفسه، فيكفر بمعتقداته، ويبتعد عن شخصه لقذارته، ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ .

 

الفرق بين وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ وبين وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ:


الحقيقة يوجد سؤال دقيق: القصة عن سيدنا إبراهيم، وسيدنا إبراهيم ألقوه في النار، وقال الله عزَّ وجل في موضعٍ آخر: ﴿حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ﴾ لكن الله كان معه، فخذلت آلهتهم، ونصره الله، وقال الله عزَّ وجل:

﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)﴾

[ سورة الأنبياء ]

إذاً أما أنتم أيها الكفار اليوم فإنكم في النار، وما لكم من ناصرين، لكن هذا الكلام قيل يوم القيامة، ماذا قيل في الدنيا؟  في الدنيا قيل: ﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ ما الفرق بين هذه الكلمة وهذه الكلمة؟ كلاهما كلامٌ يقال، الأولى قيلت في الدنيا والثانية قيلت في النار، في الدنيا: ﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أي من غير الله ﴿وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ ، معنى ذلك أن الله وليُّكم ونصيركم في الدنيا إن عدتم إليه، فالإنسان في الدنيا ما له من دون الله من وليّ ولا نصير، معنى ذلك أن الله وليّ له، ونصيرٌ له إذا رجع إليه، وتاب إليه، الأمل مفتوح، أما بعد الموت فلا توبة، إذ لم يعد هناك حاجة لأَنْ يقول الله لهم: ﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ ، ﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ التغت من دون الله، في الدنيا لها معنى، في الدنيا أيها الإنسان إذا اعتززت بمخلوقٍ آخر ما لك من دون الله من وليّ ولا نصير، الولي هو الذي يرعاك، والنصير هو الذي ينصرك عند الشدة، اللهُ عزَّ وجل وليّ ونصير، في الدنيا لمن استقام على أمره ولمن تاب، أما في الآخرة: ﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ كيف ألقيتم إبراهيم في النار من أجل أن تنصروا آلهتكم؟ لكن الله نصره، إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟ أما يوم القيامة فربنا عزَّ وجل وعدهم النار: ﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ لا يوجد جهة من الجهات تحول بينهم وبين النار، أو أن تدفع عنهم النار.

 

قصة وعِبرة:


﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ .. قبل أن ننتقل إلى الآية الثانية لا أنسى قصةً أرويها لكم كثيراً، ولكن في التكرار فائدة: أحد التابعين كان عند أحد ولاة يزيد بن عبد الملك، جاءه توجيهٌ من يزيد، هذا التوجيه مخالفٌ لأمر الله عزَّ وجل، وقع هذا الوالي في حرج، أينفذ أمر يزيد ويعصي الله أم يعصي يزيد ويطيع الله؟ كان عنده أحد كبار التابعين، سأله النصيحة، فقال له كلمة تكتب بماء الذهب: "إن الله يمنعك من يزيد ولكن يزيد لا يمنعك من الله" هذه المقولة أعِدْها على نفسك آلاف المرات، إذا وقعت في موقفٍ حرج، إما أن ترضي زيداً، أو أن ترضي ربك، قل: إن الله يمنعني من زيد، ولكنّ زيداً لا يمنعني من الله، لو أن الله شاءت حكمته أن يبتليني بمرضٍ عُضال، زيد كل ما في وسعه أن يزورني في المستشفى، وأن يقدم لي باقة ورد فقط، أما لا يمنعني من الله، فلا، ولكن الله إذا كنت معه، مطبقاً لأمره، موالياً له يمنعني من كل الناس، والدليل قول الله تعالى:

﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾

[ سورة هود ]

إذاً: إن يزيد لا يمنعك من الله، ولكن الله يمنعك من يزيد، إذا تعارض أمر البشر مع أمر خالق البشر، إذا تعارض أمر الحَق مع أمر الخَلق، كن مع الحق ولا تبالِ، لأن كلمة الحق لا تقرِّب أجلاً، ولا تقطع رزقاً.

 

بين إبراهيم ولوط عليهما السلام:


 ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ .. يبدو كما تروي كتب التاريخ أن لوطاً عليه السلام ابن أخته لسيدنا إبراهيم ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ ، لم يؤمن من قومه إلا لوط مع تلك المُعجزة الباهرة، أن النار أصبحت برداً وسلاماً على إبراهيم..﴿وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي﴾ .. المفسرون قالوا: لو أن سيدنا إبراهيم بقي مع قومه، ولم يؤمنوا به، فدعوتهُ لهم بعد أن رأوا المعجزة لا معنى لها، وسكوته إقرارٌ بعملهم، إذاً لا معنى أن يبقى معهم، ظهرت هذه المعجزة أنهم أوقدوا ناراً عظيمة وألقوه بها، ثم جعلها الله برداً وسلاماً عليه ومع ذلك لم يؤمنوا، إذاً الكلام معهم ليس له معنى، والسكوت إقرار، إذاً: ﴿إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي﴾ انتقل من بلاد الرافدين كما يقال إلى وادي الأردن، هذا معنى.

المعنى الثاني؛ الله عزَّ وجل ليس له جهة تُهاجر إليه بها، ولكنك إذا كنت بأرضٍ فيها ضلال، وفيها معاصٍ، وقد أُكرهت على المعصية، فيجب أن تهاجر إلى ربك، إلى أرضٍ يُعْبَدُ الله فيها، إلى أرضٍ تستطيع أن تقيم شعائر الله فيها، إلى أرضٍ تُصَلِّي وأنت آمن، إلى أرضٍ تقيم الإسلام في بيتك وأنت آمن.  فما بال هؤلاء الناس الذين أنعم الله عليهم ببلدٍ، هذه البلدة، والفضل لله عزَّ وجل تقام فيها شعائر الدين، نصلي في المساجد، ونحضر دروس العلم، ونفعل في البيوت ما شئنا من تحجيب زوجاتنا، من إقامة الصلاة، أما إذا أردنا المال وحده، وذهبنا إلى بلاد الكفر حيث تجري الفاحشة على قارعة الطريق، وحيث لا يستطيع الأب المسلم أن يربي بناته على الإسلام إطلاقاً، لأن البيئة فاسدة، من أجل الدرهم والدينار ضيَّع دينه وآخرته، فالإنسان مطالب أن يهاجر إلى بلدٍ يقيم فيها شعائر الله عزَّ وجل؛ يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويفعل في بيته كل أوامر الدين، هذا المطلوب. 

إذاً المعنى الآخر للآية: ﴿إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي﴾ أيْ أنا ذاهبٌ إلى أرضٍ أعبد الله فيها، هذه الهجرة، مثلاً لو ضيقنا الأمثلة، في مساء الجمعة يوم عطلة، هناك أماكن كثيرة تقضي فيها السهرات، أماكن كثيرة جداً، وإذا كنت ميسور الحال شيء مشجع، ولكنك آثرت بيت الله عزَّ وجل على كل هذه الأماكن، هذه السهرة فيها معصية، وهذه فيها اختلاط، وهذه فيها فساد، وهذه فيها غيبة، وهذه فيها تَبَذُّل، وهذه فيها كلام لا يرضي الله، وهذا المكان موبوء، تركت كل هذا، وهاجرت إلى الله، أي أن تأتي بيت الله عزَّ وجل، يمكن أن تنطبق هذه الآية قليلاً على من يدع كل شيء ويأتي بيت الله عزَّ وجل. 

قد تسافر إلى بلد، وتلتقي بهذا البلد بالعلماء فقط، وهناك أماكن كثيرة جداً لا ترضي الله عزَّ وجل، أنت هاجرت إلى الله، قد تسافر إلى البلاد المُقَدَّسة لتقوم بعمرة أو بحج في وقت الحج..﴿إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي﴾ أي إذا ذهبت إلى مكان، وأردت من هذا المكان مرضاة الله عزَّ وجل فكأنك هاجرت إلى الله عزَّ وجل.

 

المعنى الدقيق للهجرة:


لكن المعنى الدقيق: أنك إذا كنت بأرضٍ تُكرَهُ فيها على معصية الله ولم تتركها إلى أرضٍ يُعبد الله فيها فأنت آثم، هذا معنى قوله تعالى: ﴿إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي﴾ .

 وقال بعضهم: إن التصوف كله في هذه الآية: ﴿إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي﴾ أيْ إنسان أحبّ الله من كل قلبه فأراد أن يكون مع الله في كل أحواله.

 

الابن الصالح هبة من الله:


﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ .. كلمة: ﴿وَهَبْنَا لَهُ﴾ تعني أن الابن الصالح هِبَةٌ من الله عزَّ وجل، فمن كان له ولدٌ صالح فليسجد لله عزَّ وجل وليقل له: يا رب، لك الحمد على هذه النعمة، وما من نعمةٍ أعظم من أن يكون لك ولدٌ صالحٌ يعبد الله من بعدك، ويعلّم الناس من بعدك،

(( فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كان في حَجْرِ عمَّةٍ لي ابنٌ لها يتيمٌ وكان يكسِبُ فكانت تَحرَّجُ أنْ تأكُلَ مِن كَسْبِه فسأَلتْ عن ذلك عائشةَ فقالت: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:  إنَّ أطيبَ ما أكَل الرَّجلُ مِن كَسْبِه وإنَّ ولَدَ الرَّجلِ مِن كَسْبِه. ))

[ صحيح ابن حبان ]

 

من يؤمن بالله ويستقيم على أمره يكرمه الله في الدنيا والآخرة:


﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ .. أي ربنا عزَّ وجل بَدَّلَ كل متاعبه خيرات، بدّل كل حاجاته مسرَّات، وهب له إسحاق ويعقوب، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، وآتاه عِزَّ الدنيا وعز الآخرة. الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) ﴾

[ سورة الرحمن  ]

يُفْهَم من هذه الآية الكريمة أن المؤمن إذا آمن بالله حقّ الإيمان، واستقام على أمر ربه حقّ الاستقامة، وعمل الصالحات، لعل الله سبحانه وتعالى يكرمه في الدنيا والآخرة، أخذاً من هذه الآية: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أي حتى في الدنيا، الله سبحانه وتعالى يرفع فيها المؤمن ويكرمه فيها، ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ لعطائنا، فالبطولة أن تكون صالحاً لعطاء الله، ولن تكون صالحاُ لعطاء الله إلا إذا قُمْتَ بعملٍ يصلح للعرض على الله، تحتاج إلى عملٍ يصلح للعرض على الله حتى تكون صالحاً لعطاء الله. 

وفي درسٍ قادمٍ إلى شاء الله نتابع قصة سيدنا لوط في قوله تعالى: ﴿وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور