وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 06 - سورة العنكبوت - تفسير الآيات 16 - 21 قصة سيدنا إبراهيم مع قومه
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

فحوى دعوة الأنبياء أَنِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس السادس من سورة العنكبوت.

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)﴾ .. ﴿وَإِبْرَاهِيمَ﴾ معطوفة على: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً﴾ ولقد أرسلنا نوحاً، ولقد أرسلنا إبراهيم.. ﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ .. الأنبياء جميعاً من دون استثناء فحوى دعوتهم: ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ ، الدين كله أن تؤمن بوجود الله، وبتوحيده، وأن تعبده، جانب عقائدي، وجانب سلوكي، السلوك أن تعبده، والعقيدة أن توحِّدَهُ، أي أن تؤمن بوجوده وتوحده، لذلك الآية الكريمة:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾

[ سورة الأنبياء  ]

أي إذا قلت لي: هل بإمكانك أن تضغط الدين كله في كلمتين؟ قلت: نعم، أن تؤمن بأنه لا إله إلا الله، وأن تعبده، أمّا أن تؤمن بأنه لا إله إلا الله، فكل شيءٍ في الكون ينطق بهذه العقيدة. 

وفي كل شيءٍ له آيةٌ                   تدل علـى أنه واحـد

* * *

وأمّا أن تعبده فالعبادة غاية الخضوع لله عزَّ وجل، مع غاية الحب، خضوعٌ مع الحب، لو أنه خضوعٌ فقط لا يسمى عبادة، لو أنه حبّ فقط لا تسمى عبادة، الخضوع والحب أساسه المعرفة.  

 

العلم هو الطريق الوحيد إلى الله:


إذاً: العلم قبل كل شيء، إذاً الطريق الوحيدة التي لا ثاني لها إلى الله هي العلم، لذلك ربنا عزَّ وجل لم يعترف بأية قيمةٍ تواضعنا عليها، الجمال، والذكاء، والقوة، والغنى، والمال، أما العلم وحده في القرآن فهو قيمةٌ مُرَجِّحَة.. 

﴿ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)﴾

[  سورة الزمر ]

﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا(114)﴾

[  سورة طه  ]

 

حبّ الوجود وسلامته وكماله واستمراره مطالب كل إنسان:


إذاً: أيها الإخوة الأكارم؛ من أجل أن ننجو وأن نسعد، لأن الإنسان مفطورٌ على حبّ وجوده، وعلى سلامة وجوده، وعلى كمال وجوده، وعلى استمرار وجوده، من أجل أن نكون كما فُطِرنا لا بدَّ من أن نعبد الله، ومن أجل أن نعبده لابدَّ من أن نعرفه، كيف نعرفه؟ إنَّ ذاته لا يمكن أن نراها ولكن نرى آثارها، نرى آياته، آياته الدالة على وجوده، آياته الدالة على وحدانيَّته، آياته الدالة على أسمائه الحسنى، آياته الدالة على صفاته الفُضلى، آياته الدالة على أنبيائه، آياته في كتابه، فإذا أُطْلِقَت كلمة (الآية) فإنما تعني الدليل على وجوده، وعلى وحدانيته، وعلى أسمائه الحسنى، وعلى صفاته الفضلى، وعلى نبوة أنبيائه، وعلى رسالة رسله، وعلى قضائه وقدره، أي الكون ينطق بوحدانيته، في خلقه، وأفعال الله عزَّ وجل لو تتبعتها لوجدت فيها أسماءه الحسنى وصفاته الفضلى، وكلامه لو قرأته وتدبرته لوجدت فيه الحق الصِّرف، إذاً: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ اعرفوه، واعرفوا أمره، وطبقوا أمره، حتى تسعدوا في الدنيا وفي الآخرة، ولو سألت خمسة آلاف مليون إنسان.. أي الأرض الآن بالرقم التقريبي يعدون خمسة آلاف مليون.. لو سألت هؤلاء الناس جميعاً من دون استثناء: ما هي المطالب الثابتة عندهم؟ لأجابوا بلسان القال وبلسان الحال: السلامة والسعادة، والسلامة والسعادة لا تتحققان إلا بمعرفة الله وطاعته.

 

عدم عبادة الله شقاء للإنسان:


لذلك منهج الله عزَّ وجل: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ .. لكن أحياناً يأتيك أمر فإذا نفَّذته فقد نفذته، وإن لم تنفذه لا يحدث شيء، لو قيل لك: تعالَ اذهب معنا إلى هذه النزهة، فإن ذهبت كان بها، وإن لم تذهب لا يحدث شيء، أما عبادة الله عزَّ وجل إن عبدته عبدته، وإن لم تعبده شَقيت إلى الأبد، القضية دقيقة، لذلك ربنا عزَّ وجل قال: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ﴾ لأنكم إن لم تعبدوا الله فسوف تهلكون، وسوف تُعَذَّبون، وسوف تَشْقَون، وسوف يمضي الإنسان حياته الأبدية كلها في عذابٍ لا يحتمل. 

إذاً: الموضوع ليس اختيارياً، بمعنى إما أن تعبده، وإما ألا تعبده، لا، إما أن تعبده فتنجو، وإن لم تعبده فتهلك، هذا معنى قول الله عزَّ وجل: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ﴾ ..

 

مفهوم التقوى الشامل:


﴿ذَلِكُمْ﴾ أي عبادته وتقواه، معنى التقوى أي اتقِ عذابه بطاعته، اتقِ سخطه برضوانه، اتقِ الكفر بالإيمان، اتقِ الشرك بالتوحيد، اتقِ إتلاف المال بحسن كسبه، اتقِ سَخَطَ الله عزَّ وجل بحسن إنفاق المال، اتقِ العَطَبَ بهذه الحواس بأن تجعلها في طاعة الله عزَّ وجل، العين التي تَغُضُّ عن محارم الله أغلب الظن أن الله يحفظها، والأذن التي لا تسمع بها إلا الحق، أغلب الظن أن الله يحفظها، واليد التي لا تحرِّكها إلا في طاعة الله أغلب الظن أن الله يحفظها، إذاً هذا معنى قول الله عزَّ وجل: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ﴾ أي اتقوا غضبه برضوانه، اتقوا عذابه بطاعته، اتقوا عذاب الآخرة بمعرفته.  

 

طاعة الله وتقواه خير لكم:


﴿اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ ..هذا كلام الخبير، كلام الصانع، كلام الخالق.. ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ ، فيا أخي الكريم؛ إذا توهَّمْتَ أن الخير في غير طاعة الله، وفي غير عبادته، فيجب أن تتهم نفسك بالضلال المبين، إذا توهمت الخير في معصيته، إذا توهمت الخير في المال فقط، إذا توهمته في الجاه فقط، إذا توهمته في اللذائذ فقط، إذا توهمته فيما سوى الله، فاحكم على نفسك بالضلال المبين، لأن الله عزَّ وجل يقول: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ هذا كلام الخالق، هذا هو الخير يا عبادي، ما سوى ذلك ليس خيراً إنما هو شرٌ مبين.

 

كل إنسان يعصي الله مدموغ بالجهل:


﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ .. إذاً: كل إنسانٍ يعصي الله عزَّ وجل يمكن أن تَدْمَغَهُ بالجهل، لو أنه يحمل أعلى شهادة، لأن الله عزَّ وجل يقول، كلام خالق الكون: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ فإن رأيتم طاعة الله، وعبادته، وتقواه ليست خيراً فأنتم لا تعلمون، لذلك " كفى بالمرء علماً أن يخشى الله، وكفى به جهلاً أن يعصيه، المهم أن يكون مقياسك وفق هذه الآية، أن ترى الفلاح، والنجاح، والفوز، والتفوق، والسعادة، في طاعته؛ وأن ترى الشقاء، والحرمان، والخزي، والعذاب، والقهر، والتفاهة في معصيته، قال ربنا عزَّ وجل قال: 

﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)﴾

[  سورة الكهف  ]

لا قيمة لهم عند الله، لا شأن لهم عند الله، لهم صغارٌ عند الله، هؤلاء الذين يعصونه، لذلك: مَن أسعَد الناس ؟ أسعد الناس من كان في طاعة الله، كفاك على عدوك نصراً أنه في معصية الله، هذا أكبر نصر على عدوك إذا كنت أنت في طاعته وهو في معصيته، لا تعاقب من عصى الله فيك بأشدّ من أن تطيع الله فيه، هو عصى الله فيك، أنت أطع ربك فيه.. ﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي أنت لا تكون عالماً إلا إذا عرفتَ الله، لا تكونُ عالماً إلا إذا عبدته، لا تكون ذا رؤيةٍ صحيحة إلا إذا سِرْتَ على منهجه، فإذا اقتنى إنسان آلة ثمينة جداً، قمة الذكاء تعني أن يتبع تعليمات الصانع لهذه الآلة، وإلا يتلفها، ويخسرها، ويأتي مردودها ضعيفاً.

 

الشرك الجلي والشرك الخفي:


﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً﴾ .. أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي، هناك شركٌ جلي، وهناك شركٌ خفي، الشرك الجلي أن تقول: بُوذا إله مثلاً، وأن تعبده من دون الله، هذا شركٌ جلي، أما الشرك الخفي فهو أن تتوهَّم أن مصالحك عند زيد، وأن عُبَيْداً بإمكانه أن يوقع فيك شراً، وأن فلاناً بإمكانه أن يعطيك، وأن عِلّاناً بإمكانه أن يمنعك، وأنه إذا رضي عنك فلان فأنت أسعد الناس، وإذا غضب عليك فلان فأنت أشقى الناس، هذا التصوُّر هو الشرك بعينه، لأنه يتنافي مع لا إله إلا الله، ربنا عزَّ وجل قال:

﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)﴾

[ سورة محمد  ]

العلم يحتاج إلى جُهد، أكثر الناس يتوهَّمون أنهم بمجرد أن يقولوا: لا إله إلا الله، انتهى الأمر، صار مسلماً. 

مثلاً: لو أن إنساناً قال: مليون ليرة، مئة مليون ليرة، ألف مليون ليرة، هل ملكها؟ فرقٌ كبير بين أن تقول: ألف مليون، وليس في جيبك ثمن رغيف خبز، وبين أن تقول: ألف مليون، وأنت تملك هذا المبلغ؛ فرق كبير جداً، فأن تقول: أشهد أن لا إله إلا الله القضية سهلة، ينطقها كل إنسان، أما أن يكون لهذه الكلمة لها عندك رصيد، هذا الرصيد هو الذي يحملك على طاعة الله، وعلى أن ترضى بقضائه، وعلى أن تحبه، وعلى أن تتبع سبيله، وعلى أن ترى يده هي اليد الكبرى ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ إذا كان لك رصيدٌ من هذه الكلمة، رصيد كبير هذه تضفي عليك سعادةً وسكينةً، وأمناً وطمأنينةً، وتوازناً واعتدالاً، وثقةً وإقبالاً، وحكمةً وعزةً وكرامةً. 

 

ثمار لا إله إلا الله:

 1 ـ العزة:

من ثمار الإيمان بلا إله إلا الله العزة، لأنك تعلم علم اليقين أن أمرك كله بيد الله، وأن كلمة الحق لا تقطع رزقاً ولا تقرِّب أجلاً، وأن هؤلاء الناس جميعاً لا يملكون لك شيئاً ولو اجتمعت كلمتهم..

﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)﴾

[ سورة فاطر ]

إن خليفة عظيمًا كان يحج البيت، التقى بتابعي جليل يُكنى أبا حازم، قال له: سلني حاجتك؟ قال: والله إني أستحي أن أسأل غير الله في بيت الله، فلما التقى به خارج المسجد، قال: سلني حاجتك؟ قال: والله ما سألتها من يملكها أفأسألها من لا يملكها؟ فلما قال له: سلني حاجتك؟ قال: أنقذني من النار، قال: هذه ليست لي، قال: إذاً ليس لي عندك حاجة، هناك غنى عند المؤمن. 

قال أبو جعفر المنصور لأبي حنيفة: يا أبا حنيفة، لو تغشيتنا.. تعال إلينا، تفضل لعندنا، زرنا، نحن نحبك، نأنسُ بك، قال له: ولمَ أتغشَّاكم وليس لي عندكم شيءٌ أخافكم عليه؟ وهل يتغشَّاكم إلا من خافكم على شيء؟ قيل: "احتج إلى الرجل تكن أسيره، استغنِ عنه تكن نظيره، أحسن إليه تكن أميره"، من ثمار الإيمان بلا إله إلا الله العزة، فلا يوجد نفاق، لأن هناك رؤية، تدخل إلى دائرة مثلاً، لك معاملة سفر، يجب أن يوقعها المدير العام، هل تتوسل للآذن؟ لا تتوسل له لأن الأمر ليس بيده؟ هل تبذل ماء وجهك أمام الآذن؟ أمام موظف الاستعلامات ؟ أمام ضارب الآلة الكاتبة؟ أمام الحاجب؟ أمام مدير المكتبة مثلاً؟ أنا يهمني المدير العام، علاقتي كلها معه، هذه الدائرة ثلاثة طوابق فيها مئتا موظف، الذي يوقع الموافقة المدير العام، ما لي حاجة لأن أبذل ماء وجهي لغيره، هذه أشياء بسيطة جداً.

2 ـ راحة القلب وخلوه من الحقد:

لذلك إذا آمنت بأنه لا إله إلا الله سعدت بالدنيا، ارتاح قلبك، لم يعد عندك حقد أبداً، أَنَّى لك الحِقد؟ لأنه لا يقع شيءٌ بالكون إلا بعلم الله، وإلا بأمره، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن..

﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾

[ سورة هود ]

فإذ آمنت بأنه لا إله إلا الله نجوت من الحقد. 

3 ـ النجاة من الندم:

إذا آمنت بأنه لا إله إلا الله نجوت من النَدَم، يقول لك: محروقٌ قلبي ضاع البيت من يدي، لا، فما كان لك ليس لغيرك، وما كان لغيرك ليس لك. عن أبي الدرداء  عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

(( لكلِّ شيءٍ حقيقةٌ، و ما بلغ عبدٌ حقيقةَ الإيمانِ حتى يعلمَ أنَّ ما أصابَه لم يكن لِيُخطِئَه، و ما أخطأه لم يكن لِيُصيبَه.))

[ السلسلة الصحيحة ، خلاصة حكم المحدث : إسناده حسن رجاله ثقات  ]

هذا الإيمان، نجوت من الحقد، نجوت من الندَم. 

4 ـ النجاة من الحسد:

نجوت من الحَسَد، الله سبحانه وتعالى هو الحكيم..

قل لمـن بات لي حاســـداً         أتدري على من أسأت الأدب؟

أسأت على اللـه في فعله         إذ لـم ترض لـــــــــــي مـا وهب

* * *

الحسود لا يرى حكمة الله عزَّ وجل، لا يرى علم الله، لا يرى عدالته، فإذا آمنت بأنه لا إله إلا الله نجوتَ من الحسد، نجوت من الحِقد، نجوت من الندم. 

5 ـ النجاة من التبعثر والشتات:

نجوت من التبَعْثُر، اعمل لوجهٍ واحدٍ يكفِكَ الوجوه كلها، من جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله الهموم كلها.

لك وجهة واحدة، مُجَمَّع، العدسة ضعها في أشعة الشمس، وضع تحتها ورقةً في محرقها تحترق الورقة، لماذا ؟ لأن هذه الأشعة كلها مجمعةٌ في نقطة واحدة، تفعل شيئاً عظيماً، أما إذا كانت هذه الأشعة مبعثرةً فلا تحرق شيئاً، فالمؤمن مجتمعٌ، وليس متفرقاً. عن زيد بن ثابت :

(( من كانت الدنيا همَّه فرَّق اللهُ عليه أمرَه وجعل فقرَه بين عينَيه، ولم يأتِه من الدنيا إلا ما كُتِبَ له، ومن كانت الآخرةُ نيَّتَه جمع اللهُ له أمرَه، وجعل غناه في قلبِه، وأتتْه الدُّنيا وهي راغمةٌ. ))

[ صحيح الترغيب :حكم المحدث: صحيح  ]

هذا التوحيد، ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، الموحد لا يرى مع الله أحداً، نفسه ملتفتة إلى الله عزَّ وجل: 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)﴾

[ سورة الفتح ]

 

الإيمان قول واعتقاد وسلوك:


﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾ .. إذاً من قال: لا إله إلا الله بحقها دخل الجنة، ما أروع كلامه، قال:  بحقها، لأنه من يقول: لا إله الله بغير حقها ألوفٌ مؤلَّفة، ألوف الملايين، ألف مليون مسلم الآن هل يقولونها بحقها؟ من قال: لا إله إلا الله بحقها دخل الجنة، قيل: وما حقها؟ قال: أن تحجزه عن محارم الله ، دائماً الإنسان الموفق في حياته، النبيه، لا يعيش في الأوهام، إيمانك له حجم، هذا الحجم قد يكون كافياً أو غير كافٍ، فإذا لم يحملك إيمانك على طاعة الله عزَّ وجل بقي فكرة، معلومات، ثقافة، عواطف، أما السلوك غير مستقيم، يوجد انحرافات، يوجد مخالفات، يوجد معاصٍ، إذا لم يحملك إيمانك على طاعة الله عزَّ وجل فإيمانك يحتاج إلى تجديد، فيه خلل، فيه نقص، امتحنْ إيمانك، دقق في معاملاتك، في بيتك، في علاقاتك الاجتماعية، في بيعك، في شرائك، في عطائك، في منعك، في نُزهاتك، في سفرك، في حلك، في ترحالك، هل هناك مخالفات؟ إذا كان هناك مخالفات فحجم إيمانك غير كافٍ، إلى أن يحملك على طاعة الله، هذا هو الحد الأدنى، هذا هو الحد الأدنى من الإيمان الذي يحملك على طاعة الله عزَّ وجل. 

 

الأوثان المادية والمعنوية:

 

﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً﴾ ..أي أصناماً، إما أنها أصنام مادية كهبل، واللات، ونسر، ويعوق، والعُزَّى، وإما أصنام معنوية. 

﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)﴾

[  سورة الفرقان ]

الهوى قد يكون إلهاً، أخي أنا هوايتي كذا، هوايتك كذا فهي إله من دون الله، تُضَيِّعَ من أجلها الصلاة والعمل الصالح، فإما أن تتخذ نفسك هواك وإلهك، وإما أن تتخذ الآخرين آلهةً من دون أن تقول: أنتم آلهة، لا، هذا الشرك الخفي، الشرك أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحب على جور، وأن تبغض على عدل. 

لك صديق عنده خلل في سلوكه، عنده تقصير شديد، تحبه حُبَّاً جماً، محبتك لهذا الصديق الذي ليس مستقيماً هذه محبةٌ مشبوهة، فيها شرك خفي، وإذا قُدِمت لك نصيحة، وأخذتك العزة أن تقبلها، فهذا أيضاً شرك خفي، إذاً الأوثان أنواع، أوثان من أحجار، وأوثان من لحم ودم، وأوثان من شهوات، هذا قول: أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي، أما إني لست أقول إنكم تعبدون صنماً ولا حجراً ولكن شهوة خفية وأعمال لغير الله، أي الشهوات إذا سيَّرتها في القنوات الشرعية النظيفة هذه ليست شركاً، الإنسان تزوج، هذه الشهوة سيّرها أو صبَّها في القناة الشرعية، كسب المال الحلال، أما الشهوة الخفية التي عناها النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث فهي التي تحملك على معصية الله، أو تحجبك عن طاعته، أو تبعدك عنه، لذلك: لا حقيقة في الكون إلا الله، أي شيءٍ قرَّبَكَ إليه عمل صالح، وأيّ شيءٍ أبعدك عنه عمل سيِّئ.

﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً﴾ حجر، وهذه قبيلة (ود) صنعت إلهاً من تمر، فلما جاعت أكلته، فقالوا: أكلت ودٌّ ربَّها، قبيلةٌ أخرى نحتت إلهاً وعبدته من دون الله، فجاء إنسان ليقف أمامه خاشعاً فرأى عليه بللاً، فإذا هو بول، فقال:

أربٌ يبول الثُعْلُبَانُ برأسه                  لقد ضلّ من بالت عليه الثعالب

* * *

 

إيهام الناس أن الأوثان مقدسة وإحاطتها بهالة من القُدْسِيَّة:


﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً﴾ .. تتحدثون عن هذه الأصنام حديثاً كأنه شيء له فعل وله عمل، ويمنح ويمنع، يعطي ويغضب ويرضى، اختلاق، افتراء، كلامٌ لا أصل له، كلامٌ فارغ ليس له أصل، أحياناً يتكلم الإنسان كلاماً ليس له معنى، وليس له أصل، لو قال لك واحد: أنا ذهبت مثلاً إلى أمريكا، وعُدت في ساعة، تقول له: أنت مجنون، هذا كلام ليس له أصل، هذا الكلام اختلاق، الواقع لا يؤكِّده ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً﴾ أيْ تحيطون هذه الأوثان بهالة من القُدْسِيَّة، تفترون على الله الكذب، توهمون الناس أنها مقدسة، هكذا.

 

الرزق والتدبير بيد الله وحده:


﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً﴾ .. اليوم قلت في الخطبة: أيّة جهةٍ في الأرض مهما قَوِيَت:

﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)﴾

[ سورة يونس ]

يتوهَّم أحياناً بعضُ الكُبراء أن بإمكانهم أن يفعلوا شيئاً..﴿أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا﴾ هل في الأرض كلها جهةٌ مهما قويت، مهما علا شأنها، مهما ادعت أن تُصدر قراراً بإنزال المطر؟ في إفريقيا، بعض الأماكن بإفريقيا حبست عنها أمطار السماء سبع سنوات، عندي صور لهذه المناطق، الأبقار والأغنام مُلْقَاة وهي جلد فوق عظم، واضطر أهلها أن يهاجروا من هذه البلاد، ماذا نفعل لو أن الله عزَّ وجل حبس عنا الأمطار؟ هذه الأنهار كلها جافة الآن، نرجو الله عزَّ وجل أن يغيثنا بسقيا رحمة.

 

المستحق للعبادة هو الخالق الرازق المالك لكل شيء:


من الذي يستحق العبادة؟ الذي يملك أن ينزل الأمطار، والذي يملك أن ينبت النبات، نأكل طعاماً وشراباً وخبزاً، ولحماً وحليباً وجبناً، وفواكه وخضراوات، هذه من يخلقها؟ يجب أن تعبد الذي خلقك، والذي يرزقك، والذي إليه المصير. 

الإمام الشافعي يرى عند قراءة الفاتحة أن تقرأ في الركعة الثانية مَلِكِ يوم، وفي الركعة الأولى مَالِك يوم الدين، فمَن هو المالك؟ قالوا: المالك هو الذي يملك ولا يحكم، والمَلِك هو الذي يحكم ولا يملك، ولكن الله عزَّ وجل مالكٌ ومَلِك، أيْ يملك كل شيء، ما معنى أن الله يملك؟ أي يملك ويتصرَّف وإليه المصير، قد تملك ولا تنتفع، وقد تنتفع ولا تملك، قد تسكن بيتاً ليس ملكاً لك، ولكنك منتفعٌ به، وقد تمتلك بيتاً، ولست منتفعاً به، وقد تمتلك بيتاً وتنتفع به، ولكن مصيره ليس لك، يجب أن تعبد الذي خلقك، وأن تعبد الذي يملك لك الرزق، هذا الهواء الله عزَّ وجل زود الغلاف الجوي بطبقة أوزون تمنع الأشعة القاتلة، في بعض الأماكن صار خلخلةٌ في هذه الطبقة لأسباب كثيرة. قرأت مقالةً أن عدداً كبيراً جداً من الأشخاص أصيبوا بسرطان الجلد لخلخلة هذه المادة، لو أن الله عزَّ وجل بقدرته أزال هذه المادة، ماذا نفعل؟ لو أنه حبس عنا الأمطار، ماذا نفعل؟ لو أن نِسَبَ الهواء تغيَّرت أصبح الهواء غير كافٍ، لحدث للإنسان ضيق نَفَس، لو أن هذا النبات لم ينبت ماذا نفعل؟ نعبد من إذاً؟ نعبد الذي خلقنا، والذي أمدنا بالرزق، بالهواء، بالماء، بالخبز، بالطعام، بالشراب، إذاً: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾ .

 

الترغيب في سؤال الله والترهيب من سؤال الناس من غير ضرورة:


لذلك الإنسان يطلب من الله الرزق.. من جلس إلى غني فتضعضع له، ذهب ثلثا دينه.. عن الزبير بن العوام:

(( أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ. ))

[ صحيح البخاري ]

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( لَا يَفْتَحُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ. ))

[ السلسلة الصحيحة ]

﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾ ..ابتغوا الحوائج بعزَّة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير، لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ.. شرف المؤمن قيامُهُ بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾ .. أبى الله إلا أن يجعل رزق عبده المؤمن من حيث لا يحتسب، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً﴾ أحياناً يسدُّ ربنا عزَّ وجل أمامك كل الأبواب من أجل أن تلجأ إليه، من أجل أن تخاطبه، أن تدعوه، من أجل أن يسمع صوتك. ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾

كن عن همومك معرضاً          وكِلِ الأمور إلى القضا

وابشر بخيــــــرٍ عاجـــــــلٍ          تنس بــــه ما قد مضــى

فلـــــــــــــــربَّ أمرٍ مســخطٍ          لك فـــــــــي عواقبه رضـا

ولربما ضاق المضيـــــــق         ولربمـــــــــا اتســع الفضا

الله يفعـــــــــــــل ما يشـــاء         فـــــــــــــلا تكوننَّ معـترضا

اللـه عــــــــــــــوّدك الجميل         فقس على ما قد مضى

* * *

هذه الأبيات تعقيبٌ على كلمة: ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾ صلِّ قيام الليل، واسجد وقل: يا رب، ارزقني رزقاً حلالاً طيباً بعزة النفس، فهو ربُّ الجميع..

ملك الملــــــوك إذا وهب               لا تسـألنَّ عن السبب

الله يعطي مـــــــــن يشـاء               فقف علــى حدّ الأدب

 * * *

اجعل لربك كل عزك يستقــر ويـثبت           فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزك ميت

* * *

الله يغضب إن تركـــــــت سؤالــــــه             وبنيّ آدم إن سألته قد يغضب 

* * * 

 الله عزَّ وجل يغضب إن تركت سؤاله، إن الله يحب المُلحين في الدعاء، من لا يدعُني أغضب عليه، إن الله يحب من عبده أن يسأله شِسْع نعله إذا انقطع، كن مع الله لحوحاً، اسأله، قف ببابه، ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ﴾ أطعْهُ فقد أنْعَمَ عليك بنعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الإرشاد، وسخر لك ما في الكون جميعاً، منحك نعمة العقل، فطرك فطرةً عالية، أودع فيك الشهوات لترقى بها إلى ربّ الأرض والسماوات، أعطاك حُرية الاختيار، ألا ينبغي أن تشكره؟

﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)﴾

[ سورة الإنسان  ]

أين كنت في عام ألف وعشرة؟ أين كنت في عام ألف وتسعمئة مثلاً؟ أين كنت؟ 

 

الرجوع إلى الله فتهيأْ لذلك اليوم:


﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ ما دام الرجوع إلى الله عزَّ وجل، قال: حينما يوضع الميت في القبر يقول الله عزَّ وجل: عبدي رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا أنا، وأنا الحيّ الذي لا يموت، لا يوجد غير الله، فإذا كنت بطلاً هذا الذي سوف تكون معه إلى الأبد ولا أحد معك إلا هو يجب أن تطيعه، يجب أن تُرضيه، يجب أن تحبَّه، فإذا كان مثلاً موظفٌ في دائرة، وشعر أن المدير العام سينتقل تجده يسأل: من الذي سيأتي بعده؟ يتقصى، يقول: قبل أن يداوم عندنا نقدِّم له هدية، نكرمه، الإنسان بمنطق الدنيا يخاف أن يأتي شخص لا يعرفه، قد تكون مشكلته معه صعبة، أما الله عزَّ وجل فإنه يبذل عطاءه أمامك، هذا الكون تعرَّف إليه من خلاله، وهذا الشرع طبِّقْهُ، وهذه الأعمال الصالحة افعلها في سبيله.

 

أصلٌ مِن أصول النبوة: وَعَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البلاَغُ المُبِينُ:


﴿وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ .. النبي عليه الصلاة والسلام يبيِّن، وتنتهي مُهِمَّته.. 

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا . ))

[ رواه البخاري ومسلم  ]

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسام: مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ، ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه. ))

[  صحيح ابن حبان أخرجه في صحيحه ]

إذاً:  ﴿وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ(18)﴾ 

 

حكمة اقتران الإيمان بالله بالإيمان باليوم الآخر:


﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ لماذا هؤلاء لا يعبدون الله عزَّ وجل؟ لماذا لا يتَّقوه؟ لماذا يعصونه؟ لأنهم ما آمنوا بهذه الساعة ساعة اللقاء، ما آمنوا باليوم الآخر، ربنا عزَّ وجل في أكثر آيات الإيمان يأتي الإيمان باليوم الآخر مُقْتَرِنَاً بالإيمان بالله، لأنك لن تستقيم على أمر الله إلا إذا أيقنت بوجود الله، وأيقنت بعلمه، وأيقنت باليوم الآخر، وأيقنت بالحساب، لو ألغينا اليوم الآخر فلا أحد يستقيم، الله موجود موجود، لكن لن يستقيم أحد، الله عزَّ وجل أودع في هذه النفوس الشهوات، وأعطاها قوى في الظاهر، هذه القوى مع هذه الشهوات تندفع نحو مصالحها، ما الذي يُلجمها؟ الخوف من الله، خوف الحساب، سيدنا النبي اللهم صلِّ عليه أرسل خادماً في حاجة، تأخر كثيراً، كان بيده سواك، فقال عليه الصلاة والسلام: والله لولا خشية القِصاص لأوجعتك بهذا السواك، ما الذي يلجم المؤمن؟ الإيمان قيد الفتك، هذه المعرفة بالله عزَّ وجل، اليقين بوقوفٍ بين يدي الله عزَّ وجل، لو أن الناس خافوا من الله عزَّ وجل انتهت كل مشاكلهم، هذا الذي يعتدي، هذا الذي يأخذ ما ليس له، لماذا؟ لضعفٍ بإيمانه، لو أيقن يقيناً قطعياً أنه سيدفع الثمن باهظاً، وأنه لن يتفلَّت من عقاب الله عزَّ وجل. 

يروون أن أحداً كان يطوف حول الكعبة ويقول: "رب اغفر لي ذنبي، ولا أظنك تفعل"، وكان وراءه رجل، قال له: "يا هذا، ما أشد يأسك من رحمة الله!"، قال له: "ذنبي عظيم"، قال له: ما ذنبك؟ فذكر له أنه دخل إلى بيت فرأى فيه رجلاً فقتله، وامرأةً فسألها أن تعطيه كل ما تملك، أعطته دنانير ذهبية، فقتل ولدها الأول، فلما رأته جاداً في قتل الثاني أعطته درعاً مُذْهَبَةً، أعجبته، فالدرع من الذهب، فإذا عليها بيتان من الشعر، قرأهما فأُغمي عليه: 

إذا جار الأمير وحاجباه           وقاضي الأرض أســرف في القضاء

فويـــلٌ ثم ويــــلٌ ثم ويـــلٌ           لقاضي الأرض مـن قاضي السـماء

* * *

 

الإنسان كلما نما عقله نمت معرفته:


إذاً الإنسان العاقل يخاف من الله عزَّ وجل، الله عنده أمراض وبيلة، عنده أمراض عُضالة، عنده أمراض ماحقة، سبحان الله ذنوبٌ كثيرة يؤَخِّرها الله إلى الدار الآخرة إلا ذنب الكِبْر وذنب الظلم، هذان الذنبان من خلال تتبع الحوادث فالله سبحانه وتعالى يُعَجِّل عقابهما، فالإنسان كلما نما عقله نمت معرفته، ازداد خوفه، الطبيب يحرص على تنظيف الفواكه والخضار حرصاً شديداً، لماذا؟ نما علمه، مما يعاني كل يوم هؤلاء المرضى من جراثيم، أوبئةٍ، حالات إسهال، كله من تلوث الخضار والفواكه، فكلما نما علمه ازداد حرصه، وإذا كان للطاعة مؤشر فهذا المؤشر يتوافق مع مؤشر المعرفة، كلما ازدادت معرفتك ازدادت طاعتك. 

مرة دخلت إلى بناء ضخم، فوجدت صاحب البناء في حالة همّ شديد، قلت: ما القصة؟ قال: تعالَ انظر؟ لا يوجد شيء البناء قائم، قال: انظر إلى هذا الشق في هذا الجسر، والله كان شقاً واضحاً، ولكن سمكه بقدر اثنين من المليمترات، قال جاء دكتور مهندس قال له: البناء خطر، لابدَّ من تدعيم الأساس، قلت: لو جاء بدهَّان لقال له: يحتاج إلى معجون، فبين أن تملأ هذا الشق بالجبصين، وبين أن تُدَعِّم الأساس مسافة كبيرة جداً بقدر العلم، فكلما ارتقى علمك ازداد خوفك، والذي يقول لك: أنا لا أخاف من الله، قل له: نعم، قولك حق، لأنك لا تدرك شيئاً، كلما ضعف العقل ضاق الأفق، عّمَّ الجهل، رافقه تفلُّت.  

 

أقسام البشر:


البشر نوعان ؛ موصولٌ منضبطٌ محسن، مقطوع متفلت مسيء، ولا ثالث لهما، ما دمت عارفاً بالله عزَّ وجل، عارفاً لعدالته، عارفاً لحكمته، عارفاً للقاء معه يوم القيامة، تستقيم على أمره، وتخدم خلقه، وتحسن إليهم، فإذا كان هناك جهلٌ الإنسان يتفلَّت، إذاً كل هذه المعاصي، وهذا التفلت، وهذا الشِرك، واتباع الشهوات سببها عدم اليقين بالدار الآخرة.

 

أدلة اليوم الآخر عقلي ونقلي:


لهذا يقول الله عزَّ وجل: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ .. فاليوم الآخر له دليلان، دليل عقلي ودليل نقلي؛ النقلي ما جاء به القرآن الكريم، هذا هو الدليل النقلي.  

لكنّ الدليل العقلي هو أنّ خالق الكون من خلال الكون خالقٌ عظيم، أسماؤه حسنى، صفاته فضلى، لا يعقل أن يَدَعَ عباده هكذا من دون حسابٍ أو عقابٍ أو جزاء، لأن هذا يتنافى مع عدالته، ومع كماله، فهناك غني، وهناك فقير، وهناك قوي، وهناك ضعيف، وهناك حاكم وهناك محكوم، وهناك مريض وهناك صحيح، فلابدَّ من أن يقف الناس جميعاً لربِّ العالمين، ويعطى كل إنسانٍ ما يستحق. 

﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ أي الله عزَّ وجل قرَّب هذا من أذهاننا، الشيء إذا صنعته أول مرة فيه جهد كبير، المرة الثانية أهون، والثالثة أهون، ولله المثل الأعلى، الله ليس كذلك، كن فيكون، علمه قديم، لكن نحن بني البشر إذا أردنا أن نعيد صناعة الشيء مراتٍ ومرات لابدَّ من أن نستسهله، فربنا عزَّ وجل يدعونا إلى التفكُّر في أصل الكون، أليس الله قد خلقه؟ إذاً لا يصعب عليه أن يعيد بناءه مرةً ثانية.. ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21)﴾ العذاب دائماً خلاف السرور والرحمة، ربنا عزَّ وجل وصف الجَنَّة بأنها رحمة..

﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)﴾

[ سورة الإنسان  ]

فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ﴾ .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور