وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 08 - سورة يوسف - تفسير الآيات 76 – 100، ميثاق إخوة يوسف مع أبيهم
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين  ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم  ، اللهم علمنا ما ينفعنا  ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .


  الحوار بين إخوة يوسف حول سرقة أخيهم وموقفهم من والدهم :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ وصلنا في قصة سيدنا يوسف إلى قوله تعالى :

﴿ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ(78)قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ(79)فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ ﴾

لم يقل الله عز وجل : فلما يئسوا ، بل قال : ﴿ فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا ﴾ لأن الاستيآس أبلغ من اليأس ، استيأس على وزن استفعل ، فمن معاني وزن استفعل المبالغة ، أي طلبوا منه فرفض ، رجوه فرفض ، استعطفوه فرفض ، خضعوا له فرفض ، عندئذ استيئسوا : ﴿ فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ﴾ معنى خلصوا أي عقدوا اجتماعاً مغلقاً ، وهذه حكمة ، قد تضطر أن تعطي رأياً أو قراراً أو سلوكاً ، لابد من تقليب الرأي ، لابد من المشاورة ، لابد من أخذ الرأي ، لذلك عقدوا اجتماعاً مغلقاً ،﴿ خَلَصُوا ﴾  وتداولوا الأمر ،  وقال قائل منهم ﴿ فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ﴾ أي انتهوا من حوارهم ، من مداولتهم ، من تقليدهم للأمر إلى قول أحدهم ، وهو أكبرهم ، ﴿ قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنْ اللَّهِ ﴾ أي لسنا ببعيدي عهد بالموثق الغليظ الذي أخذه أبونا علينا ﴿ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنْ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ ﴾ أي هذه الثانية ، أخذ عليكم موثقاً في يوسف ففرطتم فيه ، ثم أخذ عليكم موثقاً آخر في أخيه فنفرط فيه ؟ ﴿ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنْ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ ﴾ أي ومن قبل فرطتم في يوسف ، بعضهم يقول : ( ما ) هذه زائدة  ، وبعضهم يقول : هذه ( ما ) موصولة  ، أي ومن قبل تفريطكم في يوسف .

﴿ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ ﴾ من شدة الألم وشدة الخجل وشدة الخزي أمام الأب الوالد قال : ﴿ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ ﴾ أي لن أغادرها ، أنا هنا ، إما أن أعود مع أخي ، وإما أن أبقى هنا ، ﴿ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي ﴾ يحكم الله لي أن آخذ أخي معي ، أو أن أقاوم وأستخدم أسلوب العنف ، إما أن أنتصر ، و إما أن أخذل ، فإذا خذلت ينطبق عليّ قول أبي : ﴿ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ ﴾  إذا دافع الإنسان عن حقه وغُلب أحيط به ، فإما أن أرجع مع أخي ، وإما أن يأذن لي أبي ، وإما أن أستخدم السيف ، فإن أخذته بالقوة أخذته بالقوة ، وإلا فقد أحيط بي ، وقد أُعذرت ، ﴿ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ ، يبدو من هذا الموقف أنه يقطر ألماً ، وندماً ، وخجلاً ، وحياءً ، وشعوراً بالتقصير .

 

الإنسان ليس بذكائه ولكن بتوفيق الله عز وجل :


﴿ ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ ﴾ أنا هنا لن أغادر هذا المكان لشدة الخجل ، ﴿ ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ – هذا الذي حصل - وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا ﴾ أي رأينا بأعيننا صواع الملك في رحله ، هذا الذي شهدناه ، وشهدنا حينما علمنا أنه قد وجد صواع الملك في رحله ، ﴿ إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ ﴾ أي ما كنا نعلم أن هذا الحدث المهم سيقع بنا ، ما كنا نعلم أن أخانا سوف يسرق ، ما كنا نعلم أنه متهم حقيقة أو بريء ، لأنه في بعض الروايات قال لهم : إن الذي وضع بضاعتكم في رحالكم هو الذي وضع صواع الملك في رحلي ، هم ليسوا متأكدين من أن أخاهم قد سرق ﴿ وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ ﴾ لا نعلم حقيقة الذي جرى ، أكان متهماً فعلاً أم كان بريئاً ، ولا نعلم بما سيكون ، وهذه الآية إشارة إلى أن الإنسان أحياناً على الرغم من ذكائه واحتياطاته وخبرته ومعلوماته الدقيقة وإمكاناته وقوته قد يقع في ورطة لا خلاص منها ، قد يقع في مأزق لا خلاص منه .

الإنسان ليس بذكائه ، ولكن بتوفيق الله عز وجل ، أي هناك قصص كثيرة الإنسان بريء مئة بالمئة ، ومع ذلك يتلبس تهمة ما كان له أن يدفعها عنه : ﴿ وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ ﴾ فالإنسان إذا اتكل على علمه أوكله الله إياه ، إذا اتكل على قوته أوكله الله إياها ، إذا اتكل على جاهه أوكله الله إياه ، إذا اتكل على خبرته أوكله الله إياها ، اتكل على الله عز وجل .

إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله ، من اتكل على ماله ذل ، من اتكل على علمه ذل ، وأما من اتكل عليك يا رب فلا ذل ولا ضل .

 

امتحان الإيمان عند الشدائد :


﴿ ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ(81)وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ أي إن لم تصدقنا وحق لك ألا تصدقنا لخبرة مؤلمة سابقة منا ، إن لم تصدقنا لأننا في الماضي لم نكن كما تريد ، إن لم تصدقنا فاسأل القرية التي كنا فيها أي اسأل سكان القرية - هذا مجاز عقلي - اسأل سكان القرية أي المكان الذي كنا فيه ، والعير التي أقبلنا وهذه القوافل التي جاءت إلى مصر لما جئنا له ، وقد حملت القمح وهي في طريقها إلى أرض كنعان ، اسألها ، فقصتنا مشهورة والشهود كثيرون : ﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ﴾ أي عرف أن في شرع سيدنا يعقوب أن الذي يسرق يؤخذ هو شخصه بسرقته ، إنه هو يصبح رقيقاً بعد أن كان حراً ، لماذا أوضحتم للعزيز أنه في شرعنا من سرق أُخِذ جزاء سرقته ؟ لعلكم أردتم أن تبعدوا ابني الثاني عني : ﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ الصبر الجميل ألا تشكو مصيبتك إلى أحد ، الصبر الجميل ألا تقول كلاماً لا يليق بالله عز وجل ، سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم حينما مات ابنه إبراهيم قال :

(( عن أنس بن مالك : دَخَلْنَا مع رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى أَبِي سَيْفٍ القَيْنِ، وكانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عليه السَّلَامُ، فأخَذَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إبْرَاهِيمَ، فَقَبَّلَهُ، وشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عليه بَعْدَ ذلكَ وإبْرَاهِيمُ يَجُودُ بنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَذْرِفَانِ، فَقالَ له عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: وأَنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ فَقالَ: يا ابْنَ عَوْفٍ إنَّهَا رَحْمَةٌ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بأُخْرَى، فَقالَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ . ))

[  صحيح البخاري ]

ليس الحزن محظوراً ، و لكن العويل ، والبكاء ، وضرب الوجه ، و تمزيق الثياب ، و التفوه بكلمات فيها اعتراض على قضاء الله وقدره هذا هو المحرم ، أما أن يحزن القلب فهذا شيء لا بد منه ، ﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ ، الصبر الجميل قال عليه الصلاة و السلام فيما يرويه عن ربه :

(( إذا أحب الله عبده ابتلاه ، فإن صبر اجتباه ، فإن شكر اقتناه . ))

[ تخريج الإحياء للعراقي:  إسناده ضعيف ]

أي الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد ؛ فإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان ، الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر ، علامة إيمانك أن ترضى بقضاء الله وقدره ، الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين .

يا رب هل أنت راض عني ؟ قال : عبدي هل أنت راض عني حتى أرضى عنك  ؟ قال : وكيف أرضى عنك و أنا أتمنى رضاك ؟ فقال الإمام الشافعي : إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله ، أبداً .

امتحن إيمانك عند الشدائد ، عند المصائب ماذا تقول ؟ إذا قلت كلاماً لا يليق بالله عز وجل فأنت لا تعرف الله ، أما إذا قلت : حسبي الله و نعم الوكيل ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، يا رب لك الحمد على قضائك ، الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه ، فأنت مؤمن ورب الكعبة ، ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ ﴾ هما اثنان ، يوسف وأخوه ، وهذا الأخ الثالث الكبير الذي بقي في مصر ، ولن يبرح الأرض حتى يأذن له أبوه  ، صاروا ثلاثة.

 

المؤمن واثق بنصر الله مهما اشتدت المصائب عليه :


﴿ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ هذا هو الرجاء ، رجاء المؤمن بالله عز وجل مهما احلولكت الأيام ، مهما ضاقت الأمور ، مهما نزلت الشدائد ، مهما اشتدت الأزمات ، فالمؤمن واثق بنصر الله ، المؤمن واثق بفرج الله عز وجل ، النبي عليه الصلاة والسلام وصل الإسلام إلى أن ينتهي بعد ساعات في غزوة الخندق ، جاءت الأحزاب من كل جانب ، الجزيرة العربية بأكملها اجتمعت على قتل محمد وأصحابه ، واليهود نقضوا عهدهم مع النبي فانكشف ظهر المسلمين ، وأصبح الإسلام موضوع ساعات وينتهي ، إلى أن قال بعض الضعاف : أيعدنا صاحبكم بأن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته ؟ 

﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)﴾

[  سورة الأحزاب ]

هذا الذي حصل لأصحاب النبي يحصل لكل إنسان ، لكل مؤمن تضيق به الأمور ، يبث الله في قلبه الخوف ، ماذا يفعل ؟ أيترك هذا الطريق الذي اختطه لنفسه ؟ تضيق به الحيل ، يأتيه الضيق من كل جانب ، تضيق به الأرض بما رحبت ، ماذا يفعل ؟ ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ يعلم أين هم ، وإبعادهم عني لحكمة أرادها الله عز وجل ، عليم حكيم ، يعلم أين يوسف ، وأين أخوه ، وأين أخوهم الثالث ؟ وما أحوالهم ؟ وحكيم بهذا الإبعاد .

 

من تمام العقل بث الشكوى والحزن إلى الله فقط :


﴿ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ - أعرض عنهم - وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ ﴾ تفتقت جروحه الماضية  ، تذكر يوسف ، وقال : ﴿ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ أما ابيضاض العين فهو مرض يسميه علماء الطب : داء الزرق ، القرنية مادة شفافة تتغذى بالحلول ، حينما يرتفع ضغط الدم بسبب ضغط الهم تضطرب الأوعية الشعرية في العين ، وتصبح القرنية الشفافة ظلمية بيضاء ، وتعيق الرؤية ، ويصاب الإنسان بالعمى بسبب الحزن ، وهذا مرض يعرفه الأطباء ، ﴿ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ إنّ الحزن الذي في قلبه لم يبح به لأحد لعلمه أن الله سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى ، وأن الإنسان إذا أبحت له حزنك ماذا يفعل ، لا يستطيع أن يفعل شيئاً ، الصديق يتألم والعدو يشمت ، لذلك من تمام العقل أن تبث شكواك وحزنك إلى الله فقط ، وإذا ضاقت بك الأمور فبث شكواك للمؤمن ، فإذا بثثت شكواك للمؤمن فهذه شكوى إلى الله ، أما إذا بثثت شكواك لكافر فهذه شكوى على الله ، إياك أن تشكو همك لكافر ، إياك أن تشكو حزنك لكافر ، إياك أن تشكو مصيبتك لكافر ، إنه يشمت بك ، أول ما يقوله لك : ألم أقل لك : دعك من هذا الطريق ، هذا طريق الإيمان  هو الذي جلب لك المتاعب ، انظر إلي ؛ أنا طليق لست مثلك ، إنه يشمت بك  .

 

الإيمان أول نعمة على وجه الأرض :


﴿ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ قال لي طبيب صديق : إن الأمراض في هذه الأيام بلغت حداً غير معقول ، ولا سيما أمراض القلب ، فقلت : لماذا ؟ قال : لكثرة الهموم ، وكثرة المتاعب ، إننا نعيش في مجتمع فيه بحبوحة ، ولكن الآلام النفسية ضاغطة ، أما أجدادنا فكانت حياتهم خشنة ، لكنهم كانوا مرتاحين نفسياً ، بينهم المودة والمحبة والإخاء ، والصفاء والثقة ، والأمانة والصدق والإخلاص ، والبذل والتضحية والتعاون ، وفي مجتمعنا الحسد والضغينة ، والحقد واللؤم ، والتنافس والترقب والوشاية ، وكل شيء يهد الأعصاب ، لذلك كثرت أمراض القلب ، عَنْ النُّعْمَان بْن بَشِيرٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( الْحَلالُ بَيِّنٌ ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ ، كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى ، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى ، أَلا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ ، أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً ، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ . ))

[  صحيح البخاري ]

أي إذا آمنت بالله يستريح قلبك المادي ، هذا القلب الذي ينبض ، من الأذينين والبطينين ، ومن الشريان الأبهر والشريان التاجي ، هذا القلب الذي ينبض إذا آمنت بالله ، واستسلمت له ، ورضيت بقضائه ، ونزعت من قلبك حبّ الدنيا ، وتعلقت بالآخرة ، ورضيت من الدنيا باليسير ، فإن في هذا الإيمان صحة لقلبك المادي ، فإن صح القلب صح كل شيء في الجسد ، وإن فسد هذا القلب فسد كل شيء ، لذلك صحتك أغلى عليك من الدنيا ، وصحة إيمانك أغلى من صحة جسمك ، من أروع ما قاله الإمام علي كرم الله وجهه أنه قال : << إن الفقر مصيبة ، وإن أشد من الفقر المرض ، وإن أشد من المرض الكفر ، وإن الغنى نعمة ، وإن أفضل من الغنى صحة الجسد ، وإنّ أفضل من صحة الجسد الإيمان >> .

أول نعمة على وجه الأرض أن تكون مؤمناً ، ولأنك إذا كنت مؤمناً فلا شيء في الدنيا يعدل الإيمان ، أحد الصالحين كان يتلو كتاب الله عز وجل فوصل في سورة يس إلى قوله تعالى :

﴿ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)  ﴾

[  سورة يس  ]

ففاضت روحه إلى بارئها ، فتعجب أصحابه كيف ختمت له هذه الخاتمة ، فرآه بعضهم في المنام فقال : يا سيدنا ما فعل الله بك ؟ كيف ختمت لك هذه الخاتمة ؟ قال : جاء الملكان في القبر فقالا لي : من ربك ؟ فتابعت قراءة القرآن :

﴿ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)  ﴾

[ سورة يس  ]

فقالا لي : 

﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)  ﴾

[ سورة يس  ]

قيل : ادخل الجنة ، أي عندما يتعلق الإنسان بالله عز وجل يتجلى الله على قلبه سعادة ينسى معها كل شيء .

 

الشكوى لا تكون إلا لله عز وجل :


﴿ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ(84)قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ ﴾ أي يوسف دعه من بالك ، لن يعود إليك ، لقد مات ، لا تزال تذكره ، لا تزال تتشوق إليه ، انتهى أمره ، حتى تكون حرضاً ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :

ليس منا من فرق .

(( حَدَّثَنِي طَلِيقٌ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فرّق فليس منا.))

[ أخرجه الطبراني ]

أي إذا فرقت بين أم وولدها ، أو بين أب وولده ، أو بين أخ وأخيه ، أو بين صديق وصديقه ، أو بين شريك وشريكه ، أو بين جار وجاره ، فلست من أمة سيدنا محمد ، إذا فرقت مادياً بينهما لست من أمة سيدنا محمد ، وإذا فرقت معنوياً بينهما ، إذا أوقعت بينهما الضغينة ، أوقعت بينهما الشقاق ، أوقعت بينهما الخصومة ، أوقعت بينهما العداوة فلست من أمة سيدنا محمد :

(( لَعَنَ رسولُ اللهِ مَنْ فَرَّقَ بين الوَالِدَةِ ووَلَدِها . ))

[ ابن ماجه ، ضعيف ]

﴿ قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ – أي لازلت - تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا – أي حتى هالكاً - أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ ﴾ الهلاك الأول معنوي ، هلاك اليأس ، والهلاك الثاني الموت.

﴿ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ﴾ قال بعضهم : ويعاب من يشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم ، يعاب أن تشكو الله إلى إنسان لا يرحم ، الشكوى لله عز وجل ، الشكوى لله إذا ألمّ بك أمر فبث شكواك إلى الله ، وإذا ظلمك إنسان فاشكه إلى الله عز وجل ، فإن في شكواك إلى الله أبلغ شكوى ، ﴿ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي ﴾ البث هو الألم ، والحزن هو الألم الشديد  ﴿ إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ أي أعلم أن ذهاب أولادي عني لحكمة بالغة لابد من أن تكون ، وأعلم أن هذا رحمة بي ، وأعلم أن هذا حرص علي ، وأعلم أن هذا قد يزول ، وقد يعود إليّ أولادي ، أعلم من الله ما لا تعلمون ، أعلم من رحمته ما لا تعلمون ، أعلم من حكمته ما لا تعلمون ، أعلم من رأفته ما لا تعلمون ، أعلم من حبه ما لا تعلمون ، أعلم من تصريفه الأمور ما لا تعلمون .

 

اليأس من روح الله لا يتناسب مع الإيمان بالله :


﴿ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(86)يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ ﴾ معنى تحسسوا أي تتبعوا أخبارهم ، اذهبوا ، أي إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا .

قال لي شخص : إنه قد أضاع مبلغاً كبيراً في سيارة ، فلما دخل إلى بيته ، واعتصر قلبه الحزن ، أكثر الناس قالوا له : هذا المبلغ لن يعود إليك ، إلا واحد منهم قال له : اذهب فلعل الله يجمعك بالمبلغ ، فذهب إلى المطار ، وسأل عن سائق صفته كيت وكيت ، فقالوا : والله لقد قال لنا إنه قد رأى في سيارته مبلغاً كبيراً ، أسوق هذه القصة الإنسان ألا ييئس ، ولو بدا لك أن الأمر مستحيل ، وأن لا سبيل إلى رده ، وأن القضية شبه مستحيلة ، اذهبوا ، عاد إلى الشام ، وأخذ المبلغ ، و كان السائق أميناً ، رد له المبلغ بالعد والتمام ، ﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ ﴾ اليأس من روح الله لا يتناسب مع الإيمان بالله : ﴿ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ ﴾


جواز الشكوى إلى من بيده الأمر من باب الأخذ بالأسباب :


وصلوا إلى مصر مرة ثالثة ﴿ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ – يا أيها الملك العظيم - مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ ﴾ البضاعة هنا النقد ، ما يشترى به البضاعة إما نقد وإما شيء يدفع مكان البضاعة ، ﴿ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ ﴾ مزجاة بعضهم قال : قليلة ، وبعضهم قال : فيها عيب لا تقبل ، ﴿ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ ﴾ أي أعطنا بها قمحاً كما لو كانت بضاعتنا كثيرة ، أو كما لو كان نقدنا جيداً ، لأننا قد مسنا الضر ﴿ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ ﴾ أعطنا الكمية المقررة كما لو كان النقد صحيحاً ، أو كما لو كانت البضاعة كثيرة ، ﴿ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ﴾ بأخينا ، أي ردّه إلى أبيه ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) ﴾ قال بعضهم : يجوز إذا أصابك الضر أن تشكو إلى من بيده الأمر ، هذا من باب الأخذ بالأسباب ، ليس من باب الشرك .

 

كشف يوسف نفسه أمام إخوته :


يبدو أن سيدنا يوسف رأى من المناسب أن يلقي عليهم بالنبأ العجيب ، آن الأوان وحان الوقت لكي يعرفهم من هو ؟ جاؤوه أول مرة ، وجاؤوه في المرة الثانية ، وفي المرة الثالثة وهم يحسبونه عزيز مصر ، مرة أحبوه لكرم الضيافة ، ومرة امتنوا منه لأنه جعل بضاعتهم في رحالهم ، ومرة تألموا منه لأنه طبق القانون عليهم تطبيقاً دقيقاً ، ولم يتساهل معهم ، وجاؤوا في هذه المرة يائسين ، أو جاؤوا راجين ، عندئذ آن الأوان لهذا النبي العظيم وعزيز مصر أن يلقي عليهم بالنبأ ، وسيكون عليهم كالصاعقة ، ﴿ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ ﴾ من يوسف ؟ من أعلمك بما فعلنا بيوسف ؟ هم في زعمهم أن هذه القصة لا يعلمها أحد إلا الله ويوسف ، لأنه الضحية ﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ﴾ هذا الذي قالوه رسمياً لأبيهم ، عشرة إخوة اتفقوا على رواية واحدة ، ولا يعلم بما جرى إلا الله ويوسف لأنه الضحية .

 صفوان بن أمية التقى بعمير بن وهب ، وقال له عمير بعد أن التقى به في الصحراء خارج مكة : والله لولا ديون ركبتني ما أطيق سدادها ، ولولا أبناء صغار أخشى عليهم العنت من بعدي لذهبت وقتلت محمداً ، وأرحتكم منه ، فوقف صفوان وقال : يا عمير ، أما ديونك فهي عليّ بلغت ما بلغت ، عليّ أداؤها ، وأما أولادك فهم أولادي ما امتد بهم العمر ، فامض لما أردت ، اذهب واقتله ، وأرحنا منه ، وكان ابن عمير عند رسول الله أسيرًا ، فأسقى سيفه السّم ، وركب راحلته ، وانطلق إلى المدينة ، رآه عمر رضي الله عنه قال : هذا عدو الله عمير بن وهب ، جاء يريد شراً ، قيده بحمالة السيف ، وساقه إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، قال : يا رسول الله ، هذا عمير بن وهب جاء يريد شراً ، فقال : أطلقه يا عمر ، أطلقه ، قال : ابتعد عنه ، فابتعد عنه ، فقال عليه الصلاة السلام لأصحابه : هل أعددتم له طعاماً ؟ هذا صعق ، بعد أن أكل قال : ادن مني يا عمير ، فدنا منه ، قال له : ألا تسلِّم عليّ ؟ قال : عمت صباحاً يا محمد ، قال : سلِّم علينا بسلام الإسلام ، قال : لست بعيد عهد بالجاهلية ، قال : ما الذي جاء بك يا عمير ؟ قال : جئت أفدي ابني ، قال : وهذه السيف التي على عاتقك ، قال : قاتلها الله من سيوف ، وهل نفعتنا يوم بدر ؟ قال : ألم تقل لصفوان بن أمية لولا ديون ركبتني ما أطيق سدادها ، ولولا أطفال صغار أخشى عليهم العنت من بعدي لذهبت وقتلت محمداً وأرحتكم منه ، قال : والله ما يدري أحد بهذا إلا الله ، وأنت رسول الله ، طبعاً صفوان بدا عليه البشر في مكة ، وكان يقول لمن حوله : انتظروا أخباراً سارة ، وبدأ ينتظر هذا الخبر السار قتل محمد ، مضى يوم ويومان وثلاثة أيام وأسبوع ، وكان يقف على مشارف مكة ينتظر الركبان ، ويسألهم ماذا حدث ؟ فيقولون له : لم يحدث شيء ، إلى أن سألهم : ما فعل عمير ؟ فقالوا : أسلم عمير ، فهذا سيدنا يوسف قال : ﴿ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ ﴾ اقشعر بدنهم ، صعقوا ، تأملوا فيه ، حينما كانوا ينظرون إليه من قبل أخذوا به كعزيز مصر ، فلما قال لهم ﴿ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ ﴾ تأملوا في ملامح وجهه ، في خطوط جبينه ، في حركاته ، في نظراته ، فإذا هي يعرفونها إنه يوسف ، ﴿ قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ ﴾ لكن النبي الكريم برقته وكماله وأدبه اعتذر عنهم ، عن عبد الله بن عمر، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كم نعفو عن الخادم؟ فصمت ثم أعاد عليه الكلام فصمت فلما كان في الثالثة قال: 

(( اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة ))

[ أبو داود في سننه ]

التمس لهم عذراً ، واعتذر عنهم ، ماذا قال لهم ؟ ﴿ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ﴾ ما من عذر أبلغ من الجهل ، ما كنت أعرف ﴿ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ﴾ ، كلمة ﴿ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ﴾ اعتذار من سيدنا يوسف عنهم لئلا يحرجوا ، لئلا يخجلوا ، لئلا تضيق بهم الأرض ، لأنه أكرمهم ، أكرم وفادتهم ، أكرم ضيافتهم ، أعطاهم القمح ، مع ثمن القمح في المرة الأولى والثانية ، وها هو ذا يعرفهم بنفسه ، ﴿ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ﴾ إذ أنتم جاهلون اعتذار عنهم ، هكذا أخلاق النبوة ، التمس لأخيك عذراً ولو سبعين مرة ، لا تحرج إنساناً ، لا تخجله ، لا تضيق عليه بالأسئلة ، لا تسأله ماذا أكلت البارحة ؟ ربما لم يأكل ، ماذا طبخت اليوم ؟ ماذا عندك من طعام من أجل أن تضيفنا ؟ المؤمن لا يحرج أحداً ، إلى أين أنت ذاهب ؟ أين كنت ؟ ﴿قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي ﴾ هذا الذي حجزته أخي ، أي إكراماً له ، سيدنا الصديق لما اشترى سيدنا بلالا من أمية بن خلف قال له أمية : << والله لو دفعت به درهماً لبعتكه ، قال : أما أنا لو طلبت ثمناً له ألف درهم لدفعتها لك ، وضع يده تحت إبط سيدنا بلال وقال : هذا أخي >> .

 المؤمن متواضع ، أحياناً يدخل أب طيب على ابنه في منصب رفيع فيقال له : من هذا ؟ فيقول لهم : هذا آذن عندي ، ﴿ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ﴾ بالنجاة ، منّ علينا بالهدى ، منّ علينا بالمنى ، من علينا بالملك ، منّ علينا بكل شيء .

 

الله تعالى لا يضيع أجر المحسنين :


﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ ﴾ أيها الإخوة الأكارم ؛ والله الذي لا إله إلا هو هذه القصة يمكن أن تنطبق على كل واحد منا : ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ ﴾ ، اصبر على أمر الله ، اصبر عن معصية الله ، اصبر على مصيبة نزلت بك ، واتق أن تعصي الله ، ثم انظر كيف يبدل الله حياتك كلها سعادة وأمناً وبحبوحة وتوفيقاً وسروراً .

ليست العبرة أن نتلو عليكم هذه الحوادث ، العبرة أن نستنبط منها الحقائق ، وأن نستنبط منها القوانين ، وأن نستنبط منها السنن ، وأن تكون هذه الحوادث شافة عن حقائق نهتدي بها في حياتنا ، في عملك دعيت إلى معصية قل : معاذ الله ، دعيت إلى كسب حرام قل : معاذ الله ، دخلك قليل قل : أصبر عليه ، ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ والله الذي لا إله إلا هو زوال الكون أهون على الله من أن يضيع أجر المحسنين ، أحياناً يكون الإنسان باراً بأمه وإخوته لا يفعلون فعله ، يأتيه الشيطان فيقول له : هي أمك وحدك ، هم مرتاحون من خدمتها ، طليقون ، يذهبون إلى النزهات ، يسهرون ، وأنت مرتبط بها ، اقرأ هذه الآية ، ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ هناك رجل خدم أمه تسع سنين متتالية إلى أن ضاق به الأمر ، وتبرم ، واشتكى ، وبدأ يصيح ، وبدأ يُسمّع ، حتى بلغ به الأمر أن جمع إخوته جميعاً ، وقال : هذه أمي وأمكم ، إما أن تأخذوها عني ، وإما أفعل كذا وكذا ، تحت الأمر الواقع ، وتحت ضغط التهديد أخذوها عنه ، في اليوم الثاني ماتت عند أخيه ، يوم واحد ، أذهب الله عمله كله .

هناك رجل أعرفه ، وهو حيّ يرزق ، كان يرعى أرملة ، رعاها عشرين عاماً ، ثم انتقل إلى حيّ بعيد ، فصار يأتي مشياً من هذا الحي البعيد إلى مكان إقامة الأرملة ، يكنس لها أرض الغرفة ، ويصنع لها الطعام ، ويقدم لها كل الحاجات ، ضج أهله إلى متى أنت تخدمها ؟ أليس في الناس أحد غيرك يخدمها ؟ ضغطوا عليه ، فلما رأوا إصراره ، وأنه لا يمكن إلا أن يذهب إليها كل يوم ، وقد تقدمت به السن ، صار في السبعين ، عندئذ نزلوا عند الأمر الواقع وقالوا : ائت بها إلى هنا ، إلى البيت ، اخدمها هنا ، قال : اذهبوا أنتم إليها وادعوها ، فذهبوا إليها ودعوها وجاءت ، أقامت عنده يومين ثم ماتت ، هكذا العمل الصالح .

هذه الآية تركت في نفسي أثراً بليغاً ، ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ ، إذا كنت صادقاً ، إذا بذلت من مالك ، بذلت من وقتك ، بذلت من صحتك ، بذلت من خبرتك ، بذلت من جاهك : ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ .

قالوا : يا عبد الرحمن بن عوف نخشى أن يؤخرك كثرة مالك عن اللحاق بأصحاب رسول الله ، فقال عبد الرحمن : والله لأدخلن الجنة خبباً ، أي هرولة ، وماذا أفعل إذا كنت أنفق مئة في الصباح فيؤتيني الله ألفاً في المساء ، ماذا أفعل ؟ والله ما حرمت مالي مسكيناً ولا محتاجاً ، تدفع من مالك وتصبح فقيراً ؟! الشيطان يعدكم الفقر ، تأتي إلى مجلس العلم من أجل أن تتعرف إلى الله وتأتيك المتاعب من هذا المجلس ؟! لا والله ، ليست هذه أخلاق الله عز وجل ، الوفاء كله من الله ، تأتيه إلى بيته ليتعبك بعدها ؟ لا والله : ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ تستقيم في تجارتك وتفلس ؟! لا والله ، تختار امرأة صالحة دينة وتؤثرها على امرأة جميلة جداً وتشقيك هذه المرأة ؟! لا والله ، بل تسعد بها ، إن الله مع المحسنين ، هم أساؤوا إليه ، هو كان محسناً ، ألقي في البئر ، ثم صار عزيز مصر ، هم كانوا في أوج قوتهم فصاروا يقفون أمامه أذلاء ، ﴿ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ ﴾ ، انظروا إلى المواقف ، كان صغيراً ، ألقوه في الجب ، بقسوة بالغة دفعوه دفعاً ، وحينما مرت الأيام والليالي وقفوا أمامه أذلاء ، هذا كله من قوله تعالى : ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ درست في هذا المجلس ساعة والطريق ساعة ، ساعتان طريق وساعة حضور هذا المجلس ، والله الذي لا إله إلا هو ليوفرن الله عليك في الأسبوع عشرين ساعة كان من الممكن أن تذهب سدى ، أن تضيع مع الغيظ ، مع الضيق ، تأتي إلى مجلس العلم يوفر الله لك وقتاً :

(( من توضأ في بيته فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد فهو زائر الله تعالى، وحق على المزور أن يكرم زائره))

[  رواه الطبراني، وصحح الهيثمي والسيوطي ]

 

الله سبحانه وتعالى يؤثر المؤمن ويقدمه على كل عاص :


عندئذ شعروا أين هم وأين هو ، هم فقراء خائفون أذلاء ، يشتهون أن يأخذوا قمحاً  ، وهو في منصب عليٍّ ، ملك مصر ، على العرش ، ﴿ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا ﴾ أحياناً يكون هناك أخ مؤمن فقير ، وإخوة أشداء أقوياء أغنياء في أوج نجاحهم يسخرون منه ، ما هي إلا سنوات وتدور الأيام ، فإذا بهذا الأخ الصغير الفقير يصبح ملء السمع والبصر ، وإذا بهم وقد ضاقت بهم الدنيا ، وقد تخلفت بهم الحياة ، ﴿ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا ﴾ وهذا حق ، هذه القصة تتكرر كل يوم ، الله سبحانه وتعالى يؤثر المؤمن ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارض عنا ، ﴿ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ﴾ هذا هو الغباء أن تعصي الله عز وجل ، إذا عصيته في عملك ستدفع حوالي خمسين ألفاً مصادرة ، من أين أتتنا هذه ؟ حساب قديم ، جاءه زبون قال له : عشرة آلاف ، ذهب فقال لصاحبه : كان يكفي ألفان لكن هكذا العمل ، في اليوم الثاني وضع عشرة آلاف لابنه ، دخلت نثرة فولاذ في عينه ، كان يكفيه ألفان فأخذ عشرة ، قال له : هكذا البيع والشراء ؟ العاصي هو الغبي ، لا يعصي الله إلا أحمق ، لا يعصيه إلا غبي ، لماذا ؟ لأنه سوف يدفع الثمن غالياً .

 

المؤمن صاف عفيف :


﴿ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ(91)قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ ﴾ محا من قلبه كل حقد ، وكل ضغينة ، وكل ألم ، وكل حزن ، هكذا المؤمن صافٍ عفيف ، كأن شيئاً لم يحدث ، ﴿ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ ﴾ سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام حينما دخل مكة فاتحاً ، من هم أهل مكة ؟ هم الذين كذبوه ، هم الذين قالوا : ساحر مجنون ، هم الذين ضيقوا عليه ، هم الذين قاطعوه ، هم الذين عذبوا أصحابه ، هم الذين ائتمروا على قتله ، هم الذين أخرجوا أصحابه إلى الحبشة ، هم الذين أخرجوه إلى المدينة ، هم الذين اتفقوا على قتله في النهاية ، هم الذين حاربوه في بدر ، حاربوه في أحد ، حاربوه في الخندق ، كادوا له ، شهروا به ، هجوه بألسنتهم ، دخل عليهم فاتحاً ، وكان بإمكانه أن يقتلهم واحداً واحداً ، أن يبيدهم عن بكرة أبيهم ، قال :

ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم ، وقد قدرت ، قال: أقول لكم ما قال أخي يوسف:

﴿ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ﴾

وثابتاً في السنة بأن النبي عليه الصلاة والسلام قد عفا عنهم وأطلقهم

قال سيدنا عمر: << كدت أذوب خجلاً من مقالة النبي لا تثريب عليكم اليوم >> ، وهذا شأن النبي ، ليس في قلبه حقد على أحد ، ولا ضغينة ، ولا ضيق ، إنما هو سلام في سلام .

 

قلب الأب آية من آيات الله الدالة على عظمته :


﴿ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(92)اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا ﴾ طبعاً سألهم عن أبيهم ما فعل أبي ؟ قالوا : فقد بصره حزناً عليك ، وقال العلماء : إن الله أوحى إليه أنك إذا أرسلت قميصك إليه سأرد أنا بصره ، وليس القميص من سيرد بصره ، إذا ألقيت على وجه أعمى قميصاً أيرد بصره ؟ أوحى الله إليه أن أرسل قميصك إليه وأنا سأرد إليه بصره إكراماً لك ، ﴿ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ سيدنا يعقوب وأبناؤه اكتشفوا فجأة أن أخاهم ملك مصر ، فرحة ما بعدها فرحة ، ﴿فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ(93)وَلَمَّا فَصَلَتْ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ﴾ علماء النفس المعاصرين قالوا : هذه الحادثة اسمها : التخاطر النفسي ، سيدنا عمر يقف على المنبر ويخطب ، فإذا به يقطع خطبته ويقول : << يا سارية ، الجبلَ الجبل >> ، سارية قائده في العراق ، يقول لأصحابه : استمعوا ، أسمع صوت أمير المؤمنين يحذرني الجبل ، هذا لا لاسلكي وليس لاسلكي ، أسمع صوت أمير المؤمنين يحذرني الجبل ، بعضهم ينكر هذه الحادثة ، العلم اليوم أثبتها ، كنا في الجامعة فقال لنا أستاذ علم النفس : إن هناك حادثة اسمها : التخاطر النفسي ، امرأة في إيطاليا رأت ابنها وقد دهسته سيارة ، وابنها في باريس ، بعد سبعة أيام جاء نعش ابنها مع تقرير يفيد بأنه في اللحظة التي رأت فيها ابنها كان قد دهس ، شيء وقع ، تفسيره أن هذه النفس طليقة ، إذا أحبت شيئاً تعلقت به ، الأم أحياناً يسافر ابنها نفسها عنده ، ماذا أكل ؟ كيف نام ؟ بمن التقى ؟ هل يدرس أو لا يدرس ؟ فلذلك قلب الأم آية من آيات الله عز وجل ، وقلب الأب كذلك .

 

من العقوق أن يسخر الإنسان من أبيه أو أمه إذا تقدمت بهما السن : 


﴿ وَلَمَّا فَصَلَتْ الْعِيرُ ﴾ لما غادرت العيرُ أرضَ مصر قال أبوهم : ﴿ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ ﴾ التفنيد أن تعيبوا عليّ هذه الفكرة ، أي تسفهونها . عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( بادِروا بالأعمالِ سبعًا ، هل تنتِظرونَ إلَّا مرضًا مُفسدًا ، و هَرمًا مُفندًا ، أو غنًى مطغيًا ، أو فَقرًا مُنسيًا ، أو موتًا مُجهِزًا ، أو الدَّجالَ ، فشرُّ مُنتظَرٍ ، أو السَّاعةُ ، و السَّاعةُ أدهَى و أمَرُّ . ))

[  السلسلة الضعيفة : خلاصة حكم المحدث : ضعيف  ]

الإنسان إذا تقدمت به السن يسخر الناس من آرائه ، تفندون أي لولا أنكم تسفهون هذا الرأي فإني : ﴿ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) ﴾ ، لازلت تهذي بهذه الأفكار ، أين يوسف ؟ يوسف مات وانتهى الأمر ، ألم نقل لك : أكله الذئب ، هذا ضلال في ضلال ، وهذا من عقوق الأب ، أن تقول لأبيك : إنك في ضلال .

 

حسن الظن بالله ثمنه الجنة :


﴿ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ﴾ بعضهم قال : الذي جاءه بقميص يوسف وعليه دم كذب رجاهم أن يمسك بقميصه الحقيقي لتكون هذه بتلك ، واحدة بواحدة  ﴿ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ﴾ يروي التاريخ أن سيدنا يعقوب قال له : ماذا أكافئك على هذه البشارة وليس عندي شيء ؟ سأدعو لك أن يخفف الله عنك سكرات الموت ، قالوا : هذا أثمن دعاء ؛ أن يخفف الله عن الإنسان سكرات الموت ، ﴿ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ سيدنا أبو الدرداء قيل له : احترق دكانك يا أبا الدرداء ، قال : ما كان الله ليفعل ، احترق دكانك ، قال : ما كان الله ليفعل ، احترق دكانك ، قال : ما كان الله ليفعل ، فلما تحققوا وجدوا أن دكان جاره هي التي احترقت ، فلما أخبروه قال : أعلم ذلك ، أي أنت مؤمن إذا كنت مستقيماً على أمر الله ، مطيعاً له ، محباً له ، باذلاً ما تملك من أجله ، ماذا تنتظر منه ؟ كل إكرام ، تنتظر السلامة ، الإكرام ، التوفيق ، الصحة ، الوفاق الزوجي :

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل ]

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) ﴾

[ سورة فصلت ]

﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) ﴾

[ سورة التوبة  ]

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) ﴾

[ سورة الحج ]

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) ﴾

[ سورة الطور ]

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) ﴾

[ سورة الروم ]

﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) ﴾

[ سورة الأنبياء ]

هذا هو الظن ، حسن الظن بالله ثمنه الجنة :

﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)  ﴾

[  سورة الفتح  ]

﴿ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ الذي أعرفه لا تعرفونه ، الذي أعرفه عن كرم الله ، وعن محبة الله ، وعن توفيق الله ، وعن حكمة الله ، وعن علم الله ، وعن خبرة الله ، لا تعرفونه أنتم .

 

من ضاق به أمر فليدع الله في ساعة السحر لأنها وقت إجابة :


﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ(97)قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ﴾ العلماء وجهوا هذه الآية أنه من عادته أن يقوم الليل قبل آذان الفجر فهذه ساعة مباركة ، ساعة استجابة ، فأرجأ الاستغفار إلى ساعة الإجابة ، لأنه : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : 

(( إذا كان ثُلُثُ الليلِ أو شَطْرُه يَنزِلُ اللهُ إلى سماءِ الدنيا فيقولُ هل من سائلٍ فأُعطيَه هل من داعي فأستجيبَ له هل من تائبٍ فأتوبَ عليه هل من مستغفِرٍ فأغفرَ له حتى يَطْلُعَ الفجرَ ))

[  تخريج كتاب السنة  :  خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح على شرط الشيخين : أخرجه ابن أبي عاصم في ((السنة))  ]

كلما ضاق بك أمر استيقظ قبل صلاة الفجر وصلِّ ركعتين لله عز وجل ، وفي السجود اطلب من الله حاجتك ، فإن كان في أدائها خيراً فالله سبحانه وتعالى لابد من أن يجيبك عليها . 


أدب يوسف عليه السلام :


﴿ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(98)فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ﴾ من آداب هذا النبي الكريم أنه خرج لاستقبالهم ، الأب يستقبل ، خرج لاستقبالهم ، ﴿ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ﴾ أي:

﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)﴾

[ سورة البقرة  ]

الله سبحانه وتعالى وهو خالقنا ينتظر منا أن نذكره كذكر آبائنا لشدة عظم حق الأب ، لا تمش أمامه ، ولا تجلس قبله ، ولا تستسبّ له ، ﴿ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ﴾ وأي أمن ينعم به إنسان أبوه ملك البلاد ؟ أيخاف من أحد ؟ ﴿ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ(99)وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ﴾ ، في مطار القاهرة مكتوب على بوابته الكبيرة : ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ، لكن شتان بين من يدخل الآن إليها وبين هذا النبي الكريم الذي دخلها حين كان ابنه عزيز مصر .

﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ﴾ العرش أي سريره ، مكان جلوسه ، تعظيماً لهم وتوقيراً لهم قال : اجلسوا على هذا العرش ، إذا جاءك ضيف عزيز جداً أجلسه مكانك ، في مكان تكرمتك ، أجلسهم على مكان جلوسه ، في مكان جلوسه ، والعرش إذا نسب إلى الملك هو سرير المُلك ، أو مكان جلوس الملك ، ﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ﴾ هنا لابد من الإيضاح ، بعض العلماء قالوا وهم محقون : وخروا له أي لله عز وجل سجداً جميعاً ، يوسف وأبواه وإخوته الأحد عشر كوكباً ، وبعضهم قال : هذا سجود التحية كان تقليداً في مصر ، انحناء الرأس ، حينما ينحني الرأس قليلاً هذا اسمه عند أهل مصر : سجود  ، لا سجود عبادة  بل هو سجود تحية ، اجلس ، ﴿ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ﴾ ، عندها قال يوسف عليه السلام : ﴿ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ﴾ أول السورة هذه اسمها عود على بدء : ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ الشمس أبوه والقمر أمه والأحد عشر كوكباً هم إخوته ، ﴿ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ ﴾ لمَ لم يقل : إذ أخرجني من البئر ، لأنه إذا قال : إذ أخرجني من البئر يذكرهم بجريمتهم ، وقال الصوفيون : ذكر الجفا وقت الصفا من الجفا ، أي أنه ذكره بجريمته ، إذا أساء أحدهم إليك وصار بينك وبينه مودة فيما بعد ، هل تذكر يوم عملت معي كذا وكذا ؟  خجلته وحرقته حرقاً .

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور