وضع داكن
16-04-2024
Logo
الدرس : 05 - سورة يوسف - تفسير الآيات 30 – 42 ، ابتلاءات يوسف عليه السلام
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

 

فضيحة امرأة العزيز بعد أن شاعت قصتها في المدينة :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ وصلنا في قصة سيدنا يوسف إلى قوله تعالى : 

﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)﴾

الحقيقة أول مرة نعرف أنّ سيدنا يوسف كان في بيت عزيز مصر ، وأنّ المرأة التي راودته عن نفسها هي امرأة العزيز ، وهذه طريقة في حبكة القصة رائعة جداً ، أخّر إعطاء القارئ هوية هذا الرجل الذي اشتراه ﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ - من ؟ لا نعرفه - لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ ﴾ ، ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا ﴾ بعد مرحلة متقدمة من القصة عرفنا أنّ هذه المرأة التي راودته عن نفسها هي امرأة العزيز ، وأنّ هذا الرجل الذي اشتراه هو عزيز مصر ، ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ ﴾ يبدو أنّ هؤلاء النسوة هنّ من الطبقة الراقية ، رقياً دنيوياً ، أي من طبقة الأغنياء والمقربين إلى القصر . ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ ﴾ يبدو أنّ قصة هذا النبي الكريم قد شاعت في المدينة ، وسريعاً ما تناقلتها الألسنة ، ورجفت بها القلوب ، وأرجفت بها القلوب ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ ﴾ كأنهم يقصدون أن امرأة العزيز المرأة الثانية في هذا المجتمع ، المرأة الأولى امرأة الملك ، وامرأة العزيز هي المرأة الثانية ، على علو قدرها ، وعلى عظم شأنها تراود فتاها عن نفسه ، ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ﴾   أي وصل حبها له إلى شغاف قلبها ، وصلت محبته إلى أعمق ما في قلبها ، إلى شغاف قلبها ، مَلَك عليها قلبها ، أسرها ، استحوذ عليها ، ذهب بها كل مذهب ، ﴿ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ كأنهن يترفعن عن هذا المستوى ، كأنهن يقبحن عملها ، ويزرين بها ، وينحن عليها باللائمة : ﴿ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ لكنّ امرأة العزيز امرأة ناضجة عرفت أبعاد هذه الفضيحة ، وكيف أنّ قصتها مع فتاها قد شاعت في المدينة ، وقد لهجت بها الألسنة وقد لاكتها الألسنة ، وتناقلها الناس ، ولاسيما فيما بين الطبقة الراقية ، المجتمع الراقي بالمقياس الدنيوي ، من خلال هذا المجتمع المقرب إلى العزيز ، قالت في نفسها : لابد من مكر يطفئ هذه القصة .

 

المؤمن نظيف من الداخل لأن استقامته وعفته وأعماله الطيبة ترفعه عند الله :


﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ ﴾ كأن نقل هذا الحديث مكر منهن ، كأن نقل هذا الحديث وإشاعته وتناقله شفاء لما في صدورهن ، كأن هناك منافسة بين امرأة العزيز وبقية النساء المقربات ، هناك منافسة خفية ، وهذا يؤكده قوله تعالى :

﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)﴾

[  سورة الحشر  ]

الكفار إذا بدوا لك مجتمعين هم في الحقيقة متفرقون ، إذا بدوا لك متحدون هم في الحقيقة متنافسون ، لأن الله سبحانه وتعالى يقول : ﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾ ، فامرأة العزيز أرادوا بها كيداً عن طريق نقل هذه القصة ، وترويجها ، وإشاعتها ، وكثرة الحديث فيها من أجل أن يحطمن سمعتها ، إذاً هناك عداءٌ خفي ، فلما سمعت بمكرهن دبرت لهن خطة وكيداً محكماً ، أرسلت إليهن ، الحقيقة هذا المجتمع الراقي يسمونه : المجتمع المخملي ، هذا المجتمع الراقي في نظر الناس هو عند الله ليس راقياً ، لأن هناك نظافة المظهر وهناك نظافة المخبر ، قد تعيش في بيت فخم ، وقد ترتدي أجمل الثياب ، وقد تستعمل أغلى العطور ، وقد تركب أجمل السيارات ، وقد تأكل ما لذّ وطاب ، وقد يكون وقتك ممتلئاً بالمواعيد واللقاءات والحفلات والسهرات الممتعة والنزهات ، ولست عند الله شيئاً مذكوراً ، وقد يأتي إنسان فقير لا يعرفه معظم الناس فيخلص العبادة لله عز وجل ، ويستقيم في معاملته فهو عند الله نظيف ، كنت فيما مضى قد ضربت مثلاً : إنسان يعمل في مهنة عضلية مجهدة لو أنه يعمل في تصليح السيارات مثلاً ، ويرتدي ثياباً سوداء مثقلة بالشحوم ، لو أنه جاءته سيارة فأحكم تصليحها ، وأتقنه ، وأخذ أجراً معتدلاً ، وقدّم خدمة ، هذا الوضع الذي هو فيه وضع نظيف جداً ، إنه نظيف من الداخل ، وقال لي رجل لا أشك أنّ غرفته التي يجلس فيها يزيد ثمن ما فيها من أثاث عن مئات الألوف قال لي : إنّ عملي قذر ، يرتدي أجمل الثياب ، ويتكئ على أفخر الأثاث ، ويستعمل أفخر العطور ، وقال لي بالحرف الواحد : إنّ عملي قذر ، فالقذارة والنظافة أيها الإخوة من الداخل ، المؤمن نظيف من الداخل ؛ استقامته وعفته ، ومروءته وشجاعته ، ونزاهته وأعماله الطيبة ، هذه التي ترفعه عند الله ، أما هذا المجتمع الذي يبدو لك مجتمعاً راقياً يتقلب في ألوان النعيم فليس عند الله بشيء :

﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ(196)مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)﴾

[  سورة آل عمران  ]

 

الخطة التي حاكتها امرأة العزيز للدفاع عن نفسها والإيقاع بنسوة المدينة :


﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ ﴾ وجهت إليهن دعوة إلى قصرها لتناول طعام أو فاكهة ، ليس في القرآن الكريم ما يؤكد هذا أو ذاك ، ﴿ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً ﴾ أي جعلت لهن أماكن مريحة جداً ، أثاث فاخر ، طنافس وثيرة ، متكآت من ريش النعام ، ﴿ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا ﴾ من أجل أن تستعملها في تقطيع الفاكهة أو تقطيع اللحم ، على كلٍّ قدّم لهن طعام أو فاكهة ثمينة ، ﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ﴾ أمرته وهو الغلام في قصرها ، وعليه أن ينفذ ما تأمره به ، أمرته أن يخرج أمام هؤلاء النسوة اللائي يمثلن نخبة المجتمع الراقي ، ﴿وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ ﴾ أي عظّمنه ، دُهشن لجماله ، مفسرون كثيرون ورواة كثيرون أجهدوا أنفسهم في وصف هذا النبي الكريم ، وفي خلع صفات الجمال عليه ، مع أنّ المرأة لا يستهويها في الرجل جمال بني جنسها ، بل يستهويها في الرجل صفات خاصة به ، سيدنا موسى :

﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)﴾

[  سورة القصص  ]

ما الذي أعجبها فيه ؟ قوته وأمانته ، هو ما الذي أعجبه فيها ؟ حياؤها ، ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ﴾ فالمرأة تحب في الرجل القوة والعفة ، والأمانة  والحماية والرعاية والشجاعة ، فإذا بالغ الرجل في التزين والتجمل ، والتعطر والتكسر ، وترفيع الصوت ، وتزيين صدره ببعض الحلي ومعصمه ببعض السلاسل وتقليد النساء في زيِّهن ، فالله سبحانه وتعالى يلعن هذا الرجل لقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :

(( لَعَنَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بالنِّسَاءِ ، والمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بالرِّجَالِ . ))

[  صحيح البخاري ]

﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ بينما أعجبه فيها حياؤها ، مما يكون في آخر الزمان أن يرفع الحياء من وجوه النساء ، وتذهب المروءة من رؤوس الرجال .

(( ثَلَاثَةٌ قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْجَنَّةَ مُدْمِنُ الْخَمْرِ وَالْعَاقُّ وَالدَّيُّوثُ الَّذِي يُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الْخَبَثَ ))

[ مسند الامام احمد ]

هذا الذي يسمح لزوجته أن تخرج إلى الشرفة بقميص النوم هذا عند الله ديوث ، لأنه لا يغار على عرضه ، هذا الذي يسمح لزوجته أن تتزين وهي معه في الطريق هذا لا يغار على عرضه ، هذا الذي يسمح لزوجته أن تقدم المشروب لضيوفه ديوث لا يغار على عرضه ، إن كان الذين يرضون الفاحشة في أهلهن قلائل ، فالذين لا يغارون على أعراضهن كثر .

إذاً حينما بالغ المفسرون والرواة في وصف هذا النبي الكريم بصفات جمالية منتزعة من صفات النساء وقعن في وهم كبير ، إنّ الذي أعجبها فيه عفته ، إنّ الذي أعجبها فيه قوته ، إن الذي أعجبها فيه طهارته ، وكان جميلاً ، ولكن أن نقصر ميزاته على جماله وحده فهذه مبالغة ليست واقعية ، على كلٍّ ﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ﴾ لئلا يذهب بكم الظن إلى أنهن قطّعن أيديهن تقطيعاً تاماً ، لا ، معنى قطّعن أيديهن في اللغة جرحن أيديهن ، الإنسان أحياناً يستعمل سكيناً حادة ، ويلهو مع إنسان في حديث ، فإذا به يجرح إصبعه ، معنى قطّعن أيديهن أي جرحن أصابعهن ، ﴿ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا ﴾ إنه فوق البشر لكماله ، والأنبياء كذلك  :

وأجمل منك لم ترَ قط عيني         وأكمل منك لم تلد النساء

خُلقـتَ مبرّأً من كل عــــــــــيب         كأنك قد خُلقت كما تشاء

***

الله سبحانه وتعالى يهب أنبياءه جمال الخَلق والخُلُق ، أي أصحابه الكرام سحروا به ، أُخذوا به ، أخذ كل قلوبهم ، ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً ، سُحروا بكماله ورقته ، وحلمه وشجاعته ، وذكائه وفطنته ، ورحمته وعدله وإنصافه ، وهكذا المؤمن ، لا أقبل أن يكون المؤمن بغيضاً عند الناس ، لا يمكن أن يكون هذا صحيحاً ، كيف يكون هذا صحيحاً وهو متصل بالله عز وجل ؟! لله الأسماء الحسنى ، وكل من اتصل بالله عز وجل لابد من أن يشتق من أسمائه الحسنى ، يجب أن يكون المؤمن محبوباً لتواضعه ، لإنصافه ، لعفته ، لاستقامته ، ﴿ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ(31)قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ﴾ هذا ، إنكم تحدثتم عني في غيبتي ، وأنحتم عليّ باللائمة من دون أن تعرفوا حقيقة هذا الفتى الذي شغف قلبي به حباً ، هذا الذي شغف قلبي به حباً أمعي حق بهذا ؟ ﴿ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ ﴾ منتهى الوقاحة أن تعلن عن شغفها ، وعن غريزتها ، وعن حاجتها إليه أمام نسوة علية القوم .

 

الامتحان الكبير الذي وقع فيه سيدنا يوسف :


﴿ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ﴾ وهذه أول براءة له عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، فاستعصم لا كما يقول بعض المفسرين : ولقد همّ بها ، أي بلغ منها مبلغ الرجال ، لا ، همّ بدفعها ، أو همّ بالهروب منها ، أو همّ بضربها ، على قول بعض المفسرين ، لأن عملها كان في منتهى الوقاحة ، ﴿ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ لا زالت مصرة على أن تراوده عن نفسه مرة ثانية ، لا زالت مصرة على أنها لابد من أن تصل إليه إما بالحسنى ، وإما عن طريق السَجن والتعذيب ، ﴿ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ(32)قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ لم يقل الله عز وجل : مما تدعوني إليه ، كان مع واحدة فصار مع المجموع ، في بعض التفسيرات أنّ كل من حضر هذا الحفل البهيج بدأ يقنعه على حدة أن يستجيب لنزوتها ، لنزوة امرأة العزيز ، فكان مع واحدة ، فصار مع المجموع . ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ هنا نقف قليلاً ، إذا أُمرت بمعصية أين أنت من هذا النبي الكريم ؟ هل تقول : لا أستطيع يا أخي ؟ ما تمكنت ، أمرتُ بهذا ، أم تقول : ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ هذا امتحان دقيق ، قد يوضع إنسان في موضع صعب ، قد يُؤمر بمعصية الله ، قد يؤمر بعمل لا يرضي الله ، يجب أن يكون موقفك واضحاً ، يجب ألا تأخذك في الله لومة لائم ، يجب أن ترى أنّ الله هو كل شيء قدير ، ولا إله إلا الله :

﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)﴾

[ سورة فاطر ]

﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)﴾

[ سورة الزخرف  ]

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)﴾

[   سورة الحديد  ]

﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)﴾

[ سورة الأعراف ]

﴿ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)﴾

[ سورة القصص ]

﴿ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)﴾

[ سورة يوسف ]

﴿ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)﴾

[  سورة غافر ]

﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)﴾

[ سورة الأحزاب ]

﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾ هذا هو التوحيد ، أي يا ربي أنا أصمد أمام كيدهن ، وأمام إغرائهن بمعونتك ، فإذا تخليت عني لا أستطيع أن أصمد أبداً ، إنّ مقاومتي تنهار إذا تخليت عني ، أي :

﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)  ﴾

[ سورة الفاتحة  ]

أي لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا حول عن معصية الله إلا بالله ، ولا قوة على طاعته إلا به ، هذا هو التوحيد ، هذا الذي يقول : أنا لا أفعلها أبداً ، هذا مشرك ، يا ربي أعن على طاعتك ، يا ربي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ، يا ربي أنا بك وإليك ، من أنا حتى أقول : أنا لا أفعلها ، هذا هو الشرك ، أشركت نفسك مع الله عز وجل ، لو عرفت ما عند الأنبياء من تواضع لله عز وجل ، ومن افتقار إليه ، ومن استسلام لأمره لتأدبت بهذا الأدب الرفيع ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾ ، قال ابن عطاء الاسكندري : رُبّ معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً ، قد يطيع الإنسان ربه فيتيه بهذه الطاعة على الناس ، هذا التيه يورثه العجب ، وهذا العجب يحجبه عن الله سبحانه وتعالى ، لذلك الموحد هو المفتقر ، ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾ ربنا عز وجل قال في هذه القصة بالذات :

﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)﴾

[ سورة يوسف ]

وقال في موطن آخر :

﴿ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)﴾

[ سورة النساء ]

الشيطان ومن معه كيده ضعيف ، لكن المرأة كيدها عظيم ، لأن لك عند المرأة حاجة ، وقد تكون هذه المرأة زوجتك ، لك عندها حاجة تستغل هذه الحاجة لتحملك على معصية ، لتنفذ مأربها ، لتفعل ما تشاء ، لتكون هي المسيطرة ، لتسيّر البيت وفق أهوائها ، لتفعل ما تفعل من أجل أن تظهر ، فإذا هذا على حساب دينك ، لذلك إياك أن تنهار مقاومتك أمام كيدهن : ﴿ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾


من كان صادقاً في طلب طاعة الله والبعد عن معصيته أعانه الله على طاعته :


﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ﴾ لماذا استجاب له ربه فصرف عنه كيدهن ؟ لشيء واحد ، هو لأنه كان صادقاً في هذا الطلب ، أنت أيها الأخ الكريم لا تملك إلا الطلب ، إن عرف الله عز وجل صدق طلبك ، وإصرارك على طاعته ، وإصرارك أيضاً على بعدك عن معصيته يستجب لك:

قال أبو سليمان الداراني رحمه الله : "مَن صدق في ترك شهوة ؛ ذهب اللهُ  بها من قلبه ؛ والله أكرم مِن أن يُعذِّب قلباً بشهوةٍ تُركَتْ له" .

[  الزهد الكبير للبيهقي ]

إذا أنس الله منك صدقاً في طلب طاعته ، وصدقاً في البعد عن معصيته ، أعانك على طاعته ، وصرف عنك معصيته ، فإن كنت ضعيفاً ، إن كنت متردداً ، إن كنت ميّالاً إلى المعصية تخلّ عنك ، فتغلب عليك الشيطان ، ففعلت المعصية ، ليكن هذا النبي الكريم قدوة لك في مواجهتك للمغريات ، ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ(33)فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ﴾ إنّ صرف الله عز وجل كيدهن عنه كان بطريقين ؛ الأول : أنّ الله عز وجل ألقى في قلوبهن اليأس من الوصول إليه .

والطريق الثاني : أنّ الله سبحانه وتعالى ألقى في قلبه بغضهن ، هو كرههن وهنّ يئسن منه ، هذا فعل الله عز وجل .

 

الله تعالى سميع لقولنا عليم بحالنا :


 ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ سميع لقولك ، ولو لم تقل عالم بحالك ، لو أنك لم تقل ، لكنه في نفسك ، في أعماق نفسك لا تريد أن تعصي الله ، عليم ، إما إن تقول ، وإن لم تقل يعلم ما في نفسك .

أحياناً الإنسان ينسى تعقيبات الآيات ، يقول لك : إنه هو الغفور الرحيم ، غير صحيحة ، إنه هو السميع العليم ، لأنك أيها الإنسان إما أن تدعوه فيسمعك ، وإما أن تسكت فيعلم حالك ، إنه هو السميع العليم ، أي إذا واجه أحدنا مشكلة أو ضغطاً أو إكراهاً أو إغراءً يستطيع أن يدعو الله سراً وشفتاه مضمومتان ، في قلبه يا ربي ليس لي إلا أنت ، ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ ، اصرف عني هذا الشر ، ﴿ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ .

 

خطة عزيز مصر لتطويق الحادثة وتقليص الإشاعة :


﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ ﴾ لم يقل الله عز وجل : بدا لهن ، بدا لهم ، دخل العزيز في هذا الموضوع ، العزيز زوجها والمستشارون والخبراء والمقربون إليه تداولوا في هذه الفضيحة ، وهذه السمعة السيئة التي جلبت لهن المذمة والعار ، ماذا يفعلون ؟ إنّ هذه الزوجة تحت سمع زوجها وبصره ، ويا له من زوج غيور ! تحت سمعه وبصره مصرة على أن تصل إليه ، ولقد دعت النسوة في المدينة أيضاً تحت سمعه وبصره ، ولابد من أنّ قولها قد وصل إليه : ﴿ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ ﴾ فأي زوج هذا ؟ وأية رجولة هذه ؟ وأية غيرة ينطوي عليها ؟ هذا عزيز مصر ، لكنه استشار المقربين والأباعد ، والكبراء والصغار ومن في الحاشية ، بدا لهم جميعاً أنه من أجل إطفاء هذه الفتنة ، وتطويق هذه الحادثة ، وتقليص هذه الإشاعة ، لابد من أن يسجن هذا الفتى البريء ، لم يستطع أن يصل إلى زوجته ، لم يستطع أن يسيطر على زوجته ، فكان الحل ظالماً ، أمر بسجن هذا الفتى البريء الذي ما خانه قط ، والذي يقطر براءة وطهراً وعفافاً.

﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الْآيَاتِ ﴾ أية آيات ؟ آية أنّ قميصه قدّ من دبر ؟  آية ﴿ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ﴾ كل هذه الآيات الدالة على طهارته وعفته واستعصامه بالله عز وجل على الرغم من كل ذلك بدا لهم أن يسجنوه ، ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾ إلى أجل غير مسمى ، إلى أن تنطفئ الفتنة ، إلى أن ينقطع الحديث في هذا الموضوع ، إلى أن تنسى امرأة العزيز هذا الغلام ، ودخل السجن ، سوف نستنبط بعد قليل أنه كان في السجن نبياً ، كما أنه نبي خارج السجن هو نبي داخل السجن بمعرفته ، بإحسانه ، بمعاونته للآخرين ، برحمته ، الإنسان هو هوَ ، هذا الذي تتبدل أخلاقه من ظرف إلى ظرف أخلاقه مزيفة ، هذا الذي يبدو في الرخاء وديعاً ، وفي الشدة وحشاً هذا ليس أخلاقياً ، هذا الذي يبدو في الغنى سموحاً وفي الفقر بخيلاً ليس كريماً ، لكن البطولة أن تكون أنتَ أنت في الرخاء والشدة ، في النعيم والشقاء ، في الصحة والمرض ، في القوة والضعف ، في إقبال الدنيا وإدبارها ، خارج السجن وداخل السجن هو هوَ ، نبي .

 

جوهر الدين في الإحسان :


﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ﴾ هناك قصة يرويها القرطبي في تفسيره أن الملك كان عنده طباخ كرئيس الطهاة ، ورجل يقدم له الشراب ، يبدو أن هذا الملك عمّر طويلاً ودام حكمه طويلاً ، فائتمر عليه بعضهم في قتله عن طريق دس السم في طعامه وشرابه ، فالطباخ وضع السم في الطعام ، أما صاحب الشراب فأبى ، فلما قدم الطعام للملك جاء صاحب الشراب وقال : احذر يا مولاي أن تأكل الطعام فإنه مسموم ، فقال الطباخ : يا مولاي والشراب أيضاً مسموم ، قال الملك : اشرب فشرب صاحب الشراب ، فتأكد الملك أن صاحب الشراب صادق ، فأمر الطباخ أن يأكل من الطعام فأبى ، فلما أبى أُطعم الطعام لحيوان فمات من توه ، أمر الملك أن يساق الفتيان إلى السجن ريثما يتم التحقيق . 

﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ﴾ الخمر هنا يعني العنب ، هذه كأن تقول مثلاً : رعينا الغيث ، أي رعينا كلأً أنبته الغيث ، عصرنا عنباً صار خمراً ، ﴿ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ﴾ أي أرى في المنام ، ﴿ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ﴾ ما تأويل هذه الرؤيا ؟ ﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ ﴾ محسن ، حتى في السجن محسن ، وهو في آلامه محسن ، وهو في تقييد حريته محسن ، وهو مع السجناء محسن ، ﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ ﴾ ، هذا الذي يسيء ويصلي لا يصلّي ، جوهر الدين في الإحسان ، هذا الذي يكرهه الناس ليس مسلماً ، هذا الذي يبغضه الناس ليس مؤمناً ، هذا الذي يتأذى منه الناس لا يعرف الله عز وجل ، هذا يصلي صلاة شكلية لا شأن لها عند الله ، هذا يصوم صوماً شكلياً لا قيمة له عند الله ، من لم يكن له ورع يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله ، من شاء صام ، ومن شاء صلى ، ولكنها الاستقامة .

و قد جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدًا.  

عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ . ))

[ البخاري ]

 

حكمة سيدنا يوسف في الدعوة إلى الله :


﴿ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ ﴾ استمعوا أيها الإخوة الأكارم إلى هذا القول الفصل في الدعوة إلى الله ، نبي كريم يُسأل عن تفسير الرؤيا وهو في السجن ، هو في أشد حالاته ضعفاً لا ينسى الله عز وجل ، يدعو إليه ، هذا يذكرني بدعاء سيدنا يونس عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام وهو في بطن الحوت في ظلمات ثلاثة ، في ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت:

﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ(87) ﴾

[ سورة الأنبياء ]

افحص نفسك في ساعات الشدة أتذكر الله عز وجل ؟ فاستجاب له ربه :

﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88) ﴾

[ سورة الأنبياء ]

وهذا النبي الكريم وهو في السجن ، هنا استنباطات كثيرة جداً ، أولاً : هذان الفتيان جاءاه بسؤال ، فالسؤال يشغل بالهما ، فكي يطمئنا وكي يستمعا إليه ، كي يصغيا إليه ، قال : ﴿ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ﴾ تفسير هذين المنامين سيحصل بعد قليل ، سأفسر لكما هذين المنامين قبل أن تأكلا الوجبة الثانية ، اطمئنا .

أي إذا جاءك إنسان بحاجة ، وأنت أردت أن تعظه لا يستمع إليك ، اقض له الحاجة أولاً ، ثم عظه ثانياً ، أو عِده بإنجاز هذه الحاجة حتى يطمئن ، عندئذ قدّم له الدعوة الخالصة ، هذه النفس مشغولة ، قلبه مشغول ، مغلق ، فالذي يعظ الناس في الأوقات الحرجة وهم مشغولون هذا لا يملك حكمة أبداً ، لابد من أن يكون القلب فارغاً لك ، لابد من أن تكون ساحة النفس فارغة لموعظتك ، لابد من أن يكون هناك فراغ كي يتلقى الإنسان هذا الحق ، فإذا كانت ساحة النفس مشغولة ، أو كان القلب منشغلاً لابد من قضاء حاجته قبل دعوته إلى الله ، سيدنا يوسف كان حكيماً جداً ، طمأنهما ، ﴿ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ﴾ نبأتكما أنا بتأويله ، لكنه موَحّد ، ﴿ ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ﴾ إذا كان الإنسان في بحبوحة ، أو على شيء من العلم ، أو على شيء من الوسامة والجمال ، أو على شيء من الجاه ، إذا قال : أنا ، فقد أشرك ، إذا قال : لقد تفضل الله عليّ ، لقد أكرمني ربي ، لقد يسّر الله لي هذا البيت ، لقد أكرمني ونجحت في هذه الشهادة ، لقد حباني الله بهذه الوظيفة ، لقد متعني الله بهذه الصحة ، لقد رزقني الله هذه الزوجة ، هكذا المؤمن يقول ، ليس من باب الأدب ، ولكن من باب الحقيقة ، هذه هي الحقيقة ، قال : ﴿ ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي – أنا مفتقر له - إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾ أي عاش سنوات طويلة في قصر عزيز مصر ، هؤلاء وصفهم هذا النبي الكريم بصفتين دقيقتين ، قال ﴿ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ يؤمنون بالله ، يؤمنون بالملذات ، يؤمنون بالدنيا ، يؤمنون بما فيها ، أما بالله فهم عنه غافلون ، هم عنه معرضون ، جعلوا كتاب الله وراء ظهورهم ، جعلوا قيم الله عز وجل وراء ظهورهم ، جعلوا أوامره خارج اهتمامهم ، جعلوا نواهيه ضمن رغباتهم .

 

الدين توحيد كله :


﴿ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ(37)وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ – اتبعت هؤلاء - مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ جوهر هذه الدعوة هو التوحيد ، الدين كله توحيد ، الدين كله ملخّص في قوله تعالى :

﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)﴾

[ سورة محمد  ]

هذا هو الدين ، ما كان لنا ، أي يستحيل علينا ، مستحيل أن نشرك ، ( ما كان ) من أشد أنواع النفي ، لا نشرك ، ولا نريد أن نشرك ، ولا يمكن أن نشرك ، ولا يعقل أن نشرك ، كل هذه الأدلة الدالة على عظمة الله وبعدها نشرك ؟ ﴿ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ ﴾ هذه النعمة التي أنتم فيها نعمة سماع الحق ، نعمة الهدى هذه هي الفضل الحقيقي ، أي مهما تناولنا من الطعام ما لذّ وطاب ، ومهما كانت بيوتنا فاخرة ، ومهما كانت أموالنا طائلة ، ومهما كنا سعداء في بيوتنا ، ومهما كان دخلنا كبيراً لابد من مفارقة الدنيا ، وكل مخلوق يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت ، لابد من أن نوسد الثرى ، تقول الأرض : يا من تمشي على ظهري لابد من أن أضمك إلى صدري ، لابد من أن أضمك إلى بطني ، يا من تمشي على ظهري ، اذهبوا إلى المقابر ؛ تجار ، علماء ، موظفون ، أشخاص مهمون ، كانوا أحياء مثلنا ، لهم بيوت ، لهم زوجات ، لهم مكانة اجتماعية ، كانوا يأكلون ، يتنزهون ، يسهرون ، يمرحون ، هم تحت أطباق الثرى ، ونحن سوف نكون مثلهم إن عاجلاً أو آجلاً ، ﴿ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا ﴾ هذا هو الفضل الحقيقي ، قال تعالى : ﴿ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ .

 

طريقة بليغة في الدعوة إلى الله :


طريقة في الدعوة إلى الله بليغة ، طرح عليهم سؤالاً ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ ﴾ تحبباً لهما ، وإيناساً لقلبهما ، ناداهما بالصاحبين ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ أي أن تخاف من زيد ، ومن عبيد ، ومن سعيد ، ومن عمر ، ومن خالد ، أم أن تخاف من الله وحده ؟ أن ترضي زيداً أو عبيداً أو فلاناً أو علاناً أو أن ترضي الله وحده ؟ من جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله الهموم كلها ، كن لي كما أريد أكن لك كما تريد :

﴿ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)﴾

[  سورة التوبة  ]

اعمل لوجه واحد يكفك الوجوه كلها ، من أصلح فيما بينه وبين الله أصلح الله فيما بينه وبين الناس ، من حسنت سريرته جعل الله علانيته حسنة ، ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ معنى القهّار أمره هو النافذ ، أمره هو الذي يطبق ، ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ﴾ في اليابان يعبدون الميكادو ، يرونه إلهاً ، في لبنان وضعوا على قمم الجبال تماثيل للعذراء ، وقالوا : هذه سيدة لبنان ، إنها تحميه ، هل حمته من الحرب الأهلية ؟! ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ﴾ ليس لها قوة عقلية مقنعة ، وليس لها قوة مادية آسرة ، ليست منطقية ولا واقعية ، إن هي إلا أسماء سميتموها ، إذا قام أحدكم ، وكتب اسمه ، وكتب تحت اسمه مثلاً : وزير دفاع ، هل يعني ذلك أنه أصبح وزير دفاع ؟ هي كلمة كتبتها ، هل لها حقيقة ؟ هل هناك من أحد يأتمر بأمرك ؟ هل هناك من أحد يستجيب لك ؟ هل تأخذ على هذه البطاقة درهماً واحداً ؟ إن هي إلا أسماء سميتموها ، إذا كتبت أحدهم كلمة بحر على قطعة من ورق ، هل هذا هو البحر ؟ هذه كلمة بحر ، هذه كلمة ، إن كأساً من الماء يبل ثوبك ، أما إذا كتبت مليون بحر ، اكتب المحيط الأطلسي مع المحيط الهادي مع البحر المتوسط مع القطب الشمالي ، وضع هذه الورقة في جيبك تبقى جيبك جافة ، هذه كلمة هذه ، حبر على ورق ، أي هذا الذي يعبد إنساناً من دون الله : ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ﴾ ما أعطاها قوة ، لم يعطها قوة عقلية مقنعة ، أي هذه القبيلة التي جعلت رباً لها من تمر فلما جاعت أكلته ، فقالوا : أكلت ودّ ربها ، وهذا الذي جاء ليعبد صنماً فرأى على رأسه بللاً ، وعرف أن ثعلباً قد بال على رأسه ، فقال :

أرب يبول الثعلبان بــرأسه            لقد ضل من بالت عليه الثعالب

 ***

هناك أشياء غير مقنعة ، البقرة في الهند إذا سارت في عرض الطريق قطعت السير ساعات طويلة ، إذا دخلت إلى بقالية تأكل هذه البقرة ما لذّ وطاب من الفاكهة ، وصاحب البقالية ممتن أشد الامتنان لأنها مقدسة ، يأخذون روث البقر ، ويضعونه في غرف الاستقبال في الأعياد تبركاً بها ، يكحلون أعينهم ببولها ، خرافات ، ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ﴾ هذه الآلهة كلها باطلة ، لا تقدم ولا تؤخر ، ولا تنفع ولا تضر ، كله باطل في باطل . 

 

الحكم كله لله عز وجل :


﴿ إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ﴾ حتى السحر . عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( عن عبد الله بن مسعود قال : مَنْ أَتَى عَرَّافًا أو ساحراً أو كَاهِنًا فسأله فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ))

[ صحيح الترغيب :صحيح موقوف ]

﴿ إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ﴾ ، من أتى ساحراً فلم يصدقه لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً ، و لا دعاء أربعين ليلة ، ﴿ إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ﴾ ، هذا المتشائم من رقم معين ، من لون معين ، هذا باطل ، ﴿ إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ هذا هو الدين القيّم ، الدين الخضوع ، فلا تخضع إلا للحق ، ولا تخضع إلا للذي خلقك ، لا تخضع إلا لمسير الكون ، وهو الله رب العالمين ، لا تخضع إلا لمن بيده الأمر ، لا تخضع إلا لمن بيده الخلق والأمر ، لا تخضع إلا لمن بيده الحكم ، لا تخضع إلا لمن بيده الحياة والموت ، لا تخضع إلا لمن بيده الرزق ، ﴿ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ ، هذا هو الدين ، عندما لا تأخذ الإنسان في الله لومة لائم ، لا يطيع مخلوقاً في معصية الخالق ، مع الله دائماً ، مع أمره حيث أمره ، وإذا نهاه عن شيء ابتعد عنه ، ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ تقول لي: عادات ، تقاليد ، تيار عام ، هناك ضرورات ، المجتمع هكذا يريد ، زوجتي صعبة ، بناتي لم يرضوا معي ، هذا كله كلام مردود : ﴿ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ﴾ ، أنت بذلك توازي مخلوقاً بالخالق تماماً كمن يدخل في سلك الجيش ، ويتلقى أمراً من قائد الجيش ، وأمراً من عريف ، وأمر العريف متناقض مع أمر قائد الجيش ، فيستجيب لأمر العريف ويعصي قائد الجيش ، ولا يعرف مغبة هذا العمل ، هذا مثل قريب ؛ خالق الكون قال لك : افعل ولا تفعل ، يأتي إنسان جاهل ، مغرضٍ ، فانٍ ، يقول للذي أمرك الله أن تفعله لا تفعله ، وللذي نهاك أن تفعله افعله ، أين أنت ؟ أين عقلك ؟ أين تفكيرك ؟ 

 

تفسير رؤيا صاحبي السجن :


جاء الآن الوقت المناسب لتفسير الرؤيا ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ﴾ أي أما أحدكما فينجو ، ويخرج من هذا السجن ، ويعود إلى عمله في القصر ساقياً للملك ، ﴿ وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ - لابد من أن يُقتل  - فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ أي من معجزات هذا النبي الكريم أنّ الله سبحانه وتعالى أطلعه على بعض الغيب :

﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)﴾

[  سورة الجن  ]

هذا النبي هكذا قال ، قضي الأمر ، أي هذا الأمر كأنه وقع وانتهى .

 

ضرورة السعي والأخذ بالأسباب :


سيدنا يوسف الآن حينما عرف أنّ أحد الصاحبين سينجو وسيعود إلى عمله في القصر ، ﴿ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ﴾ أي بين للملك قصتي وبراءتي ومظلمتي ، هنا حول هذا الموضوع وقف المفسرون وقفات طويلة  ، بعضهم قال : إنّ الله سبحانه وتعالى عاقب هذا النبي الكريم لأنه طلب من هذا الرجل أن يذكره عند الملك ، ونسي أن يطلب هذا من الله عز وجل ، هذا بعض الآراء ، لذلك في بعض التفاسير كلمات يمكن أن نقرأها عليكم : جاءه جبريل فقال : يا أخا المنذَرين ، مالي أراك بين الخاطئين ؟ يا طاهرُ ابن الطاهرين يقرئك ربك السلام ويقول لك : أما استحييت إذ استغثت بالآدميين ؟ وعزتي لألبثنك في السجن بضع  سنين ، قال : يا جبريل أهو عني راض ؟ قال : نعم ، قال : إذاً لا أبالي  ، قول .

بعضهم قال : جاءه جبريل فقال له : يا نبي الله من خلصك من القتل على أيدي إخوتك ؟ قال : الله ، قال : فمن أخرجك من الجب ؟ قال : الله تعالى ، قال : فمن عصمك من الفاحشة ؟ قال : الله تعالى  ، قال : فمن صرف عنك كيد النساء ؟ قال : الله تعالى ، قال: كيف وثقت بمخلوق وتركت ربك فلم تسأله ؟ وجاء في بعض الأحاديث الشريفة أن : 

(( رحم اللهُ يوسفَ لولا الكلمةُ التي قالها اذكرني عند ربكَ ما لبثَ في السجنِ ما لبث ، ورحم اللهُ لوطًا أن كان ليأوي إلى ركنٍ شديدٍ إذ قال لقومِه لو أنَّ لي بكم قوةً أو آوي إلى ركنٍ شديدٍ قال فما بعث اللهُ نبيًّا بعدَه إلا في ثروةٍ من قومِه. ))

لكن الحقيقة أن هذا الحديث ضعيف جداً ، هكذا قال الحافظ بن كثير ، والعلماء يقولون : الإنسان مطالب أن يسعى ، إذا كان في ضائقة وفي مظلمة ، وعرف أن هناك شخصاً له يد طولى ، فإذا عرض عليه مظلمته فلا ضير عليه ، إذاً نحن نرجح أنّ هذا النبي الكريم ما وقع في خطأ أبداً ، هذا من باب السعي ، هذا من باب الأخذ بالأسباب .

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور