1986-03-07
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا ، وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً ، وارْزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطِلاً ، وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه ، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
مقدمة :
أيها الإخوة المؤمنون ، درسنا اليوم قصّة عاد وأخيهم هود ، وقبل أن أمضي في توضيح فقرات القصّة أودّ أن أذكر لكم :
الإنسان بين حرية الاختيار وتوجيه الله له :
إنّ الله سبحانه وتعالى مع أنَّه أعطى الإنسان قضيّة الاختيار ، ومع أنه خلق الكون ليعرِّفه بذاته من خلال خلقه ، و مع أنه أنزل الكتب السماوية ، وأرسل الرسل والأنبياء ، إلا أن اللهُ سبحانه وتعالى لو رأى أن إنسانا اختار اختيارا غير صحيح لأدَّبه وعالجه لأنه ربُّه .
وتوضيح هذه الفكرة بالمثال التالي : أحيانا هناك جامعة تطبع الكتب ، ويلقي المدرِّسون المحاضرات ، ولا تحاسب الطلاّب إلا في الامتحان الأخير ، هناك طلابٌ يهملون ، ويضيِّعون أوقاتهم ، ولا يدركون مغبَّةَ إهمالهم ، هؤلاء في نهاية العام يرسبون ، وهناك جامعات تجري كلَّ أسبوع مذاكرات ، وتحاسب الطلاب على غياب درس أو درسين ، ودائما تتابع مراقبة الطلاب ، وتقويم أعمالهم ، وأغلب الظن أن نسبة النجاح في مثل هذه الجامعات مرتفعة جدًّا ، إذا غاب عن حصَّة مرةً أو مرتين أو ثلاثاً يفصل ، و كلُّ أسبوع هناك مذاكرة ، وتقيَّم علاماته ، ويُخبَر بعلاماته ، ويُوجَّه له إنذار ، وربُّنا عز وجل أعطانا حرِّية الاختيار ، ولو أنه تركنا وشأننا ، ومن دون تربية ، ومن دون معالجة ، ومن دون متابعة ، ومن دون محاسبة لهلك معظم الناس ، ولكن الله سبحانه وتعالى مع أنه أعطانا حرية الاختيار ، ومع أنه وهبنا هذا العقل والتفكير ، ومع أنه أنزل الكتب السماوية ، ومع أنه أرسل الرسل فإنه لم يدعنا وشأننا ، بل يربِّينا ، والتربية على نوعين ؛ تربية جسمية ، أن يمدَّنا بكل ما نحتاج إليه من هواء وماء ، و طعام و شراب ، و نساء و بنين ، و حاجات و معادن ، و طاقة وشمس وقمر ، وكلما انحرفت نفوسنا يقوِّم اعوجاجها ، وكلما نسيت يذكِّرها ، وكلما غفلت يوقظها ، و كلما قصَّرت يدفعها ، و كلما تاهت يرشدها ، و كلما ضلَّت يهديها ، قال تعالى :
﴿ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(64)﴾
تأكيدا لهذه المعاني من أن الله سبحانه هو ربُّ العالمين ، بمعنى أنه يربِّي أجسامنا ، ويربِّي نفوسنا ، وبمعنى أننا مخيَّرون ، فإن اخترنا شيئا مناسبا شجَّعنا عليه ، وإن اخترنا شيئا غير مناسب عالجنا ، و أدبنا ، و ضيق علينا ، و أرشدنا إلى الطريق الصحيح .
الآيات التي تؤكِّد هذا كثيرة ، قال تعالى :
﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(16)﴾
فربُّنا عز وجل يقول :
﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ ﴾
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُون
1 ـ من رحمة الله بالعباد إرسال الرسل من بني البشر :
ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه جعل الأنبياء من بني البشر ، يحسُّ النبي كما تحسُّ ، و يفكِّر كما تفكِّر ، و يخاف من الذي تخاف ، و يرجو ما ترجو ، هذه نعمة أولى ؛ أن يكون النبيُّ من بني البشر .
2 ـ من رحمة الله بالعباد أن يكون الرسول من قومه :
والنعمة الثانية أن يكون النبيُّ من القوم الذي أرسل إليهم ، و لو جاءنا إنسان من غير أمَّتنا ، ومن غير قومنا لتهيِّبْنا ، وشككنا ، و لوجلنا ، و لتحفظنا ، و لسكتنا ، و لنقضنا ، ولكن الأنبياء في الأغلب الأعمِّ يأتون من قومهم الذين أرسلوا إليهم ، قال تعالى:
﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ﴾
أخوَّة نسبية ، و أخوة قومية ، وأخوة إنسانية ، من أجل أن نطمئن ، قال جعفر يخاطب النجاشي :
(( يا أيها الملِك ، كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، و نأتي الفواحش ، و نسيء الجوار ، و نقطع الرحم ، و يأكل القويُّ منا الضعيف ، حتى بعث الله فينا رجلا نعرف أمانته و صدقه و نسبه ، فدعانا إلى الله لنعبده و نوحِّده ))
إذًا : من فضل الله علينا أن الله سبحانه و تعالى جعل الأنبياء و المرسلين من بني البشر ومن أقوامهم ، قال تعالى :
﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ﴾
3 ـ مهمة الرسول إصلاح عقيدة قومه :
هذا الذي أرسله اللهُ عز وجل إنما أرسله ليصحِّح عقيدة قومه ومنهجهم ، فقد ضلوا ، وتاهوا ، فجاء هذا النبيُّ الكريم ليصحِّح انحراف قومه ، قال تعالى :
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ﴾
فحوى الرسالات : اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ
هذه الآية تلفت النظر إلى أن الله سبحانه و تعالى صاغ هذه الكلمات ليعبِّر بها عن فحوى الرسالات ، رسالات الأنبياء كلهم ومضمونها عندهم جميعاً واحد ، وملخَّصها ، قال تعالى :
﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾
لو دقَّقنا في هذه الكلمة ، لوجدنا فيها جانبا نظريا و جانبا عمليا ، قال تعالى :
﴿ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾
هلاكُ الناسِ في الشرك :
جانب نظري ، لا إله إلا الله ، وما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد ، وهذا يعني أن الذي يهلك الناسَ أن يتَّخذوا مع الله آلهة أخرى ، قال تعالى :
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ(213)﴾
والذي أدى إلى شقاء الناس ، وضلالهم تيههم وانحرافهم ، وأنهم دعوا مع الله آلهة أخرى ، فهذه الكلمة التي قالها سيدنا هود عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة و السلام :
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ﴾
ما لكم من إله غيره ، فمثّل الجانب النظري ، كما تمثل الجانب العقدي ، اعبدوا الله ، هذا الجانب العملي ، إذًا لا تنجح ، و لا تفلح ، و لا ترقى ، و لا تفوز ، و لا تسعد إلا إذا عرفت أنه لا إله إلا الله ، و إلا إذا عبدت الله ، قال تعالى :
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ﴾
قال تعالى :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25)﴾
التوحيد هو سبيل النجاة :
إذا دقَّقت النظر ، وتأمَّلت في الكون ترى أنه لا إله إلا الله ، و الذي يشقي الإنسانَ أن يتَّبع ، أو أن يستجيب لدعوة مبنية على الشرك ، قال تعالى :
﴿ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ(78)﴾
و قال تعالى :
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(123)﴾
و قال تعالى :
﴿ مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(2)﴾
و قال تعالى :
﴿ فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى(123)﴾
و قال تعالى :
﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(38)﴾
و قال تعالى :
﴿ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ(4)﴾
و قال تعالى :
﴿ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(41)﴾
هذا هو التوحيد ، فمن جعل الهموم همًّا واحدا كفاه الله الهموم كلها ، واِعمل لوجه واحد يكفِك الهموم كلها ، و من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين ، و أنت تريد ، و أنا أريد ، فإذا سلَّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، و إن لم تسلِّم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد ، و كنْ لي كما أريد أكنْ لك كما تريد ، و اطلُبني تجدْني ، فإذا وجدتني وجدت كلَّ شيء ، و إن فِتُّك فاتك كلُّ شيء ، وأنا أحبُّ إليك من كلِّ شيء ، هذا هو التوحيد ، و الدين كلُّه يُلخَّص في التوحيد ، قال سيدنا عبد الله بن عمر لغلام : << بعني هذه الشاة ، و خذْ ثمنها ، قال : ليست لي ، قال : قل لصاحبها : ماتت أو أكلها الذئب ، قال : ليست لي ، وواللهِ ، إنني لفي أشدِّ الحاجة إلى ثمنها ، ولو قلت له : ماتت أو أكلها الذئب لصدَّقني ، وإني عنده لصادق أمين ، و لكنْ أين الله ؟ >>
هذا هو التوحيد ، هذا البدوي وضع يده على جوهر الدين ، رغم أنه لا يقرأ ، و لا يكتب ، وضع يده على جوهر الدين مع بساطته ، و لو قرأت آلاف الكتب ، و ألَّفت مئات المؤلفات ، و لم تنته عما نهى الله عنه ، و لم تأتمر بما أمر الله به فلستَ ديِّناً ، و إنما أنت مثقَّفٌ ثقافة دينية ، و شتَّان بين الثقافة و الهدى ، فالهدى شيء ، و الثقافة شيء آخر ، والثقافة معلومات وأفكار وعلاقات و تنظيمات ونتائج وأشياء طريفة وممتعة ، ومحاورات ومناقشات ، و مؤلفات وملخَّصات ، هذه هي الثقافة ، و لكنَّ الهدى سمُوٌّ في النفس وطمأنينة وسعادة واستقرار ومحبة ، وتوكُّل واستسلام ، وصدق و إيثار ، و إن صحَّ التعبير : للمؤمن معنويات لو اطَّلع عليها الناس لسعدوا ، فمعنوياته عالية جدًّا ، بصرف النظر عن وضعه المادي ، أكان غنيا أو فقيرا مرتاحاً ، أو غير مرتاح في حياته ، ذا دخل قليل أو دخل كثير ، دخله محدود أو غير محدود ، متزوج أو غير متزوج ، بيته مْلكْ له ؟ أو بيته بالأجرة ، كل هذه الظروف الموضوعية المادية لا تؤثر في حياة المؤمن ، له معنويات إن الثقافة معلومات ، و لكنَّ الهدى قربات ، و المثقف يدافع التدنِّي ، بينما المهتدي يتابع الترقِّي ، و شتان بين الحالين ، وفي قلب المؤمن ثقة بالله ، يا أبا بكر ما ظنُّك باثنين اللهُ ثالثهما ، في معركة حنين بقي النبيُّ وحده يقول :
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطَّلب
هذا هو الإيمان ، ليس الإيمان بالتحلِّي ولا بالتمنِّي ، ليس الإيمان بسملة يكتبها على باب محله ، و إنا فتحنا لك فتحا مبينا ، و مسبحة و مسواك ، لا ليس هذا هو الإيمان ، و لكن الإيمان ما وقر في القلب ، و أقرَّ به اللسان ، و صدَّقه العمل .
الإنسان بين الثقافة ومعرفة حقيقة وجوده :
كثير من الناس عندهم ثقافة إسلامية ، ولكنَّ الهدى شيء آخر ، الهدى سعادة في الدنيا والآخرة ، الهدى معرفة ، تعرف لماذا خلقك الله عز وجل ؟ تعرف ما الذي يسعدك في الدنيا ؟ تعرف أن الله أفرح بتوبة عبده من الضال الواجد والعقيم الوالد والظمآن الوارد ، ولماذا الله سبحانه وتعالى يفرح بتوبة عبده ؟ إذ ليس لهذا الحديث من معنى لو لم يكن الإنسان مخيّراً ، ولكن الإنسان مخيَّر ، فحينما يختار الإنسان معرفة الله والاستقامة على أمره ، والتقرُّب إليه يتحقَّق الهدف الذي خلقه الله من أجله ، لذلك يفرح الله سبحانه وتعالى ، وإذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنّئوا فلانا فقد اصطلح مع الله ، ومشكلات المسلمين تتلخَّص في كلمة واحدة ؛ الصلح مع الله ، هذا على مستوى المسلمين جميعا ، وعلى مستوى المسلم وحده ، لو أنه اصطلح مع الله عز وجل لحُلَّت كلُّ مشكلاته ، لقوله تعالى :
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا(147)﴾
لماذا العذاب ؟ ولمصلحة مَن ؟ ولماذا الضيق ؟ قال تعالى :
﴿ وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا(16)﴾
وقال تعالى :
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(96)﴾
قال تعالى :
﴿ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ(32)﴾
وقال تعالى :
﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ(103)﴾
وقال تعالى :
﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ(103)﴾
إذا قلتَ : فلان بيده النفع والضرُّ ، وفلان بيده إسعادي أو شقائي فهذا هو الشرك ، وأخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي ، أما إني لست أقول : إنكم تعبدون صنما ، ولا حجرا ، ولكن شهوة خفية ، وتأتون أعمالاً لغير الله ، وإن الشرك أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصمَّاء في الليلة الظلماء ، قال تعالى :
﴿ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ(32)﴾
4 ـ بين العبادة والطاعة :
وبعد فالعبادة شيء ، والطاعة شيء آخر ، يجب أن تعرفه أولاً ، ثم تطيعه ثانيا ، ثم تسعد بهذه الطاعة ثالثا ، لذلك قال تعالى :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)﴾
الهدف الأكبر من خلقك أن يسعدك بعبادته ، ولن تسعد بعبادته إلا إذا عرفته ، لذلك أصل الدين معرفة الله ، يا ابن آدم ، اطلبني تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كلَّ شيء ، خلقت لك السماوات والأرض ، ولم أعيَ بخلقهن ، أفيعييني رغيفٌ أسوقه لك كلَ حين ؟ خلقت السماوات والأرض من أجلك فلا تتعب ، وخلقتك من أجلي فلا تلعب ، فبحقِّي عليك لا تتشاغل بما ضمنتُه لك ـ و هو الرزق ـ عما افترضته عليك ـ وهي المعرفة والطاعة والسعادة ، قال تعالى :
﴿ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ(32)﴾
5 ـ ما أمرَنا الله بعبادته إلا بعد أن طمأننا أن الأمور كلها بيده :
إذَا وحَّدت الله تعبده ، ولن تعبده قبل أن توحِّده ، وإن أشركت به تعبده ، وتعبد هؤلاء الذين أشركتهم معه ، والله سبحانه و تعالى قال :
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾
إذًا : كل أمورك راجعة إلى الله فاعبده ، وتوكلْ عليه ، ولو أن أمرا من أمورك يعود إلى إنسان لما صحَّتْ هذه الآية ، قال تعالى :
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾
أطِعْ أمرنا نـرفعْ لأجلك حجبنا فإنا منحنا الرضا لـمـن أحبَّنا
ولُـذ بحمانا و احتـمِ بـجنابنا لنحميك مما فيه أشرار خـلقنا
و عن ذكرنا لا يشغلنك شـاغل و أخلِصْ لنا تلق المسرَّة و الهنا
وسلِّم إلينا الأمر في كل ما يكن فما القربُ والإبـعاد إلا بـأمرنا
يُنادى في الكون أنا نـحبــه فيسمع من في الكون أمر محـبِّنا
ومن أطاع اللهَ أطاعه كلُّ شيء و من عصى الله عصاه كلُّ شيء
و من أطاع الله هابه كلُّ شيء ، ومن لم يطع الله أهابه اللهُ من كلِّ شيء ، يخاف من ظله ، ويخاف من أدنى إنسان يواجهه .
6 ـ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ
قال تعالى :
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ﴾
سيدنا هوداً أقام في قومه سنوات طويلة يدعوهم إلى الله عز وجل ، وملخَّص هذه الدعوة ، قال تعالى :
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ﴾
ثم قال تعالى :
﴿ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ﴾
أنتم حينما تكذِّبون ، وحينما تتَّهمونني بأنني مفترٍ أنتم مفترون ، والدليل قال تعالى :
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ(50)يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُون ﴾
َ
يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُون
1 ـ المؤمن لا يبتغي من دعوته أجرا دنيويا :
لا أسألكم عليه أجرا ، علامة المؤمن أن يبتغي أجراً هو حَبّ الله له ورضاه ، ببذِلْ طاقاته وإمكاناته وخدماته ، ويدعو إلى الله ، ويعلِّم الناس ، ويعينهم على أمر دنياهم ، ويعاون الفقراء ، ويعود المرضى ، ويقدِّم خبراته وخدماته في سبيل الله ، قلَّما يعنيه الأجر ، قلَّما يعلِّق أهميّة على المادة ، ولكنّ الذي بعُد عن الله سبحانه وتعالى لا يتحرّك حركة صغيرة ولا كبيرة إلا بالأجر ، ولا يُقدِّم نصيحةً إلا بأجْرٍ ، ولا يُعطي إشارةً إلا بأجرٍ ، قال تعالى :
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ(50)يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾
َ
وهذه علامة صدقه ، لو أنَّني أُطالبكم بأجرٍ لَظُنَّنتم أنَّ لي مصلحةٌ بهذه الأُجرة ، لو أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام فرض على أصحابه مبالغ من المال ، أو خدمات عليهم يؤدُّونها لَظُنّ أنَّه يبتغي بهذا عرض الحياة الدنيا ، لكنّ الله يؤكِّد صِدْق الأنبياء وصِدق الدعاة الصادقين أنَّهم بريئون من المطامع الماديّة ، قال تعالى :
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ(20)اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ(21)﴾
الذي يؤكِّد صِدق الداعي ترفّعه عن أيّ مكْسبٍ مادّي ، أو معنوي ، أو ثَنَاء ، أو أي شيء من هذا القبيل ، لا أسألكم عليه أجراً ، ولكن اُنظر إلى إنسانٍ لا يعرف الله سبحانه وتعالى لا يُمكن أن يقدِّم خِدْمةً لأحدٍ إلا بأجر ، فلو أنَّه ذهب مع إنسان إلى السوق مثلاً واشترى هذا الإنسان حاجةً يُطالب بالعُمولة ، ولو أنّ آخر طرَقَ بابه لرَدَّهُ ، ولو أنّك دخلتَ إلى خمسين محلاً تِجاريًا لِتصْرف مائة ليرة لَسمِعتَ السبّ والاعتذار ! قال تعالى :
﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ ﴾
أفضل المعروف إغاثة الملْهوف ، لا أحدَ يتحرّك إلى إغاثة الملهوف ، قال تعالى :
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ(50)يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾
2 ـ أجر المؤمن على الله :
لو أنّ شخصًا ثريًّا كلَّف إنسانًا آخر أن يقدِّم خدمات لِجِهةٍ من الجهات ، وقال له : عليّ المبلغ مهما بلغَ ، ضع الرقم الذي تريده ، فهل يُعقل أن يطالب هذا الذي يقدّم له خدمة بالأجر ؟ الأجر على الذي كلّفه هذه المهمّة كذلك الله سبحانه وتعالى هو الذي كلّفك بِهذه المهمة ، وهو الذي يجزيك أَتَمّ الجزاء ، فالله عز وجل حينما يأتي المؤمن إليه ، يرى اللّقمة التي أطعمها في سبيل الله كجَبل أُحد ، حينما يقدم على الآخرة ، ويرى ما لا عينٌ رأتْ ، ولا أُذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، قال تعالى :
﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(17)﴾
إذا قَدِمْت إلى الجنّة تعرف معنى قوله تعالى :
﴿ إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى اللَّهِ ﴾
لذلك قد تأتي من مكان بعيد لِتَسْتمِعَ إلى درسِ عِلْمٍ ؛ إن أجري إلا على الله ، قد تنفق على إخوتك الصغار الأيتام ، وقد تنكر ذاتك ؛ إن أجري إلا على الله ، قد تخدم والدتَك سنواتٍ طويلة خِدْمةً شاقَّة ؛ إن أجري إلا على الله ، وقد ترْعى أُختَكَ العانس ، وتبقى عندك في البيت ؛ إن أجري إلا على الله ، وقد تسير مع أخٍ في حاجته ؛ إن أجري إلا على الله ، وقد تعود مريضًا ؛ إن أجري إلا على الله ، طبيب طرِق باب بيته الساعة الثانية ليلاً لِيَذْهب مع الطارق إلى حالة إسْعاف ، والطارق فقير ، فسار معه مشْيًا إلى مكانٍ بعيد ، ودخل على المريض ، وهو يُعاني آلامًا شديدة ، فبَقِيَ معه ساعات طويلة إلى أن زال الخطر عنه ، وكتبَ الوصفة ، وفي أثناء خروجه أعْطَوْهُ مبلغًا يسيرًا يسيرًا من مصروف البيت ، أخذ هذا المبلغ ، وأوى إلى فراشه ، تحرَّكت نفسُهُ ، أخذْت هذا المبلغ من مصروف البيت وعنده أدويةٌ في البيت ، فجَمَعَ الأدوية التي وصفها لهم ، وعاد إلى هذا المكان البعيد فأعطاهم الأدوية ، والمبلغ الذي أخذه منهم ، ومبلغًا من عنده أيضاً ؛ إن أجري إلا على الله .
لا أحَدَ يذوق معنى العمل الصالح إلا وتغمره السعادة القلبية ، وكان هناك في أحد أحياء المدينة طبيب صالح إن شاهد المريض فقيرًا ، يوقِّع في ذيل الوصفة ، ويبعثه إلى صيدلية معينة ، ويصرفها مجانًا ؛ إن أجري إلا على الله ، وهذا طبيب ، وكذا المحامي والمدرّس ، والمهندس ، لِيَكن لكلٍ عمل خالص لله عز وجل .
قال لي أحد سائقي التاكسي : شاهدتُ امرأة مُسِنَّة ، ولا أحدَ يقف لها فوَقَفتُ لها ، وأوْصلتها حيث تريد ، فتحَتْ قِماشًا داخل قماش داخل قماش قد صُرَّ صرّاً ، وأعطتْهُ عشرة قروش - والقصّة قديمة - فقال لها : أنا أطلب منك الدعاء ! ولم يلبث أن جاءهُ رجل ، وقال له : خُذني إلى المكان الفلاني فأخذه ، ثمّ قال له : قِفْ ، فوقَفْتُ ، ثمّ قال لي: انتظِرْ ، فانتظرتُ حتى فرغ من شؤونه ، ثمّ أعاده إلى حيث كان ، فأعطاه مبلغًا يزيدُ عن عمل يومين ! إن أجري إلا على الله ، فأحيانًا لماذا يعجِّل الله للإنسان بالجزاء ، وقد يكون الإنسان ضعيفًا كما أنّه قد يكون قويًا ؟ حتى لا تتوانى النفوس وتتقاعس عن فعل الخير ، ولكن لو أنَّ الله سبحانه وتعالى لم يُعَوِّض عليك سريعًا فلتقل : إن أجري إلا على الله ، يجب أن يكون لك عمل تبتغي به وجه الله لا ترجو منه مالاً ولا سُمعةً ولا جاهًا ، ولا مكانةً ، ولا جزاءً ، ولا ثوابًا ، وكلٌّ منّا له عمل ومهنة وكسبُه ، يجب أن يُبقي فيه شيء لله تعالى .
صاحب مطعم يبيعُ فولاً ، وثمن الصّحن ثلاث أو خمس ليرات ، أحد الأطفال طلبَ منه أن يبيعه فولاً بِرُبع ليرة ، فقال له : تفضَّل ، وملأ له صحنه ! إن أجري إلا على الله ، كلّما ارتقت النفس في الإيمان كلما ازدادت أعمالنا صلاحاً ، فالمال وسيلة لكسب رضا الله ، وما عُبِدَ الله بأفضل من جَبْر الخواطر .
البذل يُسعِد المؤمن ، والأخذ يُسعِد المنافق :
إن أجري إلا على الله فلذلك الأنبياء والصدِّيقون ، وكبار المؤمنين يذوبون سعادة إذا بذلوا ، فعلامة المؤمن أنه يسعد بالبَذْل ، والمنافق يسعد بالأخذ ، والأنبياء أعطوا ولم يأخذوا ، والشِرِّيرون أخذوا ولم يعطوا ، وعامة الناس يأخذون ، ويعطون ، يا مَن جئتَ الحياة فأَعْطيتَ ولم تأخذ ، والشرِّيرون يأخذون كلّ شيء ، ولا يعطون شيئًا ، فأنت مِمَّن ؟ مِمَّن يعطي أم مِمَّن يأخذ ؟ قال تعالى :
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ(50)يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾
هذا يؤكّد صِدْق دعوتي ، لو أنَّني أرجو مالاً لَشُكّ في دعوتي ، لو أنَّني أرجو جاهًا لَشُكَّ في نِيَّتي ، ولكنَّني لا أرجو منكم شيئًا .
قال تعالى :
﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ﴾
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ
1 ـ الاستغفار مقرون بالتوبة :
ما الذي يحصل ؟ قد يستغفر الإنسان ربّه ، ولكن لا يتوب إليه ، يذهب لأداء فريضة الحج فيحصل له صفاء ، ويذهب إلى العمرة لحصل له صفاء ، ولكن البطولة أن تتوب إلى الله بعد الاستغفار ، أنْ تستغفره ، أيْ أن تطلب منه الشِّفاء ؛ شِفاء النفس ، لأنَّ أمراض النفس مهلكة ، أما أمراض الجسد فتنتهي بالموت ، ولكن أمراض النفس تبدأ بعد الموت ، والناس نِيام إذا ماتوا انتبهوا ، فلذلك يسعى الإنسان لِتَطهير نفسه ، قال تعالى :
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(88)﴾
قال تعالى :
﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ﴾
أي استقيموا على توبتكم ، وتابِعُوا أمره ، انتهوا عمَّا عنه نهى ، قال تعالى :
﴿ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ﴾
2 ـ الاستغفار سبب الرزق :
إذا كانت كميّة الأمطار بدمشق مثلاً بالشكل الاعتيادي مائتين وخمسين ميليمتراً ، ثمّ تتناقص إلى الستِّين ميليمتراً في بعض السنوات، فإن ذلك يدعو إلى مراجعة الناس قلوبهم وإيمانهم ، قال تعالى :
﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ﴾
حتى يكثر الخير ، وصدق الله تعالى :
﴿ وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا(16)﴾
قال تعالى :
﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ﴾
قال تعالى :
﴿ وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ﴾
3 ـ الاستغفار سبيل القوة بكل أنواعها :
وبعد فهذه الآية دقيقة جدًّا ، إن الواحد منا يتمتّع بالشباب ، فإذا عرف الله ، وأطاعه يدوم له هذا الشباب مثلاً إلى نهاية الحياة ، من عاش تقيًّا عاش قويًّا ، من غضَّ بصره عن محارم الله يزده الله قوَّة إلى قوَّته ، ويُمَتّعُهُ الله بهذه العين إلى نهاية الحياة ، ومن كفّ عن سماع الغناء زاده الله قوة إلى قوته ، يُمَتِّعه بهذه الأُذن إلى نهاية الحياة ، من سار إلى طاعة الله يَزِدْهُ قوَّة إلى قوّته ، يتمتَّع بحركته ونشاطه إلى نهاية الحياة ، ومن أطاع الله في زواجه يَزِدهُ قوَّة إلى قوَّته يسْعَدُ بِزَوجته أضعاف ما يسعد أهل الدنيا بِزَوجاتهم ، أحدهم كان له مطعم يباع فيه الخمر واللحم ! فذهب لأداء فريضة الحجّ ، ونصحه أصدقاؤُهُ أن يكفّ عن بيعِ الخمر ، وبين أخذ وردّ ، وحَيْرةٍ وصِراع ، اتَّخَذ في النهاية قرارًا بالكفّ عن بيع الخمر في مطعمه ، ما الذي حدث ؟ أنَّه تضاعفت غلَّته وتضاعفت أرباحه ، ويَزِدْكم قوَّة إلى قوَّتكم ، لو تركتَ هذه الشبهة في هذا العمل التِّجاري ، لزاِدْك قوَّة إلى قوَّتك ، لو أطعتَ الخالق و عصيت المخلوق لزادك قوة إلى قوتك ترتقي مكانتك عند هذا الذي عصيْتَهُ من أجل الله ، وتكبر في عَيْنِهِ رغم أنك عصيته ، ولم تستجب له ، وأمرك فلم تأتمِر ، وقلت : إنِّي أخاف الله رب العالمين تقول في نفسك : أنا أصبحت مهدَّدًا بالخطر من هذا الرجل ! لا ، يَزِيدْك الله قوَّة إلى قوَّتك ، تزداد عنده مكانةً ، هذه سنّة الله في الخلق ، إنِّي أخاف الله رب العالمين ، قال تعالى :
﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(23)﴾
وصار بعدها عزيز مصر ، إنه سيدنا يوسف ، ولما مرَّ موكبه ، كانت جاريةٌ قد رأتْهُ في قصْر العزيز خادمًا ، ورأتْه الآن وقد صار عزيز مصر يمشي في موكب الإمارة فقالت : سبحان من جعل العبيد ملوكًا بِطاعته ! وسبحان من جعل الملوك عبيدًا بمعصيتِهِ ! قال تعالى :
﴿ وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ﴾
من ابتغى أمرًا بمعْصِيَةً كان أبعَدَ مِمَّا رجا ، وأقرب مِمَّا اتَّقى ، وهذا في عملك في زواجك ، وفي صحّتك ، وفي بيتك وفي أولادك ، وفي سفرك وفي إقامتك ، وفي علاقاتك ، وفي كلّ شيء ، إن أطعتَ الله سبحانه وتعالى يزِدك قوّة إلى قوتك ، ومن عاش تقيًا عاش قويًا ، ومن تعلَّم القرآن متَّعَهُ الله بعقله حتى يموت ، فهذه الدنيا وحدها مسْعدةٌ للمؤمن فكيف إذا جمعت الدنيا والآخرة ؟
ما أجمل الدِّين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكفر والإفلات بالرجل
***
قال تعالى :
﴿ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾
من منكم يُصدِّق أنّ الذي يتولى عن الهُدى ، يتولى عن سماع الحق ، ويتولى عن طريق الله عز وجل ، يتولى عن طاعة الله ، ويتولى عن محبَّته ، ويتولى عن الإقبال عليه ، يُعَدُّ عند الله مجرمًا بِحَقّ نفسه قبل كلّ شيء ، وبِحَقّ أهله وبِحَق أولاده ، وبحق من حوله ، الذي يتولى عن طاعة الله ، وعن الإقبال عليه ، ويتولى عن محبّته يُعدُّ عند الله مجرما ، وقوله تعالى يؤكّد ذلك :
﴿ وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾
قال تعالى :
﴿ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ ﴾
قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِك
1 ـ رد الجاهل والسفيه :
أي بِسَبَبِ قولك ، والمفسّرون قالوا : إنّ هذا هو الغباء بِعَينه ، فكلّ هذه البيّنات ، وكلّ هذه الدلائل وكلّ هذا المنطق ، وكلّ هذه الأسباب المؤدِّية لهذه النتائج ، وكلّ هذا الكون لم يُؤثِّر فيهم ، قال تعالى :
﴿ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ ﴾
لذلك فإن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قال : " ما ناقشني جاهل إلا غلبني ! ولا ناقشْتُ عالمًا إلا غلبْتُهُ " ، وأبو حنيفة كان يُدَرِّس درسًا في الفقه ، ويبدو أنّ في رجله ألمًا شديدًا - وكذا تروي القصة - فكان يمدّها مضطرًّا فدخل عليه في هذه الأثناء رجل بادي الهيئة ، طويل القامة ، واسع المِنْكبَين ، فاسْتحيا منه ، وضم رجله إليه ، وكان موضوع الدرس صلاة الفجر ، وشرح الإمام أبو حنيفة ملابسات صلاة الفجر ، والفجر الصادق ، والفجر الكاذب وطلوع الشمس ، فهذا الرجل ذو الهيئة بادر الإمام وسأله : ويا سيّدي ، كيف نصلِّي الصبح إذا طلعت الشمس قبل الفجر ؟! فقال الإمام أبو حنيفة : آن للإمام أبي حنيفة أن يمُدَّ رِجله ثم قدَّمها !! قال تعالى :
﴿ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾
لو وضعتهم في دائرة المنطق لظهر لك الغباء المستحكم ، وإنها لشهوات أغلقت عليهم منافذ الحق ، وعلى قلوبهم أكِنَّة ، وفي آذانهم وقر ، وعلى عيونهم غِشاوة ، قال تعالى :
﴿ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ(53)إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ﴾
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ
أي هذا الذي تقوله هذيان ! وهذا الذي تقوله تلقيه على عوامهم ، إنما جاءك بِسبب لوثة أصابتك من آلهتنا ، قال تعالى :
﴿ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾
حتى النبي عليه الصلاة والسلام قالوا عنه ساحر ومجنون ، قال تعالى :
﴿ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)﴾
قال تعالى :
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ﴾
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ
1 ـ الهدى أكبر نعمة :
هذه الآية تنطبق على كلّ مؤمن ، نعمة الهدى أثْمنُ نعمة في الأرض ، إن كنت عرفْت الله فلْيَفُتْك من الدنيا ما يفوتك ، وهناك كلمة كنتُ أقرأها عن سيّدنا أبي بكر يقْشعِرّ منها جلدي : ما ندم على شيءٍ فاته من الدنيا قطّ ! تجد الناس مشققة قلوبهم ، موزعة أحلامهم وعقولهم ؛ زوجته على غير ما يريد ، نصيبه في الحياة أنَّه موظّف ، ودخلهُ محدود ، ودائمًا يشْكو ، أما العارفون بالله فلا يندمون على شيء فاتهم من الدنيا قطّ ، والدنيا جيفة ، وطلابها كلابها ، والدنيا دار من لا دار لها ، ولها يسعى من لا عقل له ، قال تعالى :
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ(44)﴾
يا شيبة بن ربيعة ، ويا عتبة بن ربيعة ، ويا أُميّة بن خلف ، أوَجَدْتم ما وعدكم ربكم حقًا ، فإنِّي وجدتُ ما وعدني ربِّي حقًا ! لقد كذَّبتموني وصدَّقني الناس ، وخذلتموني ، ونصرني الناس ، وأخرجتموني ، وآواني الناس ، قالوا : يا رسول الله ، أَتُخاطبُ قومًا جيَّفوا ؟! قال : ما أنتم بِأسْمع بي منهم ، ولكنّهم لا يجيبونني ، إن نعمة الهدى لا تعدلها نعمة ! قال تعالى :
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(22)﴾
أعطى الله سبحانه فرعون الملك ، وهو لا يحبّه ، وأعطى قارون المال ، وهو لا يحبّه وأعطى الأنبياء العلم والحكمة ، فَمِن أيِّ نوعٍ عطاؤُك أيّها الأخ الكريم ؟ وما اسْترذَل الله عبدًا إلا حظرَ عليه العلم والأدب ، فعلامة خِذلان المسيء أن يحْجر عليه العلم والأدب ، فمن كان له مكان في هذا المجلس أو في أيّ مجلس ، ومن كان له رغبة في معرفة الحق ، فهذا هو الفلاح ، قال تعالى :
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1)الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ(4)﴾
وقال تعالى :
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى(14)﴾
ولم يقل : قد أفلح الأقوياء ولا الأغنياء ! لأنَّ كلاّ منهما سيموتون ، ولكن المؤمنين سيَسْعدون في الدنيا ، وإلى الأبد ، أيضاً في جنات النعيم .
قال تعالى :
﴿ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾
فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ
إذا كان الله معك فأنت الأقوى :
استمعوا إلى رجل واحدٍ يُواجه أُمَّةً بأكملها ، هات إيمانًا كإيمانه ، وخُذْ نصرًا كنَصْرِهِ ! واحد قال : فكيدوني جميعًا !! أنتم ومن معكم ، ومن وراءكم ومن يعينكم ، ومن على شاكلتكم ، ولا تأخذكم بي رأفة ، ولا إشفاق ، ولا تتردَّدوا ، ولا تنتظروا ، ولا تقلِّبوا الأمر ، فلن تصلوا إلى ضري ، ولن فقدروا على إيذائي ، قال تعالى :
﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ﴾
إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان الله عليك فمن معك ؟ قال تعالى :
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ(55)إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ ﴾
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا
1 ـ كل المخلوقات بيد الله :
كلمة دابة في هذا الموطن تعني كل مخلوقات الله تعالى على هذه الأرض ، و هذا الذي تخافون منه دابة ، وناصيتها بيَدِ الله سبحانه وتعالى ، قال تعالى :
﴿ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
ومؤدى هذه الآية أن كل دابة لا تتصرف حركة ولا سكنة إلا بمشيئة الله ، أما أنْ تقول : إنَّ الله سبحانه وتعالى قد يضعُ إنسانًا في النار ، وقد أمضى حياته كلّها في طاعته ، لأن الله يتصرَّف في ملكه بما شاء ، فليس هذا مدلول الآية السابقة ، بل قال تعالى :
﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
2 ـ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
الله لا يظلم أحدًا :
ولن يظلم أحداً أياً كان ، فالله سبحانه وتعالى على كلّ شيء قدير ، وعلى صراط مستقيم في الوقت نفسه ، فهو قدير على وضْع الطائع في جهنّم لأنه قادر ، ولكنَّه على صراط مستقيم فلن يفعله ، إنِّي حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرَّمًا فلا تظالموا ! أنْ يمضي الإنسان حياته كلّها في طاعته ، وقبل أن يموت بِساعات يسبق عليه القول فيعْمل بِعَمل أهل النار فيدخلها !! لِهذا الحديث تفسير آخر يحتاج هذا الحديث إلى تأويل ، فقد يمضي حياته كلّها منافقًا ، فهو ليس من أهل الجنَّة ، إنَّما يعمل بِعَمل أهل الجنَّة فيما يبدو للناس ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه القول ، أيُّ قولٍ ؟ وهو أنَّ الله سبحانه وتعالى يكشف الإنسان على حقيقته ، إذاً فهو لم يكن مؤمنًا ، إنَّما كان يعمل بعمل أهل الجنَّة ، ظاهراً وفيما يبدو للناس لكنَّه كان منافقًا ، ويرتزِقُ بِظاهِرِ دينه ، ويخفي في قلبه نفاقاً ، وفي نفسه كفراً ، فلا يمكن لله تعالى أن يظلم أحدًا ، قال تعالى :
﴿ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا(77)﴾
وقال تعالى :
﴿ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ﴾
وقال تعالى :
﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا(49)﴾
وقال تعالى :
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(40)﴾
ثمَّ تقول بعدها : إن الله يضعُ إنسانًا أمضى حياته كلّها في طاعته في النار ، وأنَّه يتصرَّف في ملكه بما شاء ، ولأنَّه لا يُسأل عما يفعل ! وهم يُسألون فهذه الآية تفسيرها أنَّ عدله يسكت الألسنة ، وأنّ إحسانه للعباد يُسكت الألسنة ، لذلك لا أحد يسأله فالأمر يتلخَّص كما يلي : مجموعة الحيوانات المخيفة مربوطة جميعًا بأزمّة متينة ، بيد إنسان حكيم خبير رحيم منصِفٍ ، هل تخاف منها أم تخاف منه ؟ تخاف منه ، لأنَّه إذا أرخى الزِّمام وصل هذا الوحش إليك ، فعلاقتي ليست مع هذا الحيوان ، لكن بِمَن بيده زمامها ! قال تعالى :
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ(55)إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
ملخَّص هذه الآية ، هات لي إيمانًا كإيمان هذا النبي العظيم ، وخُذْ نصْرًا وتأييدًا ، وحفظًا ورعايةً كما أخذ هو ، قال تعالى :
﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ
إما أن تؤمن أو يؤمن غيرُك :
إن آمنتَ فلك ، وإن لم تؤمن فعليك ، إن آمنت تستفِد ، إن لم تؤمن يأتِ من يؤمن فيستفيد ، فالقضيَّة متعلّقة بك ، قال تعالى :
﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(17)﴾
بعض العارفين بالله يقول : يروح الزاهد ، ويأتي العاشق ! فإن تولَّوا أي تتولَّوا ، هناك تاءٌ محذوفة ، قال تعالى :
﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾
قال تعالى :
﴿ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظ ﴾
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظ
إذا جاء العذاب نجّى الله من يستحق في الدنيا والآخرة :
فلا ظلم ، ولا بلاء عام ، فالبلاء خاص ، والرحمة خاصَّة ، ونجاهم الله مرَّتين كما في الآية ، وقد قال العلماء : مرَّة في الدنيا ، ومرَّة في الآخرة .
لما جاء أمرنا أي الهلاك والريح العقيم نجينا هودًا ومن معه ، وهذا في الدنيا ، ونجيناهم من عذاب يوم غليظ ؛ وهذا يوم القيامة، فكلّ مؤمن له نجاتان ؛ نجاة في الدنيا ، ونجاة من عذاب غليظ يوم القيامة ، قال تعالى :
﴿ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا ﴾
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا
1 ـ عادٌ كفروا بالله وعصوا رسله :
حُمِلَت هذه الآية على الكُفر ، أيْ كفروا بآيات ربِّهم ، قال تعالى :
﴿ وَعَصَوْا رُسُلَهُ ﴾
2 ـ الكفر برسول واحد كفرٌ بالجميع :
هناك سؤال : جاءهم رسول واحد ، فلماذا قال الله سبحانه وتعالى : عصوا رسله ؟ لأنّك إذا أطعت رسولاً واحدًا ، فكأنَّك أطعت رُسل الله كلّهم ، وإن عصَيتَ رسولا واحدًا فكأنَّك عصيت جميع الرسل ؛ لأنَّ دعوتهم واحدة ، لا نفرّق بين أحد من رسله .
وتلك عاد وجاء اسم الإشارة مؤنَّثاً ( تلك )! لأنَّه حُمِل على القبيلة أي قبيلة عاد ، قال تعالى :
﴿ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾
3 ـ من هو العنيد ؟
من هو العنيد ؟ هذه صفة مذمومة في الإنسان ، فأحيانًا الإنسان لا يتراجع عن غلطه مع أنه يرى عمله ، ويرعاه مسيئًا وغير صحيح ، ولا جدوى منه ، يربط هذا العمل بكَرامته فلا يتراجع ، هذا عنيد ، والعنيد من صفات الجبابرة قال تعالى :
﴿ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ(59)وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ﴾
4 ـ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً
أُتبِعُوا لعنةً ، ففي زواجهم ملعونين ، وفي عملهم ملعونين ، وفي أفراحهم وفي أتراحهم ملعونين ، وكذا في نزهاتهم ، حيثما تحرّك فهو ملعون ، أيْ بعيد عن الله تعالى ، ومطرود من رحمته ، فاللَّعْن يتْبعهم كظلِّهم ، قال تعالى :
﴿ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُود ﴾
خاتمة :
هناك نقاط دقيقة في هذه السورة أتمنى أن تعودوا إليها في البيت ، وأن تتذاكروا في المعاني التي وردت في هذه الآية مع أهليكم ، ومع أصدقائكم ، مع من يلوذ بكم ، بحسب القرابة أو الجوار ، لأنَّكم إن عُدتم بهذه إلى البيت زادَت رسوخًا ، وانتقلت من عقولكم إلى قلوبكم ، فإذا انتقلت إلى القلوب كانت هدى ونورًا في الحياة .