وضع داكن
28-03-2024
Logo
ومضات إيمانية لرمضان 1425 - الدرس : 24 - المفهوم الحقيقي لبعض الآيات : سورة يوسف : الآية : 101
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أيها الإخوة الكرام، في أواخر سورة يوسف يقول الله عز وجل:

﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ﴾

(سورة يوسف)

 من أدق ما قاله المفسرون في معنى قوله تعالى:

 

﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾

 لو توهمنا أن الملك هو ملك الدنيا، أن تكون ملكاً، هناك ملوك كثيرون، وهناك طغاة أكثر، أيّ طاغية قد يقول:

 

 

﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾

 

 لكن المعنى الدقيق لهذه الكلمة: أن هذا النبي الكريم بلغ ما بلغه من الرفعة عند الله، لأنه ملك نفسه يوم راودته امرأة العزيز، لذلك قال بعض كبار المفكرين في أوروبة: ملكنا العالم، ولم نملك أنفسنا، فالإسلام مبني على ضبط الذات، بينما الحضارة المادية مبنية على السيطرة على الطبيعة، فرق كبير بين أن تسيطر على ذاتك فتضبط نفسك، وتستقيم، وتصدق، وتكون أميناً، وبين أن تكون ذكياً، فتخترع أجهزة كثيرة تسيطر بها على الطبيعة.
فكأن حضارة الإسلام أساسها ضبط الذات، أن يملك الإنسان نفسه، هذا النبي الكريم لأنه ضبط نفسه عندما دعته امرأة ذات منصب وجمال:

﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾

(سورة يوسف)

 البطولة أن تضبط نفسك، أما أن تضبط المادة، هذا شيء يستطيعه كل إنسان درس، وتعلم، واخترع، وملك ناصية الدنيا.

 

﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾

 

 أي ملكت نفسي عند الشهوة، من يملك نفسه عند الغضب، وعند الشهوة هو الذي حقق الهدف من وجوده، وهذا الامتلاك هو ثمن الجنة !
الحقيقة: هناك نص، وهناك تفسير النص، وقد يكون التفسير بعيد جداً عن قصد القائل، حينما يفهم الإنسان من قوله تعالى:

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) ﴾

(سورة الشمس)

 حينما يتوهم أن الله ألهم النفس البشرية أن تكون فاجرة وقع في خطا عقدي كبير جداً، لكن ينبغي أن يفهم الآية على أن الله جبل هذه النفس جبلة تكشف الخطأ ذاتياً، ألهمها فجورها حينما تفجر، وألهمها تقواها حينما تتقي.
وبين أن تفهم الآية:

 

﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾

 

(سورة السجدة)

 هناك من يفهمها فهماً سطحياً، فيظن أن الله لم يشأ للبعاد الهدى.

 

﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾

 

 ولكن المعنى ليس كذلك، أنتم تدعون أن الخطأ الذي ترتكبونه من خلق الله، وهذا خطأ كبير، الخطأ من كسبكم، ومن اختياركم، ولو شئنا أن نجبركم على شيء ما لما أجبرناكم إلا على الهدى.
آيات كثيرة وأحاديث كثيرة تفهم فهماً مغلوطاً، حتى لو أنك فهمت بعض الآيات على أنها تعني الجبر، هي لا تعني الجبر، ولكن تقاس على آيات محكمات تعني أن الإنسان مخير.
لذلك الآيات المتشابهة مهما كثرت تحمل على الآيات المحكمة مهما قلّت، فإذا قرأت قوله تعالى:

﴿إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ﴾

(سورة الرعد)

 هذا هو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري، كقوله تعالى:

 

﴿ فَلَمَّا ازًاغُوْ أَزًاغً اللَّهُ قُلُوبِهِمْ﴾

 

(سورة الصف)

 هذا النبي الكريم فيه شيئان: فَلَمَّا ازًاغُوْ أَزًاغً اللَّهُ قُلُوبِهِمْ

 

﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾

 كل هذا الخير والإعزاز والرفعة التي تفضلت بها علي بسبب أنني ملكت نفسي عندما جاءته امرأة ذات منصب وجمال، وهي امرأة العزيز فراودته عن نفسه، قال تعالى:

 

 

﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾

 لذلك هذه الشهوة إذا امتنعت عن جانبها المحرم ترقى، وإذا مارست جانبها المحلى ترقى، فبالشهوة ترقى مرتين، ترقى إلى الله صابراً، وترقى إلى الله شاكراً.

 

 

﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾

 

﴿إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ﴾

(سورة الأعراف)

الإنسان يفهم هذه الآية فهماً ما أراده الله، الفتنة الامتحان، يا رب إنك امتحنتنا من خلال هذا الامتحان ينجح أناس، ويرسب أناس.

﴿إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ﴾

لو رأيت كل الآيات التي قد يلتبس معناها على بعض الناس لوجدت لها معنى دقيقًا، ولكن الله جل جلاله أراد من خلال هذه الآيات أن يمتحن العباد، هناك من يحسن الظن بالله عز وجل، وهناك من يسيء الظن به، وحسن الظن بالله ثمن الجنة.
 تماماً كما لو قلت لواحد: أعطِ فلانًا ألف درهم ونصفه، فالبخيل يفهم النص على أنه ألف ونصف درهم، والكريم يفهمه على أنه ألف وخمسمئة، فبينما تعيد الضمير على الألف، وبينما تعيد الضمير على الدرهم، هذا معنى قوله تعالى:

 ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾

(سورة آل عمران)

 أيها الإخوة، ملمح آخر: الحقيقة حينما قال الله عز وجل في سورة الرعد:

 

﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾

 

(سورة الرعد)

 قرأت مقالة لعالم من بلاد تؤمن أنه لا إله ! كتاب في الفيزياء يقول هذا العالم: لو أن الأرض تفلتت من جاذبية الشمس لاحتجنا إلى أن نعيدها إلى جاذبية الشمس لمليون مليون حبل فولاذي، وكل حبل قطره خمسة أمتار، يتحمل من قوى الشد ما يزيد على مليوني طن، معنى ذلك أن الأرض مرتبطة بالشمس بقوة جذب تساوي مليون مَليون ضرب مليوني طن، مليوني مليار طن !! هذه قوة جذب المس إلى الأرض، قال: كل هذه القوة من أجل أن تحرف الأرض ثلاثة ميليمترات كل ثانية حتى ترسم مسارًا مغلقًا حول الأرض، فدورة الأرض حول الشمس بسبب هذه الجاذبية، فتحتاج إلى ألفي مليار طن من أجل أن تحرف الأرض ثلاثة ميليمترات كل ثانية، لو أنها تفلتت لاحتاج إلى مليون مَليون حبل، قطره خمسة أمتار، لو زرعنا هذه الحبال في الوجه المقابل للشمس ما الذي يحصل ؟ أن بين كل حبلين مسافة حبل واحد، نحن أمام غابة لا تنتهي من الحبال الفولاذية، هذه الغابة تمنع البناء، وأشعة الشمس، وزراعة الأرض، والمواصلات، وكل شيء، لذلك قال تعالى:

 

﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾

 أي بعمد لا ترونها، من لطف الله عز وجل أن الأرض مرتبطة بالشمس بقوى تجاذب، لكن هذه القوة ليست مادية ليست حبال فولاذية، إنما هي قوى موجودة، لكن يمكن أن تخترقها، لو أنني علقت شيء بحبل فولاذي لا تستطيع أن تخترقه، لكن قدرة الله عز وجل كما لو وضعت قطعة حديد على ورقة، وتحت الورقة مغناطيس إن حركته تحركت هذه القطعة المعدنية، لكن لا يوجد اتصال مباشر، هذه القوى الجاذبية فيها لطف إلهي كبير.
هل تستطيع أن تنشئ بناء من عشرة طوابق من دون أعمدة إطلاقاً ؟ وهو أعلى من الأرض بخمسة أمتار ؟ مستحيل، لا بد من دعامات، هذا معنى قوله تعالى:

 

 

﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾

 رفع السماوات بعمد لا ترونها، هي الآن قوى التجاذب، وهذا من الإعجاز العلمي، لكن النبي عليه الصلاة والسلام فسر بعض الآيات تفسيراً علمياً، وفرق كبير بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي، عندما كسفت الشمس، وصادف مع كسوفها موت إبراهيم عليه السلام ابن رسول الله فالصحابة الكرام لشدة محبتهم للنبي، وتعظيمهم له، وتقديرهم له، توهموا أن كسوف الشمس بسبب موت إبراهيم، هذا التفسير عاطفي، وليس علميًّا، لذلك وقف النبي وخطب في أصحابه، فعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

(( إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ ))

(صحيح البخاري)

هذا التفسير علمي، كنت مرة في العمرة، وسمعت في مكة المكرمة أنه ينبثق من قبر النبي ضوء قدسي نحو أطباق السماء، سمعت هذا من أشخاص كثر في مكة، لما ذهبت إلى هناك، وقفت أمام أحد المدرسين، وهو يدرس، وقبل أن يختم درسه قال: اتصل بي أمير المدينة، وأخبرني بأن إدارة الحرمين جعلت أشعة الليزر فوق مقام النبي يخترق أطباق السماء، إرشاداً للطائرات التي تحلق حول المدينة المنورة، فهذا العمود من النور عبارة عن أشعة ليزر ! لكن فهم في مكة فهماً عاطفياً، والتفسير العلمي هكذا.
فالتفسير العلمي أن تربط النتيجة بالسبب، وتكون علاقة النتيجة بالمقدمة علاقة علمية، أي علاقة سبب بنتيجة.
 أيها الإخوة، التفسير العلمي للآيات شيء، والإعجاز العلمي شيء آخر، الإعجاز العلمي إنسان يركب مركبة فضائية، فجأة يصبح الجو مظلماً، فيخاطب القاعدة الأرضية: لقد أصبحنا عمياً، ما الذي حصل ؟ لما كانت هذه المركبة تخترق أطباق السماء ضمن طبقة الهواء، وهذه الطبقة تقترب من خمسة وستين ألف كيلو متر في الهواء، حالة فيزيائية اسمها انتثار الضوء، فحينما تنعكس أشعة الشمس على ذرات الهواء تعكس ذرات الهواء هذه الأشعة على بقية ذرات الهواء، فأنت في سماء الأرض ضمن الطبقة الهوائية ترى ضوءاً، ولو لم تر أشعة شمس، لكن بعد أن انعدم الهواء ألغي انتثار الضوء، وأصبح الجو مظلماً، تقرأ قوله تعالى:

﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) ﴾

(سورة الحجر)

 هذه الآية من آيات الإعجاز، لأنه لا أحد يعلم قديماً أن الجو بعد جو الهواء مظلم ظلامًا تامًّا.
أيها الإخوة،

 

﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) ﴾

 

(سورة الرعد)

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور