وضع داكن
28-03-2024
Logo
تربية الأولاد إصدار 1994 - الدرس : 39 - وسائل تربية الأولاد -9- التربية بالعقوبة - 1 العقوبة ضرورية في بعض الأحيان
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الأخوة المؤمنون لا زلنا في سلسلة دروس تربية الأولاد في الإسلام، ولا زلنا في الجزء الثاني وهي الوسائل الفعالة في تربية الأولاد.

هناك نمط من الناس لا يمكن أن يستجيب إلا بدافع الخوف من العقاب:

 تحدثت عن التربية بالقدوة وعن التربية بالتعويد والتلقين وعن التربية بالموعظة والملاحظة، واليوم ننتقل إلى التربية بالعقوبة.
 أيها الأخوة الكرام من الثابت أن جزءاً من بني البشر لا يمكن أن يرتدع إلا بالعقوبة، ولأن الله خالق البشر وهو الخبير بهم قال في كتابه الكريم:

﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (179) ﴾

(سورة البقرة)

 الأصل أن تكون ليناً وتتخذ من الموعظة والقدوة والملاينة والملاطفة والإقناع والتوجيه ولفت النظر الوسائل التي تحمل المربى على أن يستجيب لك، أما حينما لا يستجيب بهذه الوسائل عندئذ لا بد من العقاب.
 أيها الأخوة الكرام من خلال تعاملي مع الناس هناك نمط لا يمكن أن يستجيب إلا بدافع الخوف من العقاب، ألم يقل الله عز وجل:

 

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ (60) ﴾

 

(سورة الأنفال)

 قد تحوز سلاحاً ولا تستخدمه، لكن لمجرد أنه معك سلاح فتّاك الذين حولك يهابونك، لا بد في بعض الأحيان ومع بعض الأشخاص من أن تستخدم أسلوب العقاب.
 هل تتصورون في الأرض قانوناً يصدر من دون رادع ؟ هل يصدر قانون للسير من دون عقوبات ؟ لا قيمة له إطلاقاً.

 

القرآن الكريم شرّع العقوبات ونبهنا إلى أن الرحمة في موضع إقامة الحد خطأ كبير:

 

 

 أيها الأخوة، في الغرب رأوا أن العقاب شيء تقليدي أو غير حضاري أو همجي ووحشي فألغوا عقوبة الإعدام، واضطرت معظم الدول إلى أن تعود إليه مقهورة لأن الجريمة استشرت، والقتل استحل، والتجاوزات شاعت، ولا يمكن أن ينضبط الإنسان إلا حينما يخاف من الواحد الديان، لذلك في القرآن الكريم وهو كلام الله عز وجل ومنهج خلق البشر شرّع العقوبات، نبهنا إلى أن الرحمة في موضع إقامة الحد خطأ كبير.

﴿ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ (2) ﴾

(سورة النور)

 سابقاً وليس الآن بلد بعيد بعد الأرض عن السماء عن أساليب الحضارة، لمجرد أن يطبق قانون السرقة ترى فيه العجب العجاب، الذي يبيع النقد يذهب ليصلي وصندوق النقد مفتوح تحت أعين الناس وأيديهم، ولا أحد يجرؤ أن يمد يده إلى شيء، في بلد بعيد عن التحضر بمقياس العصر، ومع ذلك حين أقيم حد السرقة ترى فيه العجب العجاب، وبلد آخر هو قمة في الحضارة المادية، في كل ثلاثين ثانية ترتكب جريمة قتل، أو جريمة سرقة، أو جريمة اغتصاب، وهذا الإحصاء عام خمسة وستين ! كل ثلاثين ثانية، جُمعت جرائم القتل والسرقة والاغتصاب وقسمت على ثواني العام فكان كل ثلاثين ثانية لا بد من جريمة قتل أو سرقة أو اغتصاب !!
 أن يكون هناك رادع يمنع الإنسان من أن يرتكب إثماً هذا الشيء لا بد منه، المدرسة الناجحة والمؤسسة والجامعة والمستشفى وأي عمل ناجح لا بد من أن يكون العقاب رادعاً للموظفين حتى لا يتجاوزوا حدودهم.

 

مقاصد الشريعة الكلية أن يسلم دينك وعقلك و حياتك وعرضك ومالك:

 

 أخواننا الكرام عندنا خمسة مقاصد للشريعة أساسية في حياة المسلمين، المقاصد هي الحفاظ على الدين وعلى الحياة وعلى العِرض وعلى العقل وعلى المال، أن يسلم دينك وحياتك وعقلك وعرضك ومالك هذه مقاصد الشريعة الكلية، ولكل مقصد من هذه المقاصد حد رادع، فالذي يعتدي على دين الأمة، أن يكفر فيما بينه وبين نفسه لا شيء عليه ! لأن الإنسان حر ولا إكراه في الدين، وله أن يعتقد ما يشاء، أما حينما تريد أن تسفه دين الأمة بلسانك أو بقلمك أو بأعمالك الفنية أو بقصصك فلا بد من عقاب رادع وهو القتل، حد القتل، لكن هذا الذي يرتدّ عن دينه من السذاجة أن تظن أنه يحاسب فوراً، لا بد من أن يستتاب ويجلس معه عالم كبير ويقنعه إلى أمد طويل، فإذا أقيمت عليه الحجة ولم يرتدع ويسكت وبقي يطعن في دين الأمة ومقدساتها هذا إنسان يخرب عقائد الناس ومقدساتهم.

  الاعتداء على دين الأمة له حد ولكن لا يطبق فوراً بل بعد الإصرار والإقناع وبعد إقامة الحجة، والعدوان على حياة الناس حده القتل.

﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (179) ﴾

(سورة البقرة)

 المؤمن حينما يرى أنه إذا قتل نفساً لا بد من أن يُقتَل لا يَقتُل وفر لهذا الإنسان حياته ووفر له حياته، فضمنَّا حياة المقتول والقاتل حينما نضع للقتل حداً، لذلك العرب في الجاهلية قالت: القتل أنفى للقتل، لكن القرآن يقول:

 

﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (179) ﴾

 

(سورة البقرة)

 نعمة الأمن لا تعدلها نعمة على الإطلاق، أقول لكم هذا: لي صديق جاء من أمستردام إلى دمشق على طائرة هولندية ـ قصة قديمة ولا تزال قائمة ـ فألقيت رسالة باللغة الإنكليزية للركاب، هذه الرسالة كما يلي: أنتم راكبون إلى أأمن بلد في العالم، بمعنى أنه بإمكانك أن تتجول أنت وزوجتك إلى ساعة متأخرة من الليل دون أن تخشى شيئاً، هذه نعمة لا يعرفها إلا من فقدها، لا تستطيع في معظم الدول بعد غياب الشمس أن تتجول بحريَّة لأن هناك من يعتدي على حياتك وزوجتك.
 ليس هذا كلاماً عاماً، هناك أماكن كثيرة وفي مراكز المدن الإنسان ليس آمناً على نفسه، لكن نعمة الأمن التي يوفرها الدين هذه نعمة لا تقدر بثمن، بل إن الإقامة ببلد لست آمناً فيها محرمة ! لأن الأمن قوام الحياة، رأيتم فيما مضى في بلاد تجاورنا الإنسان ثمنه رصاصة، ولا شيء يدفعه القاتل إذا قتل قتيلاً حتى لخلافات بسيطة ولديون بسيطة، كان الإنسان يقتل غريمه وينتهي الأمر.

نعمة الأمن من أكبر النعم:

 من أكبر النعم نعمة الأمن قال تعالى:

﴿ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) ﴾

(سورة قريش)

 حد الاعتداء على الدين والحياة واضح جداً، هناك حد الاعتداء على العرض، يكفي أن تقذف امرأة محصنة لا بد من أن تجلد ثمانين جلدة ولا تقبل لك بعدها شهادة أبداً، لأن قذف محصنة يهدم عمل مئة سنة.
 أيضاً سمعة الإنسان شيء مهم جداً سماه العرب في الجاهلية العِرض، نحن إذا قلنا عرض فلانة نتصور أن ينتهك عرضها، لكن العِرض سمعة الإنسان وموطن المدح والذم في الإنسان، وكما أن المرأة إذا اعتدي على سمعتها يستحق الذي يقذف المرأة ثمانين جلدة كذلك إذا اعتديت على سمعة رجل بالباطل الحكم الشرعي نفسه يجلد ثمانين جلدة، فلان حرامي أو زاني بلا دليل لا بد من أن يُرجَم الذي يقذف المحصن والمحصنة ثمانين جلدة.
 العدوان على الدين والحياة والعرض والعقل بشرب الخمر لكل منهم حد، حدثني أخ كان بسفر دعي إلى طعام، هو يعمل في مجال التربية، وحضر الطعام نخبة من كبار رجال التربية في تلك المحافظة، وموجهون تربويون ومدرسون قدماء لكن شربوا الخمر، فسمع منهم كلاماً لا يمكن أن يقوله الذي قاله في صحوته مستحيل ! وصل لمناطق حميمة جداً ولذكر أسماء ولعلاقات شائنة لا يمكن أن يقولها إذا كان في صحوته قالها في سكرته، فلذلك الذي يشرب الخمر يعتدي على عقله.

 

العقوبات شرعية مئة بالمئة لأن خالق الإنسان والخبير والعليم هو الذي شرعها:

 

 تروي بعض القصص: إنسان خُيّرَ بين أن يزني بامرأة وبين أن يقتل طفلاً وبين أن يشرب خمراً، فتوهم هذا الإنسان أن أهون شيء شرب الخمر، فشرب الخمر فزنى بالمرأة وقتل الغلام، لذلك ورد أن الشر كله جمع في بيت ثم أرتج عليه فكان مفتاحه شرب الخمر، فحد الارتداد والقتل والقذف وحد فقد العقل بالخمر وحد السرقة بقطع اليد.
 والله أيها الأخوة لي أقرباء كثر كانوا في بلد إسلامي يقام فيه حد السرقة والله سمعت قصصاً ولا يمكن أن تكون بالخيال، حتى سمعت من برنامج من إذاعة بعيدة جداً في أقصى الغرب عن هذا البلد الذي يقيم حد السرقة، إنسان يحمل كيساً فيه ملايين ليشتري حاجات على ظهره، رواتب موظفين محافظة بعيدة جداً تبعد ألفين كيلو متر توضع في شاحنة ورق، في أوروبا قطارات مصفحة ومسلحة ومع ذلك تسرق، فحينما يقام حد السرقة في بلد يصبح الناس آمنين على أموالهم، أما حينما يكتفي بالسجن فقط، وقد يخرج بكفالة وقد وقَد وقد... يوجد ألف حل، أما حينما يوقن الذي سيسرق أن يده سوف يفقدها، بلد فيها عشرون مليوناً لو أقيم حد السرقة لا تقطع إلا عدة أيادي في السنة كلها ! لكن ضمنّا بقاء الأموال لأصحابها، فالمال قوام الحياة، هذه العقوبات شرعية مئة بالمئة لأن خالق الإنسان والخبير والعليم هو الذي شرعها.
 حد الارتداد وحد القتل وشرب الخمر والسرقة والقذف، لكن في الإسلام عقوبات أخرى اسمها التعزيرات تبدأ بالتوبيخ وقد تتطور إلى الضرب والسجن، لكن لا يجوز أن تصل إلى الحد الذي رسمه الشرع.

 لي أمر المسلمين قد يضع لكل مخالفة عقاباً لها، من هذا العقاب السجن أو كتاب توبيخ أو ضرب، فهذه تعزيرات إن لم تكن حدوداً، حرية حركة بها يرى من المناسب أن يفعل كذا وكذا.

حينما نهون من قيمة العقاب تنشأ مشكلات ليس لها حلول:

 يوجد حد سادس هو حد الإفساد في الأرض.

﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) ﴾

(سورة المائدة)

 لا أريد أن أطيل عليكم، لكن البلاد التي قللت من العقوبات تعاني ما تعاني من الويلات، كل حين نسمع عن إنسان دخل وقتل ثمانية، خمسة عشر، أو أكثر، بلبنان قبل شهر دخل إنسان قتل ثمانية، حينما نهون من قيمة العقاب تنشأ مشكلات ليس لها حلول.
أقول لكم مرة ثانية بدأت بعض الدول التي منعت عقوبة الإعدام بإعادة هذه العقوبة كرادع كبير للمجتمع من أن تشيع فيه الجريمة.
 مرة سمعت تصريحاً لرئيس من رؤساء أميركا السابقين أن أمريكا مهددة بأربع مشكلات خطيرة ! فقبل أن يتابع كلامه تصورت أن هذه المشكلات هي الصين أو التجمع الأوروبي أو اليابان أو ما شاكل ذلك، ثم فوجئت بشيوع الجريمة وتفكك الأسرة وانتشار المخدرات.
 سيدنا عمر مرة قيل له: يا أمير المؤمنين إن الناس هابوا شدتك فبكى وقال: والله لو يعلم الناس ما في قلبي من الرحمة لأخذوا عباءتي هذه، ولكن هذا الأمر لا يناسبه إلا كما ترى، أيها الناس: كنت خادم رسول الله وجلواده وسيفه المسلول، وتوفي وهو راض عني، والحمد لله على هذا كثيراً وأنا به أسعد، ثم كنت خادم أبي بكر وسيفه المسلول وجلواده، وتوفي وهو عني راض والحمد لله على هذا كثيراً وأنا به أسعد، ثم آلت الأمور إلي فاعلموا أيها الناس أن تلك الشدة قد أضعفت، وإنما تكون على أهل المعصية والفجور، أما أهل التقوى والصلاح فأنا ألين لهم من أنفسهم، وسأضع خدي على الأرض ليدوسوه بأقدامهم، أيها الناس: لكم علي خمس خصال خذوني بهن: لكم علي أن لا آخذ من أموالكم شيئاً إلا بحقه، وألا أنفقه إلا بحقه، ولكم علي أن أزيد عطاياكم إن شاء الله تعالى، ولكم علي ألا أجمركم في البعوث، وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا.
 لا بد من الشدة، هل تصدقون أن سيدنا عمر كان وزير عدل في عهد سيدنا أبي بكر الصديق ؟! وجلس في مجلس القضاء سنتين دون أن يختصم إليه اثنان !

 

كلما طبق المسلمون منهج الله عز وجل قلَّت الخصومات:

 

 لآن ستون ألف دعوة بقسم وثلاثون ألفاً بقسم وأربعون ألفاً بقسم، عدد الدعاوى التي ترفع إلى محاكم المسلمين فلكي، وأكثرها كيدي، وأكثرها أساسه العدوان على الحقوق والأموال والأعراض والعلاقات الشخصية، المشكلة كلما طبق المسلمون منهج الله عز وجل قلت الخصومات، الأصل أن الله حينما شرع لك منهجاً من أجل أن تتفرغ لعبادته، لو دخل اثنان القضاء الأسرتان ومن حولهما تتوتر أعصابهما وتضطرب حياتهما لسنوات عديدة، أما البطولة ألا تدخل إلى القضاء.
 سيدنا عمرو بن العاص سأله معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: يا عمر ما بلغ من دهائك ؟ قال: والله ما دخلت مدخلاً إلا أحسنت الخروج منه، قال: لست بداهية يا عمرو، أما أنا والله ما دخلت مدخلاً أحتاج أن أخرج منه !
 البطولة اكتب إيصالاً فهو يلغي دخولك القضاء، اكتب عقداً وصدِّقه بمحكمة البداية، اربط أخاك بعقد فإنك بهذا تمنع عنه الشيطان، أما إن لم يكن عقد بينكما فالشيطان جاهز، وكم من اغتصاب شركة وبيت بسبب تسيب الأمور بلا عقد، أكثر المنازعات اليوم اشترى بيتاً من ثلاثين سنة ولم يسجله في السجل العقاري بسبب كسله كان ثمنه ثلاثين ألفاً الآن ثمنه ثلاثة عشر مليوناً، مالك البيت هل يعقل أن يسجله بالسجل العقاري ؟ لا يسجله لأنه يريد فرق مئتي ألف أو نصف مليون أو مليون، المال الحرام، لو سجلته في ذلك الوقت لما وصلت لما وصلت إليه، أكثر المنازعات سببها طمع، والطمع سببه لا يوجد قيد، فإذا كل قرض بإيصال وبشاهدين، وكل اتفاق بعقد، وكل عقد بيع كبير بعقد مكتوب فيه كل الشروط لا نصل إلى القضاء.
 أحياناً تسمع إنساناً يمدح نفسه قائلاً: أنا لا أعرف المخفر والقضاء وقصر العدل لو أنصف الناس لاستراح القاضي وبات كل عن أخيه راضٍ، لذلك ورد:

(( عج حجر إلى الله تعالى فقال: إلهي وسيدي عبدتك كذا وكذا سنة ثم جعلتني في أس كنيف فقال: أو ما ترضى أن عدلت بك عن مجالس القضاة.))

[ رواه تمام وابن عساكر عن أبي هريرة ]

 لأن يكون هذا الحجر في أس كنيف أشرف له ألف مرة من أن يكون في مجلس قاض ظالم.

 

العدل أساس الملك

 

 

 روى أنه عقب الحرب العالمية الثانية زعيم بريطانية سأل وزراءه واحداً وَاحداً فسأل وزير الصناعة: كيف الصناعة عندك يا مستر فلان ؟ قال: المعامل كلها مدمرة، سأل وزير الزراعة: كيف الزراعة عندك يا مستر فلان ؟ قال: الحقول كلها محروقة، سأل وزير الخزانة: كيف الخزانة عندك يا مستر فلان ؟ قال: خاوية على عروشها، سأل وزير العدل: كيف العدل عندك يا مستر فلان ؟ قال: العدل بخير، فقال هذا الزعيم: كلنا إذاً بخير، أنت حينما تجلس في مجتمع بإمكانك أن تقاضي أي إنسان وتنال حقك فأنت في مجتمع الخير والعدل أساس الملك.

﴿ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (58) ﴾

(سورة النساء)

 في محكمة الجنايات لوحتان رائعتان، لوحة فوق رأس القاضي يراها المتهمون في قفص الاتهام كُتِب عليها:

 

﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (179) ﴾

 

(سورة البقرة)

 هذه الآية القرآنية يقرؤها المذنبون، وكتب فوق رأس المذنبين آية قرآنية يقرأها القاضي:

 

﴿ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (58) ﴾

 

(سورة النساء) 

العقوبة لا بد منها لأن الشرع قررها لكن الأصل هو اللين واللّطف والتوجيه والتعليم:

 سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(( لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا.))

[البخاري عن عائشة رضي الله عنها]

(( أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وأيم اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ))

[البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا]


 كمقدمة للتربية بالعقوبة قلنا: العقوبة لا بد منها لأن الشرع قررها، والشرع قرر حدوداً متعلقة بمقاصد الشريعة الخمسة، وقرر تعزيرات تركت لولي المسلمين، عقوبات تبدأ بالتوبيخ وتنتهي بالسجن، لكن ينبغي أن تكون دون الحدود التي شُرِّعت في القرآن الكريم.
 مرة ثانية أيها الأخوة الأصل اللين واللّطف والتوجيه والتعليم.

 

(( علموا ولا تعنفوا فإن المعلم خير من المعنف ))

 

[الحارث والطيالسي وابن عدي والبيهقي عن أبي هريرة]

(( إن الله رفيق يحب الرفق ))

[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والدارمي وابن ماجة عن أبي هريرة]

(( عليك بالرفق إن الرفق لا يكون في شي إلا زانه ولا يُنْزَع من شي إلا شانه))

[رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها]

  هذا الأصل، ولأن معظم النفوس تستجيب للتوجيه والإرشاد، أنت كأب أو كأخ كبير أو كمعلم نبِّه ووضِّح بلطف، هذا الشيء حرام ويُغضِب الله ويُفسِد حياتك ويُسِيء إلى سمعتك ويكون عقبة أمام نجاحك بيِّن، وضِّح، فَصِّل، ائتِ بالدليل العقلي والواقعي والفطري والطبيعي والعاطفي فالأصل:

 

(( علموا ولا تعنفوا ))

 

[الحارث والطيالسي وابن عدي والبيهقي عن أبي هريرة]

(( عليك بالرفق ))

[رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها]

(( يسرا ولا تعسرا ))

[متفق عليه عن أبي موسى ومعاذ ]

 لكن أحياناً آخر الطب الكي، فقد لا يجدي الرفق ولا التوجيه ولا الإرشاد ولا الموعظة لا بد من العقاب.

 

البطولة أن تعرف الفروق الفردية بين الصغار:

 

 يوجد طفل مزاجه لطيف ومسالم، هذا الطفل إذا ضربته تحطمه، أنا أستخدم كلمة قاسية جداً، الطفل الذي له مزاج لطيف وعنده رقة وحياء هذا لو ضربته أنت في حقه مجرم ! وتجد طفلاً ـ والعياذ بالله ـ لا يمكن أن يرتدع إلا بالضرب، فالبطولة أن تعرف الفروق الفردية بين الصغار، يوجد طفل إذا أعرضت عنه فقط يحترق، لو صرفت وجهك عنه.
 أيها الأخوة الحقيقة من أطاع عصاك فقد عصاك، هذا الذي يخاف من ضربك لا يحبك وأنت لست ناجحاً معه، ومرة ثانية من السهولة بمكان أن تكون عنيفاً، ومن السهولة أن تكون ليناً، لا تكن ليناً فتعصر ولا تكن قاسياً فتكسر، البطولة أن تحيِّر الذي تربيه، بينما أنت في أعلى درجات الرحمة أنت في أعلى درجات الشدة، هذا معنى الآية الكريمة:

﴿ رَغَباً وَرَهَباً (90) ﴾

(سورة الأنبياء)

  رجاء وخوفاً.
 أخواننا الكرام هناك حقيقتان خطيرتان في هذا الدرس ؛ أول حقيقة أنت أب أو معلم أو أخ أكبر إذا قدمت شيئاً ثميناً لابنك، قدمت له حاجاته ومتطلباته ووفرت له كرامته، وكنت لطيفاً معه، ويوجد ود بينك وبينه، فالابن أو التلميذ يعد للمليون قبل أن يزعجك في شيء ثمين أخذه منك، أما إذا كانت حاجاته كلها غير مؤمنة وقسوة بالغة، فلم يعد هناك رغبة عند المتعلم أن يرعى رغبات المعلم، فعندما تقدم شيئاً ثميناً مثلاً لو فرضنا موظف يتلقى من محل تجاري مبلغاً أقل بكثير من حاجته، وفي قسوة، ولا يوجد معاملة طيبة ورحمة، لا تجد هذا الموظف حريصاً على تنفيذ تعليمات صاحب المحل، أما إذا كان الراتب مجزياً، والمعاملة طيبة، والمكافئات كثيرة فهذا الموظف يعد للمليون قبل أن يزعج صاحب العمل.

 

بقدر ما تقدم تكتسب هيبة وبقدر ما تكتسب هيبة لا تحتاج إلى العقوبة:

 

 معلم بصف عندما يعلم بإخلاص، ونفسه لطيفة، ومرح مع الطلاب، وهو أخ أكبر لهم أو أب، فهذه المعاملة الطيبة، والعلم الغزير، والتوجيه الرقيق، والقيم الأخلاقية العالية هذه تجعل الطالب حريصاً على طاعة المعلم، والأب كذلك، فالأب المثالي قلما يجرؤ ابنه على التطاول عليه، لا يجرؤ لأنه أخذ حقه، والله أعرف أخاً من أخواننا عنده أولاد أكرمهم إكراماً بالغاً، زوَّجهم وهيأ لهم عملاً واشترى لهم بيتاً ضمن إمكانيته، فكلما زرته والله أرى احترام أولاده له يفوق الخيال، بعض الآباء يقولون دبر حالك أنا رُبِّيت عصامياً، دبر حالك، لا يساعده أبداً، ولا يوجد كلام طيب، ولا إنصاف، ولا أي شيء آخر أحياناً يتطاول، فهذه النقطة مهمة جداً حينما تقدم شيئاً ثمينا جداً لمن تعلمه أباً كنت أو معلماً فهذا الذي يتعلم منك حريص حرصاً ليس له حدود على إرضائك وعلى طاعتك، لا تحتاج لعقوبة بعدها، أما إذا كان لا شيء منك غير القسوة والكلام القاسي والسباب والشتائم والقهر والإذلال ولم تقدم شيئاً لمن تعلمه، طبعاً لا قيمة لك عنده ولا يهمه غضبك أو رضاك، فبقدر ما تقدم تكتسب هيبة وبقدر ما تكتسب هيبة لا تحتاج إلى العقوبة، أقسم لي أحد الآباء أنه ربى كل أولاده لم يسبهم مرة، ولا كلمة قاسية، ولم يضرب أحداً، الحاجات مؤمنة في توجيه سديد، الأب مثالي حريص على تقديم كل شيء لأولاده، فبالتربية قاعدة تقول: خطأ الابن سببه الأب، فإذا قدمت الشيء الجيد قلما تحتاج لاستخدام عقوبة.
 شيء آخر لو تصورنا أسرة فيها قسوة، الأب يقسو ويسب الأم أمام الأولاد وقد يضربها، والأخ الأكبر يتلقى الإهانة تلو الإهانة من الأب، هذا الجو جو عنف، فتجد الأخ الأكبر ضرب الأخ الأصغر وسبَّه سباباً قاسياً، إذا كان رأس البيت قاسياً أفراد البيت يتمثلون هذه القسوة بأبشع صورها، تجد البيت هادئاً قلما يعلو صوت، كله ابتسامة، واعتذار، ومؤاثرة، والله أكاد أبلغ درجة من الإعجاب ببعض البيوت من شدة الانضباط الذي فيها، فيها مؤاثرة وتضحية وكلام لطيف وصون للحقوق.
 عندما جاءت لسيدنا عمر كنوز كسرى كان إلى جانبه سيدنا علي، فقال سيدنا عمر: يا سبحان الله، سبَّح الله على هذه الأمانة، شخص أتاه بكل هذه الملايين وتاج كسرى لو ذهب إلى أنطاكية والقسطنطينية وباع التاج واشترى بيوتاً وأراضي وقصوراً لعاش برفاهية إلى آخر حياته، فجاء بكل هذه الكنوز لأمير المؤمنين ولم يأخذ منها شيئاً، فقال سيدنا عمر: يا سبحان الله، فقال سيدنا علي: يا أمير المؤمنين أعجبت من أمانته ؟ لقد عففت فعفوا ولو وقعت لوقعوا.

معظم أمراض الكلام نفسية تأتي من قسوة الأب أو المعلم:

 إذا كان الأب مثالياً هذا يكفي، وأن يكون أخلاقياً وورعاً وعفيفاً وصادقاً، تجد الابن صادقاً ويصلي، بيت تقام فيه الصلوات الخمس الأولاد يصلون بشكل طبيعي، فالقدوة سلاح فعال في التربية لا يقدر بثمن، أحد كبار المربين المسلمين ابن خلدون يقول: إن من يعامَل بالقهر يصبح حملاً على غيره.
الابن إذا قسوت عليه قسوة شديدة يفقد ثقته بنفسه، فيصبح عبئاً عليك ولا يحسن شيئاً، أضعفت له ثقته بنفسه، إذا تكلم تقول له أن يصمت، أراد مساعدتك تخبره بعدم معرفته، لم يعد يفعل شيئاً أبداً، ضعيف الثقة بنفسه مهزوز الشخصية، إذا جلس بمكان لا يستطيع أن يتكلم كلمة، وبعض أمراض الكلام تتأتى من قسوة الأب مثل التأتأة والفأفأة والحبسة، أمراض الكلام مخيفة أسبابها نفسية فقط، معظم أمراض الكلام نفسية تأتي من قسوة الأب أو المعلم.
 أخ كريم زوج ابنته لزوج قاس ٍجداً، فالبنت تركت بيت زوجها وجاءت لبيت أبيها، وفي هذا البيت جاء الزوج غاضباً وطرق الباب ودخل وهجم على زوجته أمام طفل صغير فأصيب فوراً بالحبسة من خوفه، وعانى منها حوالي اثنتي عشرة سنة، تذكروا هذا الحديث:

(( عليك بالرفق إن الرفق لا يكون في شي إلا زانه ولا يُنْزَع من شي إلا شانه))

[رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها]

  البيت الذي فيه رفق، ولا يوجد فيه صياح، ولا ضرب، ولا قتل، ولا تخبيط أبواب، ولا كسر بلور، ولا أعمال عنف، هذا البيت فيه ملائكة وراحة نفسية، فبقدر ما تكون هادئاً بقدر ما يكون الذين معك هادئين، الحلم سيد الأخلاق وكاد الحليم أن يكون نبياً.
 يقول ابن خلدون: إن من يعامل بالقهر يصبح حملاً على غيره، إذ هو يصبح عاجزاً عن الذود عن شرفه وأسرته لخلوه من الحماسة والحمية.

 

البنت أساسها الحياء والخجل ومحبة الأب والأم:

 

 

 إذا بنت مهانة في بيتها، أمها تشتمها، وأبوها كذلك، ودائماً محتقرة، هذه تصبح لينة مع أي أجنبي، من تسمع منه كلاماً معسولاً تلين معه، لأنها فقدت العطف من بيتها، أنا لا أعطي مبرراً، لكن البنت لا تُضرَب فلها مكانة كبيرة، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يقف لفاطمة وهذا شيء غريب جداً، لما جاءته قال:

(( ريحانة أضمها وعلى الله رزقها ))

[ ورد في الأثر ]

  لا يوجد أقرب من البنت لأبيها، فالذي تسول له نفسه أن يضرب ابنته مشكلة كبيرة، البنت أساسها الحياء والخجل، ومحبة الأب والأم، فالأب والأم القاسيان على ابنتهم دائماً كلام قاسي وتوبيخ، لو فرضنا تكلم إنسان غريب على الهاتف كلاماً لطيفاً تجدها مالت هذه مشكلة كبيرة جداً، فعندما تعطي أولادك العطف الكافي تكسب ودهم، والله حدثنا أساتذة في التربية أنهم عملوا تجربة أم أرضعت ابنها بقسوة ـ عندهم التجارب تستمر ثلاثين سنة ـ وأم أرضعتهم بلين اختلفت طباع الطفلين، كيف الإنسان يحب ؟ يتغذى من حنان أمه وأبيه، الحنان غذاء غير الطعام والشراب، أحياناً الخادمة تقدم للطفل كل شيء لكن لا يوجد عندها حنان، أو بنت تربى عند زوجة أبيها لا يوجد رحمة، تنشأ عندها صفات غريبة جداً.
 أيها الأخوة البيت الذي فيه رحمة وحب وهدوء وحلم ورفق هذا البيت كل أفراده يطبعون بهذا الطابع، الموضوع عن العقوبة لكن نعتبر التوجيه والرفق والملاطفة والملاينة.
 إن شاء الله في درس قادم ننتقل إلى تفاصيل كيف تستخدم العقوبات ؟ يوجد إنسان يستخدم أقصى عقوبة أول شيء، يجب أن تبدأ بأخف عقوبة ثم تضاعف العقوبة بالتدريج، فالموضوع التدرج في المعالجة من الأخف إلى الأشد، ممكن أن تبدأ بالتوجيه وبالملاطفة وكله فيه إشارات من النبي عليه الصلاة والسلام، ممكن بالإشارة أو بالتوبيخ أو بالهجر أو بالضرب، هذا كله إن شاء الله سنقف عنده في الدرس القادم بالتفصيل، وسنذكر الأساليب التي علمنا إياها النبي عليه الصلاة والسلام.
 أيها الأخوة أرجو الله عز وجل لمن عندهم أولاد ولمن يعملون في حقل التربية والتعليم ولمن هم مقدمون على الزواج أن يرعوا هذه الأساليب، لا يوجد أسعد من بيت يسوده الود والتفاهم والوئام.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور