وضع داكن
25-04-2024
Logo
الدرس : 16 - سورة الأحزاب - تفسير الآيات 60 - 68 النفاق الأكبر والنفاق الأصغر وأنواع المنافقين
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

الآية التالية فيها وعيد شديد للمنافقين وللمرجفين وللذين في قلوبهم مرض:


 أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس السادس عشر من سورة الأحزاب.

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)﴾ الحقيقة أن في هذه الآية وعيداً شديداً للمنافقين، وللمرجفين، وللذين في قلوبهم مرض، وإذا كانت هذه الآيات مسوقةً إلى المنافقين في عهد النبي، وإلى المرجفين في عهد النبي، وإلى الذين في قلوبهم مرضٌ في عهد النبي، فإنَّها في الحقيقة ولعموم اللفظ مسوقةٌ إلى كل إنسانٍ متلبِّسٍ بهذه الصفات مجتمعةً أو ببعضها، إنسان مقيم على معصية لئن لم ينتهِ لنغرينَّك به، إنسان يروِّج الأخبار السيئة لإضعاف عزيمة المؤمنين لئن لم ينتهِ فهناك عقابٌ أليم، إنسان يفسد في الأرض لئن لم ينتهِ فهناك عذابٌ أليم.

 

الموفَّق من يفهم كلام الله بطريقةٍ يُحِسُّ أنها موجَّهةٌ إليه أولاً:


الحقيقة القرآن الكريم له منطوق وله مفهوم، له خاص وله عام، فمن سعادة المَرْء أن يفهم بعض الآيات لا على أنها خاصَّةٌ لمن كان مع النبي عليه الصلاة والسلام وانتهى الأمر، وكأنَّها قصَّةٌ تاريخيَّةٌ وقعت ومضت وأصبحت ذكراً، لا، الموفَّق من يفهم كلام الله بشكلٍ موسَّع، أي بطريقةٍ يُحِسُّ أنها موجَّهةٌ إليه.

أولاً: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ﴾ قال بعض المفسِّرين: الذوات واحدة والصفات مختلفة، أي إنسان واحد منافق، وفي قلبه مرض، ويروِّج الأخبار السيئة، وقال بعضهم: هؤلاء أصنافٌ ثلاث، سواءٌ أكانت الذوات متَّحدة أم متباينة، فالذي يعنينا أن في هذه الآية نفاقاً، وفي هذه الآية قَلْبٌ مريض، وفي هذه الآية إنسان يروِّج الأخبار السيئة في المجتمع الإسلامي، فالمنافق هو الذي يُظْهِرُ ما لا يُبطن، يدَّعي أنه صالح وهو طالح، يدَّعي أنه مؤمن وهو كافر، يدَّعي أنه ورع وهو مُتساهل، يُظهر أمام الناس عبادةً، ويضمر فيما بينه وبين نفسه معصية، هذا الموقف الازدواجي؛ شيء معلن، شيء مبطَّن، شيء ظاهر، شيء باطن، شيء يقال، شيء لا يقال، مع المؤمنين تراه مؤمناً، مع الكفَّار تراه كافراً، هذه الشخصية الازدواجيَّة التي في بنيتها رياء، الرياء في العمل والنفاق في القول، هذه الشخصيَّة ربَّما أسدل الله سبحانه وتعالى ستره عليها. فالإنسان إذا ستره الله عزَّ وجل ينبغي أن يَعُدَّ هذا الستر الذي أسبغه الله عليه فرصةً للتوبة، أي عندما يستر ربنا عزَّ وجل عبداً، كأن الله عزَّ وجل يعطيه فرصة، أن يا عبدي إلى متى أنت في اللذات مشغولُ؟ إلى متى أنت كذلك؟ أما تستحي مني؟ سلامة الإنسان مع النفاق هي فرصةٌ من الله عزَّ وجل لهذا الإنسان لعلَّه يعود، لعلَّه يتوب، لعلَّه يرجع، لعلَّه يتألَّم، لعلَّه يحاسب نفسه حساباً عسيراً.

 

كلَّما ازددت معرفة بالله عز وجل تستحي من النفاق:


في كل عصر، في كل زمان، في كل وضع، ما دام الإنسان ينطوي على شخصيَّة ازدواجيَّة، على شخصيَّة فيها بعض النفاق، أو فيها كل النفاق، لئن لم ينتهِ لا بدَّ من أن يفضحه الله عزَّ وجل، إن لم يستخدم ستر الله عليه كفرصةٍ للتوبة، لا بدَّ من أن ينكشف هذا الستر، كلامٌ دقيق، الذي يُبْطن الشر للمؤمنين ويُظهر التعاطف معهم، الذي إذا خلا فيما بينه وبين ربِّه انتهك حرمات الله، فإذا كان مع الناس أظهر الورع والتقى، هذا الإنسان ساذج، هذا الإنسان يظنُّ أن هذا الشيء ينطلي على الناس، وينطلي على الله عزَّ وجل، مع أن الله عزَّ وجل يقول:

﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)﴾

[  سورة النساء  ]

وقال: 

﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)﴾

[  سورة البقرة  ]

كلَّما ازدادت المعرفة بالله تستحي أن يكون لك موقفان، تستحي من النفاق، من إظهار شيء وإبطان شيء، من إعلان شيء وإضمار شيء، من أن تكون مع المؤمنين تصلي وتصوم وتذكر الله وتقول: لا حول ولا قوَّة إلا بالله، الله ينصر الإسلام يا أخي، وإذا كنت مع الكفَّار لك كلامٌ آخر، لك تعليقاتٌ ساخرة على المؤمنين، هذا الموقف الازدواجي، هذه الشخصيَّة المزدوجة، هذان الوجهان كما قيل: "ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً" .

 

ما دام الله قد أسبل عليك ستره وحفظك من أن تفتضح فبادر إلى التوبة وإلى طاعة الله:


النقطة الدقيقة في هذا الدرس هي أن الإنسان عندما يكون مقيماً على معصيةٍ، أو على مخالفةٍ، أو على انحرافٍ، ويسبل الله عليه ستره، يجب أن يعتقد اعتقاداً جازماً أن هذا الستر الذي أسبغه الله عليه فرصةٌ من الرحمن الرحيم كي يعود إلى رشده، فإذا أصرّ عندئذٍ ينكشف هذا الستِرْ، ويُفْضَح هذا الإنسان على رؤوس الخَلق، ويُكْشَفُ أمره، والله سبحانه وتعالى هو الذي يتولَّى ذلك، قال تعالى:

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾

[  سورة العنكبوت  ]

أي تُضَيِّعُ الناس، توهم الناس أنَّك صالح وأنت غير ذلك، والأمر يمشي هكذا؟! يمضي إلى ما لا نهاية، دون أن يُكشَف الأمر؟! دون أن يُفْتَضَحَ الإنسان؟! فكل إنسان - وهذا كلام أسوقه من قلبٍ إلى قلب - كل إنسان متلبِّس بمخالفة، بمعصية، بتقصير، يفعله فيما بينه وبين نفسه، والله سبحانه وتعالى أسبغ عليه ستره ليبادرْ إلى التوبة، وليكن هذا الستر فرصةً من الله عزَّ وجل كي يصحو هذا المنافق. 

أشعر من هذه الآية، لئن لم ينتهِ المنافقون فسوف تأتي الفضيحة، سوف يأتي العذاب الأليم، سوف يأتي كشف الغطاء، سوف يأتي إظهار الحقائق، سوف يأتي الامتحان العظيم، لئن لم ينتهِ، فالإنسان يجب أن يبادر إلى التوبة: 

﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)﴾

[  سورة آل عمران ]

ما دام الله قد أسبل عليك ستره، ما دام الله قد حفظك من أن تفتضح، بادر إلى التوبة وإلى طاعة الله.

 

أنواع النفاق والفرق بينهما:


المنافق كما قلت لكم في درس سابق هناك نفاق أكبر وهناك نفاق أصغر، النفاق الأكبر هو أن يبطن الإنسان الكفر البواح وأن يظهر الإيمان تحقيقاً لمصالحه، هذا النفاق الأكبر في الدرْكِ الأسفل من النار، لا في النار بل في الدرك الأسفل، لكن النفاق الذي يبتلى به بعض الناس هو نفاقٌ أصغر، حينما تغلبهم شهواتهم، حينما تقعُد بهم هممهم، حينما يقصِّروا، فكأنَّهم يستحيون من المؤمنين بتقصيرهم، أو باتباعهم بعض شهواتهم يُظهرون عكس ما هم فيه، هذا نفاقٌ أصغر - أسأل الله سبحانه وتعالى أن يصرفه عن كل مؤمن -.

النفاق الأكبر كفر، في الدرك الأسفل من النار، لكن النفاق الأصغر هو أن يُقصِّر الإنسان، أن تَغلبه شهوته، أن يقع في بعض الصغائر يستحيي بها، يظهر خلافها، يعطي الله عز وجل صاحب هذا النفاق فرصة لكي يتوب.

 يروى أن سيدنا عمر جاءه رجل سارق، فأقسم هذا الرجل أن هذه أول مرَّة يا أمير المؤمنين، وسيدنا عمر يعرف الله عزَّ وجل، فقال له: كذبت إنَّ الله لا يفضح من أول مرَّة، فإذا بها المرَّة الثامنة، إن الله لا يفضح من أول مرة، فالله عزَّ وجل رحمةً بهذا الإنسان إذا زلَّت قدمه يستره، يُخفي عيبه عن الناس، يُظهر الجميل ويستر القبيح، فالإنسان لا يستغل ستر الله عزَّ وجل لمتابعة معاصيه، عندئذٍ ينكشف هذا الستر، إذاً المقصِّر المغلوب أحياناً، أو من كان مقيماً على مخالفة، أو له معصية، ليبادر إلى التوبة، لأن التوبة كما قيل: "لله أفرح بتوبة عبده من العقيم الوالد، ومن الضال الواجد، ومن الظمآن الوارد". والله سبحانه وتعالى يقول: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)﴾

[ سورة التحريم ]

هناك أمر إلهي، والمؤمن مذنب توَّاب، وواهن راقع، وإذا تاب العبد توبةً نصوحاً أنسى الله حافظيه وجوارحه، وبِقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه.

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾

[ سورة الزمر ]

هذا نوع.

 

أمراض الجسد تنتهي عند الموت لكن أمراض القلب تبدأ بعد الموت وإلى الأبد:


 ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ بالله عليكم أيحتمل واحدٌ منكم أن يكون في بعض أعضائه، أو بعض حواسِّه خلل ويسكت عنه؟ مستحيل، إذا ضَعُفت الرؤية هل تبقى في البيت أم تبادر إلى الطبيب؟ إذا شعرت بشيء غير اعتيادي في جسمك، تبقى ساكتاً أم تبادر إلى تجلية الحقيقة؟ هل هناك مرض خطير؟ هل هناك عرضٌ زائل؟ تسأل الطبيب، لماذا تقلق كل هذا القلق إذا أصاب الجسم بعض الأمراض ولا تقلق قلقاً مثله إذا أصاب القلب مرضٌ خطير؟ ربنا عزَّ وجل في صريح القرآن الكريم، وفي هذه الآية بالذَّات، وفي سورة البقرة أيضاً قال:  

﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)﴾

[ سورة البقرة ]

وهنا: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ إذاً أخطر شيء في الحياة أن يكون الجسم قوياً والقلب مريضاً، الجسم قوي لكنَّ القلب مريض، أمراض الجسد أيها الأخوة مهما تفاقمت تنتهي عند الموت، لكن أمراض القلوب تبدأ بعد الموت وإلى الأبد، أيهما أخطر؟! 

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾

[ سورة الشعراء ]

 

القرب من الله تعالى يُسَبِّب الكمال والبعد عنه يسبِّب النقص:


يوجد غلّ؟ مرض، يوجد حسد؟ مرض، يوجد استعلاء على الخلق؟ مرض، يوجد كِبْر؟ مرض، يوجد رغبة أن تبني مجدك على أنقاض الآخرين؟ هذا مرض خطير، هل تقول شيئاً لصالحك ولا تعبأ بالحق؟ هذا مرض خطير، هل تقول على الله ما لا تعلم لمصلحةٍ تُريدها؟ هذا مرض أخطر، هناك إثمٌ، وبغي، وفحشاء، ومُنكر، وعدوان، وشرك، ونفاق، وفِسق، وفجور، وكفر، وهناك أخطر من هذه الأمراض كلِّها أن تقول على الله ما لا تعلم، نفسٌ تحبُّ ذاتها، تكره الناس هذا مرض خطير، نفسٌ تحبُّ أن تحيا ويموت الناس هذا مرض أخطر: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ والحقيقة التي لا شكَّ فيها أن أساس كل هذه الأمراض هو الإعراض عن الله عزَّ وجل، بل إنَّ كل ما يعانيه الإنسان من أمراضٍ نفسيَّة إنها في الحقيقة أعراضٌ لمرضٍ واحد وهو البعد عن الله، إذا ابتعدت عن الله صار القلب قاسياً كالصخر، إذا اقتربت من الله صار القلب رقيقاً رحيماً، إذا ابتعدت عن الله صرت ظالماً، إذا اقتربت من الله صرت مُنصفاً عادلاً، إذا ابتعدت عن الله صار الإنسان غليظ القلب، إذا اقترب من الله صار رقيق المشاعر، أبداً؛ مع البعد مرض ومع القرب كمال، إذا ابتعدت عن الله عزَّ وجل جاءت الأمراض النفسيَّة، إذا اقتربت من الله عزَّ وجل تحلَّت نفسك بالكمالات الإلهيَّة، بصبغة الله عزَّ وجل، إذاً يمكن أن تقول: إنَّ القرب يُسَبِّب الكمال، وإن البعد يُسبِّب النقص، إذاً أي مرضٍ نفسيٍّ يعانيه الإنسان هو في الحقيقة بعدٌ عن الله عزَّ وجل.

 

المرض النفسي تبدأ آثاره الخطيرة بعد الموت أما المؤمن فيشعر بمرضه النفسي وهو حيّ:


أنا ألاحظ أن هناك أناساً دقيقو الملاحظة في أجسامهم، يقول لك: هذا الطعام لا يناسبني، أرتاح لهذا الطعام، هذا البرد الذي أصابني أتعبني، يتابع حرارته، برودته، طعامه، شرابه، نومه، يقول لك: هواء الغرفة فاسد شعرت بضيق، عنده حساسية، والله شيءٌ جميل، لكن الأجمل من هذا أن يكون لك حساسية أخلاقيَّة، هذه الكلمة مثلاً جرحت بها فلاناً لا بدَّ من أن يسامحني، هذا الشعور أنني نِلت شيئاً ثميناً والناس من حولي جياع فشعرت بهذا التفوُّق هذا مرض، عن أنس بن مالك: قال عليه الصلاة والسلام: 

(( ما آمن بي من بات شبعانَ و جارُه جائعٌ إلى جنبِه و هو يعلم به. ))

[ صحيح الجامع : خلاصة حكم المحدث : صحيح  ]

لك أخ بالعمر نفسه نال شيئاً فتألَّمت، ليته لم ينجح، ليته لم يتزوَّج هذه الفتاة، هذا مرض خطير، أن تتمنَّى زوال النعَمِ عن الآخرين، فيا ترى هل هناك متابعة؟ هل تتابع نفسك؟ هل تلاحظ الأمراض النفسيَّة التي هي بسبب البُعد عن الله عزَّ وجل؟ هل تفرح إذا أصاب المؤمن خير أم تتألَّم؟ هل تحبُّ أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا أم تحبُّ أن تشيع السمعة الطيِّبة في الذين آمنوا؟ فهذا المرض النفسي مرضٌ خطير، ومشكلته أنه تبدأ آثاره الخطيرة بعد الموت، أما المؤمن فيشعر بمرضه النفسي وهو حيّ، كما يقول الناس: "حكيم نفسه"، يشعر أن قلبه لا يعجبه، هذا الشعور مرضي، الشعور أنك أنت في منجاة من هذا المُصاب العام ولا يعنيك أمر المسلمين هذا شعور مرضي، أنت ببحبوحة والناس في ضائقة وتقول: الحمد لله أنا غيرهم، هذا شعور مرضي، من لم يهتمَّ بأمر المسلمين فليس منهم، تجد إنساناً بحاجة ماسَّة لمساعدة ومعك ما تساعده به وتمتنع؟! هذا شعور مرضي، هذه أنانيَّة إن صحَّ التعبير، هذه أثرَة.

 

إذا انقلب الإنسان إلى الله عزَّ وجل وكان قلبه سليماً فهو في الجنَّة إلى أبد الآبدين:


كما أننا نعاين أمراضنا، ونخاف منها، ونقلق لها، ونبادر إلى معالجتها، ونختار أحسن الأطبَّاء، وندفع أبهظ التكاليف، وتحاليل، وتصوير، يقول لك: أخي أريد أن أطمئن، إيكو، وأشعة، وتصوير، وتصوير طبقي، هذه بثلاثة آلاف، هذه بخمسة آلاف، اختبار جهد، وهذا الاختبار يكلف خمسة أو ستة آلاف، تصوير طبقي بالآلاف، بعض أنواع الأشعَّة غالية جداً، يقول لك: هذا الدواء ثمن الحبَّة الواحدة تكلفني ثلاثة آلاف ليرة، شيء جميل، أنا أستمع لهذا من بعض المرضى، لماذا؟ يعنيه أمر قلبه، يعنيه أمر كليتيه، يعنيه أمر أعصابه، هناك متابعةٌ ودقَّةٌ وتقصّ، وفحصٍ، وهناك حرصٌ وقلقٌ وخوفٌ من أي عرضٍ غير طبيعي في الجسد. 

والله الذي لا إله إلا هو لو علم الإنسان خطورة أمراض النفس، لكان اهتمامه بنفسه، وبسلامتها، وبطهارتها، وبسموِّها، أضعافَ أضعاف اهتمامه بأمراض جسده، والدليل: عندما كان سيدنا عمر رضي الله عنه تصيبه مصيبة يقول: "الحمد لله ثلاثاً، الحمد لله إذ لم تكن في ديني" الدين سليم، لأن الإنسان لا بدَّ من أن ينقلب إلى الله عزَّ وجل إن عاجلاً أو آجلاً، فإذا انقلب إلى الله عزَّ وجل وكان قلبه سليماً فهو في الجنَّة إلى أبد الآبدين، هذا معنى قول الله عزَّ وجل: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ(88)إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89)﴾ .

إذاً: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ وأتمنَّى على كل أخٍ كريم أن يتبصَّر، أن يتأمَّل أمراضه النفسيَّة، أي شعر بشيء من الكِبْر على إثر تفوَّقه في علم، أو في شهادة، أو له شكلٌ وسيم تاه به على الناس، شعر أنه فوق الناس، هذا مرض، تمنَّى أن يكون وحده في بحبوحة ولا يعنيه أمر الناس هذا مرض ثانٍ، هل شعر بحقدٍ في قلبه؟ بضغينة؟ بحسد؟ هل تمنَّى للناس زوال النعم عنهم؟ فالإنسان إذا شعر أن هناك شعوراً غير صحيح، شعوراً مرضياً، ليبادر إلى معالجته وإلا فهناك تهديدٌ من الله عزَّ وجل: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ .

 

ما دمنا أحياء فكل شيءٍ يُصَحَّح وكل ذنب يُتاب منه وكل معصية تُبدَّل حسنة:


بالمناسبة من رَوْعَةِ الحياة الدنيا أن كل شيءٍ فيها يُصَحَّح، كل شيء في الدنيا يصحَّح، أما إذا مات الإنسان وخُتِمَ عمله فعندئذٍ لا ينفعه شيء، ما دمت في بحبوحة الحياة، ما دام القلب ينبض، ما دام في العمر فُسْحَة فإصلاح كل شيءٍ ممكن، هناك ذمم، هناك حقوق، هناك ديون سابقة، هناك إنسان تحدَّثت عنه في مجلس، يمكن أن تذهب إليه، وتطلب السماح منه، وتعقد مجلس مرَّة ثانية وتصحِّح الخطأ، هذا كله ممكن، لكن إذا جاء الموت وخُتم العمل عندئذٍ ليس هناك من إصلاحٍ أبداً، هذه نعمة أننا نحن أحياء، ما دمنا أحياء فكل شيءٍ يُصَحَّح، كل ذنب مهما كان عظيماً يُتاب منه، كل معصية تُبدَّل حسنة، عن أبو ذر الغفاري  قال عليه الصلاة والسلام:

(( اتَّقِ اللهَ حيثُما كنتَ ، وأتبِعِ السَّيِّئةَ الحسَنةَ تَمْحُهَا ، وخالِقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسنٍ . ))

[ صحيح الترغيب :خلاصة حكم المحدث : حسن لغيره : أخرجه الترمذي   ]

 

النهي عن الإرجاف لأنه يضعف معنويات المسلمين:


الصنف الأول منافقون، والصنف الثاني: ﴿وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ ، والصنف الثالث: ﴿وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ﴾ معنى أَرْجَفَ، الرجفان هو الاضطراب، فأي خبرٍ تلقيه على الناس يصدمهم، يجعلهم يضطربون، يجعلهم يقلقون، يجعلهم يخافون، يجعلهم يتألَّمون، ييئسون، يقنطون، تنهار معنوياتهم، هذا الخبر سوف تحاسب عليه، الذي يفعل هذا اسمه في القرآن الكريم: مُرْجِفٌ في المدينة، أحياناً لو قلت لإنسان: إيَّاك أن تحضر هذا المجلس، أو إيَّاك أن تحضر أي مجلس علم، يقول لك: إذا فعلت هذا فلهذا العمل ما وراءه، أنا أحذِّرك فقط، هذا إرجاف، كلامٌ لا طائل منه، شيءٌ مشروع، بيت الله عزَّ وجل، كلام رب العالمين، عن حقٍ صُرَاح، هذا كلام:

﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)﴾

[ سورة آل عمران  ]

أية كلمةٍ تقولها تقصد منها أن يضطرب الناس لها، وأن تضعف معنوياتُهم، وأن يقلقوا، وأن ينصرفوا عما هم فيه من عملٍ صالح، لو رأيت إنساناً ينفق من ماله في سبيل الله فخوَّفته، وضَعَّفْتَ معنوياته، وأوهمته فهذا إرجاف، نقلت الأخبار السيئة، أشعتها في المدينة ليضعف إيمان الناس فيهم، هذا إرجاف، فلذلك الله عزَّ وجل قال: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا(60)﴾ أي قد يأتي العذاب على يد النبي عليه الصلاة والسلام، لأن النبي عليه الصلاة والسلام بعد الهجرة صارت معه- فضلاً عن رسالة السماء- قوَّة الأرض، أي أصبح هو الرئيس الأعلى للمسلمين. 

 

التحذير من القيام بعمل مناقض لعمل الداعية:


﴿لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا﴾ قال: هذه الآية كناية عن أن النبي عليه الصلاة والسلام، أي هؤلاء الذين يرجفون في المدينة وعلى رأسهم اليهود، الذين يتَّبَعون الأخبار السيئة، يضعفون معنويات المسلمين، النبي عليه الصلاة والسلام سوف يجلوهم عن بلادهم، هذا معنى: ﴿ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)﴾ دائماً يوجد بالحياة الدنيا أشخاص همُّهم الأول هداية الناس، وفي رأس هذه القوائم الأنبياء، والصحابة الكرام، والتابعون، والعلماء العاملون، هؤلاء هدفهم الأول نشر الحق، إيَّاك أيها الإنسان، ثمَّ إيَّاك، ثمَّ إيَّاك أن تقوم بعملٍ آخر مناقضٍ لعمل الدعوة إلى الله عز وجل، إيَّاك إذا قرَّب إنسانٌ الناس إلى الله أن تُبعدهم عنه، إيَّاك إذا زهَّد إنسانٌ الناس في الدنيا أن تحبِّبهم بها، إياك إذا خوَّف إنسانٌ الناس من المعصية أن تسهِّلها لهم، أي إياك أن تقوم بعمل مناقض لعمل الداعية، الداعية يُعَرِّف بالله عزَّ وجل وأنت تصرف الناس عنه، الداعية يحبِّب بالطاعة وأنت تزيِّن المعصية، الداعية يطمئن وأنت تخوِّف، الداعية يشجِّع وأنت تثبِّط، هذا يشجِّع وأنت تثبِّط، هو يدعو إلى الله وأنت تدعو إلى غير الله، هو يدعو إلى طاعة الله وأنت تدعو إلى معصية الله، هو يدعو إلى ترك الدنيا وأنت تدعو إلى حبِّ الدنيا، إياك أن تكون في خندقٍ آخر معادٍ لخندق الهُدى لأن الله عزَّ وجل سوف ينتقم منك، الله عزَّ وجل يُكَرِّم من يحبِّب عباده إليه ويقصم من يُبغِّض عباده إليه، لذلك ورد في الأثر: يا رب أي عبادك أحبُّ إليك حتَّى أحبَّه بحبِّك؟ قال: يا داود أحبٌ عبادي إليّ تقي القلب، نقي اليدين، لا يمشي إلى أحدٍ بسوء، أحبَّني وأحبَّ من أحبَّني وحبَّبني إلى خلقي. هذه النصيحة أسديها لكم من أعماق قلبي: إيَّاك أن تقف موقفاً معاكساً لدعوةٍ إلى الله عزَّ وجل، إيَّاك أن تقطع ما أمر الله به أن يوصل، إياك أن تصرف الناس عن شيءٍ أراد الله أن يلتفتوا إليه.

 

المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة زمرة واحدة لكن صفاتهم مختلفة:


﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا(60)﴾ كما قلت قبل قليل بعض المفسِّرين قال: هؤلاء زمرةٌ واحدة وصفاتهم مختلفة، أي الذات متحدة والصفات متباينة، وبعضهم قال: الذات متباينة، أي أول قسم المنافقون صنف، ﴿وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ صنف، ﴿وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ﴾ ، هذا صنفٌ ثالث.

 

الاتصال مع الله في الدنيا يغني عن آلاف الحظوظ:


على كل لا يعنينا إن كانوا متَّحدي الذوات أو مختلفي الذوات، الذي يعنينا أن هذه الصفات خطيرة، فإذا تَلَبَّسَ الإنسان بأحد هذه الصفات فهناك وعيدٌ من الله عزَّ وجل يمحقه، ويهلكه، ويحجزه عن عمله، قال: ﴿مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا﴾ لا توجد في القرآن كلمةٌ يخاف منها المؤمن كهذه الكلمة "ملعون" أي بعيد عن الله عزَّ وجل، كُلْ، واشرب، وانغمس في الملذَّات، لكنَّك بعيدٌ عني، أما المؤمن يقول: 

فليتك تحـلو والحيـــــــاة مريـــــــــرةٌ          وليتك ترضى والأنام غضابُ

وليت الذي بيني وبينك عـامـــــــرٌ         وبيني وبين العالمين خــــرابُ

إذا صحَّ منك الوصل فالكل هيِّنٌ         وكل الذي فوق الترابٍ تـــرابُ

[ أبو فراس الحمداني ]

* * *

لكن الكافر طعامٌ، وشرابٌ، ولذَّةٌ، وبيتٌ، ومكانةٌ، ووجاهةٌ، وانغماسٌ في الملذَّات ولا يبالي بعد هذا ما يكون، ﴿مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا﴾ على كل حتَّى يوم القيامة أكبر عقاب يُعاقب به الإنسان:  

﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)﴾

[ سورة المطففين  ]

أنت في الدنيا إذا كان هناك اتصال بالله هذا الاتصال يغني عن آلاف الحظوظ، فاتك حظ المال لكن الاتصال بالله ما فاتك، فأنت بيدك كل شيء، وما فاتك شيء، فاتك حظُّ الجاه، بقيت مغموراً في المجتمع، ما دمت مع الله عزَّ وجل ما فاتك شيء، فاتك حظُّ الزوجة المُسْعِدَة، لك زوجة غير مسعدة، ما فاتك شيء، ما دمت مع الله عزَّ وجل ما فاتك شيء، فاتك حظُّ الأولاد، ليس عندك أولاد، ما دمت مع الله عزَّ وجل ما فاتك شيء، لهذا ما ندم سيدنا الصديق على شيءٍ فاته من الدنيا قط.

 

من حصَّل الصلة بالله عزَّ وجل وكان عند الله مرضياً ما فاته شيء:


لو تعلمون علم اليقين الذي حصَّل الصلة بالله عزَّ وجل، وكان عند الله مرضياً، ما فاته شيء: إن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتُّك فاتك كل شيء. 

فالإنسان لا يندب حظَّه، لا يندب حظَّه إلا الجاهل، هذا يندب حظَّه من المال، هذا يندم حظَّه من الصحَّة، هذا يندب حظَّه من الزوجة، هذا من الأولاد، هذا من العمل، لو عرفت الله عزَّ وجل حقَّ المعرفة، واتصلت به، وسعدت بقربه، كل ما فوق الترابِ ترابُ: ﴿مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا﴾ ، قيل: "كفاك على عدوِّك نصراً أنه في معصية الله"، إذا كنت في طاعة الله فأنت المنتصر، وأنت المتفوِّق، وأنت الفائز، وأنت الناجح، وأنت الفالح، وأنت الذي تُغْبَطُ في يومٍ ما، البطولة الذي يضحك آخر الأمر لا أول الأمر، هناك أشخاصٌ كثيرون يضحكون في مقتبل حياتهم، تأتيهم الدنيا، يرقصون لها، يختل بها توازنهم، لكنهم بعد أمدٍ قليل يأتي المرض العُضال، ويلقى في الفراش سنوات، ويواجه مصير الموت، وما بعد الموت أشدُّ من الموت. 

القصَّة معروفة أن أحد العلماء الكبار- وأظُّنه عبد الله بن المبارك - كان يمشي في موكبٍ عظيم بين إخوانه، وكان وسيم الطلعة، بهيَّ المنظر، مُتَلألئ الأنوار، وكان أنيقاً في ثيابه، وحوله إخوانه، فرآه يهوديٌ يعمل أَحَطَّ الأعمال، وقد بلغ من الدنيا أدنى مرتبتها، فقال هذا اليهودي: "يقول نبيُّكم: الدنيا جَنَّةُ الكافر وسجن المؤمن"، فأي سجنٍ أنت فيه؟ وأية جنَّةٍ أنا فيها؟ فقال: "يا هذا لو قست ما أنا فيه لما وعدني الله به من الجنَّة فأنا في سجن، ولو قست ما أنت فيه وما ينتظر الكافر من عقابٍ أليم فأنت في جنَّة". يقال إنه أسلم وصار من إخوانه. 


الحقيقة أن الله عزَّ وجل وعد المؤمن بجنَّةٍ فيها:


(( عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ. قالَ أبو هُرَيْرَةَ: اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]. قال أبو مُعاويةَ، عن الأعمَشِ، عن أبي صالِحٍ: قرَأ أبو هُريرةَ: (قُرَّاتِ أعْيُنٍ).))

[ أخرجه البخاري ]

فلان يا أخي أنا وهو في مقعد واحد، والآن يحكي بمئة مليون، يحكي بألف مليون، أنت مؤمن أم أنك غير مؤمن؟ 

﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)﴾

[ سورة الأحزاب  ]

ألا تكفيك هذه؟ ما قيمة المال مع المعصية؟ سوف يزول، أخي أنا وهو على مقعد واحد وهو الآن له مكانة كبيرة وأنا لا أحد يعرفني، لا قيمة لهذه الشهرة، الشهرة ليست قيمة، هل هناك أشهر من إبليس؟ بكل اللغات موجود، بكل الأمم والشعوب، فالشهرة ليس لها قيمة أبداً، فالعبرة أن يكون الإنسان على الحق: ﴿مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)﴾ .

 

العنصر المؤذي يجب أن يُنْتَزَع ويزول وألا يبقى مع المؤمنين:


مثل بسيط جداً: إذا الإنسان كان عنده سلة تفَّاح، فسدت فيه تفَّاحة، الشيء البسيط جداً أن ينزع هذه التفَّاحة ويلقيها حفاظاً على ما في هذا الصندوق من تفَّاح، فهذا العنصر المؤذي يُنْتَزَع، هذا يجب أن يزول، أو يجب ألا يبقى مع المؤمنين، هذا معنى قوله تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)﴾ صف فيه ثلاثون طالباً، من أسر راقية، طلاب مهذّبون، مؤدَّبون، مجتهدون، طالب واحد دلَّ هذا على القِمار، ودلَّ هذا على اللواط، ماذا يُفْعَلُ بهذا الطالب؟ يُفْصَل فوراً، إذا بقي بين الطلاب أفسدهم جميعاً، الصف ممتاز من حيث الأخلاق والاجتهاد، لكن يوجد فيه طالب واحد يسرق، علَّم فلاناً السرقة، ويلعب بالقمار علَّم فلاناً القمار، فالمدير الرحيم الحكيم حينما جاءته هذه الأخبار أن هذا الطالب علَّم فلاناً القمار، وعلم فلاناً السرقة، وجعل فلاناً يتغيب عن المدرسة، يرى أن الحكمة تقتضي أن يفصله، وأن يبتره، هذا الإنسان المفسد الذي يقطع الناس عن الله عزَّ وجل، يغريهم بالدنيا، ينغمس في الملذَّات المحرَّمة، يفسد النساء، يُغري النساء بالزنا، هذا الإنسان قال: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)﴾ .

 

هناك ساعة عامَّة هي يوم القيامة وساعة خاصَّة بالإنسان لابدَّ منها إن عاجلاً أو آجلاً:


﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ﴾ أي عن يوم القيامة. 

طبعاً سيدنا جبريل جاء النبي عليه الصلاة والسلام وسأله: متى الساعة؟ فقال عليه الصلاة والسلام:

(( عن أبي هريرة وأبي ذر الغفاري كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بارزاً للناس، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله، ما الإيمان ؟ قال: أن تُؤمن بالله، وملائكته، وكتابه، ولقائه، ورُسُلِهِ، وتؤمنَ بالبعث الآخر، قال: يا رسول الله ما الإسلام ؟ قال: الإسلام أن تعبُدَ الله، لا تُشْركُ به شيئاً، وتُقيمَ الصلاةَ المكتوبة، وتؤدي الزّكاة المفروضة، وتصوم رمضان، قال: يا رسول الله ما الإحسان ؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإنك إن لم تره فإنَّه يراك، قال: يا رسولَ الله، مَتَى السَّاعَةُ ؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلَمَ من السَّائل، ولكن سأُحَدِّثُكَ عَنْ أشْراطها: إذا ولَدت الأمةُ ربَّتها. ))

[ متفق عليه ]

متى الساعة؟ هذا شيءٌ ادَّخره الله لنفسه، لا يعلمه أحدٌ إطلاقاً: ﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)﴾ قد تأتي، وقد لا تأتي إلا بغتةً، ولكن الإنسان العاقل يعلم أن هناك ساعة عامَّة هي يوم القيامة، وأن هناك ساعة خاصَّة به، فالموفَّق، والعاقل، والراجح هو الذي يتعامل مع الساعة الخاصَّة التي لا بدَّ منها إن عاجلاً أو آجلاً، نسمع في هذه الأيام أن إنساناً عمره بالأربعينات أصيب بأزمة قلبيَّة وانتهى، أربعون، اثنان وأربعون، ثمانية وثلاثون، قرأت قبل أيام نعوة ما رأيت فيها إلا والد الفقيد، إخوة الفقيد، لا يوجد ابن، معنى هذا أنه غير متزوِّج، سمعت أنه في الثامنة والثلاثين من عمره، هذه هي الساعة الخطيرة، ساعة اللقاء.

مع ازدياد الهموم، ومع التكالب على الدنيا، ومع الانغماس في الشهوات، ومع التنافس على حُطام الدنيا، ومع التوتر النفسي الشديد، ومع ضغط الهم، هذا كله يتلف الإنسان، من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه وهو لا يشعر. 


  العاقل من هيأ نفسه لساعته الخاصَّة وهي ساعة الفراق:


لذلك الإنسان العاقل هو الذي يهيئ نفسه لساعته الخاصَّة ساعة الفراق، ساعة اللقاء، ولو تتبَّع الإنسان أحوال الناس يرى العجب العجاب، هذا الإنسان أعدَّ العُدَّة لكل شيء، حسب لكل شيءٍ حساباً إلا شيئاً واحداً هو الموت، هذا لم يكن في حُسبانه، وما دخل في برامجه، ولا أعدَّ له، ولا فكَّر في حياته لحظةً كيف سيواجه الله عزَّ وجل بهذه المعصية، وبهذا الظلم، وبهذا المال الذي أكله غصباً، هذا أمرٌ عجيب، يخطِّط لثلاثين سنة. 

قال أحدهم مرة عن آخر: إنه أتعبنا، بقي ستة أشهر وهو محتار أيمدد الشوفاج تمديداً داخلياً أم ظاهرياً، خائف أن يمدده تمديداً داخلياً بعد عشرين سنة تتسرَّب المياه فيضطر لكسر البلاط، يفكِّر لعشرين، وثلاثين، وأربعين سنة، بعد هذا استقرَّ رأيه أن يركبه داخلياً لأنه أكمل، فإذا صار في المستقبل تسرُّب نركبه خارجياً ولا نكسر البلاط، هذه بعد ستة أشهر، فهذا الذي يعدُّ لكل شيءٍ عدةً، يحسب لكل شيءٍ حساباً إلا الموت، هذه النهاية الكبرى، المغادرة هذه تأتيه فجأةً، تأتيه كالصاعقة لا يحتمل وقعها، الذين يعملون في اختصاصات قريبة من اختصاصات القلب يشاهدون من المرضى العجب العجاب، انهيار سريع، تجد إنساناً كان متماسكاً، له مكانته، له جبروته، حينما تأتيه أزمة يصبح كالأطفال، السبب أن هذه الساعة ما أعدَّ لها أبداً:

﴿ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)﴾

[ سورة المدثر  ]

الموت حقّ، لا بدَّ من أن نموت جميعاً؛ لكن البطل هو الذي يعمل في حياته كلِّها لهذه الساعة، كما قال مالك بن دينار: "لمثل هذه الساعة كان دأبُ أبي يحيى"، والمفروض نحن جميعاً، اجتهادنا، وطاعتنا لله، وصلواتنا، وعبادتنا، وتفكُّرنا، وتلاوتنا، وجهاد نفسنا وهوانا، وخدمة الناس، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهذا العمل الصالح الدؤوب، كل هذا الجهد من أجل ساعة اللقاء، من أجل أن تكون في هذه الساعة من أسعد الناس، من أجل أن يكون الموت تحفة المؤمن، من أجل أن يكون الموت عُرْسَهُ، هذا هو العقل، العقل أن تعدَّ العُدَّة لهذه الساعة.

 

وصف لما ينتظر الكافرين من عذاب جهنم:


﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64)﴾ لعنهم في الدنيا، أبعدهم عنه، وأعدَّ لهم في الآخرة سعيراً: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65)﴾ لا يجدون ولياً يتولَّى أمرهم، ولا نصيراً ينتصر لهم، ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ﴾ تُقَلَّب الوجوه في النار من وجه إلى وجه، والوجه أكرم ما في الإنسان. 


  من يطيع إنساناً كائناً من كان في معصية الرحمن فهو أحمق وغبي:


﴿يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66)﴾ كلمة يا ليت، ولاتَ ساعة مَنْدَم: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا(68)﴾ إنسان يطيع إنساناً كائناً من كان في معصية الرحمن فهو أحمق وغبي، لأنه في هذا الموقف لا ينفعه شيئاً، دقِّقوا: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا﴾ سادتنا من تولَّى أمرهم، أما كبراءنا فهم الوجهاء: ﴿فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾ ضللنا السبيل إليك يا رب، فرعون كما قال الله عزَّ وجل عنه:  

﴿ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)﴾

[ سورة طه  ]


  من حملوا غيرهم على معصية الله لهم ضعف العذاب لأنهم ضلوا وأضلوا:


عندما يطيع الإنسان إنساناً، لو أطاع الرجل زوجته في معصية الله تنطبق عليه هذه الآية، لو كنت أنت موظَّفاً في متجر وقال لك صاحب المتجر: افعل كذا، وهي معصية ففعلتها تنطبق عليك هذه الآية: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ لأنَّهم ضلوا وأضلوا، فسدوا وأفسدوا، عصوا وحملوا غيرهم على المعصية: ﴿وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾ لذلك يختم الله عزَّ وجل هذه السورة بهذا المقطع الأخير: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)﴾ هذا نأخذه إن شاء الله تعالى في درسٍ قادم.

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور