وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 11 - سورة الأحزاب - تفسير الآيات 36 - 38 ، السيدة زينب بنت جحش ـ حكم التبني في الإسلام
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

صيغة (وما كان لمؤمنٍ) ليست لنفي الحَدَث بل لنفي الشأن وهو أبلغ من نفي الحدث:


أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس الحادي عشر من سورة الأحزاب.

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)﴾ هذه الآية أيها الأخوة لها أسباب نزول، وإذا كان للآية أسباب نزول فلا يمنع أن نفهمها فهماً من عموم لفظها، علماء التفسير يفرِّقون بين خصوص السبب وعموم اللفظ، إذا كان لهذه الآية أسبابٌ نزلت من أجلها فهذا لا يمنع أن نفهمها فهماً متعلِّقاً بعموم اللفظ، فهذه الآية ماذا تعني؟ يقول الله عزَّ وجل: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ (36)﴾ صيغة (وما كان لمؤمنٍ) هذه ليست لنفي الحَدَث؛ بل لنفي الشأن، ونفي الشأن كما تعلمون أبلغ بكثير من نفي الحدث، أوضِّح لكم ذلك.

إذا قلنا: فلان لم يسرق هذه الليرة، نفينا عنه السرقة، ليس معنى هذا أنه ليس من عادته أن يسرق، هذه لم يسرقها، قد يكون أكبر سارق، أما هذه الليرة ففلانٌ لم يسرقها، نفيت عنه سرقة هذه الليرة فقط، أما إذا قلت: ما كان لفلان أن يسرق، أي هذا مستحيلٌ في حقه، هذا بعيدٌ عن مقامه، هذا ليس من شأنه، لا يفكر في هذا، ولا يرضى هذا، ولا يريد هذا، ولا يُعْقَلُ أن يفعل هذا، أي أشد أنواع النفي نفي الحدث، ونفي الرغبة، ونفي الإرادة، ونفي القبول، ونفي الشأن، كل هذه منفيةٌ بهذه الصيغة.

قالوا: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ (36)﴾ هذه صيغة نفي الشأن لا نفي الحدث، أي ما دام المؤمن مؤمناً، ما دام قد عرف الله عزَّ وجل ما كان له أن يفعل هذا، لأن معرفة الله تتناقض مع هذا الفعل، كيف أن الضوء والظلام لا يجتمعان، ما كان للظلام أن يكون مع الضوء، وما كان للضوء أن يكون مع الظلام، لأنهما متناقضان، أحدهما ينقض الآخر، فحيثما وجدتم في القرآن الكريم صيغة (ما كان) ، هذه ليست لنفي الحدث؛ إنها لنفي الشأن، وأبلغ أنواع النفي هو نفي الشأن، أي المؤمن لا يعقل أن يفعل هذا، ولا يريد أن يفعل هذا، وليس من شأنه أن يفعل هذا، ولا يتمنَّى أن يفعل هذا، ولا يتصوَّر أن يفعل هذا، ولا يُقْبَلُ منه أن يفعل هذا، هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ (36)﴾ .

 

المرأة مساويةٌ للرجل تماماً في التكليف والتشريف:


ما هذا الشيء الذي نفاه الله عن المؤمنين أصلاً، قال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ (36)﴾ (ولا مؤمنةٍ) وهذا تابعٌ للدرس الماضي، لو أن الله عزَّ وجل قال: وما كان لمؤمنٍ أي ولا مؤمنةٍ، لكنه ذكر مؤمنةً ليؤكد لنا أن المرأة مساويةٌ للرجل تماماً في التكليف والتشريف.

 

قضاء الله في القرآن وقضاء النبي في السُّنة:


﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا (36)﴾ الله كيف يقضي؟ في القرآن، والنبي كيف يقضي؟ في السنة، إذا قال الله عزَّ وجل: 

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)﴾

[ سورة النور  ]

هذا أمر الله عزَّ وجل، قضى الله من خلال منهجه أن تغض بصرك، فإذا أنت لم تعبأ بهذا الأمر فلست مؤمناً، ما دمت مؤمناً هذا أمر الله، وينبغي أن تتقيد به. 

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ (36)﴾ أنت تختار بين هذا البيت أو هذا البيت، بين هذه المهنة أو هذه المهنة، بين هذا البلد في سفرك أو هذا البلد، بين هذه الزوجة أو تلك، أما أن تختار بين أن تطبق أو ألا تطبق أمر الله عزَّ وجل فهذا مستحيل بحق المؤمن.

 

أن تختار أن تنفذ أمر الله أو ألا تنفذ هذا ليس من صفات المؤمن:


أنت قبل الإيمان مخيَّر؛ تؤمن أو لا تؤمن، أما إذا آمنت فلست مخيراً في أن تنفذ أو ألا تنفذ، إنسان مخير إما أن يقبل التطوع في الجيش أو ألا يقبل، فإذا قَبِل الطاعة ملزمة للجيش، فلا يستطيع أن يقول: هذه لم تعجبني، لا يوجد لم تعجبني بالجيش، ما دمت اخترت هذا السلك، ما دمت اخترت أن تكون في سلك الجيش فالطاعة فيه لابدَّ منها. 

مثل للتقريب: أنت ما دمت اخترت أن تكون مؤمناً فلابدَّ من أن تطيع الله عزَّ وجل، لو أن طالباً اختار أن يدخل مدرسة، اختار أن يكون مثقفاً فهناك دوام، وهناك وظائف، وهناك تدقيق، وهناك متابعة، وهناك مراقبة، فكلمة بذيئة يُعاقب عليها، تأخُّر يعاقب عليه، فلو أن طفلاً آخر، أو لو أن شاباً آخر لا علاقة له بالتعليم إطلاقاً، هو حر طليق، فاختال على هذا الطالب: أنا لا يوجد من يحاسبني، أنا حر طليق، أنت خارج المدرسة كلياً، أنت كمؤمن اخترت أن تكون مؤمناً، ما دمت اخترت أن تكون مؤمناً فالإيمان له التزامات، فأنت مخير أن تكون مؤمناً أو ألا تكون، لو لم تكن مؤمناً لخاطبك الله بعموم الدين، بكليات الدين قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)﴾

[ سورة البقرة ]

أما إذا آمنت بالله عزَّ وجل خالقاً، وآمنت به رباً، و آمنت به مسيِّراً، و آمنت به واحداً، و آمنت به كاملاً، و آمنت به حكيماً، و آمنت به عليماً، و آمنت به خبيراً، و آمنت به قديراً، لا يمكن أن تختار أن تنفِّذ أو ألا تنفذ فهذا أمر الله، تختار لوناً من ألوان الطعام، تختار لوناً لملابسك ترتديه، تختار بيتاً تسكنه، تختار زوجة تقترن بها، تختار حرفة تحترفها، أما أن تختار أن تنفذ أمر الله أو ألا تنفذ فهذا ليس من صفات المؤمن أبداً.

 

الإنسان بعد أن عرف الله يأتيه أمره وهو الكمال المطلق والعدل المطلق:


﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا (36)﴾ طبعاً في حياة النبي عليه الصلاة والسلام أمره الذي يتلوه علينا من الوحي أمر الله، وأمره الذي يتلوه علينا من دون الوحي أمره هو، نحن مكلَّفون أن نطيع الله، وأن نطيع الرسول، أما إذا انتقل النبي عليه الصلاة والسلام فصارت هذه الآية أمر الله هو هذا القرآن، وأمر النبي هو سنة النبي عليه الصلاة والسلام، إذاً: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ (36)﴾ أنتم تلاحظون أن الإنسان كلما ارتقى علمه تضيق عليه الممرات، بمعنى الطبيب عنده طريقة للتعقيم لابدَّ منها، العلم كلما ارتقى لابدَّ من أن يعقِّم هذه الأداة، وهذا المشرط، حتى إن العمليات الجراحية الكبيرة الآن تقريباً تجرى في العالم كله بطريقة واحدة، وهذا أكمل شيء، فالإنسان بعد أن عرف الله عزَّ وجل يأتيه أمر الله عز وجل وهو الكمال المطلق، والعدل المطلق، كما قال بعض العلماء: "الشريعة عدلٌ كلها، الشريعة رحمةٌ كلها، الشريعة مصالح كلها، فإذا خرج التأويل- تأويل الشريعة - من العدل إلى الجور، أو من المصلحة إلى خلافها، أو من الرحمة إلى القسوة، فهذا ليس من الشريعة، ولو أدخلت عليها ألف تأويل وتأويل".

هذا شرع الله، كماله مطلق، عدله مطلق، ليس هذا كلام البشر، بل كلام خالق البشر، كلام الصانع، كلام الخالق، كلام المدبِّر، كلام المربي، كلام الخبير، كلام العليم، كلام الغني، كلام القدير.


علامة معرفة الله عزَّ وجل طاعتك له:


إذاً حينما تتردد في تنفيذ أمر الله عزَّ وجل فأنت لا تعرف الله قولاً واحداًً، أما حينما تعرف الله معرفةً بالقدر الذي يكفي لطاعته فإنك تبادر مباشرةً إلى تنفيذ أمر الله عزَّ وجل، إذاً ضع في ذهنك أنك مخير في أن تسلك طريق الإيمان أو ألا تسلك، أما إذا سلكت في طريق الإيمان فلست مخيراً أن تنفذ أو ألا تنفذ، هذا من لوازم الإيمان الطاعة، بل إن علامة معرفة الله عزَّ وجل طاعتك له، إذاً: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)﴾ هناك ضلال بعيد، وهناك ضلال مبين، أي أن شيئاً واضحاً صارخاً كالشمس حِدتَ عنه، هذا ضلال مبين، على كل فهذه الآية نزلت لأسباب، أسباب نزول هذه الآية لنا عودة ثانية لهذه الآية في درس قادم إن شاء الله ، أما الآن أسباب نزول هذه الآية أن النبي عليه الصلاة والسلام أمره الله عزَّ وجل أن يزوِّج ابنة عمته- زينب بنت جحش- إلى متَبَنَّاه زيد بن حارثة، من زيد بن حارثة؟ لابدَّ لنا من أن نفهم من هو سيدنا زيد؟ ومن هي زينب؟ ولمَ كان الزواج بينهما؟ ثم لماذا أمر الله عزَّ وجل زيداً أن يطلِّق امرأته؟ ولماذا أمر الله النبي عليه الصلاة والسلام أن يتزوج زينب؟ هذه الآية نزلت في هاتين القصتين، فمن أجل أن نفهمها فهماً عميقاً، وأن نلقي ضوءاً كاشفاً على خباياها لابدَّ من معرفة من هو زيد؟ ومن خلال قصة زيد نتعرف الشيء الكثير عن عظمة هذا الدين.

 

قصة زيد بن حارثة رضي الله عنه:


زيد بن حارثة يصفه الواصفون بأنه كان قصير القامة، شديد السمرة، في أنفه فَطَسٌ، أما نبأه وخبره ومكانته فعظيمةٌ جداً، هذه المفارقة بين شكله وبين مكانته عند الله، بل إنه الصحابي الوحيد الذي ورد اسمه في القرآن، سيدنا زيد كان غلاماً للسيدة خديجة بنت خويلد زوج النبي عليه الصلاة والسلام، فلما تزوج النبي بخديجة رضي الله عنها، قدمت له هذا الغلام هديةً منها إليه، ماذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام؟ أعتقه فوراً وضمه إليه، هذا الغلام حينما ضمه النبي إلى بيته، لم يكن النبي قد بُعِثَ بَعْد، ولا يزال النبي في مكة فتىً من فتيانها، وكلكم يعلم أن فقد الابن شيءٌ عظيم، لذلك فُجِعَت أمه وأبوه بفقده، لأنه اختطف إثر غزوةٍ وبيع في سوق العبيد، وهكذا كان العرب في الجاهلية، والحق يقال: إن تاريخ العرب يجب أن يبدأ مع ظهور الإسلام، لأنه في الجاهلية كان الغزو، وكان السلب، وكان النهب، وكانت الحمية الجاهلية، وكانت العصبية، وكان وأد البنات، وكانت الحروب التي تقوم لأتفه الأسباب، يقتل فيها عشرات بل مئات الألوف لأسبابٍ طفيفةٍ وسخيفةٍ وحقيرةٍ، لذلك سمَّاها الله الجاهلية قال: ﴿وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ(33)﴾ والجاهلية في أدق معناها جهلٌ في حقيقة التوحيد، وجهلٌ في تنفيذ أمر الله عزَّ وجل، جهلٌ في الاعتقاد، وجهلٌ في السلوك. 

في موسمٍ من مواسم الحج قصد البيت الحرام نفرٌ من قوم زيد، من أهله، وفيما كانوا يطوفون بالبيت العتيق إذا هم بزيدٍ وجهاً لوجه، فعرفوه وعرفهم، وسألوه وسألهم، ولما قضوا مناسكهم وعادوا إلى ديارهم أخبروا أباه بما رأوا، وحدَّثوه بما سمعوا، ماذا قال زيد لأقربائه حينما لقيهم وجهاً لوجه؟ قال: أخبروا أبي أني مع أكرم والد.

 

عظمة الإسلام تجعل المسلمين لا فرق عندهم بين إنسانٍ وإنسان:


سوف ترون بعد قليل كيف أن عظمة الإسلام أنه في عالم المسلمين لا فرق بين إنسانٍ وإنسان:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾

[ سورة الحجرات  ]

هذا الغلام العبد الأسير الذي أشتري من سوق العبيد، وقُدِّم لخديجة بنت خويلد، وقدمته للنبي عليه الصلاة والسلام، عامله النبي عليه الصلاة والسلام كأحد أولاده تماماً؛ بل إنه عامله معاملةً تفوق معاملة الأم والأب لابنهما، قال: أخبروا أبي أني مع أكرم والد. 

ما أسرع أن عاد حارثة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، أَعَدَّ راحلته، وحمل من المال ما يفدي به فلذة كبده، وقرة عينه، وصحب معه أخاه كعباً، وانطلقا معاً يَغِزَّانِ الطريق نحو مكة، فلما بلغاها دخلا على محمد عليه الصلاة والسلام، وقالا له: يا بن عبد المطلب أنتم جيران الله تفكون العاني، تطعمون الجائع، تغيثون الملهوف، وقد جئناك في ابننا الذي عندك، وحملنا إليك من المال ما يفي به - اطلب ما شئت- فامنن علينا وفاده لنا بما تشاء، فقال عليه الصلاة والسلام: ((من ابنكما الذي تعنيان؟)) قالا: غلامك زيد بن حارثة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((وهل لكما فيما هو خيرٌ من الفداء أي أفضل؟)) قالا: وما هو؟ قال: ((أدعوه لكم فخيروه بيني وبينكم، فإن اختاركم فهو لكم بغير مال - هو ابنكم - وإن اختارني فما أنا والله بالذي يرغب عمن يختاره)) الآن دققوا، ما هي المعاملة التي تلقاها سيدنا زيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه حينما جاء أبوه وعمُّه ليأخذاه ويفكا أسره آثر أن يبقى مع النبي؟ هذا الشيء الذي أتمنَّى أن نعرفه؛ أن عند المؤمن من الرحمة، والعدل، والعطف، واللطف، والحرص، والثقة، ما يغني عن الأب، فقالا: والله لقد أنصفت، وبالغت في الإنصاف، فدعا محمدٌ زيداً وقال: من هذان؟ وقد ورد: "المؤمن كيس فطن حذر وقـّاف لا يعجل" ، سأل محمد زيداً وقال: من هذان؟ قال: هذا أبي حارثة، وهذا عمي كعب،إذاً هذا التحقق، فقال: قد خَيَّرْتُكَ إن شئت مضيت معهما وإن شئت أقمت معي، فقال سيدنا زيد من غير إبطاء ولا تردد: بل أقيم معك، وما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت الأب والعم، فقال أبوه: ويحك يا زيد أتختار العبودية على أبيك وأمك؟ فقال: إني رأيت من هذا الرجل شيئاً وما أنا بالذي يفارقه أبداً، هذه النبوة.

 

إكرامُ زيدٍ الذي فقد نسبه إلى النبي كان بذكر اسمه في القرآن:


النبوة كمال مُطْلَق، الحقيقة النبوة شيء يصعب تصوره، إنسان جاء أبوه وعمه ليفكاه من الأسر، ويؤثر على أمه وأبيه وعمه النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يكن نبياً بعد، لو أن هذه القصة وقعت بعد الرسالة يقول: هذا نبي عظيم، وسوف يكون له شأنٌ كبير، وسوف أنتفع منه نفعاً كبيراً، لا، هذا كان قبل الرسالة، قبل البعثة، كان النبي أحد فتيان قريش. 

فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام من زيدٍ ما رأى، أخذه بيده وأخرجه إلى البيت الحرام، ووقف به بالحجر على ملأٍ من قريش، وقال: ((يا معشر قريش اشهدوا أن هذا ابني يرثني وأرثه)) ابني بكل معنى هذه الكلمة؛ بل إن من لوازم الابن أن يرث أباه وأن يرثه أبوه، فقال:((اشهدوا أن هذا ابني يرثني وأرثه)) فطابت نفس أبيه وعمه وارتاحوا وخلّفاه عند محمدٍ بن عبد الله، وعادا إلى قومهما مطمئنِّي النفس، مرتاحي البال، ومنذ ذلك اليوم أصبح زيد بن حارثة يدعى في قريش زيد بن محمد، بقي اسمه هكذا أمداً طويلاً، وظلّ يدعى كذلك حتى بُعث النبي صلوات الله عليه، وأبطل الإسلام التبني حيث قال تعالى: ﴿ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ(5)﴾ فلما جاء الأمر أن يُدعى المتبنى إلى أبيه النبي عليه الصلاة والسلام أصبح يناديه زيد بن حارثة، وقال بعض المفسرين: إكراماً لزيد الذي فقد نسبه إلى النبي بهذه الآية ذكره الله في القرآن، عوَّضَهُ عن ذلك بأن ذكر اسمه في القرآن، وهو الوحيد من أصحاب النبي الذي ذُكر اسمه في كتاب الله، والذي نقرؤه إلى يوم القيامة.

 

قصة زواج زينب بنت جحش من زيد بن حارثة:


الآن زينب هذه من شريفات قريش، بنت عم النبي عليه الصلاة والسلام، حينما بَلَغَ زيدٌ سن الزواج – دققوا- أية اعتبارات طبقيةٍ في هذه القصة؟ زيد عبد تبنَّاه النبي، نسبه إليه، قال: يرثني وأرثه، فلما شَبَّ عن الطوق، وصار في سن الرجال، زوجه النبي عليه الصلاة والسلام من أشرف فتيات قريش، زينب بنت جحش بنت عمته صلى الله عليه وسلم، لكن زينب - هذا الشيء واقع - زينب التي كانت تعتز بنسبها، وتعتز بجمالها، وتعتز بعقلها، وتعتز بمكانتها، آلمها أن تكون زوجاً لزيد، فكرهت وكره أخوها أن تُزَفَّ هذه الشريفة - وهذه بالطبع من مخلفات الجاهلية- إلى مولىً من الموالي، وفزعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ألا يلحق بهما العار، فما كانت بنات الأشراف ليتزوجن من موالٍ وإن أعتقوا، وقالت زينب فيما قالت: لا أتزوجه أبداً وأنا سيدة أبناء عبد شمس، النبي عليه الصلاة والسلام حدَّثها عن زيد، وعن إسلامه، وعن مكانته، وعن علوِّ مقامه عند الله عزَّ وجل، عندئذٍ بقيت مترددةٍ إلى أن نزل قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ (36)﴾ عندئذٍ قبلت زينب الزواج من هذا المولى، من زيد بن حارثة.

 

الحكمة من زواج النبي من زينب إلغاء عادة التبنِّي:

 

لكن كما تروي السيرة الحياة لم تكن لتستقر بينهما، يبدو أنها ترى نفسها أكبر، وأشرف، وأعرق، وتتوهم أن هناك شخصاً عظيماً يجب أن يكون زوجاً لها، على كل هذا شأن النساء جميعاً، قاسى زيدٌ من صَدِّهَا، وقاسى من ترفُّعِهَا، وقاسى من اعتزازها بنسبها، فشكا ذلك إلى النبي، طبعاً ربنا عزَّ وجل ذكر هذا وقال: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ (37)﴾ اصبر، وأنا أقول لكل إنسان يشكو زوجته أن يصبر، لماذا؟ لأن له منها أولاداً، لأنها أم أولاده، والإنسان حينما يتزوج يجب أن يضع حظوظ نفسه تحت قدمه مراعاةً لمصالح الأولاد، فلذلك ما كل بيتٍ يقوم على الحب كما قال سيدنا عمر، قد تقتضي المصلحة أن تبقى هذه معك ترعى أولادها، وقد تقتضي المصلحة أن تكون هذه على وفاقٍ معها، النبي عليه الصلاة والسلام قال: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ (37)﴾ لكن ما الذي حدث؟ الذي حدث أن الله سبحانه وتعالى شاءت حكمته أن يأمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يتزوج من زينب، والحقيقة هذا الشيء أنا لا أبالغ إذا قلت: فوق طاقة البشر، هو زوَّجها من زيد، وزيد متبنَّاه، وهو في الجاهلية في أعراف العرب ابنٌ له، ومن العار الشديد أن يتزوَّج الإنسان زوجة ابنه، هو ابنه، لكن الله سبحانه وتعالى أراد بهذا الأمر العظيم أن يلغي عادة التبنِّي، وأن يلغي ما تواضع العرب عليه من أن المتبنَّى كالابن، لا، قال تعالى:

﴿ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)﴾

[  سورة المجادلة  ]

هذا الابن، هذه ليست أمه وهو ليس ابنها، لأن علاقة الدم بين الأم وابنها علاقةٌ ثابتة في العلم، أما هذا فمتبنَّى، مثلاً قد يشتهيها، قد تقع مفاسد كبيرة، قد تختلط الأنساب، إذا سمحنا أن نعامل المتبنى كما يعامل الابن، فالله سبحانه وتعالى أراد أن يربي المجتمع الذي عاش فيه النبي عليه الصلاة والسلام فجعل النبي عليه الصلاة والسلام كما يقال كبش الفداء، أمر زيداً أن يطلِّق زينب، وأمر النبي أن يتزوجها، لذلك جاءت الآية: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ (37)﴾ أي كان النبي عليه الصلاة والسلام كَبُر عليه أمام الناس، أمام من يدعوهم إلى الله، أمام هذا المجتمع أن يتزوج زوجة متبنَّاه، ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ .. 


قصة زواج النبي الكريم من زينب بنت جحش رضي الله عنها:


النبي عليه الصلاة والسلام تحمَّل من أجل هذه الدعوة الشيء الكثير، تحمَّل من أجل هذه الدعوة العَنَت قال: عن أنس بن مالك  رضي الله عنه:

(( لقد أُخِفتُ في اللَّهِ وما يُخافُ أحدٌ، ولقد أوذيتُ في اللَّهِ وما يُؤذى أحدٌ، ولقد أتت عليَّ ثلاثونَ من بينِ يومٍ وليلةٍ وما لي ولبلالٍ طعامٌ يأْكلُهُ ذو كبدٍ إلاَّ شيءٌ يواريهِ إبطُ بلالٍ. ))

[ صحيح الترمذي ]

زينب هذه حينما زُفَّت إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيما تروي الكتب، حينما بشرت بهذا الزواج تركت عملها، واتجهت إلى مُصَلاها وصلت ركعتين شكراً لله عزَّ وجل، أي قرت عينها، وارتاحت نفسها، ورأت أنها في مقامٍ عظيم شرَّفَهَا الله به، ولكن هذه المرأة يجب أن نتحدث عنها ملياً لأنها في المستوى الذي تطمح إليه، قالوا: بشرتها امرأةٌ اسمها سلمى، وقيل: بشرها زيد زوجها، أي هذا أمر الله عزَّ وجل. 

لكن من هي زينب؟ النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن بشرها بأمر الله عزَّ وجل أَوْلَمَ، وكانت وليمة العرس كما تروي كتب السير حافلةً، ذبح النبي الشياه، وأمر صلى الله عليه وسلم خادمه أنس بن مالك أن يدعو الناس إلى الوليمة، فترادفوا أفواجاً، يأكل فوجٌ إثر فوج، إلى أن قال النبي عليه الصلاة والسلام: يا أنس هل دعوت الناس جميعاً؟ فقال أنس: يا رسول الله دعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه، أي كانت وليمةً حافلةً وهذه من السنة النبوية المطهرة، أن توْلِم عند الزواج. 

وأقام المدعوون عند النبي، وأطالوا في مقامهم، حتى نزلت آياتٌ سوف نأخذها بعد أسبوعين، تؤَدِّب أصحاب رسول الله في ألا يبقوا عند النبي وقتاً يزيد عن الوقت المألوف، فهو يستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق.

 

مكانة السيدة زينت عند رسول الله وحديث عائشة عنها:


على كل كانت تقول زينب: أنا أكرمكن ولياً، وأكرمكن سفيراً، من وليها الذي زوجها؟ هو الله عزَّ وجل، كل زوجات النبي تزوجن عن طريق أهلهن، إلا زينب فقد أمر الله بتزويجها من النبي عليه الصلاة والسلام. 

السيدة عائشة أدركتها الغيرة، فكانت تقول: "كانت زينت أحب نسائه إليه فيما أحسبُ بعدي" ، وهذا من شأن النساء، وكانت تقول: لم تكن واحدةٌ من نساء النبي صلى الله عليه وسلم تناصيني غير زينب، أي زينب كنت أغار منها، وكانت ترتفع إلى درجةٍ أتمنى أن أكون في هذه الدرجة. وحينما يسمع النبي عليه الصلاة والسلام من السيدة عائشة بعض التعليقات الناتجة عن غيرتها، كان يقول متلطفاً إنها بنت أبي بكر، أي إن أباها أحبّ الناس إليه، أحياناً الإنسان يراعي زوجته بقدر أبيها، إنها بنت أبي بكر، فكان يقول كلما سمع منها قولاً فيه تعبير عن غيرتها يقول: إنها بنت أبي بكر، لكن الشيء الذي يلفت النظر أن الإنسان إذا عرف مقامه عند الله، وعرف شأنه فلا ينبغي له أن يعتدي على الآخرين، وقفت زينبُ موقفاً شجاعاً وشريفاً من السيدة عائشة في حديث الإفك، فرفضت أن تتهم السيدة عائشة بشيء مع أنها ضرَّتُها، بل إن أخت السيدة زينب كانت تروِّج حديث مسطح لصالح أختها زينب، وأختها وقفت موقفاً مشرفاً. 

قالت عائشة مرةً: "لم أر قط خيراً في الدين من زينب، إنها أتقانا لله، وأصدقنا حديثاً، وأوصل رحماً، وأعظم صدقةً، وما سمعت منها شيئاً أكرهه" . هذا موقف مشرف للإنسان، إذا وقعت فتنة، إذا كان هناك ترويج باطل، يقف الإنسان الموقف الحازم، ويمسك لسانه عن الخوض في هذه الأكاذيب التي تروج في المدينة.

 

وصف لبعض خصال السيدة زينب رضي الله عنها:


النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((إن زينب أوَّاهة)) ، أي كثيرة التأوُّه، فلما سئل: يا رسول الله وما أَّواهة؟ قال:((الأوَّاه هو الخاشع المتضرع)) ، ثم تلا عليه الصلاة والسلام قول الله عزَّ وجل: 

﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)﴾

[  سورة هود  ]

أي شهد النبي عليه الصلاة والسلام لهذه الزوجة بأنها منيبةٌ أوَّاهة.

من خصالها العظيمة أنها كانت كريمةً خيّرة، تصنع بيديها ما تحسن صنعه ثم تتصدَّق به على المساكين، المرأة التي تتقن حياكة القماش، أو حياكة الصوف، أو الخياطة، تعمل، تَجِد، تكد، ثم تنفق من هذا المال على الفقراء والمساكين، كان هذا شأن زينب. 

بعد أن توفي النبي عليه الصلاة والسلام قالت السيدة عائشة: كانت زينب مُعْجِبَةً للنبي عليه الصلاة والسلام، وكان يستكثر منها، وكانت صالحةً قوَّامةً، تعمل بيديها، وتتصدق على المساكين.

(( وقالت أيضاً: ذهبت زينب حميدةً متعبِّدة مفزع اليتامى والأرامل، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: عن عائشة أم المؤمنين أنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قُلْنَ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أَيُّنَا أَسْرَعُ بكَ لُحُوقًا؟ قالَ: أَطْوَلُكُنَّ يَدًا، فأخَذُوا قَصَبَةً يَذْرَعُونَهَا، فَكَانَتْ سَوْدَةُ أَطْوَلَهُنَّ يَدًا، فَعَلِمْنَا بَعْدُ أنَّما كَانَتْ طُولَ يَدِهَا الصَّدَقَةُ، وكَانَتْ أَسْرَعَنَا لُحُوقًا به وكَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ. ))

[ صحيح البخاري ]

قالت: فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام نَمُدُّ أيدينا على الجدار، نتطاول، نرى من التي تموت أول واحدة، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب ولم تكن بأطولنا، فعرفنا حينئذٍ أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال: ((أطولكن يداً)) أي أكثركن صدقةً على الفقراء والمساكين، فلان يده طويلة في الخير. 

سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرسل عطاءها عشرة آلاف فقالت: اللهم لا يدركني هذا المال في قابل فإنه فتنة، أنفقته كله على الفقراء والمساكين، ووقف عمر ببابها مرةً وقال: بلغني ما فرَّقت، فأرسل إليها ألفاً آخر، والألف الآخر وزَّعته أيضاً على الفقراء والمساكين، هذه زوجة النبي عليه الصلاة والسلام، كانت كريمةً، شريفةً، خَيِّرَةً، عابدةً، أوَّاهةً، وهذه العادة عادة التبني التي كانت سائدةً في الحياة الجاهلية أبطلها الله عزَّ وجل عن طريق هذه الحادثة، حيث تزوج زيد بن حارثة زينب وهي ابنة عمة النبي، وبعد حينٍ أمر الله عزَّ وجل النبي عليه الصلاة والسلام أن يتزوج من زينب، وهذا الزواج أبطل إلى الأبد عادة التبَنِّي التي كانت سائدة.

 

جوهر الدين طاعة الله عزَّ وجل:


الآن إلى الآيات، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)﴾ في النهاية الدين كله في طاعة الله ورسوله، وما سوى الطاعة فشيءٌ لا يقدِّم ولا يؤخِّر، أي ثقافتك الإسلامية، معلوماتك الدينية، عندك عاطفة إسلامية، المظاهر الدينية في بيتك، هذه كلها لا تقدم ولا تؤخر، جوهر الدين طاعة الله عزَّ وجل، فلذلك ليس من شأن المؤمن وهذا مستفاد من قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ (36)﴾ ليس من شأن المؤمن إذا وجد أمر الله عزَّ وجل، أو أمر النبي أن يقف متردداً أفعل أو لا أفعل، إذا كان هناك تردد فهناك ضعفٌ في الإيمان، علامة الإيمان الذي يُنَجِّي صاحبه من عذاب الدنيا والآخرة أن يكون في الحجم الذي يحمله على طاعة الله، فإن لم يحملك إيمانك على طاعة الله فهذا الإيمان لا يكفي، لذلك: جدد إيمانك، أَعِد حساباتك، اجلس وفكِّر في هذا الكون، اقرأ القرآن وتدبَّره، إلى أن ينمو الإيمان إلى درجة يكفي لحملك على طاعة الله.

 

الآية بخصوص لفظها ولكن يجب ألا نغفل عن عموم معناها وكلماتها:


إذا كان هناك أمر بالنهي عن الربا، تقول: والله يا أخي توجد ضرورة، والأمر الآن غير معقول، وأين نذهب بمالنا؟ الآن الآية واسعة جداً، وإن كان نزلت في حادثة زينب رضي الله عنها، حين أمرها الله عزَّ وجل، أو حين أمر النبي أن يتزوجها، هذه الآية بخصوص لفظها لا نغفل عن عموم معناها وكلماتها، العبارة لها عموم، من عموم العبارة أن المؤمن إذا وجد أمر الله عزَّ وجل، أو أمر النبي عليه الصلاة والسلام فلا خيار له في التطبيق أو عدم التطبيق، وليس هذا من شأن المؤمن.


  من يحيد عن طريق الحق فقد ضلّ ضلالاً مبيناً:


﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)﴾ الضلال مبين، الطريق واضح، مثلاً لو وجد طريق عريض جداً وعليه لوحة على عرضه تماماً، مرتفعة، فوسفورية، كل حرف طوله ثلاثة أمتار، أن الجهة الفلانية من اليمين، فتابع الطريق مستقيماً، هذا ضلال مبين، لوحة كبيرة متألِّقة، مُشِعَّة، فوسفوريَّة، توضح كل شيء ومع ذلك ضللت الطريق؟! هذا ضلال مبين، فاحكم على كل إنسان يعصي الله عزَّ وجل، احكم على كل إنسان يحيد عن طريق الحق أنه ضالٌ ضلالاً مبيناً، قال تعالى:

﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)﴾

[  سورة طه  ]

لا يضل عقله، ولا تشقى نفسه.

 

من ادّعى أن المتبني ابنه فهذا تضليل وتزوير ولعبٌ بدين الله:


﴿وَإِذْ تَقُولُ (37)﴾ ، يا محمد، أعلى درجات النزاهة: ﴿لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ (37)﴾ وهو زيد: ﴿وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ (37)﴾ أنعم الله عليه بالهدى، وأنعمت عليه بالعتق وبالتبني: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ (37)﴾ يا محمد: ﴿مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ (37)﴾ هذا الحق أحق أن يُتَّبَعَ، هذه العادة يجب أن تُلغى، هذا السلوك المنحرف يجب أن يبطُل، هذا المتبنى غير الابن، هذه ليست أمه وهو ليس ابنها، هذه ليست أخته، إذا جاء الإنسان بولد صغير وتبنَّاه في البيت، وشَبَّ هذا الصغير، من الجهل والخطأ أن تقول: هذا ابني، وهذا أخته فلانة، وأمه فلانة، هذا تضليل، وهذا تزوير، وهذا لعبٌ بدين الله عزَّ وجل، فالابن ابن، والمتبنى متبنى، ولا يمكن أن يتساوى الشيئان.

 

تطبيق الشرع تماماً وإن كان مخالفاً للأعراف والتقاليد:


﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ (37)﴾ أي الأعراف والتقاليد لها تأثير، هو يدعو إلى الله، هو مثل أعلى في الكمال، ماذا يقول الناس عن النبي حينما يتزوَّج زينب زوجة متبناه؟ ماذا يقول؟ خشي على سلامة الدعوة، وخشي على لغط الناس، وأن يتكلموا في حقه ما ليس بواقع، فقال الله عزَّ وجل مسلياً النبي عليه والسلام: ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا (37)﴾ لماذا؟ لماذا كل هذه القصة؟ ولماذا كل هذه الأزمة؟ ولماذا الطلاق؟ ولماذا الزواج؟ قال: ﴿لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا(37)﴾ أي يجب أن يطبَّق الشرع تماماً، المتبنى شيء والابن شيء آخر.

﴿لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا(37)﴾ هذا الذي يجب أن يتم.

 

ربنا عزَّ وجل جعل النبي يدفع الثمن ليبطل عادة التبني:


الآن استنباطاً من هذه القصة، ليس للإنسان الحق في أن يقول: فلانة مثل أختي، وهذه مثل أمي، أم رفيقه مثل أمه، وهذه مثل أختي، وهذه تخاوينا بالله، وهذه مثل ابنتي، وهذه مثل أختي، وهذه مثل أمي، هذا كله كلام فيه ضلال، ربنا عزَّ وجل جعل النبي عليه الصلاة والسلام وهو أعزُّ الخلق عليه، جعله يدفع الثمن، ويقف هذا الموقف الحرج، ليبطل هذه العادة المتفشية في المجتمع الجاهلي، فنحن إذا عدنا إلى مثل هذه العادات فقد عدنا إلى جاهليةٍ أخرى، فالمحارم محارم، الأجنبيات أجنبيات، الأجنبية تشتهى، لو كان هناك صداقة، لو كان هناك  جوار، لو كان هناك قرابة بعيدة، لو كان هناك علاقات حميمة، الأجنبية تُشْتَهَى، لو أن بنتاً صغيرةً تبنيتها ونشأت في حجرك، وأنت أبوها بالتبني، وهذا أخوها بالتبني، هذا ليس أباً، وهذا ليس أخاً، ربما وقعت الفواحش في البيت الواحد من عادة التبني فلذلك سيدنا عمر كما يقال: كان وقّافاً عند حدود الله. 

إذاً ربنا عزَّ وجل لحكمةٍ أرادها علل السبب، لماذا كانت هذه القصة؟ ﴿لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ (37)﴾ زينب زوجة متبنَّى النبي، جاء الأمر أن تطلق، وجاء الأمر أن يتزوجها النبي، وهو في حكم ابنه في العادات والتقاليد، لكن الشرع شيء والعادات والتقاليد شيء آخر.

 

المؤمن ليس عبداً للعادات والتقاليد التي تعارف الناس عليها وليست في الشرع:


شيء آخر؛ قد تأتي العادات موافقةً للشرع، فمرحباً بها، لا يوجد مانع، أي من العادة أن نزور بعضنا، بعض الزيارات، بعض المساعدات، أي عادةٍ اجتماعيةٍ يقرها الشرع أكرم بها من عادة، أما حينما تنفصل العادات عن الشرع فيجب أن نركلها بأقدامنا وأن نتبع الشرع، لذلك المؤمن ليس عبداً للعادات والتقاليد، أي شيء تعارف الناس عليها وليس في الشرع فهذا مرفوض، أي هذا الاختلاط في الأسر، نحن بيت واحد وهكذا ربينا، وهكذا نشأنا، وهكذا أبونا علمنا، مائدة واحدة، هناك أصهار متعددون، هناك زوجات متعددات، كلهن يبدين محاسنهن أمام الأجانب بحكم العادات والتقاليد هذا كله ليس من الدين في شيء، وما هذه القصة التي جعلها الله قرآناً إلا من أجل ألا نقع في هذه المتاهات مرةً ثانية، وقد نعود إليها بسبب ضعف الإيمان، وضعف اليقين، وضعف معرفة أمر الله عزَّ وجل.

 

الحق لا يستحيا منه:


﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا(38)﴾ أي حينما أمر الله النبي أن يتزوَّج من زينب ما كان عليه من حرج، لذلك فالحق لا يستحيا منه، والحلال لا يستحيا منه، والمباح لا يستحيا منه، هناك أحياناً إنسان يكون عنده زوجة لا تنجب فتجعله يختار اختياراً صعباً؛ إما أن يطلِّقها، وإما أن يصبر عليها، الله سمح له بزوجة ثانية، هذا ليس خلافاً للشرع، لتبقى عنده، وليحسن إليها، ولينجب من ثانية أولاداً، فالحلال لا يُستحيا منه، والحق لا يُخاف منه، فالحلال ما أحلَّه الله، والحرام ما حرَّمه الله، وحينما تختلف العادات والتقاليد مع الشرع، يجب أن نركل العادات والتقاليد بأقدامنا وأن نتبع الشرع، أما الذين يتبعون العادات والتقاليد على حساب الشرع فهؤلاء ما عرفوا الله، وفي إيمانهم ضعف، وقد ضلوا ضلالاً مبيناً.

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور