وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 07 - سورة الأحزاب - تفسير الآيات 28 - 32 خصوصية الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

خصوصية خطاب الله نبيّه بلفظ الرسالة والنبوة: 


1– تكريم وتفضيل الله نبيَّه على سائر الأنبياء:

أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس السابع من سورة الأحزاب.

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا(29)﴾ ..أولاً: الله سبحانه وتعالى ما خاطب النبي في القرآن الكريم إلا بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ و:﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾ توقيراً له، وتكريماً، وتفضيلاً له على سائر الأنبياء، خاطب الأنبياء بأسمائهم، قال: ﴿يَا يَحْيَى﴾ وقال: ﴿يَا عِيسَى﴾ وقال: ﴿يَا نُوحُ﴾ ولم يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام خطاباً إلا بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ و: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾

2 ـ مقام النبوة يقتضي دوام الصلة بالله:

المعنى الثاني: أن النبوة مقامٌ يقتضي دوام الصلة بالله. 

حينما رأى الصدِّيق رضي الله عنه سيدنا حنظلة يبكي في طرقات المدينة، وقال له: "يا حنظلة مالك تبكي؟" فقال حنظلة: "نافق حنظلة"، قال: "ولِمَ يا أخي؟"، قال: "نكون مع رسول الله ونحن والجنة كهاتين" - أيْ إذا جلسنا في مجلسه نسعد، إذا جلسنا في مجلسه نرى الجنة من خلال حديثه، إذا جلسنا في مجلسه ينشرح صدرنا، إذا جلسنا في مجلسه تزول عنا الكروب والأحزان- فإذا عافسنا الأهل- ذهبنا إلى البيت، إلى السوق، إلى العمل- ننسى، هذه الحالة الطيبة، الرائعة، المسعدة، هذا التجلي إن صح التعبير، هذا الحال، هذا الصفاء الذي نحن فيه عند رسول الله، إذا ذهبنا إلى بيوتنا، ومارسنا أعمالنا، ودخلنا في الأسواق، وقيل وقال، وكيت وكيتَ، هذا الحال يذهب عنا، إذاً أنا منافق - هذا قول سيدنا حنظلة- سيدنا الصديق لكماله الشديد، ولذوقه الرفيع ما أراد أن يجعل سيدنا حنظلة وحيداً في هذه الحالة مستوحشاً، قال: "يا أخي أنا كذلك - أنا مثلك - انطلق بنا إلى رسول الله". عند النبي عليه الصلاة والسلام حدَّثاه عن حال حنظلة فقال عليه الصلاة والسلام- هنا الشاهد- عَنْ حَنْظَلَةَ قَالَ:

(( كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَوَعَظَنَا، فَذَكَّرَ النَّارَ، قالَ: ثُمَّ جِئْتُ إلى البَيْتِ فَضَاحَكْتُ الصِّبْيَانَ وَلَاعَبْتُ المَرْأَةَ، قالَ: فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذلكَ له، فَقالَ: وَأَنَا قدْ فَعَلْتُ مِثْلَ ما تَذْكُرُ، فَلَقِينَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، نَافَقَ حَنْظَلَةُ فَقالَ: مَهْ فَحَدَّثْتُهُ بالحَديثِ، فَقالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَنَا قدْ فَعَلْتُ مِثْلَ ما فَعَلَ، فَقالَ: يا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، ولو كَانَتْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كما تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ، حتَّى تُسَلِّمَ علَيْكُم في الطُّرُقِ. وفي رواية: كُنَّا عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَذَكَّرَنَا الجَنَّةَ وَالنَّارَ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَديثِهِمَا. ))

[ صحيح مسلم  ]

(( نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا، أما أنتم يا أخي فساعةٌ وساعة، لو بقيتم على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم، الملائكة ولزارتكم في بيوتكم.  ))

[ مسلم عن حنظلة ]

(( إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا، ولا تنام قلوبنا. ))

[ موطأ مالك ]

(( لَوْ تَدُومُونَ عَلَى الْحَالِ الَّذِي تَقُومُونَ بِهَا مِنْ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلائِكَةُ فِي مَجَالِسِكُمْ، وَفِي طُرُقِكُمْ، وَعَلَى فُرُشِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، وَسَاعَةً وسَاعَةً. ))

[ سنن الترمذي عَنْ حَنْظَلَةَ الأُسَيِّدِيِّ ]


  استنباطات من حديث حنظلة:


يُستنبط من هذا الحديث استنباطان؛ الاستنباط الأول؛ أن في مجلس العلم صفاءً وتجليًّا وراحة نفسية، هذه يتميز بها عن مجالس أخرى.  

الشيء الثاني؛ الإنسان لو دامت حالته لكان نبياً، مَن هو النبي؟ هو الذي على دوام صلة بالله عزَّ وجل.  

 

تحذير من فهمٍ مغلوط للحديث:


لكن أيها الأخوة الأكارم؛ إياكم أن تفهموا من هذا الحديث أن كلمة: ((سَاعَةً وسَاعَةً)) أي ساعة طاعة وساعة معصية، لا والله، إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، ولكن ساعة وساعة، ساعةُ إقبال، وساعة فتور، لا أقول: إعراض أيضاً، ساعةُ إقبال وتأجُج، وساعة فتور وهمود، فالإنسان بين ساعةٍ وساعة، أحياناً في صلاته يشعر بحالٍ طيبة، أحياناً في أثناء الذكر، أحياناً في أثناء تلاوة القرآن، أحياناً في أعقاب العمل الصالح، وأحياناً يفقد هذا الحال، ما دام مستقيماً فهذه حكمةٌ أرادها الله، إذاً: النبوّة مقام يقتضي دوام الصلة بالله في النوم وفي اليقظة.

 

من اشتقاقات ومعاني كلمة نبي:


شيءٌ آخر؛ كلمة النبي مأخوذة من نَبَأَ بمعنى ظهر، أي له مكان عليّ، له مكان شامخ، ومأخوذة أيضاً من كلمة أَنْبَأَ بمعنى أخبر. 

 

بين النقل والعقل:


الآن الله عزَّ وجل خلق الكون وأودع فينا العقل، وهناك توافقٌ بين العقل وبين الكون، فمن أعمل عقله في الكون حكم حكماً قطعياً بأن لهذا الكون خالقاً عظيماً، ومربياً حكيماً، ومسيّراً قديراً، وإذا أحكم عقله في القرآن رأى من إعجازه الشيء الكثير، فحكم أيضاً بأن هذا القرآن كلام الله عزّ وجل، وإذا عَلِمَ عِلْمَ اليقين أن هذا القرآن كلام الله، فالذي جاء به قولاً واحدا هو رسول الله، إذاً: كلام النبي عليه الصلاة والسلام تبيانٌ وتفصيلٌ لهذا الكتاب، انتهى دور العقل، الآن جاء دون النقل، النبي أخبرنا عن سرّ الوجود، عن فلسفة الحياة، عن طبيعة الحياة، ماذا بعد الموت؟ عن الحساب، عن مصير الإنسان، إما إلى جنة يدوم نعيمها، أو إلى نارٍ لا ينفد عذابها، حدَّثنا عن الصراط المستقيم، وعن حوضه الشريف، وعن العرش، وعن الكرسي، وعن إذا الصحف نُشِرَت، وحدثنا عن أصل الإنسان، وعن سرّ وجوده، وعن طبيعة الخلق، وعن أجدى شيءٍ يفعله في الدنيا، وأعطانا الأوامر والنواهي، أي أخبرنا عن الله، أَنْبَأَ بمعنى أخبر، من جهة له مقامٌ رفيع، لأن له مهمتين، مهمة تبليغية، ومهمة أخرى قدوة، أن يكون قدوةً لنا، هذا المقام الرفيع من لوازمه أنه أنبأناً عن الله عزَّ وجل، أخبرنا عنه، رسول الله..  

﴿ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)﴾

[ سورة طه ]

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)﴾

[ سورة الطلاق  ]

 

بين النبوة والتنبُّؤ:


إذاً النبوة من نَبَأَ بمعنى ارتفع وظهر، ومن أَنْبَأَ بمعنى أخبر، لكن التنبُّؤ شيء آخر، هذا الموضوع دقيق جداً أتمنى أن أضعه بين أيديكم. 

متى يتنبَّأ الإنسان؟ إذا عرف القانون، أنت كمهندس إذا رأيت جسراً حديدياً نسي المهندس أن يترك بين أجزائه فواصل تمدد، وأنت تعلم علم اليقين أن المعادن ولاسيما الحديد تتمدد بالحرارة، وأنت في شهر الشتاء القارس، وهذا الجسر مُحكم ورائع، ويؤدي وظيفة كبيرة، تتنبأ وأنت عبد بأن هذا الجسر سوف يلتوي في الصيف، من أنبأك هذا؟ القانون، تمدُد الأجسام بالحرارة، ما دام المهندس قد نسي فواصل التمدد فهذا الجسر لابدَّ من أن يلتوي، أنت لو قرأت القرآن، ودرست الآيات التي تأخذ معنى القانون، إذا قرأت القرآن، واستنبطت منه الآيات التي تأخذ معنى القانون، وقد عبر الله عنها "بكلمات الله": ﴿لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ فإذا أحصيت هذه الآيات مثلاً: 

﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)﴾

[  سورة طه  ]

مستحيل إنسان يطبق الهدى الإلهي في زواجه، في بيعه، في شرائه، في معاملته، في علاقته مع نفسه، في حواسه، في صحته، في طعامه، في شرابه، في كل شيء، وأن يصاب بضلالٍ في عقله، أو شقاءٍ في نفسه، مستحيل أن تطبق منهج الله عز وجل، إذاً: إذا انطلقت من حبك الشديد لنفسك، من حبك الذي لا يتناهى لذاتك عليك بطاعة ربك، عليك بتطبيق منهج ربك، ولا أريد أن يكون الإنسان ضحية التجريب، لأن هذا الشرع شرع الله عزَّ وجل، وهذا القانون قانون الله عزَّ وجل، فكل مَن خالفه شقيتْ نفسه، وضلّ عقله. فأي إنسان اعتنق عقيدة بخلاف ما في القرآن، أي اعتنق عقيدةً وضعيةً من وضع البشر، فقد ضلَّ ضلالاً مبيناً، ما هو الضلال؟ شيء مخالف للواقع، يفاجأ بعد حين أن هذا البناء الشامخ الذي بناه قد تقوَّض وانهار، هذا الضلال.. ﴿فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ﴾ إذا اعتقدت اعتقاداً موافقاً للقرآن فلن تضل، ولن تفاجأ، ولن يأتي يوم يكون الخبر عليك كالصاعقة، أن هذا الذي اعتنقته أصبح خرافةً، هذا في الإسلام لن يقع أبداً، قد يقع هذا في المذاهب الوضعية، تعتنق مبدأً وتدافع عنه، وتتحمَّس له، وتبذل من أجله الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، ثم في نهاية المطاف تكتشف أن هذا المبدأ باطل، وأنه كلامٌ فارغٌ لا معنى له، وأن كل المبادئ التي صدَّقها الإنسان مبادئ لا أصل لها في الواقع. 

 

اعتناق المبادئ الوضعية سبب للشقاء الدنيوي والأخروي:


إذاً: هذا الذي يحدث لأهل الدنيا حينما يعتنقون مبادئ وضعية، يصابون بخيبة أمل كبيرة جداً، هذا لن يحدث في الدين أبداً، لأنك مع توجيه خالق الكون، مع الثوابت؛ خالق الكون، كتابه، رسوله كلها ثوابت، لن يكون في حياتك مفاجأةٌ صاعقة من نوع أن تفاجأ بأن المبادئ التي اعتنقتها مبادئ خُلَّبِيَّة لا أصل لها، لا تستند إلى واقع، لا معنى لها، لم تؤت أكلها إطلاقاً، لم تحقق هدفاً إطلاقاً. 


  معرفة القوانين الإلهية سبيل إلى التنبؤ بمصير الإنسان:

 

قانون الاستقامة والتنبؤ بالحياة الطيبة:

إذاً: أنت إذا عرفت القوانين تنبأت، أنت لست نبياً، لكن لو رأيت شاباً مستقيماً، وهو في مقتبل العمر، لا يملك شيئاً، ولا أحد يعرفه، نكرة من نكرات المجتمع، إن رأيته محباً لله ورسوله، مستقيماً على أمره، يحرص على دينه، ورعاً، تقياً، نقياً، قل له: لك مستقبلٌ زاهر، وتأكد أن هذا الكلام لابدَّ من أن يحصل، لأن الله عزَّ وجل يقول:

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل  ]  

قانون الربا والتنبؤ بدمار المال:

وإذا رأيت المرابي تنبَّأ له بتدمير المال وأنت مطمئن..

﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)﴾

[ سورة البقرة ]  

قانون عدم العفة والتنبؤ بالزواج الفاشل:

إن رأيت شاباً له خبراتٌ قبل الزواج، ذَوَّاقٌ قبل الزواج، فتنبأ له بزواج شقي، لأنه ورد: "لعن الله الذواقين ولا الذواقات"

قانون العفة والتنبؤ بالزواج الناجح:

إن رأيت شاباً عفيفاً قبل الزواج فتنبأ له أنه سيسعد في زواجه، لأن زواجه مكافأةٌ من الله عزَّ وجل على عفته قبل الزواج، إنها قوانين. أتمنى على كل أخٍ كريم أن يقرأ القرآن الكريم، وأن يستنبط القوانين. 

قانون الفسق والتنبؤ بالعذاب:

﴿ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)﴾

[ سورة يونس ]

ما دام الإنسان مقيماً على معصية، ما دام مقيماً على مخالفة، لن يؤمن، لن يُقبل، حجابٌ كثيفٌ بينه وبين الله عزَّ وجل، فإذا قرأت القرآن، وعرفت القوانين، أمكنك أن تتنبأ بما سيكون لا من علم الغيب؛ ولكن من علمٍ بالقوانين تماماً كالذي يتنبأ بأن هذا الجسر لابدَّ من أن يلتوي في فصل الصيف، لأن المهندس نسي الفواصل، فواصل التمدد بين أجزائه، تنبؤ بالقوانين، فإذا قرأت القرآن.

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل  ]

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾

[  سورة طه  ]

قانون الخيانة والتنبؤ بالفضيحة:

لو تقرأ قوله تعالى:

﴿ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)﴾

[ سورة يوسف ]

أيْ أية خيانةٍ على وجه الأرض لابدَّ من أن تفتضح، مهما كنت ذكياً، مهما أحكمت الأمور، ما دامت خيانة فلابدَّ من أن تفتضح، هذا قانون في القرآن الكريم.

 

من القوانين القرآنية: ثلاثةٌ من كن فيه كن عليه:


ثلاثةٌ من كن فيه كن عليه؛ البغي:

﴿ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)﴾

[  سورة يونس ]

والنكث:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)﴾  

[  سورة الفتح ]

والخداع:

﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)﴾

[ سورة البقرة ]

إذا أنت قرأت حديث النبي المستند إلى فهمه الدقيق لكتاب الله، هذه كلها قوانين، بإمكانك أن تتنبأ، وأنا أقول لك: هذا الشيء طيب جداً.. 

 

قوانين تحكم علاقات الناس:


بشر الزاني بالفقر ولو بعد حين، بشر القاتل بالقتل، تجد أن اكتشاف الجريمة - أنا هذا ما أراه - ليس صادراً عن ذكاء رجال الأمن الجنائي، ولكن بتقديرِ قادرٍ، بتقديرِ حكيمٍ، لسببٍ تافهٍ جداً كُشِفَ الأمر، وظهرت الجريمة، وعوقب المجرم وأعدم، بشر القاتل بالقتل ولو بعد حين، المرابي بشِّره بمحق المال، والمتصدق بشره بنماء المال، كلها قوانين، ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ واللهِ شيء رائع جداً أن تتعرف إلى القوانين التي تحكم علاقات الناس فيما بينهم، شيء رائع جداً،  تعرف الطيبين للطيبات، إذا كنت طيباً صادقاً مخلصاً منيباً، الله سبحانه وتعالى يسوقك شئت أم أبيت لامرأةٍ صالحةٍ، تسرُّك إذا نظرت إليها، وتحفظك إذا غبت عنها، وتطيعك إذا أمرتها؛ وإذا لم تكن طيباً جاءتك مَن هي على شاكلتك، قال الله له: عبدي قد عاقبتك، ولم تدر، فما من شيءٍ أروع للإنسان من أن يطلّع على قوانين حتمية لابدَّ من أن تقع، هكذا، إذاً النبي سُمِّيَ نبياً لأنه ظهر مقامه عالياً، من نبأ الشيء أي ظهر، وسُمّي نبياً لأنه أنبأنا بالحق، أخبرنا عن الله عزَّ وجل، أخبر عقولنا ما تعجز عن فهمه بذاتها، وإذا قرأت أنت كلام الله وكلام رسوله تجده كله قوانين، مثلاً: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ. ))

[ صحيح البخاري  ]

مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ ـ أنت استقرضت قرضاً، وفي نيتك الأكيدة أن ترد هذا القرض، الله عزَّ وجل ييسر لك الأمور وترد هذا الدين، وَمَنْ أَخَذَ أموال الناس يُرِيدُ إِتْلافَهَا - أيْ أنْ يأكلها بالباطل- أَتْلَفَهُ اللَّهُ هو ، تجده أصيب بمرض عضال، دفع كل شيءٍ، وباع بيته، لأنه حينما أكل أموال الناس أراد أن يأكلها بالباطل، هكذا. 

مثلاً عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: 

(( من كانت الدُّنيا همَّه ، فرَّق اللهُ عليه أمرَه، وجعل فقرَه بين عينَيْه، ولم يأْتِه من الدُّنيا إلَّا ما كُتِب له، ومن كانت الآخرةُ نيَّتَه، جمع اللهُ له أمرَه، وجعل غناه في قلبِه، وأتته الدُّنيا وهي راغمةٌ. ))

[ السلسلة الصحيحة:  خلاصة حكم المحدث: إسناده جيد رجاله ثقات ]

هذه قوانين، ليتك إذا قرأت القرآن، أو قرأت سنة النبي العدنان تكتشف هذه القوانين، وأتمنى عليك أن تكتبها، هذه قوانين قطعية الحدوث، فإذا عرف الإنسان أن هذا التيار تيار صاعق، فاستخدم آلة مغلَّفة بعازل، جهله بهذا الموضوع قد يودي بحياته، إذا عرف أن هذا الغاز يسبب انفجاراً، فإذا شَمَّ هذه الرائحة يبادر إلى منع التسرب، لو أنه ضغط على زر الكهرباء لانفجر البيت، إذا عرفت طبيعة الغاز فلن تفعل ذلك. 

 

كل مصيبة بسبب مخالفة منهج الله:


أكاد أن أقول لكم: ما من مصيبةٍ في الأرض إلا بسبب مخالفةٍ لمنهج الله، وما من مخالفةٍ بمنهج الله إلا بسبب جهلٍ به، إذاً: أعدى أعداء الإنسان هو الجهل، فإذا أردت أن تتعلم فعليك بالمساجد، عليك ببيوت الله عزَّ وجل، فيها تتعرف إلى كلام الله، إلى سنة النبي، إلى مواقف النبي، إلى سِيَرِ الصحابة، إلى الأحكام الفقهية. 

 

حياة النبي عليه الصلاة والسلام الزوجية مفحمة بالتقشف والزهد:


﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ (28)﴾ .. كلمة: (قل) فيها معنى شعوري، ذوقي، إذا كنت منزعجاً من إنسان فلا تواجهه، ولكن قل لشخص أن يقول له: أنا غضبان عليه، كلمة: ﴿قُلْ لِأَزْوَاجِكَ (28)﴾ ..يبدو أن النبي عليه الصلاة والسلام عاش حياةً أساسها الكفاف والتقَشُّف، ذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام لو عاش حياةً فيها البذخ، أو فيها أطايب الأشياء لظن الناس بالدعوة سوءاً، فأراد الله أن ينزِّه هذه الدعوة، مع أن الإسلام الذي جاء به النبي لا يحرم أن تأكل، وأن تشرب، وأن ترتدي ثياباً جديدةً، هذا ليس محرَّماً، أما النبي فأخذ نفسه بالعزائم، أخذ نفسه بالتقشف وبالكفاف، فلما فتح الله عليه البلاد والغنائم طلبت زوجاته الطاهرات منه أن يرفع مستوى المعيشة، أن يزيد في النفقة، فاغْتَمَّ عليه الصلاة والسلام، وهذا الغم الذي أصابه لأنه أراد أن يبقى على الخطة التي رسمها لدعوته، أن يكون متقشفاً، أن يكون زاهداً، ألا يترك من الدنيا شيئاَ، فحينما أصابه ما أصابه نزل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ (28)﴾ .. قل لهن، قل لهن وكأن الله يعاتبهن على إيذائهن لرسول الله، وهذه المطالبة للنبي عليه الصلاة والسلام نوعٌ من الأذى.

 

النبي بشر انتصر على بشريته :


في الحقيقة لدينا نقطة مهمة جداً، النبي عليه الصلاة والسلام بشر ؛ لكنه انتصر على بشريته، لو أنه ليس من بني البشر، أو ليس يشعر بمشاعر البشر، ما كانت له هذه البطولة العظيمة، لأنه بشر، يشعر بما نشعر، ويحس بما نحس، ويتمنَّى ما نتمنى، ويتألَّم لما نتألم، هو منا، من بني البشر، لكن حبه لله عزَّ وجل غلب عليه فانتصر على بشريته، وجعل الدنيا تحت قدميه، وأراد أن يكون مثلاً أعلى وقدوةً لأصحابه. ألم يقل عليه الصلاة والسلام: عن أنس بن مالك  رضي الله عنه:

(( لقد أُخِفتُ في اللَّهِ وما يُخافُ أحدٌ، ولقد أوذيتُ في اللَّهِ وما يُؤذى أحدٌ، ولقد أتت عليَّ ثلاثونَ من بينِ يومٍ وليلةٍ وما لي ولبلالٍ طعامٌ يأْكلُهُ ذو كبدٍ إلاَّ شيءٌ يواريهِ إبطُ بلالٍ. ))

[ صحيح الترمذي ]

معنى ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يكون متقشفاً، أراد أن يكون بعيداً عن مباهج الدنيا، لئلا يدخل على نفس أصحابه أنّ هذه الدعوة فيها مغانم كثيرة، وفيها مكتسبات، ولو بالغ الإنسان الداعية في رفاهيَّته لظنّ الناس به الظنون.

أيها الأخوة الأكارم؛ النبي عليه الصلاة والسلام انتصر على بشريته تماماً، أما نساؤه الطيِّبات الطاهرات فكانت تتمنى إحداهن أن تعيش حياةً بمستوى أنها زوجة رسول الله، فطالبته بأن يرفع النفقة، وهذا الصحابي الجليل الذي طالبته زوجته أن يعطيها كيت وكيت، قال: "اعلمي أيتها المرأة أن في الجنة من الحور العين ما لو أطلّتْ إحداهن على الأرض لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر، فلأن أضحي بك من أجلهن أهون من أن أضحي بهن من أجلكِ". هذه مشكلة الإنسان إذا كان في مستوى، ولم تكن زوجته كذلك، ينشأ خلافٍ بينهما فهي تريد الدنيا، تريد الظاهر، وهو يريد طاعة الله عزَّ وجل ورضوانه، إذاً هذه مشكلة حُلَّتْ بهذه الطريقة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ (28)﴾ إذاً معنى كلمة: ﴿قُلْ لِأَزْوَاجِكَ﴾ فيها عتاب، لم يقل: يا نساء النبي، هنا قال: ﴿قُلْ لِأَزْوَاجِكَ﴾ .

 

الإنسان مجبول على حبّ الدنيا والميل إليها:


 ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا (28)﴾ .. والحقيقة هذه الآية دقيقة جداً، ما منا واحد إلا ويريد شيئاً، وهذه الإرادات المتنوِّعة على كثرتها، وعلى تباينها، وعلى تنوِّعها، يمكن أن توضع في حقلين كبيرين، إما أن تريد الله ورسوله والدار الآخرة، وإما أن تريد الدنيا وزينتها، الآن اجلس إلى إنسان يريد الدنيا وزينتها، كأنه ليس معك، تحدثه عن الله عزَّ وجل، عن كتابه، فيجيبك: كم الساعة الآن معك؟ هل تعرف أن الشيء الفلاني ارتفع ثمنه، هل تدري بذلك؟ تجد أنك في واد وهو في وادِ، هو في الأسعار، وفي التجارات، والأرباح، والصفقات، والبيوت، وأنت في معرفة الله والدعوة إليه، فلو أنك التقيت مع من يحب الدنيا وزينتها تجد الطريق إلى قلبه مسدوداً، حبك الشيء يُعمي ويصم، قلبه مصفَّح بحب الدنيا، مهما أثرته، مهما تحدثت عن الله، مهما ذكرت له قصةً يذوب لها قلب الرجل يتأثر، يؤلمه غلاء الأسعار ويفرحه رخصها، يؤلمه أن يخسر ويفرحه أن يربح، أما أن يفرح بمعرفة الله ورضوانه وطاعته فهذا بعيدٌ عنه، فلذلك على الرغم من أن الإنسان له إرادات كثيرة جداً، كل هذه الإرادات يمكن أن تصب في حقلين اثنين..﴿إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا (28)﴾ .

 

إياكم وكبرياءَ قارون:


طبعاً إذا طلب الإنسان الحياة الدنيا بأساسياتها، هذا مقبول منه، طلب الزواج، هذا شيء أودعه الله بالإنسان، فطري، أساسي، طلب مأوى يسكن فيه، طلب مورد رزق، طلب ذرية صالحة، هذه كلها طلبات معقولة لا تنتمي إلى حب الدنيا، أما الذي يطلب الشيء الفخم الغالي ليزهوَ به على الناس، أن يتيه على الناس بما عنده، كما فعل قارون:  

﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)﴾

[  سورة القصص  ]

هذا الذي يريد الدنيا ليباهي بها الناس، ليكسر قلوب الفقراء، ليدخلوا عليه فيريهم ما عنده، ليحدثهم عن رحلاته، وعن مصروفه الكبير، وعن متعه، وعن سهراته، وعن نزواته، وعن حجمه المالي، وعن أرباحه، وعن كذا، وعن نوع ألبسته، وعن نوع مركبته، وعن نوع أثاثه، هذا الذي يريد الحياة الدنيا وزينتها، هذا قلبه مصفَّح.

﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)﴾

[ سورة البقرة ]

لا نتأثر بكلامك، قال تعالى: ﴿بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ كفرهم بالله عزَّ وجل أبعدهم عنه، وجعل قلوبهم مغلفةً، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا (28)﴾ الإنسان يريد الزينة، يريد شيئاً يتباهى فيه، يريد منزلاً واسعاً، صالونات، إذا جاء ضيوف يفتح لهم الصالونات، غرف الضيوف، غرف الطعام، شيء يلفت النظر، يزهو كالطاووس أمام ضيوفه..﴿إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28)﴾ تعالين أمتعكن زينة الحياة الدنيا.

 

معنى قوله تعالى: وَأُسَرِّحْكُنَ سَرَاحًا جَميلاً:


﴿وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28)﴾ ..بعض العلماء قال: أطلقكن. 

وبعضهم قال: أنتنَّ لستنَّ في مستوى هذه الدعوة، أنتنّ على الهامش، فإذا كان الإنسان مطلبه دنيوي صار على هامش الحياة، أما إذا كان مطلبه أخروياً فقد صار في صميم الحياة.

 

المؤمن يريد الله ورسوله:


﴿وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (29)﴾ .. هذا الذي يقوله المؤمنون الصادقون: إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي، أي أنت إذا أردت الله عزَّ وجل يهون في سبيل هذا الهدف الكبير كل شيء، تتحمَّل كل المتاعب، تتحمل الصبر، تصبر عن الشهوات، تصبر على الطاعات، ترضى بالأمر التكويني، ترضى بقضاء الله وقدره، ترضى بنصيبك من الدنيا، إذا كنت تريد الدار الآخرة، إذاً اهتمامكم نُقل للدار الآخرة، ليس للدنيا.. 

 

القدوة:


﴿وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)﴾ ..الآن دخلنا في موضوع صغير، موضوع القدوة، كل إنسان له مكانة اجتماعية حتى الأب، الأب في بيته قدوة، حتى المعلم، حتى المدير العام للمؤسسة، حتى مدير المعمل، حتى مدير المستشفى، كل إنسان رفعه الله فوق الناس، هذا احتل مرتبة، هذا الإنسان له حساب خاص، أوضح مثل على ذلك سيدنا عمر حينما جمع أهله وخاصَّته، وقال عمر رضي الله عنه: << إني قد أمرت الناس بكذا، ونهيتهم عن كذا، والناس كالطير، إن رأوكم وقعتم وقعوا، وايم الله لا أوتين بواحدٍ وقع فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العقوبة لمكانه مني >>. 

فالقدوة أيها الأخوة؛ إذا أحسن له أجران، أجره هو لأنه أحسن، وأجر من اقتدى به لأنه قدوة، وإذا أساء يعاقب مرتين، مرةً لأنه أساء، ومرةً لأن الآخرين اقتدوا به في الإساءة، فلان فعل هكذا، وفلان قال هكذا، فلان إذاً أفهم منك، هو سمح بهذا الشيء، وأنت لا تسمح فيه، إذاً هو أفهم منك، وسمح فيه، فكل إنسان له مكانة؛ مكانة علمية، مكانة من وجهاء المجتمع، مكانة إدارية وأحسن له أجران، وإن أساء عليه وزران، هذا حساب عَلِيَّةِ القوم. 


معنى الفاحشة في حقّ النبي:


﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ (30)﴾ .. في قراءة مُبَيَّنَةٍ، وفي قراءة مُبَيِّنَةٍ، إذا قلنا: مبيِنةٍ، أي ظاهرٌ قبحها، من يقول: إِن الزنا شيء لطيف أو طيب؟ أعوذ بالله،  شيء ظاهر، خيانة بخيانة بسفاح بولد غير شرعي بخوف الجريمة بالعقاب بالفضيحة، فحشاء، الإنسان يُسيئه أن يفشو عنه، السرقة، الغش، الكذب، التدليس..﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ (30)﴾ ..

بعض علماء التفسير قالوا: الفاحشة هنا بحق نساء النبي ليست كمعناها بحق الناس، الفاحشة هنا معناها إذا أزعجنَ النبي، وطالبنَهُ فوق ما يملك، وحملنه على أن يغير خطَّته في الحياة، وضغطنا عليه، هذه في حق نساء النبي تُعَدُّ فاحشةً، لأن إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام إيذاءٌ لله عزَّ وجل.. ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ (30)﴾ أي بَيِّنٌ قبحها، بيّنٌ ضلالها وانحرافها.

 

أمرٌ عظيم وتحذير جليل لزوجات النبي:


﴿يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ (30)﴾ ..ذات مرةٍ قال شخصٌ لسيدنا عمر، وقد جيء به شارباً للخمر، وعليه أن يقام الحد، فقال: << والله يا أمير المؤمنين إن الله قَدَّرَ عليَّ ذلك - هذا ليس ذنبي، كل هذا شُغل سيدك - فقال سيدنا عمر: أقيموا عليه الحد مرتين، مرةً لأنه شرب الخمر، ومرةً لأنه افترى على الله، قال له: ويحك إن قضاء الله لم يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار >> أنت مخير، من قال لك: إنك مجبر على شرب الخمر؟ من قال لك ذلك؟ أنت مخير فيما كلفت، ولما قال سيدنا عمر لأهله: << من وقع فيما وقع الناس فيه ضاعفت له العقوبة لمكانه مني >> فصارت القرابة من عمر مصيبة، أي من المصائب أن تكون قريباً من سيدنا عمر، ابن عمه، ابن خالته، مشكلة، وفي زمان ما تكون القرابة ميزة كبيرة جداً، وتكون في زمان ما مصيبة، فكانت القرابة من عمر مصيبة، لأنه عقاب مضاعف، كل إنسان له مكانة له عقاب مضاعف. 

 

احذرْ أيها القدوة أن تخالف بفعلك ما تقوله بلسانك:


لو فرضنا أن أستاذاً دَخَّنَ أمام طلابه، أستاذ ملء السمع والبصر، هو مثقف، وشخصيته قوية، ومعلوماته جيدة، وضابط عمله، فصار ما يفعله شيئاً مبرراً عند الطلاب، مستساغاً، فربما عاقبه الله مرةً على أنه آذى نفسه بهذا الدخان، ومرة على أنه كان قدوةً سيئةً للطلاب. 

إذا كذبت الأم على زوجها أمام أولادها عوقبت مرتين، أمام بناتها، قالت له: لم أخرج من البيت، وهنّ رأينها خرجت ورجعت، وهذه أمهنّ وغالية عليهنّ، معنى هذا الكذب وارد، ومقبول، أمهنّ تكذب، وهنّ يكذبن.إذاً: أيتها الأم سوف تحاسبين عند الله مرتين، مرةً لأنك كذبتِ، ومرةً لأنكِ كنتِ قدوةً سيئةً لأولادك.

كل إنسان له مكانة، كل إنسان لو علا على شخص واحدٍ، له حسابٌ خاص، هذا حساب القدوة، عقابٌ مضاعف وأجرٌ مضاعف، أول أجر لك بطاعتك، والثاني لمن اقتدى بك، ويا أيها المسيء أول وزر عليك للوزرك، والثاني لمن اقتدى بك، ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ (30)﴾ ، وإذا قلنا: مُبَيَّنَةٍ أي بَيَّنَ الله قبحها في القرآن، إما أنها مُبَيَّنَة في كتاب الله وسنة رسوله، أو أنها مُبَيِّنَة في ذاتها.

 

الدين ليس فيه حلّ وسط:


﴿يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)﴾ .. يسيراً، ولو كنتنّ نساء النبي. 

سيدنا رسول الله جاءه أحبّ الناس إليه سيدنا أسامة، كان حِبَّ رسول الله، فيبدو أن امرأةً سرقت، وسوف يقام عليها الحد، فجاؤوا يستشفعون بأسامة عند رسول الله، فلما كلمه أسامة تغيّر لون وجه رسول الله، وامتقع لونه، ونبض عرقٌ في جبهته، وقال:  

(( عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ قُرَيْشًا أهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتي سَرَقَتْ، فَقالوا: ومَن يُكَلِّمُ فِيهَا رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فَقالوا: ومَن يَجْتَرِئُ عليه إلَّا أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قالَ: إنَّما أهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقَامُوا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللَّهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا. ))

[ صحيح البخاري ]

هكذا الدين، الدين ليس فيه حلّ وسط، سيدنا عمر مات ابنه في رجمٍ، وقال قبل أن يموت: أبلغ رسول الله أنَّ أبي أقام عليّ الحَد، بعد الموت أبلغْ رسول الله أن أبي أقام علي الحد، ﴿مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ (30)﴾ ..

﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)﴾

[  سورة التحريم  ]

والله الذي لا إله إلا هو كما قال النبي الكريم:

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) قَالَ: (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا.))

[ صحيح البخاري ]

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسام: مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه . ))

[  صحيح ابن حبان أخرجه في صحيحه ]

يوم القيامة يرى النبي بعض أمته تجر إلى النار يقول: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ:

(( أَصْحَابِي، أَصْحَابِي، فَقِيلَ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، قَالَ: فَأَقُولُ: بُعْدًا، بُعْدًا، أَوْ قَالَ: سُحْقًا، سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي.))

[  مسند أحمد ]

 

العبرة بدوام الطاعة:


﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ(31)﴾ ..هنا كلمة:﴿يقنت﴾ تعني الطاعة المستمرة. 

كل إنسان له فورة، أما البطولة ليست بالفورة، بالاستمرار، بالثبات، الثبات نبات، قنت داوم على الطاعة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: عن عائشة رضي الله عنها:

(( أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ. ))

[ البخاري ]

 

بشرى عظيمة لنساء النبي؛ نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ:


﴿وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ (31)﴾ ..المرة الأولى: يضاعف لها العذاب ضعفين، والثانية: نؤتها أجرها مرتين، ((أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ)) ثبتّ على درس اثبت عليه، ثبتّ على صدقة اثبت عليه، ثبتّ على صلوات الضحى مثلاً اثبت عليها، كل شيء فعلته تطوعاً اثبت عليه، حتى تشعر بالثمار، برميل ماء فرضاً ملأناه بلتر، ونسيناه شهراً، فلترات الماء جفّت، إذا لا يوجد استمرار لا يوجد ملء، إذاً أنت نفسك وعاء، إن لم تستمر في الأخذ لا تمتلئ، داومت على درس اثبت عليه، وداوم دائماً، فهذا الوقت لله عزَّ وجل، وحضور هذا الدرس زكاة وقتك، ﴿وَمَنْ يَقْنُتْ (31)﴾ القنوت الاستمرار في الطاعة، ﴿مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)﴾ .. في الدنيا والآخرة، أيْ هو شيء مرتب، زرق كريم من عند الخالق. 

 

الله تعالى كريم عظيم:


فاتتني كلمة، لما قال ربنا عزَّ وجل: ﴿وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)﴾ ..إذا قال لك طفلٌ صغير: أنا معي مبلغ كبير، ماذا تظن أن يكون مقدار المبلغ؟ خمس ليرات، يقول لك: كبير، عشر ليرات، تعرف شخصاً معه ألف مليون وقال لك: أنا سأعطيك مبلغاً كبيراً، فهل تظن أنّه يعطيك خمس ليرات؟ فكلمة كبير تتعلق بالقائل، انتبهوا لهذه النقطة، كلمة كبير وعظيم متعلقة بالقائل، فإذا كان أعظم العظماء يقول لك: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)﴾ ماذا تعني كلمة (عظيم) من العظيم؟ أنا مهيئ لك هدية ثمينة، هذه على مقدار القائل، على مستوى القائل، إذا كان الإنسان ضعيفاً مادياً فهذه قضية مئة ليرة هذه ثمينة، فإذا كان الإنسان مليئاً جداً، كلمة هدية ثمينة تعني شيئاً غالياً جداً، فالعظيم إذا قال عن شيءٍ: عظيم، فهو عظيم. 

 

خضوع المرأة في القول مجلبةٌ لطمع الرجال بها:


بقيت آيةٌ أخيرة: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا(32)﴾ .. أي جنس المرأة، محببةٌ للرجال، مهما علا مقامها، فهذه التي علا مقامها ينبغي أن تزيد في ورعها، وفي حجابها، وفي تحصُّنها، لئلا تسمع كلاماً لا يليقُ بها، ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ (32)﴾ ..خضوع القول؛ لين القول، تكسُّر القول، المرأة إذا تكلَّمت إما أن تتكلم قولاً معروفاً، وإما أن تليِّن كلامها، وأن تكسِّرَهُ حتى يطمع بها الآخرون، وما من مشكلةٍ أصابت امرأةً عفيفةً طاهرة إلا بسبب أنها خضعت في القول، خضوع المرأة في القول مجلبةٌ لطمع الرجال بها، هذه قاعدة. 

 

قصة موسى مع المرأتين في مدين:


لذلك فإن الله علمنا في القرآن الكريم في مكان آخر، لمّا جاءت ابنة سيدنا شعيب سيدنا إلى موسى، قالت له كلاماً لا يحتاج إلى سؤال، ولا إلى جواب، قالت له: 

﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)﴾

[ سورة القصص ]

لو أنها قالت: إن أبي يدعوك، يقول لها: ما المناسبة، لماذا؟ صار هناك سؤالاً وجواباً، فإجابتها إجابةٌ قاطعة: ﴿إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾ ..وهو حينما سأل الأختين عن شأنهما، أيضاً طرح سؤالاً ليس في اللغة كلها سؤالٌ أبلغ منه ولا أشد اختصاراً، قال: 

﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)﴾

 سورة القصص

ما القصة؟ وليس من أنتُنَّ؟ لماذا أنتن هنا؟ ماذا تفعلن هنا؟ ما شأنكن؟ قال: ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُمَا﴾ كلمة واحدة..

 

الابتعاد عن اللين في القول مع الجنس الآخر:


المؤمن إذا خاطب امرأة لا تحل له، ليس له الحق أبداً يلين القول لها، إذا ألان القول لها، وألانت له القول، دخل الشيطان، لأن إبليس طلّاعٌ رَصَّاد، عنده حاسة سادسة، عنده شم دقيق جداً، حينما يشعر أن هذه المرأة خضعت بالقول، وأن هذا الرجل بادلها قولاً ليِّنَاً بقولٍ لين، دخل بينهم، قال: إن إبليس طلاَّعٌ رصاد، وما هو من فخوخه - له أفخاخ كثيرة- بأوثق لصيده في الرجال الأتقياء من النساء، إبليس له كثيرٌ من الشِباك، عنده فخوخ كثيرة، عنده فخ شديد الانضباط، لا يمكن أن يخيب، هو المرأة، لذلك سمّاها النبي عليه الصلاة والسلام: حبائل الشيطان، أي شباك الشيطان، فإن إبليس طلّاع رصّاد، وما هو بشيء من فخوخه بأوثق لصيده في الأتقياء من النساء، فاتقوا الله في النساء. عن أبي سعيد الخدري:

(( إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وإنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كيفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فإنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ في النِّسَاءِ. وفي روايةٍ: لِيَنْظُرَ كيفَ تَعْمَلُونَ. ))

[ صحيح مسلم ]

وما من شيءٍ أغلب على الإنسان من ميوله كالميل إلى النساء.

 

لابدّ من هامش أمان بين الإنسان والمعصية:


لذلك يقول أحد الأنبياء: "ليس الشريف الذي لا يرتكب المعصية، ولكن الشريف الذي يهرب من أسباب المعصية". أي من طريق موبوء بالنساء، من مجلات لا ترضي الله، من أشخاص بعيدين عن الله عزَّ وجل، من حديث عن النساء، لذلك قال العلماء: من كان حديثه عن النساء تُجْرَحُ عدالته، ولا تقبل شهادته، من تنزَّه في الطرقات، لماذا؟ لينظر إلى النساء، من كان حديثه عن النساء، من صحب الأراذل، من أكل في الطريق، من مشى حافياً، من بال في الطريق، من أطلق لفرسه العنان- أسرع في القيادة - من قاد برذوناً، من علا صياحه في البيت، من طفف بتمرة، من أكل لقمةً من حرام، لكن الأكثر قبحاً: من صحب الأراذل، ومن تنزه في الطرقات، ومن كان حديثه عن النساء، لهذا لم يأت في القرآن الكريم كله نهي عن الزنا، ما هذا الكلام؟ جاء النهي عن أسباب الزنا، قال: 

﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)﴾

[ سورة الإسراء ]

لم يقل: ولا تزنوا، ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى﴾ لأن المُمَهِدات توصلك إلى نهاية الطريق، فلذلك: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ (32)﴾ ..بعض النساء الجاهلات تقول للبائع: راعنا، نحن جيرانك، قلبك قاس علينا.. ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)﴾ الإيمان يقتضي أن تكون جاداً مع المرأة إلى أقصى درجة، وإلا دخل الشيطان، الكلمة اللطيفة من طرف لطرف، يتبعها كلمة أخرى، وأساساً أكبر الفواحش نظرةٌ، فابتسامةٌ، فكلامٌ، فموعدٌ، فلقاء..﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)﴾ أي كلمة واحدة فقط، كم سعر هذا الشيء؟ كذا، إما أن تشتري، وإما أن تذهبي، أما هذه المساومة، ولين الكلام، والضحك، فهذا كله والعياذ مما يجلب الزنا.

﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)﴾ هذه الآية إن شاء الله والتي تليها في الدرس القادم.  

 

سورة الأحزاب من حيث الأحكام كسورة النور:


بالمناسبة سورة الأحزاب كسورة النور، من أهم السور المتعلِّقة بالبيوت، وبحفظ الفروج، وبغض الأبصار، وبالحُرُمَات، فنحن في أمَسِّ الحاجة، ولاسيما في هذا الزمان المتفلت إلى مثل هذه السور، وإن شاء الله في دروس قادمة نتابع هذه الآيات.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور