1985-09-20
الحمد لله رب العلمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الحكمة من الابتداء بتفسير الأجزاء العشرة الأخيرة :
بسم الله الرحمن الرحيم .. تمَّ بتوفيق الله وفضله تفسير الأجزاء العشرة الأخيرة من كتاب الله خلال السنوات الماضية ، وانتهينا في الدرس الماضي من تفسير سورة الفاتحة ، وها نحن ننتقل الآن إلى الأجزاء العشرة الثانية من كتاب الله سبحانه وتعالى ، وتبدأ بسورة يونس ، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يُمِدَّنا من فضله كي ننهي تفسير كتاب الله كلِّه .
أما الحكمة من البدء بالأجزاء العشرة الأخيرة هي أنَّ هذه الأجزاء العشرة الأخيرة يغلب عليها الطابع المكِّي ، والطابع المكّي آياتٌ تدور حول وجود الله ، وحول عظمته ، وأسمائه الحسنى ، وآياته الكونية ، وترسيخ الإيمان بالله ، وأما السور المدنيَّة فيغلب عليها طابع التشريع ، والنبي عليه الصلاة والسلام بقي في مكَّة المكرَّمة ثلاثة عشر عاماً يوجِّه الأنظار إلى آيات الله الكونيَّة ، فحينما استقرَّ الإيمان في النفوس جاءت الآيات المدنيَّة ، ولا يمكن أن تنفِّذ الأمر ما لم تعرف الآمر ، ولا أن تنتهي عن النهي ما لم تعرف الناهي ، فالآيات المكَّية أولاً ، ثم الآيات المدنيَّة ، فالعشرة الأجزاء ـ وهكذا في اللغة ـ الأخيرة يغلب عليها الطابع المكّي ، والأجزاء العشرة المتوسِّطة بينَ بينْ ، والأجزاء العشرة الأولى يغلب عليها طابع التشريع ، فمع سورة يونس عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة ..
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ{1} أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ{2} إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ﴾
﴿ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾
﴿ الَر ﴾
الَر
1 ـ معنى الحروف المقطعة :
هذه الحروف وأمثالها ..
﴿ الَم ﴾
﴿ الَمرَ ﴾
﴿ كَهَيَعَصَ ﴾
﴿ حَم ﴾
﴿ ق ﴾
هذه الحروف سمَّاها بعض المفسِّرين " فواتح السوَر " ، وقال بعضهم الآخر : " الله أعلم بمراده " ، وقد روي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه أنه قال في تفسير هذه الحروف : " إنها أوائل أسماء الله الحُسنى " ، وقد روي عنه رضي الله عنه تفسير هذه الحروف الثلاثة :
﴿ الَرَ ﴾
أي أنا الله أرى ، وقال بعض المفسِّرين : " إنها أوائل أسماء رسول الله ، فألف أحمد ، واللام لطيف ، والراء رحيم " .
والذي يرجِّح هذا الرأي الأخير أنَّ كل سورةٍ على الإطلاق بدأت بهذه الحروف يعقبها مباشرةً كاف الخطاب ..
﴿ الم (1)ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ ﴾
﴿ المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ﴾
﴿ كهيعص (1)ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ﴾
على كلٍ هناك رأيٌّ رابع أو خامس ، وهو : أن القرآن الكريم المُعْجِز الذي تحدَّى الله به بني البشر ..
﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ ﴾
2 ـ لا يستطيع أحدٌ أن يأتي بمثل آية من القرآن :
هناك آياتٌ بهذا المعنى توضِّح أن الإنس والجنَّ قاطبةً لا يستطيعون أن يأتوا بآيةٍ من آيات الله عزَّ وجل ، فلذلك من جنس هذه الحروف ، كيف أن التراب بين أيدينا منه تخرُج النباتات كلُّها، التفاح ، فلو اجتمع الإنس والجن على أن يأخذوا تراباً ليصنعوا منه فاكهةً لا يستطيعون ، فهناك إعجاز ، التراب موجود ، والماء موجود ، هذا الحشيش الذي تأكله البقرة يُصنع منه لبن سائغ للشاربين ، هذه كلها آيات الله عزَّ وجل ، المواد الأوليَّة موجودة ، ولكن الإعجاز في خلقها ، في تكوينها ، في صنعها ، كذلك قال بعضهم : " إن هذا القرآن الكريم المُعْجِز هو من حروفٍ نعرفها جميعاً ؛ ألف ، باء ، تاء ، ثاء ، جيم ، حاء ، خاء .. ثمانية وعشرون حرفا ، وقد رُكِّبت آيات هذا الكتاب من هذه الحروف ، والله سبحانه وتعالى كما قلت قبل قليل : تحدَّى البشر إنساً وجنّاً أن يأتوا بمثل هذا القرآن ..
﴿ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا(88)﴾
﴿ قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾
على كلٍ ، في كتاب الله آياتٌ تحتمل وجوهاً عديدة ، فكما كنت أقول لكم دائماً : القرآن الكريم حمَّال أوْجُه ، والقرآن الكريم ذو وجوه ، فـ ..
﴿ الم ﴾
3 ـ الحروف المقطعة من الإعجاز العلمي :
إما أنها من أسماء الله الحسنى ، وإما أنها دليل إعجاز الله في كتابه ، وإما أنها من أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، وإما أنها فواتح السور ، وقد سمعت أن هناك من لَقَّمَ حاسباً إليكترونياً بآيات القرآن الكريم ، آيةً آيةً ، حرفاً حرفاً فوجد أن كل سورةْ تبدأ بحروفٍ مثل هذه الحروف لو أحصيت حروف هذه السورة لوجدَّت أن أكثر حرفٍ تكرَّر فيها هو الألف ، ثم اللام ، ثم الراء ، وفي سورة ( ق )أكثر حرفٍ تكرَّر فيها هو حرف " قاف " ، هذا شيءٌ يظهر حديثاً ، القرآن الكريم كلام الله .
وسمعت عن الإعجاز الحسابي ، غير الإعجاز الرياضي ، مثلاً : كلمة يوم ذُكِرَت في كتاب الله ثلاثمائة وخمساً وستين مرَّة حصراً ، ولو فتحت بعض كتب معاجم القرآن الكريم .. هناك معاجم لكلمات القرآن الكريم .. لوجدت كلمة يوم ، واليوم بلا التعريف ، ومع التعريف وردت ثلاثمائة وخمساً وستين مرَّة ، وأن كلمة شهر وردت حصراً اثنتي عشرة مرَّة ، وأن آيات الجنَّة مساويةٌ لآيات النار ، وأن آيات الملائكة مساويةٌ لآيات الشياطين ، وأن آيات الدنيا مساويةٌ لآيات الآخرة ، هذا الإعجاز الحسابي لم يكن في الحُسبان ، هناك إعجازٌ حسابي ، وهناك إعجازٌ رياضي ، وهناك إعجازٌ بلاغي ..
﴿ الر ﴾
وهناك إشاراتٌ لطيفة إلى أسماء الله الحُسنى ، وهناك إشاراتٌ إلى أسماء النبي عليه الصلاة والسلام ، أما من يقول : " الله أعلم بمراده " ، هذا القول مقبول ، ولكن أعفى نفسه من كل جهد .. الله أعلم بمراده أي لا أدري ، وربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(24)﴾
إنَّ هذه الحروف جعلها الله رموزاً كي يتحرَّك هذا الذهن ، الوضوح الشديد يفقد الحافز لفهم الكتاب ، لكن هذه الرموز لعلَّ الإنسان يُستثار بها فيتَّجه إلى تفسيرها ، على كلٍ القرآن ذو وجوه هكذا قال النبي عليه الصلاة والسلام ..
﴿ الر ﴾
4 ـ من معاني الحروف المقطعة أسماء النبي عليه الصلاة والسلام :
إذا رجَّحنا أن الألف أحمد ، واللاَّم لطيف ، والراء رحيم ، أي أن النبي عليه الصلاة والسلام كان أحمد الخلق قاطبةً ، لماذا كان أحمد الخلق ؟ لأنه كان أشدَّهم معرفةً بفضل الله عزَّ وجل ، إذاً : الحمد يتناسب طرداً مع المعرفة ، مع معرفة الفَضْلِ ، فما من مخلوقٍ بلغ مرتبة النبي عليه الصلاة والسلام في معرفة فضل الله سبحانه وتعالى ، لذلك اسمه في السماء أحمد ، وفي الأرض محمَّد ، والاسم في اللغة يعني الصفة ، واسمه أي من الوسم ، النبي عليه الصلاة والسلام كان أحمد الخلق قاطبةً ، لأنه كان أحمد الخلق صار أرحمهم ، وألطفهم ، لأنه أشدَّهم صلةً بالله عزَّ وجل ، فالله سبحانه وتعالى في هذه الحروف يُثْنِي على النبي عليه الصلاة والسلام ، ويذكر صفاته العُليا هو أحمد الخلق ، وهو لطيفٌ أي إذا صاحبته ، إذا توجَّهت إليه ، إذا ذكرت اسمه ، يرقى بنفسك بلطفٍ إلى الله سبحانه وتعالى .. " الله المعطي وأنا القاسم " ..
﴿ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ﴾
النبي عليه الصلاة والسلام دليلنا إلى الله :
فهذه الأحوال الطيّبة التي تنشأ في النفس من اتصالك برسول الله صلى الله عليه وسلَّم حيَّاً أو ميتاً .. " حياتي خيرٌ لكم ، ومماتي خيرٌ لكم ".. هذه الأحوال الطيّبة ، هذا الشعور بالسعادة ، هذا الشعور بالقُرب من الله عزَّ وجل ، هذا الإحساس بالطمأنينة يكون عندما تذكر النبي عليه الصلاة والسلام ، لذلك :
﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ﴾
صلاة التجلّي ، أي أن قلب النبي عليه الصلاة والسلام مهبطٌ لتجلّيات الله عزَّ وجل ..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(56)﴾
أي أن الله سبحانه وتعالى يتجلَّى على قلبه الشريف ، وإذا شئتم نوعاً من هذا التجلِّي طرفاً من هذا النور ، شيئاً بسيطاً من هذه التجليات فصلّوا عليه ، فصلاة الله على النبي عليه السلام صلاة إكرامٍ وتجلٍّ ، وصلاة المؤمنين عليه صلاة اتصالٍ وأخذ ، الله يعطي ونحن نأخذ ، والنبي عليه الصلاة والسلام باب الله ، وأي امرئٍ أتاه من غيره لا يدخل .
عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
(( ... ثُمَّ سَلُوا لِيَ الْوَسِيلَةَ ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لا تَنْبَغِي إِلا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ ... ))
النبي عليه الصلاة والسلام أحمدُ الخَلقِ وأرحمُهم :
إذاً : لمعرفته الشديدة بفضل الله كان أحمدَ الخلق ، ولأنه كان أحمدَ الخلق كان أَشَدَّهم صلةً بالله عزَّ وجل ، ولأنه كان أشدَّهم صلةً بالله عزَّ وجل كان ألطفهم في نقل العبادِ من أحوالهم العاديَّة إلى أحوال القُرب والتجلي ، لذلك مرَّ الصديق رضي الله عنه في أحد طرق المدينة بصحابيّ يجلس على قارعة الطريق يبكي ، اسمه حنظلة ، فقال الصديق لهذا الرجل الصحابي: " مالك يا حنظلة تبكي ؟ " قال : نافق حنظلة ، قال : " يا أخي لمَ ؟ " قال : نكون مع رسول الله ونحن والجنّة كهاتين " ..
أحياناً الإنسان على شكل مصغر جداً إذا حضر مجلس علم ، وكان هناك إخلاص ، وليست هناك دنيا ، تحفُّ به الملائكة ، يقول لك : ارتاح قلبي ، شعرت بسعادة ، هذا نمودج مصغَّر مليار مرَّة ، ألف مليار ، إذا حضرت مجلس علم ، وكان فيه إخلاصٌ من الطرفين من المتكلِّم والمستمع ، والتجليات تهبط على هذا المجلس ..
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( ... وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ ... ))
فكيف لو أُتيح لك أن تجلس في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام ؟
عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ قَالَ :
(( لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ : كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ ، قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ ! مَا تَقُولُ ؟ قَالَ : قُلْتُ نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَمَا ذَاكَ ؟ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ))
هذا تعريف النبوَّة ، النبوَّة إقبالٌ دائمٌ على الله ، وما دام الإنسان على أنه مقبلاً دائماً فهو بنوره مستنير ، أنَّى له أن يغلط ؟ لذلك من هنا كانت عصمة الأنبياء ، الأنبياء معصومون ، وأي امرئٍ ينسب إلى نبيٍّ من الأنبياء غلطاً أو خطيئةً فقد جهل معنى العصمة ..
﴿ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ(26)لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ(27)﴾
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى(4)﴾
يفهم الناس الجهلاء هذا الكلام ساعة طاعة ، وساعة معصية ، أعوذ بالله ، ساعة إقبال وساعة فتور
(( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ ، سَاعَةً وَسَاعَةً ))
النبي الكريم بإقباله العالي على الله سبحانه وتعالى شفَّت نفسه فأصبح يرى ما لا يراه الناس ، ويسمع ما لا يسمعون ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ جَعْفَرٍ قَالَ :
(( أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لا أُخْبِرُ بِهِ أَحَدًا أَبَدًا ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ فِي حَاجَتِهِ هَدَفٌ أَوْ حَائِشُ نَخْلٍ ، فَدَخَلَ يَوْمًا حَائِطًا مِنْ حِيطَانِ الأَنْصَارِ ، فَإِذَا جَمَلٌ قَدْ أَتَاهُ فَجَرْجَرَ ، وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ ، فَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرَاتَهُ وَذِفْرَاهُ ، فَسَكَنَ ، فَقَالَ : مَنْ صَاحِبُ الْجَمَلِ ؟ فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ : هُوَ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : أَمَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَهَا اللَّهُ ، إِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ ))
كان يخطب على جذع نخلةٍ فجاء صحابيٌّ ، وصنع له منبراً ، فحنَّت النخلة إليه ، فكان يقف على المنبر ، ويضع يده على جذع النخلة إكراماً لها.
عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لأَعْرِفُهُ الآنَ ))
كلما ازداد إقبالك ازداد نورك :
كلَّما ازداد إقبالك رأيت ما لا يراه الناس ، وسمعت ما لا يسمعون ، قد تنظر إلى وردة ، أنت مؤمن تقول : سبحان الله ! تشعر أن الله سبحانه وتعالى خلقها من أجلك ، خلقها إكراماً لك ، هذا إحساس فوق مستوى الناس ، أما قد يرى الوردة إنسان فيقول : كم ثمنها ؟ الأسعار مرتفعة ، أسعار الورد مرتفعة ، تفكير مادي محض ، أنت فكَّرت تفكير آخر، لو ارتقت نفسك لرأيت أن هذه الوردة سخَّرها الله سبحانه وتعالى إكراماً للإنسان ، إذاً :
(( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ ، سَاعَةً وَسَاعَةً ))
وهذا الذي عبَّر عنه الصوفيّون بحالة الكشف ، أي أنه لا يرى إلا الله ، يرى الله من خلال كل شيء ؛ من خلال كأس الماء ، من خلال رغيف الخبز ، من خلال كأس الحليب ، من خلال البيضة ، من خلال التفَّاحة ، من خلال ابنه الصغير ، من خلال زوجته ، من خلال الهواء ، من خلال كل شيء ..
وفي كل شيءٍ له آيةٌ تدل على أنه واحد .
كلَّما ارتقى الإيمان بالإنسان كشف عن بصيرته ، وصار بصره حادَّاً ، لكن يوم القيامة كل إنسانٍ يملك هذا البصر الحاد ، ولكن متى ؟ بعد فوات الأوان .
﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ(22)﴾
اعرف الحقَّ في وقته لا بعد فوات الأوان :
رأيت الحقيقة ، ولكن بعد فوات الأوان ، ولا تنفع في هذه الساعة رؤية الحقيقة ، والبطولة أن ترى الحقيقة قبل أن يفوت الأوان ، أن ترى الحقيقة وأنت في الدنيا ، تستطيع أن تتوب من ذنوبك ، تستطيع أن تتقرَّب إلى ربك ، البطولة أن ترى الحقيقة وأنت في الدنيا ، تتعرَّف إلى خالقك ، تقرأ كتابه ، تفهم آياته ، تستقيم على أمره ، تُجالس أهل الحق ، تدعو إلى الله سبحانه وتعالى ، تذكر الله كثيراً ، هذه البطولة ، لكن إذا جاء الموت ، فرعون عرفه ..
﴿ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ﴾
قال له :
﴿ أَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ﴾
أحياناً الطالب يأتيه في الامتحان سؤالٌ لا يُجيب عنه إطلاقاً ، فيقدِم الورقة بيضاء ، يذهب إلى البيت ، ويفتح الكتاب فيعرف جواب السؤال ، ولكن متى ؟ بعد فوات الأوان ، الورقة قُدِّمَت بيضاء وسوف تنال علامة الصفر ، فإذا عرفت الآن جواب السؤال نسخر منك ، ونقول لك : بعد فوات الأوان ، فهذا كله عن معنى اللطيف ، أي أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا أحببته ، إذا صلَّيت عليه ، إذا ذكرت أخلاقه ، إذا تعلَّق قلبك به ، يرقى بك إلى الله بلطف من دون أن تشعر ، وأما الراء فبمعنى : ما من مخلوقٍ على وجه الأرض أرحم بالخلق من النبي عليه الصلاة والسلام ، ومع ذلك قال الله في حقِّه :
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾
﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ﴾
الرحمة كلُّها عند الله ، والنبي عليه الصلاة والسلام وهو أرحم الخلق بالخلق ، أُوتي رحمةً من هذه الرحمة ..
﴿ الر ﴾
أي كأن الله سبحانه وتعالى عرَّفنا بهذا النبي ..
﴿ تِلْكَ ﴾
يا محمَّد .
﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ﴾
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ
1 ـ ما هي الآية ؟
الآيات جمع آية ، والآية العلامة الدالَّة .
في حياتنا علاماتٌ كثيرة ، علاماتٌ تدلُّ على المرض ، علاماتٌ تدلُّ على الصحَّة ، علاماتٌ تدل على عظمة الله سبحانه وتعالى ، فالجبال من آيات الله ، والشمس والقمر من آيات الله ، والمجرَّات من آيات الله ، والنجوم في كبد السماء من آيات الله ، والمسافات بين النجوم من آيات الله ، وخلق الإنسان من آيات الله ، والماء من آيات الله ، والهواء من آيات الله ، وابنك الصغير الذي يلعب في البيت من آيات الله..
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ﴾
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴾
فالآية هي العلامة الدالَّة على شيء ، فالكون كلُّه آياتٌ تدلّ على عظمة الله ، والله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ(20)﴾
وكتاب الله سبحانه وتعالى آياتٌ دالّةٌ على عظمته ، وعلى حكمته ، وعلى قدرته ، وعلى رحمته ، وعلى علمه ، وعلى تشريعه ، وعلى الحلال والحرام ، والحق والباطل ، والخير والشر، وما يجوز وما لا يجوز ، وعلى سنن الله في خلقه ، وعلى العِبَرِ المستنبطة من التاريخ ..
يا محمَّد ..
2 ـ كل كلمة في القرآن آية وعلامة :
كل كلمةٍ آية ، والنَظْمُ آية ، والتقديم آية ، والتأخير آية ..
﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ﴾
لو أنَّ الله سبحانه وتعالى قال : قل للمؤمنين يحفظوا فروجهم ويغضّوا من أبصارهم ، هناك معنى خطير تلاشى ، وهو أن طريق حفظ الفرج غض البصر ، لذلك قدَّم غضَّ البصر على حفظ الفرج ، فالتقديم آية ، والتأخير آية ، والإيجاز آية ، والإطناب آية ، والسكوت عن الشيء آية ، إذا سكت القرآن عن شيء فسكوته آية ، لأن هذا الشيء متبدِّل ، ومتغيّر ، ومتطور ، ولا علاقة له بإقبال النفس على خالقها .
إن الله أمركم بأشياء ، ونهاكم عن أشياء وسكت عن أشياء رحمةً بكم ، فالشيء الذي ذكره الله آية ، والشيء الذي سكت الله عنه آيةٌ على حكمته ، وعلى رحمته ، وعلى لطفه ، وعلى رأفته بالعباد ..
﴿ تِلْكَ آياتُ ﴾
لكن الآيات هنا متعلِّقة بالقرآن الكريم ..
﴿ وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ(20)﴾
هذه متعلِّقة بالكون .
أما :
﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ﴾
3 ـ معنى الكتاب :
أما الكتاب فبعضهم قال : " حيثما وردت كلمة الكتاب معرَّفةً في القرآن الكريم فإنما تعني الكُتُبَ السماويَّة كلها " ، والكتب السماويَّة كلُّها ماذا تعني ؟ تعني أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ، وخلق لهم منهجاً إذا طبَّقوه سعدوا في الدنيا والآخرة ، وحقَّقوا الهدف الكبير من خلقهم .
الكتاب منهجٌ للخلق :
بشكلٍ أو بآخر : آلة معقَّدة جداً ، مع هذه الآية نشرة استعمال بكل اللغات ، فمتى طبَّقت ما في هذه النشرة ضمنت سلامة الآلة ، وضمنت قيامها على أحسن وجه ، وضمنت لها أعلى مردود ، وبأقلّ جهد ، وأقلّ نفقات ، ضمنت سلامتها من كل شيء ، فإذا ضربت بهذه النشرة عُرض الحائط عطبت الآلة ، وخسرتها ، وخسرت ثمنها ووظيفتها .
فآيات الكتاب .. هذا الكتاب منهج الله في خلقه .. سواءٌ أكان معنى الكتاب جميعَ الكُتُبَ السماويَّة ، أو كان معنى الكتاب القرآن الكريم وحده فكلاهما يدل على أن هذا المنهج منهج الإنسان في الحياة ، وهو كتابه المقرَّر ، فما قولكم بطالبٍ جامعي على مشارف التخرُّج ، وبقيت عليه مادَّةٌ أساسيَّة إذا نجح فيها تخرَّج من الجامعة ، وإذا تخرَّج دخل في وظيفةٍ راقية ، وإن دخل في هذه الوظيفة الراقية كان له دخلٌ كبير أتاح له أن يتزوج ، وأن يبني أسرةً ، وأن يفعل ما يفعل ، فإذا كان قبل الامتحان بيومين ، وبدأ يقرأ قصصاً لا علاقة لها بالكتاب المقرَّر ألا يُعدُّ هذا الطالب غبيَّاً ؟ يقول لك : هذه الكتب قيّمة ، هذه قصص ممتعة ، للمؤلِّف الفلاني ، نقول له : عندك كتاب مقرَّر إذا قرأته وفهمته تخرَّجت من الجامعة ، وضمنت مستقبلك .
كذلك الإنسان في الدنيا ، فأنت أي كتابٍ تقرأه ، أي شيءٍ تُطالِعَه إن لم يكن له علاقةٌ بالقرآن الكريم ، أو بمنهجك في الحياة فهو ضياعٌ للوقت ، لذلك دخل النبي عليه الصلاة والسلام إلى المسجد فرأى قوماً متحلِّقين حول رجل فقال : " من هذا الرجل ؟ " هو يعلم لكن أحبَّ أن يُعَلِّم ، قالوا : " هو يا رسول الله نسَّابة " ، قال : " وما نسَّابة ؟ " قالوا : " يعلم أنساب العرب " قال : " ذلك علمٌ لا ينفع من تعلَّمه ، ولا يضرَّ من جهله " .
أي أنه بلا فائدة ، فتعلَّم كتاب الله ، فيه الحق ، فيه طريق الخير ، طريق السعادة ، طريق النجاة في الدنيا والآخرة .
إذاً :
﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ﴾
4 ـ معنى الحكيم :
الحكيم : أي أن كلام الحكيم حكيم ، إما أن الحكيم اسمٌ من أسماء الله سبحانه وتعالى ظهر في كلامه ، فالإنسان الحكيم كلامه فيه حكمة ، والإنسان الأخرق كلامه فيه حمق ، فالله سبحانه وتعالى من أسمائه الحكيم ، إذاً : كلامه حكيم ، وهناك معانٍ كثيرة لكلمة حكيم .
من معاني الحكيم : أن الله تعالى يخاطب الإنسان في كتابه الكريم ؛ يخاطب عقله تارةً ، ويخاطب قلبه تارةً أخرى ، يحذِّره تارةً ويبشّره ، يخوِّفه أحياناً ، ويطمئنه أحياناً أخرى ، يقصُّ عليه القصص ما فيه موعظة بالغة ، يخبره بالآيات ، يحدِّثه عن الأقوام السابقة ، يخبره عما سيكون في المستقبل بعد الموت ، فيه حكمة بالغة ، فيه تنويع ، القرآن يوجِّه النفوس إلى طريق سعادتها .
في السورة الواحدة ترى آيات كونيَّة ، وترى وصفاً للنار وأهلها ، وترى وصفاً للجنَّة وأهلها ، وترى تبشيراً ، وترى تحذيراً ، وترى قصَّةً ، القصَّة مع الآية مع التحذير مع التبشير مع مشاهد القيامة ، هذا بمجموعه يحمل النفس على طاعة الله سبحانه وتعالى .
إذاً : حكيم ، صياغته حكيمة ، موضوعاته حكيمة ، تنويع موضوعاته حكيمة ، عمق موضوعاته حكيمة ، حجم موضوعاته حكيمة ، لو كان القرآن عشرة آلاف صفحة لم يكن حكيماً ، أي أنه فوق طاقة الإنسان ليقرأه ويستوعبه ، جعله موجزاً ، جعله بليغاً ، فيه من كل علمٍ طرف ، فيه أصول العلوم كلها ، أصولها لا تفصيلاتها ، فيه مناهج السعادة ، الطريق إلى الله سبحانه وتعالى ، حكيم ، حكيم في موضوعاته ، حكيم في حجم موضوعاته ، في حجم عددها ، حكيم في تنوُّعها ، حكيم في صياغتها ، أي أن الله عزَّ وجل يصوغ الآيات صياغات حكيمة جداً ..
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾
الآية قانون :
هذا ضمن قصَّة ، لكن الله سبحانه وتعالى ترك القصَّة وعَقَّبَ عليها بتعقيبٍ يشبه أن يكون قانوناً :
﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾
﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ(87)فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ ﴾
انتهت القصَّة .
﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88)﴾
يقرأ الآية مؤمن واقع في أزمة ، خائف من جهة ، عنده مشكلة ، يمكر به بعض الناس ، يقرأ هذه الآية فيصبح قلبه مطمئناً لحفظ الله سبحانه وتعالى ولتوفيقه ، قال :
﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾
هذا قانون في كل زمان وفي كل مكان ، في كل عصر وفي كل مصر ، قديماً وحديثاً ، في كل مكان ..
﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾
إذاً : ربنا عزَّ وجل حكيم في هذا الكتاب .
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾
حكيم .
﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ﴾
إلى هذا المكان ، لو أن إنساناً في هذا العصر قرأ هذه الآية لقال : الآن يوجد طائرات حديثة ، توجد طائرات أسرع من الصوت ، تركب الطائرة الساعة الثامنة وأنت في لندن تكون في الساعة العاشرة في واشنطن ، تَعْبُر المحيط الأطلسي في ساعتين ، ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ ﴾
الله عزَّ وجل في هذا الكتاب غطَّى به كل الأزمنة ..
﴿ وَيَخْلُقُ ﴾
أي أن وقودها من الأرض ، من خلق الله سبحانه وتعالى ، ومعدنها من الأرض من خلق الله سبحانه وتعالى ، والفكر الذي اخترعها من خلق الله سبحانه وتعالى ، فكأن الطائرة آيةٌ على عظمة الله سبحانه وتعالى .
﴿ وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ ﴾
إذاً :
﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ﴾
5 ـ من معاني الحكيم المحكَم :
من معاني الحكيم أيضاً أنه مُحْكَم ، معنى محكم أي لا خلل فيه ، ولا نقص ، ولا تناقض ، وأي كتابٌ لبني البشر إذا قرأته قراءةً واعية سرعان ما تكشف التناقض ، أو تكشف الخلل ، وأحياناً المؤلِّف يوسِّع في فصل توسيعاً شديداً جداً ، ويوجز في فصل ، معنى هذا أن معلوماته في هذا الموضوع واسعة ، وفي هذا الموضوع ضعيفة ، إذاً : الكتاب غير متوازن ، فهناك فصل موسَّع جداً وفصل ضيّق ، إذاً : هو غير حكيم ، لكن قوله تعالى :
﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ﴾
أي أنه محكم ، لا خلل فيه ، ولا تناقض ، ولا نقص ، هذه من معاني الحكيم ، و ..
﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ﴾
6 ـ من معاني الإحكام الترابط :
من معاني الإحكام أيضاً الترابط ، فبعضهم قال لجهله الفاضح : "ليس بين آيات القرآن ترابط " . هذا جهلٌ فاضح ، ما من آيةٍ إلا وآخذةٌ بعنق أختها ، وكأنَّ السورة عِقْدٌ منظوم .
كتاب الله يحتاج إلى نفسٍ طاهرةٍ كي تَعِيَه :
لكن كتاب الله يحتاج إلى نفسٍ طاهرةٍ كي تَعِيَه ..
﴿ لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ ﴾
من معاني هذه الآية : المُطَهَّر يفهم كتاب الله .
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ ﴾
﴿ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾
﴿ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ﴾
﴿وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا(82)﴾
البعيد عن الله سبحانه وتعالى ، المتلبِّس بالمعصية ، من كان قلبه نجساً يقرأ القرآن فلا يفهم منه شيئاً ، يراه متناقضاً ، يراه غير منتظم ، غير مترابط ، لكن الله سبحانه وتعالى قال :
﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ﴾
هناك ترابطٌ بين آياته ، هناك ترابطٌ بين كلماته .
مثالٌ من إحكام القرآن بين حروفه :
هناك ترابطٌ بين حروفه .
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾
هنا( ثُم ) وفي آية ثانية :
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴾
هذه ثم وهذه الفاء ، فهل هذا تنويع ؟ هذا عمل الإنسان ، يقول لك : نَوِّع ، لتفادي التكرار ، ضع مرَّة ثم ومرَّة الفاء ، فأستاذ الإنشاء والتعبير يضع خطوط حمراء ، ويقول لك : هذه تكرار ، والتكرار يُضعِف الموضوع ، نوِّع ، فلمَّا قال ربنا :
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾
ولمَّا قال :
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا ﴾
يا ترى هل الله عزَّ وجل ينوِّع ، أم أنَّ هناك لكل آية معنى دقيق جداً ؟ فـ ( الفاء وثم ) حرفان من حروف العطف يفيدان الترتيب ، لكن الفاء تفيد الترتيب على التعقيب ، وثم تفيد الترتيب على التراخي ، فإذا قلنا : دخل فلان ففلان أي أن الثاني وراء الأول ، أما دخل فلان ثم فلان أي بعده بساعة ، فربنا عزَّ وجل قال :
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾
إذا رأيت إنساناً ينكر هَدي الله عزَّ وجل ، وماله حرام ، وهو فاجر ، وفاسق ، ومعتدٍ ، وباغٍ ، ومنحرف ، وصحَّته طيّبة ، وماله وفير ، وبيته فخم ، ومكانته الاجتماعيَّة عالية ، هذه ثمَّ ، أي انتظر ، انتظر سنة ، سنتين ، ثلاثا ، أربعا ، عشرا ، تأتيه الضربة القاصمة .. لأن الله يمهل ولا يهمل ..
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾
ومن جهة أخرى تجد إنساناً أحياناً يحلف يميناً غموساً في المحكمة ، ويضم له مالاً حراماً ، يقول الناس عنه : خرج من المحكمة مشى مترين فوقع مشلولاً ، هذه :
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا ﴾
هذه الفاء ، فحتى في الحروف إحكام ، في الكلمات إحكام ، في الآيات إحكام ، في السور إحكام ، وبعضهم قال : " جزء عمَّ .. الجزء الأخير من كتاب الله .. كلُّه آياتٌ كونيَّة ..
﴿ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ﴾
﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَت(1)
﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴾
وفي سورة واحدة :
﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ﴾
فهي في المعاملات ، قال بعض المفسرين : " إذا كان التطفيف بحق إنسانٍ يقتضي الهلاك فكيف التطفيف بحق الله سبحانه وتعالى ؟ هناك تناسب في الآيات ، في الحروف ، في الكلمات ، في السور ، هذه من معاني الحكيم المترابط ، من معاني الحكيم كما قلت قبل قليل : أي الذي لا خلل فيه ، ولا غلط ، ولا رَيْب ، ولا نسيان ، ولا ضعف ، ولا تناقض ، ولا تضارب بين الآيات .
7 ـ من معاني الحكيم إحكام الله في القرآن الحق والباطل :
من معاني الحكيم الذي أَحْكَمَ فيه الله سبحانه وتعالى الحق والباطل ، والخير والشر ، والحلال والحرام ، وما يجوز وما لا يجوز ، أي أن هذه الآيات حكمت على هذا الشيء بأنه حق وهذا باطل .
لذلك :
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾
إذا قال الله عزَّ وجل :
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا ﴾
ليس هناك أيّ مناقشة إطلاقاً ، فلا يجوز البحث في هذا الموضوع ، لأن الله سبحانه وتعالى قضى في الربا حكمه ، وهو حكيم ، فإما أن هذا القرآن حكم على شيءٍ بالإباحة ، وعلى شيءٍ آخر بالحرمة ، وشيءٍ بأنه حلال ، وشيءٍ بأنه حرام ، وهذا حق ، وهذا باطل ، وهذا يجوز ، وهذا لا يجوز .
من معاني الحكيم ، أي الحاكم ، من معاني الحكيم المحكم ، المترابط ، من معاني الحكيم الذي لا خلل فيه ، من معاني الحكيم التناسب مع الإنسان ، يخاطب عقله .
الآن هناك كتب تخاطب العقل فقط ، فهي مملَّة ، وكتب تخاطب الوجدان فقط ، ممتعة ، لكن غير نافعة ، الكتب التي تخاطب العقل فقط نافعة غير ممتعة ، جافَّة ، لكن القرآن الكريم فيه تنويع ؛ فيه قصَّة ، فيه صورة ، فيه مشهد ، فيه تاريخ ، فيه آية ، فيه إشارة ، فيه عبارة ، فيه مثَل ، فهو حكيم ..
﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ﴾
فملخَّص هذا الكلام كلِّه : " فضل كلام الله على كلام البشر كفضل الله على خلقه " ، هل يوازَن بين المخلوق والخالق ؟ لا ، إذاً لا يوازَن بين كلام الله وبين كلام خلقه ..
﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ(1)أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ﴾
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ
1 ـ من عجبِ الناس إرسال رسول من البشر :
أي أن الناس يعجبون إذا أرسل الله سبحانه وتعالى رسولاً !! ألا يعرفون قيمة أنفسهم أن الله يحبَّهم وخلقهم ليسعدهم ؟ ألا يعرفون أنهم خُلقوا لهدفٍ عظيم ؟ الذين يعجبون أن يُرسل الله سبحانه وتعالى رسولاً لا يعرفون قدر الإنسان .
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾
الذين يعجبون أن يُرْسِلَ الله سبحانه وتعالى رسولاً لا يعرفون قدر النبي عليه الصلاة والسلام .
﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا ﴾
أي أتعجب أن يوجِّه الأبُ الذي ينطوي قلبه على محبَّةٍ لابنه نصيحةً لابنه ؟! أتعجب أن تخاف الأمُ على مصير ابنها ؟! طبيعتها هكذا ، أتعجب أن تحرص الأم على نجاح ابنها ؟! أي أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق وتركهم هكذا ؟ أهكذا ظنُّكم ؟ أتعجبون أنْ أَكَرم اللهُ بني البشر برسولٍ منهم يبيّن لهم ما يفعلونه ، فهذه الآية دقيقة جداً ، فمن يعجبْ كيف يرسل الله سبحانه وتعالى رسولاً فهذا ينكر رحمته ، ينكر حكمته من خلقه ، ينكر الآخرة ، فلذلك :
﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ﴾
نقف عند كلٍ كلمة :
﴿ رَجُلٍ مِنْهُمْ ﴾
2 ـ الأنبياء والرسل من الرجال حتى يكونوا حجة على الناس :
هذه لها بحث طويل ، ما جعل الله نبيَّاً مَلَكاً ، لو كان مَلَكاً لقال الناس : أخي هذا مَلَك ، أما أنا فإنسان من لحمٍ ودم ، أنا فيَّ شهوات ، هذا مَلك ، لكانت الحجَّة مع البشر ، لكن حيث أن هذا النبي الكريم بشر من لحمٍ ودم أودَعَ الله فيه الشهوة كما أودعها فينا ، لكنَّه ضبطها ، أودع فيه حبَّ المال كما أودعه فينا ، لكنَّه جعل المال في خدمة الخَلْق ، أودع فيه حبَّ العلو كما أودعه فينا ، ولكنَّه ارتفع بأخلاقه العُليا ، لا يمكن أن يكون النبي إلا بشراً ، ولو كان مَلَكاً لما اهتدى به أحدٌ من الخلق ، يقول : أخي هذا مَلَك وأنا بشر ، ظروف صعبة ، النبي الكريم خاض حروباً ، واجَهَ معارضات ، واجه كفَّاراً ، وتآمروا عليه ، وتآمروا على قتله وثبت ، وقال :
(( والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ))
لا يمكن أن تقوم الحجَّة إلا إذا كان النبي بشراً .
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
(( اللَّهُمَّ إِنَّمَا مُحَمَّدٌ بَشَرٌ ، يَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ ... ))
أي أنا من طبيعتكم ، لذلك هو الحجَّة علينا ، هذا بشر من طينتكم ، من جبلَّتكم ، من طبيعتكم ، أودِع فيه ما أودعتُه فيكم ومع ذلك استَعَمَل فكره ليعرفني فعرفني ، وجاهد ليعرِّف الناس بي فعرَّفهم بي ، استحقَّ أن يكون نبيَّاً ، لذلك :
﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ ﴾
3 ـ الأنبياء والرسل يُرسَلون من أقوامهم وليسوا غرباء :
لو لم يكن منهم فهذا معنى ثانٍ ، فلو جاء من مصر إلى مكَّة ودعاهم ، إنهم يخافونه ، ويخشونه ، ويتوجَّسون منه مثلاً ، لأنه من قطر آخر ، لا ، بل إنه جاء منهم ، من بينهم ، من جماعتهم ، يعرفون نسبه ، وصدقه ، وعفافه ، وأمانته ..
﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ ﴾
كما لو أنَّ جامعة أُنْشِأت وكلَّفت ألوف الملايين ؛ من قاعات المحاضرات ، إلى مختبرات ، إلى حدائق ، إلى مكتبات ، إلى بيوت للطلبة ، فهل من العجب أن تسخِّر هذه الجامعة مرشداً اجتماعياً لكل طالب ، أو لكل خمسة طلاب ؟ وهذا ما تفعله الجامعات ، هذا الطالب في الجامعات الراقية لا يستطيع أن يقطع أمراً في شأن اختصاصه إلا بعد موافقة هذا البروفسور ، لماذا ؟ لأن الجامعة في أعلى مستوى ، وهدفها تخريج الطلاَّب بأعلى مستوى ، فربنا عزَّ وجل خلق هذا الكون ؛ خلق المجرَّات ، ألف مَليون مليون مجرَّة ، وفي المجرَّة مَليون مليون نجم ، خلق الشمس والقمر ، والأرض والسماء ، والبحار والجبال ، ويترك هذا الإنسان هملاً بلا توجيه ، بلا إرشاد ، بلا تبيين ، بلا تعريف ، بلا هدى ، بلا منهج ، بلا كتاب ، تركه هكذا ضائعاً ؟ هذا مما يعني كلمة :
﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا ﴾
لابدَّ من أن يكون هناك أنبياء ، لأن الله رحيم ، بسبب رحمته وحكمته ، ولأنه خلقنا ليسعدنا فلابدَّ من أن يبعث لنا أنبياء ، ورسلاً ، وكتباً ، ومناهج ، ودعاة ..
﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ ﴾
أي أن الذي ينكر بعثة النبي عليه الصلاة والسلام يُنْكِرُ رحمة الله سبحانه وتعالى ، ينكر حكمته ، ينكر قيمة النبي ، ينكر قيمة نفسه ، أنت غالٍ على الله كثيراً ، ولأنك غالٍ على الله عزَّ وجل أرسل لك رسلاً ، وبعث إليك قرآناً ، وبعث لك أناساً متفرِّغين للدعوة إلى الله ..
﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ ﴾
علم فيك الخير فأسمعك ، تعجب تقول :
﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ ﴾
أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ
1 ـ ما هو الإنذار ؟
الإنذار لفت النظر لخطر سيقع بعد فَسْحَةٍ من الوقت ، هذا هو الإنذار ..
﴿ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾
2 ـ المؤمنون هم ملوكُ الآخرة :
هؤلاء المؤمنون هم ملوك الدار الآخرة ، هؤلاء المؤمنون لهم عند الله مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر ، لا قلق ، ولا خوف ، ولا حَزَن ، مكان ثابت ، رتبة ثابتة لا أحد ينازعك عليها إطلاقاً ..
﴿ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا ﴾
﴿ لا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ ﴾
﴿ قَدَمَ صِدْقٍ ﴾
3 ـ معنى : قَدَمَ صِدْقٍ
أي مقام صدقٍ ، معنى قدم أي حصَّله بسبقه ، باجتهاده ، معنى قدم ثباته ، معنى قدم مقامه ، ومن معاني القدم الثبات والسبق والمقام ، القدم حقَّق مكانة ، والقدم حصَّله بقدمه أي بسبقه ، مقام صدق ، مقعد صدق ، مقام عند الله .
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ ﴾
هذا الوعد الذي وعدك الله به من مقعد صدقٍ عنده ، هذا يعدل الدنيا وما فيها ، لذلك إذا قتل أحدنا في أيَّام شدَّة وجود الحشرات المنزليَّة أي ( الناموس ) فإذا قتل ناموسة هل لها قيمة عند أحد ؟ هل يحاسبك عليها أحد ؟ هل عليك أي مؤاخذة فيها ؟ لا شأن لها ، فكيف جناحها ؟ قال :
(( لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ ))
أي أن الدنيا ؛ بمالها ، بنسائها ، ببيوتها ، ببساتينها ، بمتعها ، بشهواتها لو أنها
(( تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ ))
فهذا الذي يستقيم على أمر الله ، ويخلص لله ، ويغضُّ بصره ، ويحرر دخله ، وتسعه السنَّة ، ولا تسعه البدعة ، يرفضها ، هذا له عند الله قدم صدقٍ ، وكما قيل : " الزُهَّاد والورعون جلساء الله يوم القيامة " .
قدم صدق أي حصَّلوها بسبقهم ، ولهم عند الله مكانةٌ ثابتة بسبب صدقهم مع الله سبحانه وتعالى ..
﴿ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ﴾