وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 06 - سورة سبأ - تفسير الآيتان 22 - 23 التوحيد – شروط الشفاعة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

أيها الإخوة الأكارم، مع الدرس السادس من سورة سبأ، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى في الآية الثانية والعشرين:

﴿  قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ(22) وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ(23)﴾

[ سورة سبأ ]


قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ


1 ـ التوحيد: القضية الكبرى في الوجود:

يا أيها الإخوة الأكارم، القضيَّة الكبرى قضيَّة التوحيد، والمصيبة الكبرى مصيبة الشِرك، لذلك آيات القرآن الكريم تترى تتحدَّث عن الشرك، لأن الدين كلَّه توحيد، إذا عرفت أن أمرك كلَّه بيد الله، وأن كل الخير في طاعة الله، وأن كل الإخفاق والخسارة في معصيته، لابدَّ من أن تطيعه، فلذلك كتاب الله عزَّ وجل دائماً يُلِحُّ على قضية التوحيد.

2 ـ التوحيد: القضية الكبرى في الوجود:

في هذه الآية يبين الله عزَّ وجل لنا أن هؤلاء الذين زعمتموهم آلهةً من دون الله.

أولاً: كلمة زعمتم، الزعم في اللغة للادعاء، للافتراء، للدعوة الباطلة قال الشاعر:

زعم الفرذدق أن سيقتل مَرْبَعَاً   أبشـــر بطول سلامةٍ يا مربعُ

[ جرير ]

إذا كذب إنسان، أو افترى، أو توهَّم، أو اختلق، يُقال: زَعَمَ.


الشرك الخفي:


﴿قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ﴾ هؤلاء الأصنام التي ظننتموها آلهةً من دون الله، ولا أكتمكم أن هناك شركاً جلياً وقعت فيه العرب قبل الإسلام، عبدوا اللات والعُزَّى، والإنسان عندما يعبد شخصاً، ويعتقد أن كل الخير عنده، هذا أيضاً شرك، فالعلماء علماء التوحيد فرَّقوا بين الشرك الجلي والشرك الخفي، الشرك الجلي انتهى، ففي أرض الإسلام لن يُعْبَدَ إلا الله، وهكذا قال عليه الصلاة والسلام:

(( إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، أَمَا إِنِّي لَسْتُ أَقُولُ يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلا قَمَرًا وَلا وَثَنًا، وَلَكِنْ أَعْمَالا لِغَيْرِ اللَّهِ، وَشَهْوَةً خَفِيَّةً))

[  من سنن ابن ماجة بسند ضعيف جداً ]

أي إما أن تعبد نفسك بمعنى أن تؤثر شهوتك على طاعة ربِّك.

﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(23)﴾

[  سورة الجاثية ]

إما أن تعبد هواك، إما أن تعبد شهوتك وتؤثرها على طاعة الله، وإما أن تعبد غيرك، أنت لا تقول: هو إله، لكن تعامله كما يُعامَل الإله، إذا أمرك بمعصيةٍ تعصي الله من أجله، إذا حملك على انحرافٍ تنحرف إكراماً له، إذا طالبك بباطلٍ تعطيه هذا الباطل إرضاءً له، هذا إذاً إلهٌ تعبده، أنت لم تقل: هو إله، ولكن حينما تنصاع لأمره من دون تفكير، وحينما تعتقد أن الخير كلَّه بيده، وأن الشر كلَّه بيده فهذا شرك، وهذا شركٌ خفي.

وأقرب الناس إلى الرجل زوجته، إذا أرضاها، وعصى الله عزَّ وجل فقد أشرك، إذا ابتغى رضاها على حساب رضاء الله عزَّ وجل فقد أشرك، له شريك في التجارة قوي، الشريك تمادى، أكل مالاً حراماً، تعامل تعاملاً ربوياً، فأنت خفت على شراكتك معه فسكت، أنت ماذا فعلت؟ عبدته من دون الله، رأيت رضاه أثمن عندك من رضاء الله، خفت من سخطه، ولم تخف من سخط الله عزَّ وجل، فالإنسان قد يعبُد زوجته وهو لا يدري، وقد يطيع شريكه، ويعصي ربَّه وهو لا يدري، فهذا شرك، وقد يؤثر شهوته على طاعة ربه وهو لا يدري، وهذا شرك، فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما قال: (أَمَا إِنِّي لَسْتُ أَقُولُ: يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلا قَمَرًا وَلا وَثَنًا، وَلَكِنْ أَعْمَالا لِغَيْرِ اللَّهِ وَشَهْوَةً خَفِيَّةً) فالمراءاة شرك، المُداهنة شرك، مؤاثرة الهوى على طاعة الله شرك، ففي النهاية أنت تقول: الله أكبر، إذا أطعت مخلوقاً، وعصيت الخالق تأكَّد أنك لم تقل هذه الكلمة ولا مرَّة، ولو قلتها بلسانك ألف مرَّة، لأنك في رؤيتك النفسيَّة، وفي قناعتك، وفي تصورك رأيت أن رضاء فلان أكبر عندك من رضاء الله، ورأيت أن سَخَطَ فلان أعظم عندك من سخط الله، هذا هو الشرك، الشرك يتوافق مع المعصية، والطاعة تتوافق مع التوحيد، لذلك شعار المؤمن: "لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق".

﴿  الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ(78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِين(79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ(81)﴾

[  سورة الشعراء  ]

وأتمنَّى عليكم وأنتم في رمضان إذا قرأتم القرآن أن تستنبطوا، أو أن تستخلصوا من كتابه الكريم آيات التوحيد، اجمعوها في وريقات، آيات التوحيد تبثُّ في القلب الطمأنينة.


آيات قرآنية في التوحيد:


﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)﴾

[  سورة الزخرف  ]

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾

[  سورة هود  ]

﴿  اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(62)﴾

[  سورة الزمر  ]

﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)﴾

[  سورة الأعراف  ]

آيات التوحيد كثيرةً جداً..

﴿ مِن دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ(55)إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾

[   سورة هود  ]

﴿ مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(2)﴾

[  سورة فاطر ]

﴿قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ادعوهم، إن زعمت صنماً، أو حجراً، أو شمساً، أو قمراً، أو زعمت شخصاً، أو أهلاً، أو بيتاً، أو زوجةً، ادعوا.


لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ


﴿قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ﴾ الآن دقِّق في تفاصيل هذه الآية: ﴿لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ .


مِثْقَالَ ذَرَّةٍ


ما هي مثقال الذرَّة؟ لا شكَّ أن أحدكم إذا أراد أن ينظِّف بيته في أيَّام الشتاء، وأشعَّة الشمس تخترق النوافذ، لا شكَّ أنك ترى في هواء الغرفة ذرَّةً عالقةً في الهواء، لأنها عالقة في الهواء لا وزن لها، لانعدام وزنها تعلقت في الهواء، هذه الذرَّة العالقة في الهواء التي لا تُرى إلا في أشعَّة الشمس، إذا كانت أشعة الشمس داخلة إلى الغرفة ترى هذه الذرة، قال: هؤلاء ﴿الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ هذه المُلْكِيَّة، لو ادعيت أنه شريك، قال: ﴿وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ﴾ .


وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ


الشركاء لا يملكون شيئا:

لا يملك، الدرجة الثانية بعد المُلك الشريك، تقول: هذا المحل لي، معنى ذلك أنك مالكه، تقول: فروغ أم ملك أم إيجار؟ يقول لك: لا والله إنه فروغ، أول شيء قال لك: هو لي، شراء أم فروغ؟ يقول لك: لا، إنه فروغ، معنى هذا أن الرقبة ليست لك، ولكن لك حق المنفعة، وحدك أو معك شريك؟ معي شريك، نزل درجة ثانية، معنى هذا الشرك درجة من الملكيَّة، ولكنها درجة ثانية، قال له: ﴿وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ﴾ أي أن هذه الذرَّة لا ملكاً ولا شراكةً، دقَّة بالغة جداً، أي أيها الإنسان قبل أن تتجه إلى زيد أو إلى عُبيد، قبل أن تعلِّق الأمل على فلان، قبل أن تلقي بثقلك على زيد، قبل أن تقول: فلان بيده الأمر، قبل أن تقول: فلان ينفعني، قبل أن تقول: فلان يرفعني، قبل أن تقول: فلان يؤذيني، قبل أن ترى رزقك معلَّقاً برضا فلان، قبل أن تسير في هذا الطريق اقرأ كلام الله عزَّ وجل، هؤلاء ﴿الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ﴾ لا في السماوات ولا في الأرض، لا بجزء، ولا بذرَّة، ليسوا مالكين، وليسوا شركاء.

الملكيَّة نوعان: ملكية رقبة، وملكية منفعة، وقد تملك الرقبة والمنفعة، وبيَّنت هذا في دروسٍ سابقة، قد تملك بيتاً، ولا تنتفع به، هذه ملكيَّة محدودة، وقد تنتفع به ولا تملكه، هذه ملكيَّة محدودة، وقد تملكه وتنتفع به، ولكن لا تملك مصيره، يكفي أن يصدر قرار تنظيم، أو قرار استملاك، انتهى، إذاً: الملكيَّة الراقية أن تملك الرقبة، وأن تملك الانتفاع، وأن تملك المصير.

ربنا عزَّ وجل إذا قال: هو مالك المُلك، فهو مالك الملك خلقاً وتصرُّفاً ومصيراً، هذه ملكيَّة الله عزَّ وجل، فهؤلاء الشركاء لا يملكون شيئاً، وليسوا شركاء في شيء.

﴿وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ﴾ المحل لك؟ نعم، تملكه؟ لا، فروغ، وحدك؟ لا معي شريك، قال له: أنت شريك هنا؟ قال: لا أنا موظف، صارت أقل بكثير ﴿وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾ لا ملكيَّة، ولا شراكة، ولا معاونة، فإذا كان الرجل بمحل تجاري، مثلاً ـ من باب تقريب الحقائق ـ ليس مالكَ الرقبة، وليس مالك المنفعة، وليس شريكاً، ولا موظَّفاً، لكن له صداقة لصاحب المحل، لو قلت له: إذا تكلَّمت لنا معه هل يساعدنا؟ قال لك: نعم، قال: ﴿وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ﴾ .


وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ


1 ـ المشركُ أشدُّ الناس حمقًا:

وهؤلاء الشركاء لا يشفعون، ليسوا مالكين، وليسوا شركاء، وليسوا معاونين، ولا يشفعون، وما زلت أيها الإنسان متعلِّقاً بهم؟! وما زلت واضعاً آمالك عليهم؟! وما زلت تبتغي رضاهم؟! وما زلت تعصي الله من أجلهم، وأنت في قبضة الله عزَّ وجل، وفي أية لحظةٍ أنت في قبضته؟! سبحان الله رب العالمين! ما رأيت أحمق من المشرك.

أنت لو رأيت إنساناً بحاجة إلى توقيع من دائرة، وفي هذه الدائرة أربع طوابق، وفيها مئتا موظَّف، ولهذه الدائرة مدير عام واحد، وبيده وحده حقُّ التوقيع، أليس من السُخْفِ، والغباء، وضيق الأفق، وضعف التفكير، والبلادة، أن تتجه إلى مستخدمٍ في هذه الدائرة، وتقبِّل يده لعلَّه يوقِّع لك هذه المعاملة؟ يقول لك: ليس بيدي يا أخي، لو اتجهت إلى عشرات الموظَّفين كلُّهم لا يستطيعون، إلا المدير العام، أليس من الجهل والغباء أن تبذل ماء وجهك، وأن تظهر مشاعرك الرقيقة، وأن تبذلها رخيصةً لشخصٍ لا حول له ولا طَول أبداً؟ لا يقدر.

2 ـ ما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد:

لذلك العاقل، والذكي، والفالح، والناجح، والرابح، والفائز، والمُوفَّق، هو الذي يتجه لمن بيده الأمر، يتجه لخالق الكون، يتجه لربِّ العالمين، يتجه للإله الواحد الأحد، الفرد الصمد، يتَّجه لرافع السماء بغير عمد، يتجه لمن يعلم السرَّ وأخفى، يتَّجه لواجد الوجود، يتجه للذات الكاملة، يتجه للقديم الذي لا أول لقدمه، والذي لا نهاية لنهايته، يتجه لله الواحد القهَّار، هذا هو الدين كلُّه، الدين كلُّه أن تتجه إليه، الدين كلُّه أن تعقد الآمال عليه، الدين كلُّه أن تتذلَّل بين يديه، الدين كلُّه أن تحرص على رضاه، الدين كلُّه أن تطبِّق أمره، هذا هو التوحيد، لذلك ما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد.

3 ـ ملخَّص الدين: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ

الإنسان أحياناً يحب التفصيل، وأحياناً يحب التلخيص، أحياناً يحب الكلمات الكثيرة التي تعمِّق المعنى، وأحياناً يحب الكلمات الموجزة، لو أردت الدين كلَّه في كلمات:

﴿ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ۚ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ (84)﴾

[  سورة هود ]

لا يوجد غيره..

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25)﴾

[  سورة الأنبياء  ]

أيها الإخوة الأكارم، أسماء الله الحسنى كثيرة، لكن كلها ملخَّصة في ثلاث كلمات، الله موجود، أنت أيها المؤمن تحس بوجوده؟ تحس أن الله موجود؟ لا تكفي موجود إنه؛ مطلع، سميع، بصير، يعلم السرَّ وأخفى، يعلم خائنة الأعين، أقرب إليك من حبل الوريد، يحول بينك وبين قلبك، الخواطر يعلمها، مشاعرك، طموحاتك، خواطرك، صراعاتك، تمنيَّاتك، أحلامك، خططك، تدبيرك كلُّه يعلمه، أنت عنده مكشوف.

أتحسُّ بوجوده؟ ذلك هو الإيمان، أتحسُّ أنه معك؟ ذلك هو الإيمان؟ أتحس أنه يراقبك؟ ذلك هو الإيمان، أتحس أنه عادل لا يظلم الناس شيئاً؟ ذلك هو الإيمان، أتحس أنه رحيم؟ ذلك هو الإيمان، يجب أن تؤمن بوجوده، ويجب أن تؤمن بكماله، يا ترى هل هناك إلهٌ ثانٍ؟ ويجب أن تؤمن بوحدانيَّته، بوجوده وبكماله وبوحدانيَّته، إن آمنت بوجوده وبكماله ووحدانيَّته لابدَّ من أن تستقيم على أمره، وإلا ففي العقل خلل، إن آمنت بوجوده ووحدانيَّته وبكماله فلابدَّ من أن تستقيم على أمره، والدليل: 

4 ـ هذا مع مخلوق ضعيف فكيف بالخالق العظيم:

إنك إذا آمنت أن فلاناً قد أصدر هذا الأمر، وأنه إذا ضبطك مخالفاً له لن يرحمك، وهو قادرٌ على إيقاع أكبر الأذى فيك، ليس مع خالق، ولكن مع إنسان، إنك ستنفِّذ أمره بحذافيره إذا آمنت أن هذا الآمر قوي، ويفعل ما يقول، ولن يسامحك، وإذا آمنت أن إنساناً ما يطولك علمه، وتطولك قدرته، انتهى الأمر.

ومثل بسيط جداً: أنت مواطن عادي راكب مركبة، والإشارة حمراء، والشرطي واقف، والسيارة جاهزة فيها ضابط شرطة، ويوجد دراجتان ناريتان، هل تمشي على الضوء الأحمر؟ هذا مستحيل، أنت مع إنسان قادر على إيقاع الأذى بك، وهو يراك، يراك، وهو قادر، فلا تعصيه، فكيف إذا آمنت أن ربَّ السماوات والأرض يعلم السر وأخفى؟! القادر، إنه مليون قادر، فكل شيء في جسمك بيده، أنا أقول هذا الكلام لأنني أستمع إلى حالات مؤلمة جداً، فهناك من يضحك، مسرور.

﴿  وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا(9)﴾

[  سورة الانشقاق  ]

يمزح، لو رأى تحليلاً فيه شيء غير طبيعي لانقلب ضحكه بكاء، ولخيَّم على البيت جو الحزن، فقضية الصحَّة، قلبك بيده، سمعك بيده، إذا ضعف بصر الإنسان أو شعر بغشاوة صار إنساناً آخر، لا يهمه أحد، تهمّه عيونه فقط، سمعك بيده، بصرك بيده، لسانك بيده، عقلك بيده، عضلاتك بيده.

أنا أعرف رجلاً حصَّل دكتوراه من فرنسا، وتسلَّم منصباً رفيعاً جداً بوزارة جيِّدة، فقَد بصره، زاره صديقي، فقال له: "والله يا فلان، أتمنّى أن أجلس على الرصيف أتكَّفف الناس، وأن لا أملك من الدنيا شيئاً، وأن يردَّ الله لي بصري". 

بصرك بيده، سمعك بيده، دماغك بيده، أعصابك بيده، والإنسان ما دام يتحرَّك فهو محبوب، أما إذا استلقى على السرير، وشُلّ، والله الذي لا إله إلا هو أقرب الناس إليه، أحبُّهم إليه يتمنَّى موته. 

5 ـ اعمل لوجهٍ واحدٍ يكفك الوجوه كلَّها:

كيف تعصي الله وأنت في قبضته؟ كيف تعصي الله وحواسُّك، وأعضاؤك، وعضلاتك، وسمعك، وبصرك، وأهلك، ومن حولك، ومن دونك، ومن فوقك كلهم بيد الله، هذا هو التوحيد، هذا هو الدين، الدين توحيد، الدين أن لا ترى مع الله أحداً، أن لا ترى رازقاً، ولا معيناً، ولا رافعاً، ولا خافضاً، ولا باسطاً، ولا قابضاً، ولا معزاً، ولا مذلاً، ولا رزَّاقاً إلا الله عزَّ وجل، علاقتك مع واحد، ولا أريح من العلاقة مع واحد فقط.

تصوَّر موظَّفاً في شركة فيها ثمانية شركاء، الثمانية مخوَّلون أن يعطوه أوامر، هذا قال له: تعال عندي الساعة السابعة إلى البيت، الثاني أعطاه أمراً مُعاكساً، هذا صعب جداً إذا كان موظف عند ثمانية شركاء، وكلهم لهم الحق في إعطاء الأوامر، أما إذا كانت علاقتك مع جهة واحدة فالأمر سهل، لذلك إذا أشرك الإنسان بالله عزَّ وجل يتمزَّق، إن أرضى زيداً يغضب عبيداً، وإن زار فلاناً يعاتبه فلان، وإن ابتسم بوجه فلان يُتَّهَم، وإن عبس في وجه فلان يُحَاسَب، القضيَّة صعبة لذلك:

(( من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد كفاه الله سائر همومه. ))

[  زيادة الجامع الصغير عن ابن مسعود بسند ضعيف جداً ]

"اعمل لوجهٍ واحدٍ يكفك الوجوه كلَّها".

﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ۗ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ۖ وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)﴾

[  سورة الأنعام  ]

عليك أن ترضي الله عزَّ وجل وحده، ولا تعبأ بمن سواه..

فـليـتكَ تَحْـلُو والـحَياةُ مريــــــــــــــرةٌ      ولَـيتكَ تَرضى والأَنامُ غِضـــابُ

وليـتَ الّـذي بَينِي وبينِك عامــــــرٌ      وبيني وبيـنَ العَالمِينَ خَــــــرابُ

إذا صَحَّ مِنـكَ الوَصْلُ فالكُلُّ هَيِّنُ      وكـلُّ الّـذي فَوقَ التُّرابِ تُـــرَابُ

[ أبو فراس الحمداني ]

أنت لطيف ولبِق، لكن إذا رأيت الله عزَّ وجل قد رضي عنك، وقد أحبَّك لا تعبأ برضاء الخلق.

مرَّة جاءت رسالة لسيدنا عمر من أحد الولاة، قال له: "إنَّ أناساً قد اغتصبوا مالاً ليس لهم، لست أقدر على استخراجه منهم إلا أن أمسَّهم بالعذاب، فإن أذنت لي فعلتُ"، أي اسمح لي أن أعذِّبهم، سبحان الله! أجابه إجابة تُكْتَب بماء الذهب، قال له: "يا سبحان الله أتستأذنني في تعذيب بشر؟ وهل أنا لك حصنٌ من عذاب الله؟ وهل رضائي عنك ينجيك من سخط الله؟ أقم عليهم البيِّنة، فإن قامت فخذهم بالبِّينة، إن لم تقم فادعهم إلى الإقرار، فإن أقروا فخذهم بإقرارهم، إن لم يُقِرُّوا فادعهم لحلف اليمين، فإن حلفوا فأطلق سراحهم، وايم الله لأن ألقى الله بخيانتهم أهون من أن ألقى الله بدمائهم".

هناك قصَّة قرأتها، لا أنساها، وهي: كان الإمام الحسن البصري جالساً عند والي البصرة، جاء البريد يحمل توجيهاً من الخليفة يزيد بن معاوية، يبدو أن هذا التوجيه لا يوافق كلام الله عزَّ وجل، فيه تجاوز، فوقع هذا الوالي في حيرةٍ كبيرة، أيستجيب لهذا الأمر ويعصي الله، أم أن يطيع الله عزَّ وجل، ولا يستجيب لهذا الأمر؟ وقع في صراع، فسأل الإمام الحسن البصري، فأجابه إجابة تُكْتَب بماء الذهب، قال له: "اعلم أن يزيدَ لا يمنعك من الله، ولكن الله يمنعك من يزيد".

أي إذا الله عزَّ وجل أراد شيئاً لا يزيد ولا مليون يزيد يقفون أمام إرادته تعالى، أما إذا أراد يزيد شيئاً فربنا عزَّ وجل بمليون باب يمنعه منك، مليون يزيد لا يغيِّرون شيئاً من قضاء الله وقدره، وإذا أراد يزيد شيئاً لا يستطيع أن يفعل شيئاً، النتيجة أنه قال له: "اعلم أن يزيدَ لا يمنعك من الله، ولكن الله يمنعك من يزيد".

على كلٍ هذا هو الدين، هذا هو التوحيد، وآية التوحيد اليوم: ﴿قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ*وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا﴾ .


الشفاعة لها شرطان:


الشفاعة لها شرطان: أن يأذن الله للشافع، وأن يرضى عن المشفوع له، شرطان يجب أن يتحقَّقا، أن يأذن الله للشافع أن يشفع، وأن يرضى عن المشفوع له، فإذا كان الشافع غير مأذونٍ له لا تنفع الشفاعة عنده، وإذا كان الشافع مأذوناً له، كرسول الله، لكن المشفوع له ليس مرضياً عند الله عزَّ وجل لا تنفع الشفاعة، هذا ملخَّص الشفاعة بنصِّ القرآن الكريم، لا تتحققَّ الشفاعة إلا بشرطين؛ أن يأذن الله للشافع، ولا يأذن إلا لأنبيائه ورسله، لا لهؤلاء الأصنام، يقول لك: ضعها على عاتقي، ومن أنت؟ هل تنجيني من عذاب الله؟ وكل إنسان يقدم على معصية يقول له أبوه أو أخوه، أو فلان أو علان: ضعها في رقبتي، لا تخف، قل له: من أنت؟ هل أذِنَ الله لك أن تشفع لي؟ هل مأذون لك أن تشفع لي؟ ﴿وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ .

نريد الشرط الثاني، الآية:

﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ(28)﴾

[  سورة الأنبياء ]

شرطان: لابدَّ من أن يكون الشافع مأذوناً له، ولابدَّ من أن يكون المشفوع له مرضياً عنه، لذلك انتهت الشفاعة، الشفاعة أصبحت علاقتك مع الله.


حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ


﴿وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ معنى فُزِّعَ عنهم، الفزع هو الخوف، أما فُزِّعَ عنه أي أُزيل عنه الخوف.

خيار الإيمان خيار وقت فقط:

﴿قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ لابدَّ من أن تعرف الحقيقة، قلت هذا مراراً، قضية الإيمان قضية متى تؤمن فقط، وليست قضية تؤمن أو لا تؤمن، لأنك ليس لك خيار، لابدَّ من أن تؤمن، إما أن تؤمن قبل فوات الأوان، وإما أن تؤمن بعد فوات الأوان، إما أن تؤمن وتستفيد من إيمانك، وإما أن تؤمن وتتحسَّر على إيمانك، إما أن تعرف الجواب قبل الامتحان وتنجح، بعد الامتحان تزداد حسرة، والله الجواب كان سهلاً، لا حول ولا قوة إلا بالله ما قرأته، كل طالب راسب حينما يخرج من قاعة الامتحان ينطلق إلى الكتاب يتفحَّصه، سهل، ولكن ما قرأته، بعد أن انقضى الامتحان، ألم يعرف الجواب؟ عرفه، ولكن متى؟ بعد الامتحان، هل هناك علامات على الجواب الذي عرفته بعد الامتحان؟ صفر، لو طالب بعدما خرج من الامتحان قرأ الجواب وحفظه ورجع إليهم، يوبخونه، انتهى الامتحان، فلذلك مشكلة الإيمان يجب أن تؤمن في الوقت المناسب؛ وأنت شاب، وأنت صحيح، وأنت متزوج.

أريد أن أذكر لكم شيئاً: الشيطان أحياناً له حِيَل، من أبرز هذه الحيل ومن أقواها أنه دائماً يجعلك تعلِّق استقامتك على حدث في حياتك؛ حتى تتزوَّج، حتى تشتري بيتاً، في الصيف، في الموسم، في الشتاء، حتى تنتقل من بيتك، حتى تسافر، حتى تأتي من السفر، دائماً الشيطان يضع لك عقبة وحيدة، أما المؤمن ففي أية لحظةٍ أشرق في قلبه الإيمان يقول: يا رب تبت إليك، واصطلحت معك، وانتهى الأمر، في أثناء الدراسة تُب، وفي رمضان تُب، وبعد رمضان تُب، لا تتركها لرمضان القادم، في 2 شوال تب، لا مانع، لا تجعل للشيطان عقبات أمامك، الشيطان مهمَّته أن يضع العقبات، وقد هلك المسوِّفون.

من يومين حدَّثني أخ، قريبه شاب عمره في الثانية والثلاثين تزوَّج، هيَّأ البيت، فرش البيت، زيَّن البيت، اليوم السبت والعرس يوم الاثنين، صعد إلى السطح ليجري بعض التصليحات، تأخَّر، تفقَّدوه فوجدوه ميِّتاً على السطح بأزمة قلبيَّة، لو أن هذا قال: أنا سأتوب بعد الزواج لخسر، هناك حالات، جاء معه شهادة عُليا، وفي الطريق توفي، ربنا عزَّ وجل جعل الموت يصيب الأشخاص في كل الأعمار، هذه الموعظة لنا. 

إذاً: ﴿وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ﴾ حتَّى فرعون ماذا قال عندما جاءه الموت؟ قال:

﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)﴾

[   سورة يونس   ]


وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ


الرزق والموت بيد الله:

﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ القضيَّة الثانية، لدينا شيئان؛ الخلق والرزق، والموت والفقر، فأخطر قضيَّتين في حياة الإنسان نهاية عمره ورزقه، فإذا ثبت أن الله هو الخالق، وأنه المُحْيِي وأنه المميت، انتهى الخوف، وانتهى النِّفاق، وانتهى القلق، والآن إذا ثبت أن الله هو الرزَّاق، انتهى كل شيء، لأن كلمة الحق لا تقطع رزقاً، ولا تُقرِّب أجلاً، فكل إنسان حفاظاً على رزقه يعصي ربَّه، هنا المشكلة، احكم عليه بالجهل، الله عزَّ وجل قادر أن يرزقك رزقاً حلالاً طيِّباً كثيراً مباركاً، وأنت في طاعته، فكل إنسان يتوهم أنه إن لم يعصِ الله لا يُرزَق، هذا هو الجهل، لذلك الطريق إلى الله هو العلم، والعلم وحده، ولا شيء إلا العلم، إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، لا يوجد خطأ إلا وراءه جهل.

(( من حاول أمراً بمعصية كان أبعد لما رجا، وأقرب لمجيء ما اتقى ))

[  الألباني بسند ضعيف ]

حينما تتصوَّر أنك إذا عصيته تربح، وأنك إذا أطعته تخسر، احكم على أنك لست مؤمناً، فإيمانك صفر، فليمتحن الواحد نفسه، إذا توهَّم أن هذا القرض الربوي يحقِّق له بيتاً، وهو في أمسِّ الحاجة إليه، ولا طريق لهذا البيت إلا بهذا القرض الربوي، فأنت صفر لا تعرف شيئاً، ربنا عزَّ وجل يهيِّئ لك في أشدِّ أزمات البيوت بيتاً من طريقٍ مشروع، قل لي: كيف أقل لك: والله لا أدري، أنا مثلك لا أدري، فالذي عند الله ليس عند العبد، لكن لا تقل: إن لم أفعل هذا أبقى بلا بيت، لا، إن لم أقم بهذا العمل المخالف للشرع أمُتْ من الجوع، لا، هذا هو الجهل، الآمر ضامن، من هو الآمر؟ هو خالق الكون، الأمور كلُّها بيده، إذا توهَّمت أن هذه المصلحة لابدَّ منها، فإن لم أكن فيها مِتُّ من الجوع، هذا كلام الشيطان.

﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(268)﴾

[  سورة البقرة ]

كلَّما جاءك خاطر أنك تفتقر، تصبح بلا مال، هذا خاطر شيطاني، إذاً الآمر ضامن، الذي أمرك بطاعته يضمن لك رزقاً حلالاً، الذي أمرك بطاعته يضمن لك رزقاً طيِّباً مباركاً.

﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ(24)﴾

[ سورة سبأ ]

نحن قبل عام أقول لكم بكل صراحة: كان كأس الماء مهدَّداً بالخطر، كأس الماء، وليس سقي المزروعات، ماء الشرب كان في خطر، لولا أن الله سبحانه وتعالى امتنَّ علينا بهذه الأمطار التي غذَّت الينابيع والأنهار أين حالنا الآن؟

الإحصائيات الدقيقة دمشق في العشر سنوات الأخيرة معدل الأمطار مائة وستون ميليمتراً، مائة وعشرون، هناك سنة ثمانون، في هذا العام إلى الآن ثلاثمائة وخمسة عشر، ثلاثمائة وعشرون في دمشق، في سرغايا ألف ميليمتر، بأكثر المناطق المطيرة ألف وأكثر من ألف، ففي معظم المحافظات معدَّلات الأمطار تجاوزت حتى الآن المعدَّلات السنويَّة وزادت عنها، الله هو الرزاق.

سمعت مرَّة صاحب معمل يخاطب شخصاً قال له: والله هذه السنة بعنا بيعاً كثيراً جداً ـ يبيع أقمشة ـ قال له: ما السبب؟ قال له: والله كان الموسم طيِّباً في الجزيرة، انتبهت أن بائع القماش إذا كان الموسم جيِّداً راجت بضاعته، معنى هذا أن الرزق في السماء، وما توعدون.

مرَّة سألت صاحب مطعم: كيف الأحوال؟ قال لي: والله الغلَّة نازلة بالمائة ثلاثون، ما السبب؟ قال لي: لا توجد أمطار، معنى هذا أن الأمطار تنمي الغلال، الغلال تؤدي لسيولة، تحرِّك كل شيء، فربنا عزَّ وجل يسأل: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ﴾ لا أحد إلا الله عزَّ وجل..

﴿  قُلِ اللَّهُ ۖ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ(25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ(26)﴾

[ سورة سبأ ]


خاتمة:


الحقيقة في هذه الآيات درس بليغ للمناقشة، فإذا أردت أن تحاور إنساناً بهذه الآيات أدب جَم، إن شاء الله في درسٍ قادم نقف عند هذه الآيات وقفةً متأنيَّة:

﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ*قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ*قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ﴾ .

والحمد لله رب العالمين.

دعاء:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أغننا بالعلم، وزيّنا بالحلم، وأكرمنا بالتقوى، وجمّلنا بالعافية، وطهّر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين وماتخفي الصدور، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور