وضع داكن
25-04-2024
Logo
الدرس : 14 - سورة الصافات - تفسير الآيات 171 - 182 سنن الله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الرابع عشر والأخير من سورة الصَّافَّات، ومع الآية الواحدة والسبعين بعد المائة.

 ربنا جل جلاله يقول:

﴿  وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ(171) إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ(172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ(173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ(174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ(175)﴾

[ سورة الصافات ]


وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ


1 ـ مِن سننِ الله الجارية: نصرة الأنبياء:

 من عادة البيان الإلهي أنه في ختام السوَر يقرر الله جل جلاله سُنَنَاً وقوانين، فربنا عزَّ وجل يقول: يا محمد إن نصرناك على أعدائك فهذه سُنة الله في خلقه، هذه سنة الله القديمة، أن تُنصَر على أعدائك، أن تعلو كلمة الله، أن ينتصر دين الله، أن تكون العاقبة للمؤمنين، ليس هذا شيئاً جديداً، إنما هو قانونٌ قديم، منذ أن خلق الله الكون هذه كلمته، وهذه سُنَنُهُ، وهذه طريقة تعامله مع عباده، فلابد من أن تنتصر، أنت مع الحق والحق هو الغالب، الباطل له جولة؛ ولكن الحق هو المنتصر في النهاية، منها تطمين، ومنها تأكيد.

2 ـ لابد من كشفِ قوانين الدين:

 ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا﴾ أيها الإخوة، إن (كلمة) في القرآن الكريم تعني القانون، والمؤمن من توفيقه ومن سعادته أن يكشف القوانين التي قنَّنها الله عزَّ وجل، وأن يكتشف السُنن التي سنَّها الله عزَّ وجل، فالدين ليس أوهاماً، ولا غيبياتٍ، ولا أساطير، ولا طقوساً، الدين كله عقل، كله قواعد ثابتة، فالذي يفهم الدين فهماً عميقاً، وفهماً دقيقاً يكتشف هذه القوانين، أما الذي يُغَلِّبُ المفاهيم الضبابيَّة، يغلِّب الغيبيات غير الواضحة، يغلِّب أن الإنسان يُوفَّق لا ندري لماذا؟ يُعاقَب لا ندري لماذا؟ وبعضهم يقول كلمةً حقٍ لكن يريد بها باطلاً، يقول: "أقام العباد فيما أراد، وله المُراد فيما يريد"، يقصد بها أن تفسير الأمور صعب، وهناك كلمات تُنْبِئ أن هناك حظوظاً عمياء، وقِسَماً عشوائية، ولكنك إذا فهمت الدين فهماً عميقاً وجدت في هذا الدين قوانين، ومُقدمات ونتائج، وأسباباً ومُسَبَّبات، وعلاقات ثابتة بين المتغيِّرات، فهذا كله يُستنبَط من قول الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا﴾ أي منذ أن خَلقنا العالم، منذ أن خلقنا الكون هذه كلمتُنا، وهذه سُنتنا في خلقنا. 

﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا﴾ أي يا محمد، إن نُصِرت على أعدائك، وإن كان الفوز لك، وإن كان الفوز لدينك، وإن استخلفك الله في الأرض، وإن مَكَّنَ لك هذا الدين، وإن رفع لك ذكرك، وإن أصبح الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فليس هذا شيئاً جديداً، وليس هذا شيئاً مستحدثاً، إنها سُنة الله في الخلق. 

3 ـ مَن كان مع الحق كان المنتصرَ:

 وهذا أيضاً يفيدنا الآن، فهذا قانون الله عزَّ وجل، دائماً إذا كنت مع الحق فأنت المنتصر، إذا كنت مع الله فالله معك، إذا كنت مع شرع الله، فشرع الله يحميك من الهلاك، إذا آثرت رضوان الله عزَّ وجل وفقك الله لما يحب ويرضى، فيجب أن نفهم أن في هذا القرآن قوانين حتمية الحدوث، حتمية النتائج، فإذا قدَّمت المقدمة قطفت الثمن، وأيّ إنسانٍ يأخذ بهذه القوانين يحصِّل هذه النتائج، هذا الذي يُستفاد من قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ﴾ ليس شيئاً جديداً، شيءٌ قديم، هذه سُنة الله في خلقه..

﴿لَقَدْ سَبَقَتْ﴾ وهذا كما يُعَبَّر عنه بالتركيب التالي، هذه السُنة؛ كانت، ولا زالت، وستبقى، هذه سُنة الله في خلقه، ولو تتبَّعت التاريخ البشري لرأيت أن الأنبياء والمرسلين هم المَنصورين، ولرأيت الحق هو المنتصر، ولرأيت العاقبة للمتقين، ورأيت الخزي والعار على الكافرين. 

4 ـ إما الخضوع لله طواعية أو الخضوع لسننه الكونية قهرًا:

 الله عزَّ وجل يمتحن، قد يرخي الحبل، قد يسمح للكافر أن يصول ويجول، ولكن إلى حين، ثم هو في قبضة الله عزَّ وجل، كما قال الله عزَّ جل حينما تحدث عن فرعون وعن سيدنا موسى، قال:

﴿  إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ(4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ(5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ(6)﴾

[  سورة القصص  ]

 الله حرَّم الخَمر، ودولٌ كثيرة لا تؤمن بالله إطلاقاً، قبل عامٍ أو عامين صدر فيها قرارات حرَّمت فيها الخمر، فأنت إما أن تطبِّق هذا الشرع عبوديةً لله، واستسلاماً له، وإما أن تعود إليه مقهوراً، بحكم التجارب والوقائع، والآن هناك انكماش عن الرذيلة لا حباً بالله، ولا حباً بطاعة الله، ولا تعبيراً عن طُهر، لا، ولكن خوفاً من مرض الإيدز، والذين زاروا بعض البلاد الغربية أخبروني بأنّ أحياء بأكملها كانت بؤرة فسادٍ أُغلقت، حمَّامات أغلقت خوفاً من انتقال هذا المرض، فالإنسان إما أن يطبِّق أمر الله عزَّ وجل تعبّداً، وبهذا يرقى، وإما أن يطبقه مقهوراً خوفاً أو رجاءً أو ما شاكل ذلك، ولكن: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا﴾ إنّ العالَم قبل عشرين أو ثلاثين عاماً كان موزَّعا في اتجاهات شتَّى، الآن ثبت للعالم كله أنه لا خلاص إلا بالإسلام، وبمنهج الله عز وجل، وكل مذهبٍ وضعي انكشف على حقيقته، انكشف وأصبح لا يقوى على أن يقف على قدميه، هذا التهافت، السقوط المُريع، هذا بسبب أن كل مبدأٍ لا يُستمَد من هذا الحق المبين مبدأٌ باطل، وآخرته إلى الزوال، وربنا عز وجل يقول:  

﴿  وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا(81)﴾

[  سورة الإسراء  ]

 مرة ذكرت أن عالمةً في منظمة الصحة العالمية كتبت مقالةً عن الذين يصابون بمرض التراخوما في العالم، لا في عامٍ واحد، لا، خمسمائة مليون، وهذه أمراض القذارة، وأن هذه الأمراض تكاد تقلُّ نسبتها أو تنعدم في الدول الإسلامية، لسبب الوضوء فقط، فخمسمائة مليون إصابة بالتراخوما في العالم الثالث، البلاد الملتزمة بشرع الله عزَّ وجل في منجاةٍ من هذا المرض، هذا قانون ربنا عزَّ وجل، معناه أن الوضوء شيءٌ أساسيٌ سَنَّهُ الله لنا.

 الذي أريد أن أقوله لكم هو: أن هذا المنهج من عند خالق الكون، فمهما ابتعدت عنه فلابد من أن تعود إليه، وروعة المؤمن أنه عرف الله في وقتٍ مبكر، أما الذين شردوا عن دين الله عزَّ وجل فلابدَّ من أن يعودوا إلى هذا الدين في وقتٍ ما، لكن يعودون إليه صاغرين، مقهورين، بعد أن تسقط من أيديهم كل أوراقهم، وكل معطياتهم، وكل ما كانوا يتوهمونه أنه حق..

﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا﴾ هذا قانون أزلي أبدي، معركة الحق والباطل أزليةٌ أبديةٌ، يمكن أن تُدخِل في هذه المعركة آلاف القِصَص، آلاف الحوادث، ما جرى في العالم سابقاً، وما جرى لاحقاً، وما يجري الآن، هذا كلُّه ضمن معركة الحق والباطل الأزلية، فربنا عز وجل يطمئن النبي عليه الصلاة والسلام:  ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا﴾ فكلمة كلمتنا، أي قانوننا، مشيئتنا، إرادتنا، قرارنا..  

﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ﴾ للأنبياء الذين أرسلناهم، ولأتباعهم، ولمن استجابوا لدعوة الأنبياء، أحياناً وأنت تقرأ قوله تعالى:

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(97)﴾

[  سورة النحل ]

 هذا قانون ربنا عزَّ وجل، هذه كلمات الله، ولا مبدل لكلماته، ولما يقرأ الأخ القرآن الكريم فمن حسن توفيقه في فهم كتاب الله أن يضع يده على هذه الآيات التي تعطي معنى القوانين.

﴿  كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(33)﴾

[  سورة يونس  ]

﴿  قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123)﴾

[  سورة طه  ]

﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)﴾

[  سورة البقرة  ]

﴿ إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا(9)﴾

[  سورة الإسراء ]

 ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ هذه كلها قوانين. ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ﴾ .

 إذا قرأت القرآن فحاول أن تضع يدك على قوانينه، على سُنَنِ الله الثابتة، هذه مفاتيح؛ مفاتيح النجاة، مفاتيح السعادة، مفاتيح الرُقِيّ، مفاتيح الفوز، مفاتيح الفلاح.

 إذاً: ربنا عز وجل يبيِّن أنه سبقت كلمته، قانونٌ أزليٌ، واقعٌ، أبديٌ ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ﴾ .


معنى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ


 قال بعض المفسرين: سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين بالسعادة في الدارين.

 وأضاف بعضهم، وهذه إضافةٌ رائعة: ولمن اتبعهم، فرب الكون، خالق الكون يطمئنك أنني سأسعدك إذا اتبعت رضواني، هل فينا واحدٌ لا يتمنى أن يكون سليماً سعيداً؟ السلامة والسعادة مطلبان ثابتان لكل إنسان في الأرض، فسبقت كلمتنا لهم بالسلامة والسعادة، لهم ولأتباعهم، لأن الفعَّال هو الله عزَّ وجل، لأنه لا يقع شيءٌ في الأرض إلا بإرادة الله عزَّ وجل.

 لذلك قال بعض المفسرين: لم يُقتَل أحدٌ من أصحاب الشرائع، الأنبياء معهم رسالات، الأنبياء الذين يحملون رسالات الله عزَّ وجل، هؤلاء لم يُقتَلوا أبداً، لأن قتلهم يعني أشياء كثيرة، شاءت مشيئة الله أن يرسلهم برسالة، إذاً: هم معصومون، وهذا معنى قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(67)﴾

[  سورة المائدة ]

 أي لا يستطيع أحدٌ أن يُنهي حياتك يا محمد، لأنك مرسل من قِبَلِنَا، لا يستطيع أحدٌ مهما علا في الأرض أن ينهي حياتك ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ﴾ لذلك جميع الأنبياء الذين كُلِّفوا برسالات من قِبَل الله عزَّ وجل، الأنبياء والرُسل أسوة، والنبي إنسان لا ينقطع عن الله لحظة. 

((  إنا معشر الأنبياء تنام أعيننا، ولا تنام قلوبنا.  ))

[  الجامع الصغير عن عطاء بسند صحيح  ]

 اتصال دائم، وهذا مقام النبي، وما سوى النبي فساعةٌ وساعة: 

((  وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ، وَفِي طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ، يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً.  ))

[  مسلم عن حنظلة  ]

 إذا الشيء الثاني: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا﴾


معرفة قوانين الله والتعامل معها سببٌ للسعادة:


 أيها الإخوة، أتمنى على الله جلَّ جلاله أن يوفقنا جميعاً إلى معرفة قوانينه، كما قلت قبل قليل: إذا عرفت القانون فهو مفتاح السعادة، مفتاح السلامة، كشفت قانون الله عزَّ وجل، كيف أسعد؟ بطاعة الله، كيف أسعد في بيتي؟ بتطبيق منهج الله في اختيار زوجتي، كيف أسعد في عملي؟ بتنفيذ أمر الله في البيع والشراء، كيف أسعد بصحتي؟ بتنفيذ السُنة النبوية الشريفة، قوانين كلها، فإذا وضعت يدك على قوانين الله عزَّ وجل، بل إذا قرأت القرآن، وحاولت أن تكتشف القوانين، القرآن عَبَّرَ عنها بكلمة: (كلمة).

﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(115)﴾

[  سورة الأنعام ]

 أي أن كلماته فوق المكان والزمان، والظروف والأحوال، في كل عصر، في كل مِصر، في كل وقت، في كل زمان، قوانينه هي هي، ما علينا إلا أن نتمسَّك بها.


النصر المطلَق: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ


 ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ*إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ﴾ أروع ما في هذه الآية أنها مطلقة، وإذا أردنا أن نحللها: منصورون بالحجة والغَلَبَة، منصورون بالحوار، معهم الحق المبين، ومنصورون من قبل الله عزَّ وجل بالغَلَبَة المادية، لقوله تعالى:

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾

[  سورة النور ]

 وعد إلهي بالاستخلاف والتمكين والتطمين، استخلافٌ وتمكينٌ وتطمينٌ، وعلى العباد أن يعبدوه فقط، ﴿يَعْبُدُونَنِي﴾ .


المؤمن معه حُجة على كل شيء:


 إذاً: ﴿إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ﴾ بالحجة، المؤمن معه حق، والحق شيء مريح جداً، يفهم سر الوجود، سر الحياة الدنيا، سرّ وجود الإنسان في الأرض، سرّ مهمته على هذه الأرض، يفهم أين كان؟ وماذا بعد الموت؟ يفهم أثمن شيءٍ في الدنيا، أغلى شيءٍ في الدنيا، يضع يده على جوهر الحياة لا على ظاهر الحياة، كما بيَّن الله تعالى واصفاً أهل الدنيا:

﴿  يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ(7)﴾

[  سورة الروم  ]

 ما اتخذ الله ولياً جاهلاً لو اتخذه لعلَّمه، والمؤمن يعرف من هو؟ وما قيمته؟ هو المخلوق الأول، المخلوق المكرَّم، الذي خلقه الله في أحسن تقويم، وأبدع صُنعه، منحه نعمة العقل، سخَّر له الكون، أنزل له التشريع، أرسل له الأنبياء، أعطاه حريَّة الاختيار، أودع فيه الشهوات، أعطاه فيما يبدو قوةً يتحرَّك بها، ويحقق بها اختياره، منحه فطرةً تكشف له خطأه، إذا عرف الإنسان هذا كله تحرَّك في هذه الدنيا تحركاً صحيحاً، لذلك استشعِروا معي قول الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ﴾ إذا كنت مع الحق فلا تخف، لأن الحق معك، إذا كنت مطبِّقاً لمنهج الله فلا تخشَ أحداً، لأن خالق الكون يؤيدك، وينصرك، ويرقى بك إلى أعلى عليين.. 

﴿  إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ(54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ(55)﴾

[  سورة القمر  ]

 فليس هناك شعور ينتاب المؤمن أعلى من أن يشعر أن الله راضٍ عنه، وأن الله معه، وأنه يؤيِّده، وأنه ينصره، وهذا معنى قول الله عزَّ وجل:

﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ۚ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)﴾

[  سورة البقرة  ]

 معهم بالنصر، والتأييد، والحفظ، والرعاية.

﴿إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ﴾ أنا أقول لكم كلاماً دقيقاً: دعك من القوة المادية، مهما كان الكافر ذكياً إذا جلس مع المؤمن ليحاوره تتساقط أفكاره، الحق ليس له داعم، لا يوجد معه دليل، لماذا أنت في الدنيا؟ لا يعرف لماذا هو في الدنيا.

﴿  قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا(103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104)﴾

[  سورة الكهف  ]

 تجده يتحرك في طرق مسدودة تنتهي به إلى الهلاك، يُعطي قيمةً لأشياء تافهة زائلة، وينسى أبرز ما في الحياة الدنيا، لا يملك نظرية متكاملة في خلق العالم، وفي فلسفة الوجود، وفي فلسفة المعرفة، وفي فلسفة الحياة الدنيا، وفي فلسفة الإنسان، ولأن هذا القرآن من عند خالق الكون، فقد بيَّن لنا ما كان في عالم الأزل، وما سيكون في عالم الأبد، وسر وجود الإنسان على الأرض، بيَّن لنا من هو الخالق، من هو الرب، من هو المسيِّر، من هو المعبود بحق؟ هذا كله في القرآن.

 فهل من الممكن لإنسان لم يقرأ القرآن أن يكتشف التفسير الكامل، الصحيح، الجامع، المانع، للكون؟ لا يعرف، قد يرى أن الدنيا هي كل شيء، هذا أكبر ضلال، قد يرى أن الموت نهاية الحياة، ولا شيء بعد الموت، هذا نهاية الضلال، قد يرى أن المال كل شيء، نهاية الضلال، قد يرى أن القوة هي كل شيء، هي الضلال بعينه، فحينما يركّز الإنسان بأشياء زائلة وتافهة وصغيرة الحجم فهذا هو الضلال المبين، أما حينما تتعرف إلى الله عزَّ وجل فإنك تعطي لكل شيءٍ حجمه الحقيقي، المال قوام الحياة؛ ولكن لا أعبده من دون الله، لا أضحي بديني من أجله، هناك منظومة قيَم أتحرك من خلالها.

﴿إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ﴾ المؤمن معه الحق المجرَّد، فإذا حاور كافراً يتغلَّب عليه، ما اتخذ الله ولياً جاهلاً لو اتخذه لعلَّمه. 

﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(83)﴾

[  سورة الأنعام ]

 إبراهيم نبيٌ عظيم، وكل من اتبع إبراهيم، وكل من اتبع النبي الكريم معه حُجة، عندما تتعلم اللغة العربية مثلاً، ويكون أمامك إنسان يقرأ نصاً، لا تكشف أخطاءه إلا إذا كنت عالماً باللغة، فإن لم تكن عالماً باللغة تثني على قراءته، أما إذا كنت متمكناً تكشف كل أغلاطه، فإذا عرفت الله عزَّ وجل وعرفت منهجه، لو جلست مع إنسان شارد عن الله ربع ساعة تكشف الخلل في تفكيره، تكشف الزَّيف في معتقداته، تكشف عقائده الفاسدة، تكشف أن كل علاقاته غير الصحيحة، علاقات كلها جهل.

ضربت مرة مثلاً: هناك ضوء على لوحة السيارة يتألَّق إذا انتهى الزيت في المحرك، هذا ضوء خطِر جداً، لو تألَّق يجب أن تقف فوراً، وإلا يحترق المُحرك، لو اعتقد إنسان أن هذا الضوء إذا تألَّق فليسلِّيك في الطريق مثلاً، وليؤنس وحشتك، هذا اعتقاد خطير جداً، قد تحرق محرك السيارة وأنت لا تدري، فما هو الجهل؟ قد يظن الناس أن الجهل ألا تعرف، لا، فالجهل أن يكون الذهن محشواً بعلاقاتٍ كلّها فاسدة، علاقات مغلوطة. 


أدِّ الذي عليك واطلب من الله التوفيق والنصر:


 إذاً: ﴿إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ﴾ بالحجة، وبالغلبة المادية إذا طبقوا دين الله عزَّ وجل، يعبدونني: أدِّ الذي عليك، واطلب من الله الذي لك، لك منه النصر، لك منه التأييد، لك منه أن ينصرك على عدوك، لك منه التمكين، لك منه التطمين، هذا كله لك من الله، ولكن قبل أن تطالب ما لك، أدِّ الذي عليك، عليك أن تطيعه، فقبل أن تقول: لماذا تخلَّى الله عن المسلمين في العالم؟

 اسأل سؤالاً آخر: ما الذي قصَّر فيه المسلمون؟ هل بيتهم إسلامي؟ هل بيعهم وشراؤهم إسلامي؟ هل خروج نسائهم كما يرضى الله عزَّ وجل؟ هل كسبهم للمال وفق الشرع تماماً؟ هذا الذي أتمنَّاه على كل إنسان؛ أن يسأل نفسه: ما الذي علي؟ علي أن أؤدي الذي علي، ثم أدعو الله بالذي لي، اللهم نصرك الذي وعدتنا، اللهم انصرنا على أنفسنا حتى نستحق أن تنصرنا على أعدائنا، أدِّ الذي عليك، وبعد أن تؤدي كل ما عليك قل: يا رب نصرك الذي وعدتنا، بعد أن تؤدي كل ما عليك قل: ربنا إننا كما قال أحد الأنبياء، إني مغلوبٌ فانتصر يا رب لدينك، لا يحق لك أن تطالب بالنصر والتأييد والحفظ قبل أن تؤدِّي الذي عليك.


وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ


 ﴿إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ*وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ﴾ والله شيء جميل جداً، هذه آية رائعة جداً: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ﴾ فإذا ادَّعيت أنك من جند الله ولم تنتصر؟ الجواب المنطقي: لست من جند الله، لو كنت من جنده لنصرك الله على أعدائك، لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ﴾ فشيء جميل جداً أن تكون من جند الله، ولن تكون من جند الله إلا إذا أطعت الله عزَّ وجل، لن تكون من جند الله إلا إذا تركت الكبائر، كيف نكون من جند الله ونشرب الخمر مثلاً؟ مستحيل، كيف نكون من جند الله ولا نصلي؟ كيف نكون من جند الله ونقترف الكبائر؟ ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ﴾ فهذا قانون أيها الإخوة، بأي مكان، بأي زمان، بأي عصر، بأي مصر، هذا ما يقال على التفوق، تفوق العدو، هذا يقال إذا تساوى الأطراف في عدم الإيمان، إذا تساوى الطرفان في عدم الإيمان فلك أن تتحدث ما تشاء عن تفوق العدو، عن التفوق، والتكنولوجيا، وعن الأسلحة الفتَّاكة الحديثة، وعن الليزر، وعن الأقمار، كل شيء تسمعه الحديث عنه مقبولٌ ومعقولٌ إذا تساوى الطرفان في عدم الإيمان، أما إذا كان أحدهما مؤمناً فتختلف كل الموازين، وتنقلب كل الموازين..

﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ﴾ إذاً كن من جند الله وخذ النتيجة، لكن ربنا عزَّ وجل أحياناً حينما يرى المسلمين في أنحاء العالم في تقصير، في غفلة، هم وغيرهم سواء، لا تجد فرقاً إطلاقاً بين مسلمٍ وغير مسلم إلا إذا كنت سألته: ما اسمك؟ أو قلت له: أين بطاقتك الشخصية؟ أما مظهره في الطريق؛ وزوجته، وبناته، ومتجره، ولهوه، وعطلة نهاية الأسبوع أين يقضيها؟ لا ترى فرقاً إطلاقاً، فمثل هذا المسلم الغافل لا بد له من صعقة، لأن القلب إذا توقف أول شيء يفعله الطبيب يعطيه صعقةً كهربائية، تهُزّ أركانه لعله ينبض، إما أن ينبض، وإما أن لا ينبض، فإذا نبض الحمد لله، فلما يضيِّق ربنا عزَّ وجل على المؤمنين المقصّرين فليس معنى هذا أنه تخلَّى عنهم أبداً، لكنه يريد أن يدفعهم إلى طاعته، وإلى الصُلح معه، وإلى القُرب منه. أجمل ما في هذه الآية: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ﴾


فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ


1 ـ المؤمن متميِز عن غيره:

 أي يجب أن يفترق المؤمن عن الكافر، يجب أن يكون المؤمن صارخاً في إيمانه، علاقاته كلها وفق الشرع، أي أن كل حركاته وسكناته يتميَّز بها على الكافر، أما إذا كان هناك اختلاط، والأماكن التي يرتادها الكافر يرتادها المؤمن، المقاصف التي يجلس بها الكافر يجلس بها المؤمن، الموائد التي لا ترضي الله يقبع عليها المؤمن والكافر، هناك اختلاط، في التجارة الأساليب التي لا ترضي الله التي يمارسها الكفار يمارسها المؤمنون، فما بقي شيء، فأين: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾

 المؤمن متميز، في كل علاقاته، في حركاته، في سكناته، حتى في أفراحه، إذا الأفراح في أماكن لا ترضي الله عزَّ وجل، في اختلاط، عُرس مختلط، والأسر مسلمة، ويقولون: الله لا ينصرنا؟ فماذا تفعلون؟ إذا في بعد عن الله عزَّ وجل بحيث لا يبدو للمراقب أن هذا مسلم، مثله مثل الآخرين، فلابد من التمايز للمؤمن في بيعه وشرائه، وفي بيته، وفي عاداته، وفي أفراحه، وفي أتراحه.

 مثلاً: الآن في الأعراس هناك آلة تصوير، هؤلاء النساء كلُّهن كاسيات عاريات في الأعراس، كيف تسمح أسرةٌ مسلمةً أن تصور المدعوات وهن بأبهى زينة، وهذا الفيلم يطبع عليه عشرات النسخ، ثم يُشاهد في البيوت، وهذه المرأة التي تبدو في الطريق محجبة قد رآها الأجانب كلهم بأبهى زينة، أين الإسلام؟

 أيعقل أن يكون المسلمون تحت رحمة مصمم أزياء يهودي فرنسي، فكلما صمم أزياء معينة لهثوا وراءه ليقلدوا آخر صرعات العصر، أهذا هو الإسلام؟

 قال: "يا رب عصيتك، ولم تعاقبني! قال له: عبدي كم عاقبتك ولم تدر".

 لما يقصر الإنسان فالله عزَّ وجل يؤدِّب، حتى تظن أنه تخلَّى عنك، هو لم يتخلّ عنك، ولكن يؤدِّب، ويشدد، ويضيِّق، إلى أن تقول: يا الله، إلى أن تقول: يا الله تبنا إليك، عدنا إليك، رجعنا إليك، رجعنا إلى شرعك، رجعنا إلى قرآنك، رجعنا إلى سُنة نبيك، فلابد من العودة إلى الله، ولابد من الصلح مع الله، وإن لم يكن في بداية الحياة فلن ينفعنا في نهايتها..

﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(18)﴾

[ سورة النساء ]

﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ(158)﴾

[  سورة الأنعام ]

 لكن ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ﴾ لكن عبادنا المرسلين هم المنصورون بالحجة وبالغلبة المادية. 

2 ـ لابد من الابتعاد عن الأماكن التي تليق بالمسلم:

 ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ﴾ ابتعد عنهم، دعهم في متنزَّهاتهم، في مطاعمهم، في أماكن لهوهم، في منتجعاتهم، في أسواقهم، في علاقاتهم الربوية، دعهم، فإذا كنت معهم البلاء سيعم الجميع، إن لم تبتعد عنهم، لن تنجو من عذابهم.

3 ـ حَتَّى حِينٍ

 ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ﴾ حتى حين أن يأتي الله بوعده. بالمناسبة من أدق الآيات في القرآن الكريم قول الله عز وجل:

﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ(39)﴾

[  سورة يونس ]

 قال بعض العلماء: إن تأويل القرآن في هذه الآية معناه تحقُق الوعد والوعيد، الله وعد الفاسق بالعقاب، وعد المُرابي بتدمير المال، وعد المؤمن بالحفظ، فكل وعود الله عزَّ وجل، تُحقَّق في الدنيا، لذلك تأويل القرآن أن يقع الوَعد والوعيد، قال: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ﴾ حتى حين يأتي أمر الله فيستحق المؤمن النصر والتأييد، ويستحق الكافر الخَذلَ والخِزي والعار، حتى حين مجيء وعد الله عزَّ وجل، الله أعطى الإنسان خياراً، أعطاه فرصة، لو جاء العقاب بعد المعصية مباشرةً لألُغِي الاختيار، يعصي الإنسان، وبعد المعصية هو في بحبوحةٍ طويلة، لعله يتوب، فإذا انتهى الوقت الكافي كي يتوب ولم يتُب، الآن يأتي الهلاك.

﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ﴾ الحبل مُرخى، دعهم إلى حين. مثلاً ـ الأمثلة تقرِّب المعنى ـ: لو اجتمع طالبان أول السنة وتناقشا، الأول يقول: الدراسة مفيدة، والثاني يقول: الدراسة غير مفيدة، العلم له قيمة طبيرة، يرد الآخر: ليس له فائدة، هذا النقاش الطويل يحسمه الفَحص، المُناقش الأول يرى أن زميله يركب رأسه ويتعَنَّت، أو يدّعي أنه على علم رفيع، وهو يراه لا يدرس إطلاقاً، يقال له: دعه لحين الامتحان، اتركه، الطالب معه فرصة العام الدراسي بأكمله، لكن إذا جاء الامتحان عندئذٍ يُكشَف الإنسان على حقيقته.

﴿ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ﴾ حتى حين أن يأتي الله بوعده، حتى حين تحقق الوعد، تحقق الوعيد.


وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ


 ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ*وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ أي أبصرهم قبل فوات الأوان، لكنهم لابد من أن يروا الحقائق بعد فوات الأوان.

﴿وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ ضربت مثلاً: رجل يركب دراجة، ويسير بطريق مستوٍ، واجه طريقين، أحدهما نازل، والآخر صاعد، الطريق النازل مُغرٍ جداً لراكب الدراجة، معبَّد، وحوله رصيف وأشجار، وظل ظليل، وحدائق غنَّاء، ولكن هذه الطريق ـ الطريق تُذكَّر وتؤنَّث ـ تنتهي بحفرةٍ سحيقةٍ فيها وحوشٌ كاسرة جائعة مالها من قرار، فإذا بدأ الإنسان بهذا الطريق فلابد من أن يقع في الحفرة في نهاية المطاف.

 الطريق الصاعد صعبٌ على راكب الدرَّاجة، وفيه حفر، وفيه أكمات، وفيه غُبار، وفيه أتربة؛ لكنه ينتهي بقصرٍ منيف فيه كل شيء، لكن رحمةً بهذا الراكب وُضِعت لوحةٌ بيانيةٌ تفصيلية، ذُكِر عند مفترق الطرق: هذه الطريق النازلة تنتهي بهذه الحفرة السحيقة، وهذه الطريق الصاعدة تنتهي بهذا القصر المنيف، وإذا أردت أن ترى بعينك ذاك المنظار، لوحة ومنظار، انظر، فهذا الذي رفض أن يرى، ورفض أن يقرأ، وسار في الطريق الهابطة، انسجاماً مع راحته الجسدية، ومع تمتُّعه بالمناظر الخلاَّبة، فأنت إذا أبصرته، أو بيَّنت له لم يستفد، ولكن سوف يبصر، أنت بيّن له قبل فوات الأوان فإن لم يستجب هو سيرى بعد فوات الأوان، أنت بيِّن له قبل فوات الأوان، لأنه سوف يرى كل شيء بعد فوات الأوان، وهذا معنى قوله تعالى:

﴿ لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾

[  سورة ق  ]

﴿  يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24)﴾

[  سورة الفجر  ]

﴿وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ*وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ بقي قوله تعالى:

﴿ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ(175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ(176)﴾

[ سورة الصافات  ]


أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ


 هذا استعجال المستهزئ: متى يا سيدي؟ دع الله يبعث العذاب، الكافر يستهزئ بوعيد الله عزَّ وجل، لكن لو أن وعيد الله جاء، فماذا أقول ؟ يصيح كالكلاب، إذا جاء العذاب، ونحن نسمع ونرى حينما تأتي بعض المصائب من زلزال، من فيضان، من براكين، ترى أن الناس في ذهول، وفي فزع وخوف لا يُتصوَّر، قال: ﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ الإنسان ماذا يتحمَّل لو أفقده ربنا عزَّ وجل شيئاً من أجهزته؟ لو انحبس البول ماذا يصنع؟ لو شُلَّت قِواه ماذا يفعل؟ لو جاءته الآلام التي لا تُحتمل بسبب أورام خبيثة في أمعائه كيف يصيح؟ وهناك أمراض يصيح المريض منها صياحاً يسمعه كل من في البناء، مهما كانت شخصيته قوية يخرج عن طوره، ويصيح من شدة الألم، هذا الذي يستهزئ بعذاب الله عز وجل إنسان جاهل.

﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ فالإنسان أحياناً يفقد قوته، فهو طريح الفراش، يتمنَّى أقرب الناس أن يموت، أحياناً يفقد عقله، يأخذه أقرب الناس إليه إلى المستشفى، أيضاً بواسطة، ويقولون: والله كان منظره مخيفاً، أُرِحنا منه، كان رب الأسرة، كان سيِّد البيت، الله عزَّ وجل عنده عذاب لا يُحتَمل، هناك آلام عصبية لا يتحمَّلها إنسان، يتناول أعلى أنواع المخدرات والمسكِّنات، ويصيح بعدها ﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ ويوجد حوادث، وأمراض، وفقر مدقِع، وقَيْد، وحبس حرية ﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ ويوجد تعذيب لا يحتمل ﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ لما يقرأ الإنسان وعيد الله عزَّ وجل ولا يرعوي فهو إنسان جاهل، وكلما نما عقل الإنسان نما خوفه. 

﴿  أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ(176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ(177)﴾

[ سورة الصافات  ]


فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ


 الإنسان كل يوم يستيقظ صباحاً، كل واحد له طريقة في استيقاظه، هذا يستيقظ ليصلي الفجر، يشرب فنجاناً من القهوة، يقرأ الجريدة أحياناً، يسمع أخباراً، ربما يجلس مع أهله لطعام الفطور، وهو سعيد ومسرور، وأحياناً يكون منزعجاً كثيراً في الصباح، لو تلقى خبراً سيّئاً في الليل عن صحته، أو عن وضعه المالي، أو عن وضع عمله التجاري، أو عن وضع أهله صار الصباح صباحًا آخر، نعمل لك قهوة؟ لا، لا أريد، هو تعيس مكتئب لا يريد قهوة، ولا طعاماً، ولا كلاماً، لديه متاعب كبيرة جداً، ليس كل صباح مثل الآخر، هناك صباح سيّئ جداً، وهناك مساء سيّئ جداً، أما إذا كان مع الله عزَّ وجل، كان مع منهج الله، إن شاء الله كل صباحه خير، فهذه الكلمة: صباح الخير تعني دلالتها هذا المعنى.

 استيقظ الإنسان، الحمد لله صحته طيبة، أولاده بوضع جيد، أهله، مستقبله واضح، أما إذا عصى، وأكل مالاً حراماً، واعتدى، وظلم، وطغى، وبغى، وتجبَّر فله صباح مزعج جداً، فبعض الإخوة الأكارم يذكرون لي عن وضع مرضى غير مؤمنين، انهاروا انهياراً كاملاً، أصبح كالطفل الصغير، وله مكانة كبيرة في المجتمع، طارئ عارض على صحته جعله كالطفل لا يلوي على شيء، هذه: ﴿فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ﴾ .

((  احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ  ))

[  من سنن الترمذي عن ابن عباس  ]

  قال له: "يا بني، حفظناها في الصِغَر فحفظها الله علينا في الكِبَر، من عاش تقياً عاش قوياً" .

ألا تحب أن يحفظك الله عزَّ وجل؟ ألا تحب أن يكون لك خريف عمر مشرق؟ تزداد علماً، ونورانيةً، ومكانةً، ورفعةً، وقُرباً، وشأناً، وعطاءً، ودعوةً، الزم أمر الله عزَّ وجل، لئلا يكون صباحٌ لا يرضي. 

قال: ﴿فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ﴾ إذا دخل الإنسان بيته فوجد فيه دفئاً فليحمد الله، يقول لك: مليون إنسان مهدد بالموت من شدة البرد، منهم المشرَّد، ومنهم الخائف، ومنهم الذي يُقْتَل.

﴿ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ(177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ(178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ(179)﴾

[ سورة الصافات  ]

 الله أعاد الآيتين مرة ثانية.. 

﴿  سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ(181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(182)﴾

[ سورة الصافات ]


سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ


 سبحان ربك؛ أي مهما تفكرت في ذاته فهو أعظم مما تتصوَّر، تنزَّهت ذاته وأفعاله وصفاته عن كل نَقص، هذه معنى سبحانك؛ وكل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك، سبحان الله، كل شيءٍ تظن أن الله هكذا هو فوق ذلك، وهذا معنى قولنا: الله أكبر، أكبر مما عرفت.

﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ﴾ الله عزيز، معنى عزيز يحتاجه كل شيء في كل شيء، فليس الإنسان فقط، يحتاجه كل شيء في كل شيء. 

﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ﴾ عزة معنوية، وعزة مادية، هو ربُّ العزة، هو صاحب العزة، فإذا أردت العزة فكن معه، إن أردت العزة فلُذ بحماه، إن أردت العزة فاستعذ به..  

اجعل لربك كــل عـــز    ك يســتقر ويثـبــــــت

فإذا اعتززت بمن يـمو   ت فـإن عـزك ميــــت

[ الإمام الشافعي ]


وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ


 ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ*وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ شعار المؤمن دائماً ينزِّه الله عز وجل، ينزِّهُهُ ويسبِّحُه، ويعتز به، وهو مع المرسلين له موقف ثابت، موقف الانصياع، موقف الاتباع، موقف الحُب، موقف السلام لا العدوان، لا يخطر ببال مؤمن أن يعادي مُرْسَلاً.

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

 ﴿وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ*وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ على كل شيء، لأنه لا يُحمَد على مكروهٍ سواه، أفعاله كلها يُحمَد عليها مهما بدت لنا غير معقولة، المؤمن يُحسِن الظن بالله عزَّ وجل، فإن حسن الظن بالله تعالى ثمن الجنة.

﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ*وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ 

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور