وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 4 - سورة ص - تفسير الآيات 30- 40 قصة سيدنا سليمان عليه السلام.
  • تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
  • /
  • (038)سورة ص
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

ملخص لما ورد في الدرس الماضي:


أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الرابع من سورة ص، ومع الآية الثلاثين.

ربنا سبحانه وتعالى بعد أن حدثنا عن قصة سيدنا داود، وقد بينت لكم في الدرس الماضي أن هذا النبي الكريم ترك الأَولى في أدق التعبيرات، الله سبحانه وتعالى جعله خليفة في الأرض، وكان في خلوته في أوج إقباله، في قمة استمتاعه، في ساعات صفائه، امتحنه الله عز وجل بقضية تتعلق بأهل الأرض، فاستمعَ إلى أحد الطرفين ولم يستمع إلى الطرف الآخر، وألقى حكمه ليعود إلى محرابه ومصلاه، هذا الموقف فيه ترك للأَولى، لأن النبي الكريم داود عليه الصلاة والسلام خليفة الله في الأرض، ومهمته الأُولى أن يَحْكُم بين الناس بالعدل. 

في هذا الأسبوع قلت: هذه القصة كيف نستفيد منها في حياتنا؟ هذه القصة كيف نطبقها تطبيقاً عملياً؟ استعرضت بعض الصور المنتزعة من حياتنا، بعض القصص التي سمعتها أو التي عاينتها، فوجدت أن المؤمنين بالذات أحياناً الخطاب يُوَجه إلى عامة الناس، أحياناً: يا أيها الناس اعبدوا ربكم، أحياناً يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم. 

 

أمثلة من الحياة تؤكد أنّ لا شيء يعلو على أداء المهام التي أوكلها الله إلينا في الحياة:


هناك توجيهات خاصة بالمؤمنين، فالمؤمنون إذا قرؤوا هذه القصة ما تطبيقاتها العملية في حياتهم اليومية؟ لو أن أماً استيقظت قبل الفجر بساعة وصلت قيام الليل، ثم أذّن الفجر فصلت صلاة الفجر، ثم جلست لتقرأ القرآن، هل هناك عمل أعظم من هذا العمل؟ لاشك أنه عمل جليل، لقول الله عز وجل:

﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)﴾

[  سورة الإسراء  ]

هذه المرأة في الساعة السادسة تعبت فآوت إلى فراشها، وأيقظت أولادها، وتركتهم وشأنهم، الغرفة باردة، ليس لهم طعام الفطور، لم تهتم بهندامهم، ولا بلباسهم، وبدأت تعطي التوجيهات وهي مستلقية على سريرها، يا ترى هذه المرأة إذا قرأت قصة هذا النبي الكريم ماذا عليها أن تفعل؟ إن الله جعلها أمّاً، وجعل هؤلاء الصغار أولادها، فلأن تعتني بأولادها، أن توقظهم، وأن تطعمهم، وأن تدفئ لهم غرفتهم، وأن تصلي الفجر في وقته، وأن تتلو القرآن، أما أن تصلي قيام الليل في وقت مبكر، وأن تصلي الفجر، وأن تؤوي إلى فراشها، وأن تهمل مهمتها الأَولى في الحياة فقد تركت الأَولى، وتركت ما أعده الله لها من رعاية وخدمة لأولادها ونسيت مهمتها الأُولى، وقد ورد: "أيما امرأة قعدت على بيت أولادها فهي معي في الجنة" .

أحياناً أستمع إلى قصة أُمّ ربَّت أولادها خير تربية، وضَحَّت من أجلهم، قال لي أحدهم: إن زوجتي لا تخرج من البيت أحياناً إلا مرة بالشهر وهي تعنى بأولادها، هذا هو التطبيق العملي لهذه السورة. 

أنت ما مهمتك؟ أنت طبيب، أنت مهندس، إن لم تكن واقفاً ساعة إنجاز السطح لعل أحدهم يأخذ الحديد، لعل أحدهم لا يضع الإسمنت الكافي في غيبتك فإذا هذا البناء ينهار، ويقضي على خمسة عشر إنساناً، فإذا قلت: أنا كنت أتلو القرآن، أنا مشغول بقراءة القرآن، أنا مشغول بمتابعة أحاديث النبي العدنان، نقول له: لا، أنت مهندس، يجب أن تكون على رأس عملك في الوقت المناسب وفي المكان المناسب، لأن الله أوكلك بهذا الأمر، واستخلفك في هذا العمل. 

طبيبة مولِّدة، أضرب لكم بعض الأمثلة، اتصلت بها المرأة التي على وشك الولادة، أُعلمت أنها قاب قوسين، صلّت قبل العصر أربعاً، وصلّت العصر، ودعت الدعاء، وجاءت إلى المستشفى فإذا بهذه المرأة قد ولدت، طالبتهم بالأجر. 

أضرب هذه الأمثلة لينتبه المؤمنون إلى أنه لا شيء يعلو على أداء مهمتهم التي أوكلهم الله إليها في الحياة، فأصحاب المهن جميعاً لو أهملوا مهنهم، لو أهملوا إتقان عملهم، لو أهملوا أشياء أودت بحياة أناس طيبين، وادَّعوا أنهم يحبون الله ورسوله، وهم في صلاتهم خاشعون، وهم يذكرون، وهم يفعلون، هذا كله لا يعفيهم من مسؤوليتهم تجاه الله عز وجل. 

أضرب لكم هذه الأمثلة لأنها كلها واقعية، امرأة خرجت من بيتها لشيء يرضي الله، تركت أولادها في البيت، وقد انطفأت الكهرباء، أشعلت لهم الشمعة، هذه الشمعة ذابت حتى أحرقت خوان المائدة فاحترق البيت ومات الصغار، هذه أمٌّ مُوَكَّلة بأولادها، هذا مهندس موكَّل بإنجاز هذا البناء، فإن أهمله يقع البناء، ويحاسَب عند الله بمتسبب بالقتل، وهذا طبيب أوكله الله بهؤلاء المرضى فعليه أن يرعاهم الرعاية الكافية، ولا يعفيه من المسؤولية لا هو ولا غيره أن يقول: أنا أحفظ القرآن، أنا أقرأ هذا البحث الفلاني.

 

قصة داود مفادها أن الله عز وجل لا يقبل النوافل قبل إتقان العمل:


القاضي الذي له مجالس علم يحضرها لكنه لا يقرأ الأضابير قراءة متأنية، يُسرع في حكمه هذا محاسب عند الله، ولو أنه يحضر مجالس العلم، ولو أنه يقرأ كتب الدين، ولو أنه يحفظ القرآن، أنت قاضٍ ينبغي أن تقوم بمهمتك خير قيام، يجب أن تقرأ المذكرات مُذكرة مذكرة، يجب أن تحللها، ينبغي أن تقرأ القوانين قبل أن تُصدر حكماً، لأن عدل ساعة خير من أن تعبد الله ثمانين عاماً. 

الكلام ليس موجهاً لعامة الناس، الكلام موجه إلى الأخوة المؤمنين، أي أنت ما مهمتك في الحياة؟ ما وظيفتك؟ بماذا أقامك الله؟ أنت أب؟ أنت أم؟ أنت معلم؟ أنت مدرّس؟ أنت طبيب؟ أنت صيدلي؟ لا ينبغي للصيدلي أن يعطي الدواء دون تعليمات، يقول: أخي ازدحام شديد ما فرغت لكتاب التعليمات، أحد أخوتنا الكرام صيدلي غاب عن صيدليته، وضع إنساناً مكانه، هذا الإنسان أخطأ في إعطاء الدواء، هذا الدواء كاد أن يودي بحياة مريض، دواء لا يجوز استعماله داخلياً، يخرش الجهاز الهضمي، استعماله خارجي، الوصفة استعمال داخلي، هو دواء آخر. 

أضرب لكم هذه الأمثلة لأن إنساناً يقول: أنا مع الله، أنا أحفظ القرآن، أنا أحضر مجالس العلم، أنا أتابع هذا الموضوع الديني، أنا أحبّ اللهَ وهو يُهمِل عملَه، لأن الله جَعَلَه في الأرض خليفةً، في هذا الموضوع هو خليفة، الطبيب أمينٌ على صحة الناس، والمحامي أمينٌ على قضايا الناس، والصيدليُّ أمين على إيصال الدواء إلى أصحابه بشكل دقيق، فهذه قصة سيدنا داود عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام مُفَادها أن المؤمن يتقن عمله، وكأن الله عز وجل لا يقبل نوافله قبل إتقان عمله، كأن الله عز وجل لا يقبل منه نوافل العبادات قبل أن يؤدي ما عليه من واجبات، إذا فهم المسلمون دينهم هذا الفهم، إذا عَقل المسلمون دينهم هذا العقل كانوا في حياة أخرى غير هذه الحياة، ترى القوانين التي وضعها الله عز وجل يا أيها الأخوة الأكارم لو أن إنساناً ملحداً طبقها لقطف ثمارها، الإتقان سرّ نجاح الإنسان، لو أن إنساناً لا يعرف الله، أتقن عمله لأقبل الناس عليه، ولاغتنى، وهذا أليق بالمؤمن من باب أولى.


  إذا أتقنا عملنا وانتظمت حياتنا صّحت عبادتنا:


إذا كان لهذه القصة مغزىً، إذا كان لهذه القصة حقيقة تُستفاد منها وهي أن الإنسان يجب أن يُتقن عمله، وإذا أتقنا أعمالنا ارتقينا، ارتقى المسلمون وأصبحوا سادة وللشعوب قادة، أما إذا أهملوا أعمالهم عباداتِهم ليست مقبولة، النبي عليه الصلاة والسلام رأى شاباً يصلي في النهار، قال: من يطعمك يا بني؟ قال: أخي، قال: أخوك أعبد منك، هذا المجتمع يجب أن يقوم على أسس سليمة، هذا المجتمع يجب أن يقوم على الإتقان، كل إنسان يجب أن يُتقن ما أقامه الله به، إذا أتقنا وانتظمت حياتنا صّحت عبادتنا، وصحّ إقبالنا، وصحّت وجهتنا، أما أن نهمل، أحياناً يحدث خطأ كبير جداً يودي بحياة مريض، أحياناً المحامي لا يقرأ مذكرة خصمه لضيق الوقت فيكتب مذكرة ضعيفة، هذه المذكرة الضعيفة تُسبب في أن يصدر القاضي حكماً ليس لمصلحة موكله، وفي هذا الحكم ظلم وجَور، والقاضي لا يدري لضعف مذكرة المحامي، والمحامي لا يدري لأنه لم يقرأ مذكرة خصمه قراءة جلية.

يا أيها الأخوة الأكارم؛ ربنا عز وجل لأنه يعلم أن مجتمع المؤمنين ربما أصيبوا بمثل هذه الأمراض فجعل هذه القصص تشريعاً لهم، أذكركم بالدرس السابق وهو أن الله عز وجل حينما قال: 

﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)﴾

[ سورة ص ]

 معلم دَيِّن اختصم إليه طفلان صغيران في الصف الأول، ضاقت نفسه بهذه المهنة فطردهما معاً، أتدري أيها المعلم أن هذا الطفل الصغير الذي ظنّ فيك العدل، وجاء يشكو إليك صديقه، أنت حينما طردته، وأعرضت عنه ولَّدْتَ فيه عقدة قد ترافقه طوال حياته؟ لا تدري. 

أنا سمعت عن رجل من كبار الفلاسفة الفرنسيين، بل يرأس حزباً علمانياً في فرنسا، أسلم، وهو معروف عند الناس جميعاً، سبب إسلامه قبل أربعين عاماً كان أسيراً، وجاء أمر بقتل الأسرى، وكُلِّف جندي مغربي بقتله، قال المغربي: أنا لا أقتل أسيراً لأن ديني يمنعني من ذلك، ولم يقتله، كلمة سمعها هذا الفيلسوف المفكر قبل أربعين عاماً انتهت بإسلامه، أنت لا تدري بكلمة لا تلقي لها بالاً ترقى بها عند الله درجات علية، وأنت لا تدري بكلمة من سخط الله لا تُلقي لها بالاً يهوي بها الإنسان في جهنم سبعين خريفاً.

 

بناء الحياة على أساس إتقان الأعمال هذا الذي أراده الله من قصة سيدنا داود:


إذا أردت للمجتمع الإسلامي أن ينهض، إذا أردت لهذا المجتمع أن يستعيد دوره التاريخي، أن يكون عزيزاً، أن يكون حراً، أن يكون قوياً، ينبغي أن تُبنى الحياة بناءً صحيحاً، أن تُبنى الحياة على أساس إتقان الأعمال، هذا الذي أراده الله عز وجل من قصة سيدنا داود حينما قال: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى﴾ .

 وقد ذكرت لكم في الدرس الماضي أن الهوى إذا عُزِيَ إلى نبي كريم فإنما هو الهوى المقدس، حبّ الله عز وجل، الميل إليه، الشوق إلى مناجاته، حتى هذا إذا منعك عن أن تقوم بواجبك، وعن أن تنفذ مهمتك، وعن أن تتقن عملك، هذا الهوى العلوي، هذا الهوى المقدس يغدو حجاباً بينك وبين الله والدليل: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ .

 

حقيقة الدين:


هذه الآية تذكرني بآية مفيد أن نسمع تفسيرها الآن، ربنا عز وجل خاطب المؤمنين فقال:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)﴾

[ سورة المائدة  ]

أنتم أيها المؤمنون تبغضون من؟ لا شك أن المؤمن يُبغض الكافر، يُبغض الفاسق، يُبغض الفاجر، يُبغض المرابي، يُبغض الزاني، يُبغض شارب الخمر.

أيها المؤمنون؛ إذا حملكم إيمانكم إلى بغض هؤلاء، وبغض هؤلاء حملكم إلى أن تأكلوا أموالهم بالباطل توهماً منكم أن الله يرضى عنكم أنتم واهمون، إنني لا أرضى عنكم إلا إذا أحسنتم إلى هؤلاء، لأن إحسانكم إليهم يقربهم مني ومنكم، ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ يجب أن نفهم الإسلام فهماً عميقاً، يجب أن نفهم هذا الدين فهماً صحيحاً، يجب أن نتبع سنة النبي جملة وتفصيلاً، الذي يؤخر الدين، الذي يجعل الناس يخرجون من دين الله أفواجاً بدل أن يدخلوا، هو أن المسلمين ظنوا أن دينهم عبادات، وتركوا المعاملات، ظنوا أن دينهم صلاة، وصيام، وحج، وزكاة، ونسوا أن دينهم إتقان في أعمالهم، صدق في أقوالهم، إخلاص في نواياهم، هذا هو الدين، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ .

 

ضرورة استنباط التطبيقات العملية من قصة سيدنا داود عليه السلام:


يقول الله عز وجل: 

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ* كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ(29)﴾

[ سورة ص ]

 هذه الآيات تمّ شرحها في الدرس الماضي، لكن تدبُّر الآيات هذا الذي أريده منكم في هذا الدرس، تدبر الآيات أن تبحث في تطبيقاتها العملية، أي أنا هذه القصة لِمَاذا جعلها الله قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة؟ أيريد الله عز وجل أن أعرف أن هناك نبياً اسمه داود؟ وماذا يفيدني ذلك؟ وأن هذا النبي امتحنه الله عز وجل، وأن رجلين أو ملكين تسوَّرا عليه المحراب، واختصما إليه، واستمع إلى الأول، وأصدر حكمه المُبرَم، ولم يستمع إلى الثاني، ثم اختفيا فجأة، فظن أن قد فتناه فاستغفر وخرّ راكعاً وأناب، أيريد الله عز وجل أن يعرفني بهذه القصة؟ وما شأني بها؟ وماذا أستفيد منها؟ وماذا يعنيني أن هذا النبي فعل كذا وكذا؟ لكن الله عز وجل حينما جعل هذه القصة قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة أراد من المؤمنين أن يدَّبروا هذه القصة، والتدبر أن يكشفوا مغزاها، أن يكشفوا خلفياتها، أن يكشفوا مقصد الله منها، أراد الله عز وجل أن نستنبط التطبيقات العملية منها، فلذلك القصة الأولى قصة سيدنا داود من أجل ألا تَشْغَلنا عباداتنا عن أداء واجباتنا، ولا سيما في الحرف التي تتعلق بها سلامة الإنسان، في الحرف التي يمكن أن يكون الإهمال مودياً بحياة الإنسان، ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾ .

 

بقدر معرفتنا بالله عز وجل نُقَدِّس الهبة التي وهبنا إياها:


الآن قصة تابعة للقصة الأولى ولكنها في موضوع معاكس، قال تعالى: 

﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)﴾

[ سورة ص ]

قد نقف عند كلمة (وهبنا)، الله سبحانه وتعالى حينما يَهَب إنساناً طفلاً، غلاماً، ولداً، بنتاً، انتبه إلى العبارة: وهبنا، هذه هبة الله عز وجل، هذه هدية الله عز وجل، وكلما ارتقى الإيمان يؤمن الرجل أن بناته هدية من الله عز وجل، لا يتبرم بامرأته إن أنجبت له البنات، إنها هبة الله عز وجل، وبقدر معرفتك بالله عز وجل تُقَدس هذه الهبة التي وهبك الله إياها، كان النبي عليه الصلاة والسلام يضم ابنته فاطمة حينما كانت صغيرة جداً إلى صدره الشريف يقبّلها ويشمها، ويقول: ريحانة أضمها وعلى الله رزقها، المؤمن هكذا يستقبل الفتاة المولودة بهذه الطريقة، بهذا الترحيب. 

أعرف رجلاً عنده سبع بنات، كلما اقترب موعد الولادة كَلَّف كل بنت بإحضار هدية ثمينة لأمهم ليستقبلوا بها المولودة الرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة، ثم السابعة، هدية الله عز وجل.

﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)﴾

[ سورة الشورى ]

﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ﴾ .

 شيء آخر، إذا وهب الله عز وجل الإنسان غلاماً نجيباً، أخلاقيّاً، متفوقاً في دراسته، من أدبه مع الله عز وجل أن يعزوَ هذا إلى الله، لا يقل: أنا ربيته، اعتنيت فيه، لولا أنا لم يصبح رجلاً، هذا كلام الجهل لأن الله عز وجل قادر أن ينجب النجيب غير نجيب، قادر أن ينجب من النجيب المعتوه، فالإنسان إذا جاءه ولد صالح لا يدّعي أنه بذكائه، وحنكته، وتربيته جعله صالحاً، ليَعْزُ الفضل إلى صاحب الفضل وهو الله عز وجل، هذه هبة.


  كلما كثرت إنابتك إلى الله علا مقامك عند الله:


﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ﴾ هو نِعْمَ العبد، وكلمة نِعم العبد من صيغ المدح، تقول: نِعْم العبد فلان، وبئس العبد فلان، هذه صيغة مدح في اللغة العربية، فالله سبحانه وتعالى يثني عليه، بماذا أثنى عليه؟ قال: ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ أوّاب على وزن فعّال، صيغة مبالغة اسم الفاعل، أي كثير الأَوْبة إلى الله، الإنسان أحياناً يقول لك: بالشهر صلِّ صلاة مُتْقنة، من سنتين بكيت مرة، وهناك إنسان يبكي بالأسبوع مرات عديدة، وإنسان يبكي باليوم مرات عديدة، فكلما كَثُرت إنابتك إلى الله علا مقامك عند الله، وكلما كَثُر خشوعك في صلاتك ارتقيت مرتبة هذه العبادة، فهذا النبي الكريم سليمان الحكيم: ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ .

 

سيدنا سليمان شغله العمل الصالح عن عبادة ربه:


هنا المشكلة من نوع آخر، قال: 

﴿ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) ﴾

[ سورة ص  ]

الصافنات جمع صافنة وهي الخيل إذا وقفت اعتمدت في وقفتها على رجل واحدة وتركت الأخرى سائبة، هذه وقفة تقفها الخيل أحياناً، والذين يحبون الخيل ولهم مِراس، ولهم خبرات، منظر الخيل وهي تقف هذه الوقفة تثني رجلها اليسرى وتعتمد على يدها اليمنى، فهذه الوقفة سميّت في القرآن: الصافنات، إذ عُرِض عليه بالعشي أي قبيل غروب الشمس الصافنات الجياد: ﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ﴾ الجيّاد من الجودة في الركض واقتحام الأهوال، هذا النبي الكريم شغله العمل الصالح، وخدمة الخلق، وتدريب الخيل استعداداً للجهاد في سبيل الله، ونشر الحق، أعمال جليلة، ما من عمل أعظم عند الله من أن تنشر دين الله، ما من عمل أعظم عند الله من أن تهدي الخلائق إلى الله، ما من عمل أعظم عند الله من أن تهيئ الأسباب لنشر الحق في الخافِقين، فهذا النبي الكريم كان يُمَرِّن الجياد لتستعد لمواجهة الحروب القادمة، فيبدو أن انهماكه في تدريب الجياد، وانهماكه في تضميرها، وانهماكه في هذا العمل الجليل؛ عمل تهيئة أسباب الجهاد، هذا العمل جعله كما قال بعض المفسرين: جعل صلاة العصر تفوته حتى توارت بالحجاب، ما التي توارت بالحجاب؟ الشمس، شُبهت الشمس بامرأة ثم غابت عن الأنظار لأنها تحجبت، وهذه صورة بلاغية في القرآن الكريم: 

﴿ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)﴾

[ سورة ص ]

أحياناً الإنسان يقول لك: البحر أكل الشمس، كيف أكلها؟ شُبِّه البحر بإنسان والشمس قرص فأكلها عند الغياب، هذه صورة. 

فهذا النبي الكريم شغله العمل الصالح عن عبادة ربه، والده شغلته عبادته عن العمل الصالح، هذا شغله العمل الصالح عن عبادة ربه حتى توارت بالحجاب: ﴿فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ وهذا واقع، أحياناً تلتقي بأخ كريم، والناجحون في حياتهم وفي دعوتهم يقعون في هذا المطب، من عمل إلى عمل، من لقاء إلى لقاء، من كلمة إلى كلمة، من خطبة إلى خطبة، من جمع أموال لأيتام، لأرامل، مواساة، من الصباح وحتى المساء تضعف عبادته، يضعف ذكره، يضعف إقباله على الله عز وجل، تصبح أعماله الصالحة الجليلة على حساب عباداته المفيدة، هذا الإنسان يصح أن يقرأ هذه القصة، قصة سيدنا سليمان الحكيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.

 

مثال عن كذب الروايات الإسرائيلية التي ليست مقبولة ولا أصل لها:


﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ *فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ بعضهم فسّر الخير بأنه الخيل، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: عن ابن عمر رضي الله عنهما:

(( الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة. ))

[ صحيح البخاري ]

أي إما أنه أحبّ الخيل لا لذاتها بل لأنها مطية المجاهدين، أو انشغل في تدريبها وتضميرها تهيئة لقتال الكفار والمشركين، على كل انشغل بالعمل الصالح الجليل عن عبادة ربه الجليل، أراد أن يُكَفِّر عن ذنبه، كلكم يعلم أن في أكثر التفاسير روايات إسرائيلية ما أنزل الله بها من سلطان، من هذه الروايات أن هذا النبي الكريم حينما شعر أنه انشغل بهذا العمل الجليل عن صلاة العصر قال: 

﴿ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)﴾

[ سورة ص ]

قطع أرجلها ورقابها انتقاماً منها لأنها شغلته عن صلاته، قرأت أقوالاً عديدة لكبار المفسرين يُنكرون هذه الروايات، ويقولون: لا أصل لها، وإنها من كذب الروايات الإسرائيلية، وأنه لا ينبغي أن تتسرب تلك الروايات التي رواها بنو إسرائيل عن أنبيائهم إلى كتب التفاسير، لأن نبياً عظيماً لا يُعقل أن ينتقم من حيوان أعجم لا ذنب له لتقصير وقع به، ولأن نبياً عظيماً لا يمكن أن يُتْلف المال، هذه الخيل مال وفي ذبحها تقطيع أرجلها ورؤوسها هذا إتلاف للمال، وإتلاف المال حرام في الإسلام وفي كل الأديان، فهذه القصص إن سمعتموها أو قرأتموها هذه قصص ليست مقبولة، ولا أصل لها إلا من كتب بني إسرائيل.

 

بعض ما قاله كبار المفسرين حول هذه القصة:


لكنّ مفسرين عديدين أمثال الزمخشري وغيره قالوا: إنّ هذا النبي الكريم حينما رأى نفسه قد ضيَّع صلاة العصر من أجل هذا العمل الجليل لقد أتعبها وشغلته عن طاعة الله، فقال: ﴿رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ﴾ أي مسح لها أعناقها من شدة التعب، ومسح لها سوقها تكريماً لها، ومواساة لها، وقد سمعت من أكثر من خبير بالخيل أن الخيل إذا ركضت، ومسح لها صاحبها عنقها وأرجلها هذا إكرام لها، ومواساة لها، هذا ما قاله كبار المفسرين حول هذه القصة: ﴿رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ﴾ أي أجهدها فواساها، أجهدها فمسح عرقها.

﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)﴾

[ سورة ص ]

كما أن الله سبحانه وتعالى يعلم أن في نفس هذا النبي رغبة في العبادة يُرَجحها على خدمة الخلق، فأرسل له الملكين أو الرجلين ليُمْتحن بهما، كذلك هذا النبي يعلم الله عز وجل وهو العليم الحكيم أن في نفس هذا النبي الكريم رغبة في العمل الصالح تزيد عن رغبته في أداء عباداته لذلك فُتِن بهذه الطريقة.

 

إذا نظرنا إلى مقام النبوة يمكن أن تكون سيئات المقربين حسنات الأبرار:


أما كلمة: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ﴾ فهذه الآية حيرت المفسرين، لاشك أنه في القرآن الكريم آيات قليلة من المناسب أن نَكِل تفسيرها إلى الله، هذا لا يمنع أن نقول: الله أعلم بمراده من هذه، أما ما ترويه بعض الكتب من أن هذا النبي الكريم ضيّع خاتم الملك، وجاء شيطان فأخذ هذا الخاتم، وتمثّل شخصيته، وضاعت منه الخلافة والملك مدة طويلة، أيضاً هذه قصة ساقطة لا تقف على قدمين، وليست مقبولة إطلاقاً. 

إلا أن بعضهم قال: حينما شعر أنه قصّر في حقّ نفسه مع الله، إن صحّ أن الكرسي عِلْم، كان الجسد الذي أُلْقي على كرسيه أي حجاباً بينه وبين الله عز وجل، هذه هي الفتنة، فإذا أردنا أن نُوَسع هذا المعنى القضية سهلة جداً، الإنسان حينما يخطئ يشعر أنه محجوب، حينما يخطئ يشعر أن الطريق إلى الله ليس سالكاً، حينما يُخطئ يقف إلى الصلاة فلا يشعر أن له على الله إقبالاً، يشعر بالخجل، والخطأ نسبيّ، هذه كلمة دقيقة جداً، أي الإنسان العادي إذا صلى، وغض بصره، وحرر دخله، وأحسن إنفاق ماله، يشعر أنه في الأوج، لكن كلما ارتقت مرتبة هذه العبادة ازدادت حساسيته، وازداد حسابه. 

مثلاً حينما يقرأ طالب في الصف الرابع نصاً أدبياً، ويخطئ عشرة أخطاء، قد نَعُد قراءته جيدة، نص غير مشكول وهو في الصف الرابع، فلا نوقفه إلا عند الغلطة الكبيرة إذا رفع المفعول به نقول له: قف هذه غلط، أما الحركات الداخلية ضبط عين الفعل فهذه الأخطاء لا نعدها عليه لأنه في مستوى متدنٍ، أما إذا كان في الصف الثامن أو التاسع نحاسبه على بعض حركات الكلمات الداخلية، فإذا أصبح في صفّ متقدم في المرحلة الثانوية نُحَاسبه على كل الأخطاء، أما إذا كان طالب أدب عربي في الجامعة فنحاسبه على ضَعف العبارة، نقول له: هذه الكلمة ليست مناسبة الأَوْلى أن تقول كذا، وهذا الحرف لا يأتي بعد هذه الكلمة، كلمة أعجب بــ لا من، كلمة دعا إلى لا دعا لي، فكلما ارتقى مستوى الطالب اتسعت الدائرة التي يُحَاسب بها، فإذا نظرنا إلى مقام النبوة يمكن أن تكون سيئات المقربين حسنات الأبرار، مثلاً عمل يرتكبه نبي فيُعَاتب عليه ويرتكبه مؤمن فيثاب عليه، الأمر دقيق جداً، الآن الكلام دقيق لأنه متعلق بنبيين عظيمين، فإخلاصٌ ما بعده إخلاصٌ، إنابة ما بعدها إنابة، حبّ ما بعده حبّ، شوق ما بعده شوق، بذل وتضحية إلى أقصى درجة، لكن حينما رجّح داود عليه السلام كفة العبادة على كفة العمل الصالح ترك الأَوْلى فعاتبه الله عز وجل، وحينما رجحت كفة العمل الصالح عند النبي سليمان عليه السلام على كفة العبادة ترك الأوْلى فعاتبه الله عز وجل.

 

في الإسلام نواحٍ علمية ونواحٍ انفعالية ونواحٍ سلوكية:


هاتان القصتان جعلهما الله قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، من أجل أن يَتَخذ المؤمنون هاتين القصتين نبراساً لهم في حياتهم، فلا ينشغلوا بالعمل الصالح عن عبادة ربهم، وقد ذكرت لكم في درس سابق أن أروع كلمة سمعتها في هذا المجال من أصحاب النبي عليهم رضوان الله قول سيدنا عمر، لما جاءه رسول أذربيجان ليلاً في منتصف الليل، وكره هذا الرسول أن يطرق باب الأمير في هذه الساعة المتأخرة من الليل، ذهب إلى المسجد فرأى رجلاً يصلي، ويناجي ربه، ويقول: ربي هل قبلت توبتي فأهنئ نفسي أم رددتها فأعزِّيها؟ ما رأى شكله، فقال له: مَن أنت يرحمك الله؟ قال: أنا عمر، قال: يا سبحان الله! يا أمير المؤمنين ألا تنام الليل؟ الساعة الواحدة الآن! فقال عمر رضي الله عنه: إني إن نمت ليلي كله أضعت نفسي أمام ربي، وإن نمت نهاري أضعت رعيتي، أي رعيتك لها عندك حق، ونفسك لها عندك حق، وهذا ما عُنِي بقول النبي عليه الصلاة والسلام: "إن لله عملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وإن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل" ، لليل أعماله وللنهار أعماله، للصلاة طعمها وللعمل الصالح طعمه، فإذا اكتفيت بالصلاة ولم تعمل صالحاً أتيت يوم القيامة مفلساً، وإن اكتفيت بالعمل الصالح ولم تُتْقن صلاتك جفّ قلبك وانعكس هذا على عملك، تماماً كشحن هذا البطارية، إن شحنتها بالعبادة أعطتك قوة في الأداء، فإن لم تُشْحن ضَعُفَت قوتها، يصح هذا المثل جيداً، أنت بطارية، العبادة تشحنها، والحركة النشيطة تُظهرها، فإن قصرت في شحنها ضَعُفت حركتها، وإن أجهدتها في الحركة دمرتها، لابدّ من شحنها، ومن تدريبها، لو أنها لا تعمل تتخرب، لابدّ من أن تشحن، ولابدّ من أن تعمل، فالعمل يصونها والشحن يقويها، هكذا.

أي هاتان القصتان متكاملتان، يجب أن نتوازن بين العبادة وبين العمل بشكل أو بآخر، في الإسلام يوجد نواحٍ علمية، وهناك نواحٍ انفعالية، وهناك نواحٍ سلوكية. 

النواحي العلمية: "ما اتّخذ الله ولياً جاهلاً لو اتخذه لعلمه" ، أنت كمؤمن لابدّ من أن تكون عالماً، عقيدتك، إيمانك بالله، بوجوده، بوحدانيته، بكماله، الإيمان بأسمائه الحسنى، بصفاته الفضلى، الإيمان بالأنبياء والرسل والكتب، هذا كله لابدّ منه، هذا الجانب الاعتقادي العلمي الفكري، لكن عندنا جانب آخر الجانب الانفعالي، لابدّ من أن يكون لك قلب يتأثر، ينبض بالحب، ينبض بالشوق إلى الله عز وجل، لابدّ من سلامة قلبك، ولابدّ من كمال قلبك، لابدّ من حال ترقى به، لابدّ من شعور تأنس به، ولابدّ من عمل صالح ترقى به عند الله عز وجل لقول الله عز وجل:

﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)﴾

[  سورة الأنعام ]

 

ثلاثة خطوط يجب على الإنسان أن يتحرك عليها:


إذاً هناك ثلاثة خطوط يجب أن تتحرك عليها جميعاً، خط الإيمان والعقيدة والفكر والحقائق والعلم، وخط الأحوال الطيبة والرقي النفسي، وخط العمل الصالح، التوازن هو المطلوب، ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ﴾ أي حينما آثر العمل الصالح على عبادته شعر بالحجاب، الحجاب أشعره أنه قد فُتِن، وأنت أيها الأخ الكريم بالمناسبة حينما تشعر أنه بينك وبين الله حجاب ابحث عن شيء فعلته لا يرضي الله، هذا الشيء قد يَحجبك عن الله وأنت لا تدري، قال: ﴿ثُمَّ أَنَابَ﴾ المؤمن كثير الإنابة إلى الله عز وجل.

 

النبي سليمان طلب المُلك ليكون له قوة في نشر الحق:


﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)﴾

[ سورة ص ]

اليوم في الخطبة ذكرت لكم أن ربنا عز وجل ضرب للناس: 

﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)﴾

[  سورة الكهف ]

عندنا نبيٌّ أبوه كافر، هناك نبي ابنه كافر، هناك نبي امرأته كافرة، هناك كافر زوجته صدِّيقة، فرعون، وهذا أيضاً من كل مثل، هناك نبي ملِك، هذا درس بليغ، ما هذا الدرس البليغ؟ الدرس البليغ أنه ليس في الأرض كلها عمل إلا ويمكن أن يوظف في الحق، حتى لو كنت ملِكاً يمكن أن تكون في أعلى درجات الإيمان، وفي القرآن قصص أخرى:

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)﴾

[ سورة الكهف ]

المغزى الآخر لهذه القصة أنه لا يمنع إنساناً أن يكون ملكاً من أن يكون في أعلى درجات الإيمان والقرب من الله عز وجل.

والشيء الآخر أن هذا النبي العظيم حينما سأل الله مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده هو قولاً واحداً فوق أن يطلب الملك لذاته، لا يطلب الملك لذاته إلا من أحبّ الدنيا، لكن هذا النبي طلب الملك ليكون قوة له في نشر الحق.

 

بعض من عطاء الله تعالى لسيدنا سليمان عليه السلام:


هناك مستويات عليا في الإيمان قد تطلب المال لا حباً في المال، ولا من أجل المال، من أجل أن يكون هذا المال عوناً للناس على أمر دينهم. 

قد تطلب قوة تُنْصف بها المظلومين، بهذه الطريقة يُحْمل قول النبي الكريم: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ*فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ﴾ أي الريح مُسَخرة لهذا النبي الكريم، بإمكانه أن ينتقل عبرها لمسافات بعيدة جداً في وقت قصير جداً:

﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)﴾

[ سورة ص ]

سيدنا سليمان عُلِّم منطق الطير، وسَخَر الله له الريح، وهذا الذي تسمعونه عن بساط الريح لهذا النبي الكريم يمكن أن يركب مَتْن الريح وينتقل بها إلى مسافات شاسعة. 

تروي الكتب قصة رمزية أن هذا النبي كان عنده رجل ودخل مَلَك الموت، فصار ملك الموت يحدُّ الطرف بهذا الرجل، هذا الرجل خاف، قال له: يا سليمان الحكيم من هذا الذي ينظر إليّ؟ قال: ملك الموت، فاستعاذ به أن ينقله إلى طرف الدنيا الآخر عن طريق الريح، فنقله إلى طرف الدنيا الآخر، وبعد أيام جاءه ملك الموت وقبض روحه هناك، فلما قال سليمان لملك الموت: لماذا فعلت هذا؟ قال: كنت أنظر إليه وأستغرب أنا مأمور بقبض روحه هناك فما الذي جعله عندك؟ الإنسان لابدّ من أن يلقَى أجله مهما احتال عليه. 

وسخر الله له شيئاً آخر: 

﴿ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)﴾

[ سورة ص ]

كلكم يعلم أن الشياطين أوتوا قدرات فائقة، الشيطان أقدر من الإنسان على قطع المسافات الشاسعة، ﴿وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ *وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ﴾ شياطين مقيدون، وشياطين يتحركون.

﴿ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)﴾

[ سورة ص ]

أي إذا الله أدهش، وفوق كل هذا العطاء حرية في التصرف.

 

الانضباط والعمل الصالح يحتاجان إلى معرفة بالله:


﴿فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أنت أحياناً تمنح إنساناً ميزات تقول له: لكن انتبه هذا استخدامه عن طريقي، وهذا يحتاج إلى موافقة مني، وتحريك هذا الشيء يريد أمراً مسبقاً من يومين، فهذا لم يعُد عطاء، قال له: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ – أعط من تشاء- أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ يضاف إلى هذا المعنى أنه لولا أن هذا النبي كان في المستوى اللائق، ومن الحكمة، ومن العلم، ومن الرحمة بحيث أنه لو أُطلقت يده لما فعل إلا الحق، أنت أحياناً يكون عندك ابن بمستوى رفيع جداً من الفهم، والكياسة، والذكاء، والأدب، والورع، والخوف من الله لا تحاسبه، تقول له: يا بني أنا سأسافر افعل ما تشاء، هذا المحل استلمه، بع واشترِ واصرف ما تشاء، وادفع لمن تشاء، كلمة افعل ولا تفعل على مشيئتك هذه شهادة من الله على أن هذا النبي أوتي من الرحمة، والعلم، والعدل، والحكمة، ما لو أطلقت يده ما فعل إلا الحق، هذا معنى هذه الآية: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ*وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ كان قريباً من الله عز وجل، معنى ذلك أن القرب من الله عز وجل هي كل شيء، القرب يحتاج إلى انضباط وإلى عمل صالح، والانضباط والعمل الصالح يحتاجان إلى معرفة بالله، تعرف الله فتستقيم على أمره تُحْسن إلى خلقه تقترب منه تشعر بالسعادة:

﴿ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)﴾

[ سورة ص ]

وفي درس قادم إن شاء الله ننتقل إلى قصة أخرى من قصص القرآن الكريم وهي قصة سيدنا أيوب عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور