وضع داكن
25-04-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة ص - تفسير الآيات 11- 18 صفات المؤمن وصفات الكافر.
  • تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
  • /
  • (038)سورة ص
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.


  الله سبحانه وتعالى يُعزّي النبي عليه الصلاة والسلام ويواسيه ويطمئنه:


أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس الثاني من سورة ص، ومع الآية الثانية عشرة، بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله عز وجل: 

﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)﴾

[ سورة ص ]

الحقيقة أن الله سبحانه وتعالى يُعزّي النبي عليه الصلاة والسلام، معنى يُعزيه بمعنى أنه يطمئنه، بمعنى أنه يؤنسه، فأنت يا محمد لست وحدك المُكذَّبُ، أقوام كثر أتوا قبل قومك وكذَّبوا رسلهم كما كذبك قومك، لست أنت وحدك المُكذَّبْ فالأنبياء الذين جاؤوا قبلك كُذِّبوا كما كُذِّبت. 

الإنسان أحياناً حينما تأتيه مشكلة، وهذه المشكلة متكررة يرتاح، لا لأن هذه المشكلة ليست مشكلة ولكن هذا من سنة الله في خلقه، منذ أن خلق الله الإنسان هناك كفر وإيمان، وبين الكفر والإيمان معركة أزلية أبدية في أي عصر، الناس رجلان مؤمن غرّ كريم، وفاجر لئيم، وبين المؤمن والفاجر معركة مستمرة، أي حدث يفسره المؤمنون تفسيراً نابعاً من إيمانهم، ومن تدينهم، ومن عقيدتهم، والحادث نفسه يفسره الكفار تفسيراً نابعاً من لؤمهم، ومن بعدهم، ومن جفوتهم، ومن حرصهم على الدنيا، فالإنسان يجب ألا يتفاجأ إذا دعا إلى الله وعارضه المعارضون، ما ينبغي أن يُفَاجأ إذا تمسك بأهداب الدين وانتقده المنتقدون، ما ينبغي أن يُصْعق إذا سلك طريق الإيمان، وأقام من حوله من أهل الدنيا حوله النكير، هذا وضع طبيعي جداً، المؤمن الصادق يوطن نفسه على أن الحق والباطل لا يلتقيان، ولا يتهادنان، ولا يمكن للباطل أن يتوافق مع الحق، الحق حقّ والباطل باطل، لكن الحق واحد، والباطل متعدد:

﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)﴾

[ سورة الأنعام ]

 

بين الكفر والإيمان معركة أزلية أبدية في أي عصر:


الخط المستقيم واحد، بين نقطتين لا يمر إلا خط مستقيم، المستقيم الآخر يأتي فوقه تماماً، فالحق واحد، لو جلست مع المؤمنين في شتى العصور، لو أُتيح لك أن تجلس مع مؤمنين من مختلف العصور، من مختلف الأمكنة، من مختلف الأزمنة، من بيئات متنوعة، من مستويات مختلفة، مؤمن غني، مؤمن فقير، مؤمن مثقف ثقافة عالية، مؤمن غير مثقف، مؤمن مدني، مؤمن ريفي، مؤمن من أسرة عريقة النسب، مؤمن من أسرة ضعيفة النسب، الإنسان المؤمن له صفات، وله قيم، وله طباع، وله أخلاق، كلها تصب في حقل الإيمان، بينما الكافر له منطلقات، وله تفكير، وله طريقة في التعامل، وله قيم، وله تصورات، كلها تصب في حقل البعد عن الله عز وجل.

 

ما يجمع أهل الكفر جميعاً أنهم انقطعوا عن الله عز وجل واتبعوا الشهوات:


لذلك هذه الكلمة: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ﴾ في الدرس قبل الماضي:

﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)﴾

[ سورة الصافات ]

هذا قانون ثابت، واليوم: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ﴾ الذين بنوا الأهرامات.

﴿ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ(13)﴾

[ سورة ص ]

ما الذي يجمع بين هؤلاء الأقوام جميعاً؟ أنهم انطلقوا من شهواتهم، حينما انطلقوا من شهواتهم كذبوا بالحق، لأن الحق يحدّ من شهواتهم، كذبوا الحق واتبعوا شهواتهم، لذلك ربنا عز وجل قال:

﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)﴾

[  سورة مريم  ]

صفات دقيقة:

﴿ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)﴾

[  سورة الأعراف ]

﴿ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)﴾

[  سورة الدخان ]

في شك من القيم الثابتة، في شك من العقيدة الصحيحة، دائماً في تشكك، يقول لك: 

لَستُ أَدري وَلِماذا     لَستُ أَدري لَستُ أَدري

[ أبو ماضي ]

* * *

سمة الشك من سمات أهل الكفر، سمة الصد عن سبيل الله من سمات أهل الكفر، سمة يبغونها عوجاً من سمات أهل الكفر، فيجمعهم جميعاً أنهم انقطعوا عن الله عز وجل واتبعوا الشهوات: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ﴾ .

 

المؤمنون في كل زمان ومكان لهم صفات واحدة والكفار لهم صفات واحدة:


من لوازم هذا الاتجاه: ﴿فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً﴾ المصائب، والمحن، والآلام، والكوارث الطبيعية، لهذا يقول الله عز وجل:

﴿ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)﴾

[  سورة الإسراء ]

كأن الله عز وجل يبين أن كل هؤلاء الأقوام انطلقوا من منطلق واحد، انقطعوا عن الله عز وجل، وانقطاعهم عن الله عز وجل جعلهم يتبعون الشهوات، أو اتباعهم الشهوات جعلهم ينقطعون عن الله عز وجل، إما أن تجعل اتباع الشهوات سبباً وترك الصلاة نتيجة، أو أن تجعل ترك الصلاة سبباً واتباع الشهوات نتيجة، أو أن تقول: هناك علاقة ترابطية بين اتباع الشهوات وبين ترك الصلوات، هؤلاء الأقوام كلهم جمعهم الكفر، وقد ورد: "ملة الكفر واحدة" ، وأنت إذا التقيتَ بكافر، الكافر هو الكافر في تفكيره، في ماديته، في أنانيته، في تفسيراته الأرضية، في كبره، في استعلائه، الصفات مشتركة، أي المؤمنون في شتى الأقطار وفي كل زمان ومكان لهم صفات واحدة، والكفار لهم صفات واحدة، أي أن الإنسان إما أن يتصل بالله عز وجل، بهذا الاتصال تصطبغ نفسه بالكمال فهو منصف، فهو متواضع، فهو حليم، فهو غيور، فهو رحيم، فهو كريم، الصفات الخُلُقية كلها نابعة من الله عز وجل، وقد ورد:"مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى، فإذا أحبّ الله عبداً منحه خلقاً حسناً" ، إنسان موصول ومع هذه الصلة انضباط شرعي، ومع الانضباط الشرعي يوجد إحسان للخلق، ومع الإحسان يوجد سلامة من الله عز وجل وسعادة في الدنيا والآخرة، كلام مختصر مفيد؛ اتصال بالله عز وجل وقبل الاتصال معرفة، تعرفه فتتصل به فتنضبط بأمره ونهيه فتحسن إلى خلقه فتَسلم في الدنيا وتسعد في الدنيا والآخرة، أو لم تعرف الله عز وجل إذاً أنت لست موصولاً به، وحينما لا تتصل بالله عز وجل هناك الشهوات، قوى قوية جداً، تندفع إلى إرواء الشهوات، طبعاً فيما يصح وما لا يصح، فيما يجوز وما لا يجوز، الاندفاع في إرواء الشهوات يأتي إلى العدوان، ينتهي بالعدوان، والعدوان إساءة، ومع الإساءة يوجد عقاب، ومع العقاب يوجد ألم، فالكلام واضح كالشمس، معرفة اتصال، انضباط إحسان، سلامة وسعادة، جهل انقطاع، عدم انضباط، شهوات، طغيان، شقاء في الدنيا وشقاء في الآخرة.

 

معنى الأحزاب:


هذا الجمع: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ﴾ أصحاب الأيكة أي أصحاب البساتين، ما معنى أولئك الأحزاب؟ أي هؤلاء الأقوام الأقوياء الذين يملؤون السمع والبصر، في كل مجتمع بشري هناك دول قوية جداً، مرهوبة الجانب، معها سلاح نووي، مشيئتها نافذة في العالم كله، سفيرها محترم جداً لأنه يمثل دولة عظمى، قال: ﴿أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ﴾ هؤلاء الأقوياء الذين كفروا، وانقطعوا، وأساؤوا دمرناهم، فأي قوم آخرون إذا كفروا كفرهم، وانحرفوا انحرافهم، وتكبروا تكبرهم لابدّ من أن يَلْقَوا المصير نفسه. 

معنى أولئك الأحزاب: أي هؤلاء الذين كانوا ملء السمع والبصر، هؤلاء الذين كانوا أسياد الدنيا، هؤلاء الذين كانوا مسيطرين، هؤلاء الذين كانت كلمتهم نافذة في كل بقاع الأرض، هؤلاء دمرناهم، ﴿أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ﴾ أي كانوا متحزبين، يجتمعون، يخططون، يتآمرون على الضعفاء، ينهبون الثروات، يأخذون الغلات، يسيطرون على أسماع الناس، ينقلون الأخبار التي ترضيهم، يضعون في التعتيم الأخبار التي تزعجهم، هؤلاء المسيطرون، أولئك الأحزاب دمرناهم، وأهلكناهم، وجعلناهم أحاديث.

 

العقاب لا للتكذيب بل للانحراف:


﴿ إنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)﴾

[ سورة ص ]

أي ما منهم واحد إلا وقد كَذب الرسل، وحينما كَذب الرسل استحق العقاب من الله عز وجل، معنى ذلك أن التكذيب يتبعه الانحراف، والانحراف يتبعه العقاب، فالعقاب لا للتكذيب بل للانحراف، الإنسان إذا كذب نبي الله عز وجل، ومن لوازم تكذيب رسول الله عليه الصلاة والسلام عدم اتباع منهجه، والإنسان إذا لم يتبع منهج النبي ولا اتبع منهج القرآن سوف يأخذ ما ليس له، ويعتدي على الآخرين، لذلك الله عز وجل يعاقبه، ﴿إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ﴾ أي الإنسان ألا يستطيع أن يستقرئ من التاريخ أن كل قوم كذبوا رسلهم واتبعوا شهواتهم وعتوا وطغوا وبغوا حاسبهم الله حساباً عسيراً؟ ربنا عز وجل قال:

﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)﴾

[ سورة الأنعام ]

الأحداث وحدها تنبئك بالأخبار، ممكن أن تستخلص حقائق من أحداث متعددة، والإنسان مع نفسه إذا أراد أن يستقرئ حوادث من أقوام متباينة شيء، وإذا أراد أن يستقرئ الحوادث من قوم واحد شيء، وبإمكانه أن يستقرئ الحوادث من حياته الشخصية شيء آخر، أي أنت لا تبتعد كما يقولون، كلما أقبلت على الله عز وجل شعرت بالتوفيق، شعرت بالسعادة، كلما ابتعدت عن الله عز وجل شعرت بالقلق، شعرت بالتعسير، فالتيسير والتعسير، الإقبال والإدبار، التوفيق وعدم التوفيق، هذه مشاعر متناقضة، فأنت ألا تستطيع أن تستنبط من حوادثك اليومية أنك اليوم صليت الفجر في جماعة، وقرأت القرآن، وأقبلت على الله عز وجل، إذاً يومك يوم آخر فيه التوفيق، فيه الراحة، فيه الطمأنينة، فيه الاستقرار، فيه قوة الحجة، فيه سداد الرأي، فيه الحكمة البالغة، وحينما فاتتك صلاة الفجر في جماعة خرجت من بيتك لا تلوي على شيء، في ضياع، في قلق، في حمق أحياناً، ألا يمكن أن تستقرئ حينما أكلت المال الحلال بارك الله لك فيه، وحينما أكل الإنسان مالاً حراماً أتلفه الله، حينما اعتززت بالله أيدك الله ونصرك، حينما تعتز بغير الله يقهرك ويخذلك. 

 

صفات الكفر:


إذاً استقرئ أنت، يمكن أن تستقرئ الحقائق من الحوادث التي تجري معك شخصياً، أنا كنت أعبر عن هذا بالتعبير الشائع: عندما الإنسان يفهم على الله عز وجل يقطع نصف الطريق، أي لماذا فعل الله بك كذا؟ لأنك فعلت كذا، لماذا وُفِّقتَ؟ لأن نيتك كانت طيبة، لماذا جاء التعسير؟ لهذه المخالفة، لماذا نشب خلاف في البيت؟ لأن البصر قد أُطْلق في الحرام، لماذا سعدت في البيت؟ لأن هناك غضاً للبصر، ألا يمكن أن تستقرئ بين كل موقف تقفه وبين النتائج قاعدة؟ هذا هو المؤمن، فكره جوّال دائماً، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:

أوصاني الله بتسع أوصيكم بها: أوصاني بالإخلاص في السر والعلانية، والعدل في الرضا و الغضب، والقصد في الفقر والغنى، وأن أعطي من حرمني، و أعفو عمن ظلمني، وأن يكون نطقي ذكراً، وصمتي فكراً، ونظري عبرة.

مشكاة المصابيح للتبريزي بألفاظ قريبة مما ذكر، وقال: رواه رزين.ويؤيده ما جاء في مسند الإمام أحمد وصححه الأرناؤوط

﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ﴾ يجمعهم جميعاً الصد عن سبيل الله، يجمعهم التكذيب برسالات الأنبياء، ويجمعهم الصّد عن سبيل الله، يجمعهم اتباع الشهوات، يجمعهم يبغونها عوجاً، يجمعهم بل هم في شك، يجمعهم يلعبون، الشك واللعب، الصّد عن سبيل الله، وابتغاء الأمور بشكل أعوج غير سليم هذا كله من صفات الكفر، ﴿إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ﴾ .

 

آيات قرآنية تؤكد أن الإنسان إذا كذب سوف يجد العقاب:


أما هؤلاء الذين يكذبون كما كذب الذين من قبلهم، هؤلاء الذين ينحرفون كما انحرف الذين من قبلهم، هؤلاء الذين يصدون عن سبيل الله كما صدّ آخرون عن سبيل الله من قبلهم، هذا ماذا ينتظرهم؟ ينتظرهم العذاب أيضاً:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)﴾

[ سورة الأنفال ]

﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)﴾

[ سورة القصص  ]

ألا تستنبطون من كل هذه الآيات، ومن كل هذه الحوادث حقائق أن الإنسان إذا كذب سوف يجد العقاب، مهما كان قوياً، مهما كان جباراً، مهما كان عنيداً، مهما كان متعجرفاً، العجرفة والصَّلَف والكبر والقوة أولئك الأحزاب وقد دمرهم الله عز وجل: ﴿إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ﴾ .

 

دلائل ساقها الله تعالى تبين أن الأقوياء في الأرض مهما علا شأنهم يدمرهم الله تعالى:


﴿ وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ(15)﴾

[ سورة ص ]

 مثلاً: لو أن هناك رافعة على أساس الجذب المغناطيسي الكهربائي، سطح من الحديد محاط بوشيعة فيها تيار كهربائي، هذه الرافعة يمكن أن تحمل عشرات الأطنان من الحديد، إذا أراد العامل على هذه الرافعة أن يُسْقِط الأحمال كلها ما عليه إلا أن يضغط زراً أو مفتاحاً يقطع التيار عن هذه الرافعة، فإذا كل هذه الأحمال تقع فجأة. 

من باب التقريب الله عز وجل، الأقوياء في الأرض مهما علا شأنهم، هؤلاء الأقوياء في المشرق كيف تفككت عراهم؟ وكيف انهارت أبنيتهم؟ وكيف أصبحوا شذرَ مذر؟ وكيف أصبحوا مضغة في الأفواه؟ وكيف تداعت هذه القلاع التي ما يظن أن تتداعى؟ هذا من الدلائل التي ساقها الله عز وجل، قال: ﴿وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ﴾ .

 

من معاني كلمة فواق:

 

1 ـ الإنسان دائماً بقبضة الله عز وجل:

﴿وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ﴾ معنى فواق: أي الإنسان إذا أراد أن يدوس نملة فرضاً يحتاج ضربتين أم ضربة واحدة؟ نملة صغيرة مع أن قتلها حرام بالمناسبة، لكن إنسان جاهل لو أراد أن يدوس نملة ليقتلها، وهو رجل وزنه حوالي ثمانين كيلو غرام، طويل عريض، نملة تمشي صغيرة، كم ضربة تحتاج كي تموت؟ واحدة، لكن هناك حيوان يحتاج إلى ضربتين أو ثلاث، يقول لك: أهلكني حتى قتلته، أما نملة، صرصور صغير، ﴿مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ﴾ ..فهؤلاء الأقوام مهما علا شأنهم، مهما قوي عودهم، مهما علا ذكرهم: ﴿وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ﴾ أي لا تحتاج إلى صيحة ثانية، لا تحتاج إلى إعادة، الفواق هنا بمعنى الإعادة، أي على الله عز وجل كن فيكون، زل فيزول، كن، زل، كلمة واحدة:

(( عن أبي ذر الغفاري عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. وفي روايةٍ: إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا. ))

[ صحيح مسلم ]

على الله الأمر سهل جداً، الإنسان قد يطغى، قد يتكبر، لكن هو في قبضة الله عز وجل، قلبه بيد الله، يقول لك: سكتة دماغية، أحياناً وفاة بلا سبب، الإنسان ضعيف جداً، حياته متوقفة على عمل عشرات الأجهزة، وعشرات الغدد، وعشرات المراكز العصبية، وعشرات الدسامات، وعشرات المراكز المتوازنة، فالإنسان المعجزة أن يكون سليماً. 

2 ـ ربنا عز وجل يأخذ الكفار بضربة واحدة ليس في أثنائها راحة إلى أن يقضي عليهم:

﴿وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ﴾ المعنى الآخر لفواق، العيادة فواق ناقة، أي لا تكن طويلة، بل قصيرة، فواق الناقة أي إذا حلبت الناقة وتركتها فترة يسيرة كي تحلبها ثانية، هذه الفترة اليسيرة هي الفواق، أي مدة ربع ساعة أو ثلث ساعة أحياناً تتمكن أن تحلبها مرة ثانية من أجل أن تطعم وليدها، فالفواق فترة بسيطة، أي لا يوجد راحة طويلة بين حلبتين بل راحة قصيرة، حتى هذه الراحة القصيرة لا تكون حينما يأخذ الله الكفار. 

أحياناً الإنسان ضربة وتريحه ضربة، أما عندما ربنا عز وجل يأخذ هؤلاء الكفار ضربة واحدة ليس في أثنائها راحة أبداً إلى أن يقضي عليهم. 

المعنى الأقرب للمنطق: ما لها من فواق أي ما لها من إعادة، صيحة واحدة، كلمة واحدة للتأكيد، ضربة واحدة ما لها من فواق، ومع كل هذا فالكفار دائماً يستهزئون. 

 

الكافر يخاف بعينه لأنه عطل فكره أما الإنسان العاقل فيخاف بفكره وعقله:


ذكرت لكم في الدرس الماضي أن الكافر يخاف بعينه، لأنه عطّل فكره إذاً يخاف بعينه، أما الإنسان العاقل فيخاف بفكره وعقله، الإنسان العاقل يتوقع الشيء قبل مجيئه، لكن الإنسان الجاهل، المعنى المناسب: ﴿وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ﴾ أي لا تحتاج إلى إعادة، هذا هو واقع الإنسان، الزلازل مثلاً تجد عمارة طويلة عريضة خلال تسع وخمسين ثانية أصبحت كتلة من الرمل أو من الإسمنت المطحون، بأشخاصها، برجالها، بنسائها، بأطفالها، بتزييناتها، بثرياتها، بأثاث البيوت، حتى بالأموال، في زلزال مصر في بعض العمارات يسكنها طبقة غنية جداً، وجدوا بين الأنقاض حقائب فيها أموال طائلة، فيها حلي، فيها ألماس، إنسان جالس ساكن فجأة وجد نفسه تحت الأنقاض. 

مرة باخرة غرقت في البحر الأحمر، إنسان راكب درجة أولى في غرفة خاصة بالباخرة فجأة وجد نفسه في أعماق البحر، الإنسان ضعيف يركب طائرة يقول لك: وقد مات جميع ركابها؛ بخبر من ثلاث كلمات، ثلاثمئة وخمسون راكباً وقد مات جميع ركابها، يحترقون، ولا يبقى لهم أثر إطلاقاً إلا الصندوق الأسود الذي فيه تسجيلات آخر مكالمة، باخرة تجدها في أعماق المحيط أصبحت، فيها خمسة آلاف أو ستة، القصة معروفة عندكم باخرة وهي التيتانيك قيل عنها إنها لا تغرق، وقال بعض الحمقى: إن القدر لا يستطيع أن يغرقها، لأنها مصممة تصميماً عجيباً، من أشهر البواخر في أول رحلة لها من أوروبا إلى أمريكا، كان على ظهرها أثرياء العالم، أثاثها ومسابحها وملاهيها الليلية ونواديها الليلية والرقص والموسيقا والمطاعم والغرف والأجنحة، كل الحضارة في هذه الباخرة، وفي أول رحلة لها اصطدمت بجبل ثلجي شقّها شطرين فغاصت، هذا ردّ السماء للأرض، فالإنسان أحياناً يركب باخرة أو طائرة أو سيارة، أحياناً ينهار منزل، ﴿مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ﴾..الإنسان ضعيف، ما انهار بيته ولكن مرض، الله عنده آلاف الأدوية، أمراض.

 

العاقل هو الذي يفكر في منهج الله حتى إذا جاء العذاب شعر أنه في مأمن ومنجاة:


ومع كل هذا هؤلاء قالوا: 

﴿ وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ(16)﴾

[ سورة ص ]

 القِط هنا النصيب، أي عجل نصيبنا من العذاب، أين العذاب؟ هذا قول استهزاء: ﴿عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ﴾ متى يا سيدنا دع العذاب يأتي ونخلص لسنا مرتاحين، كلام، حينما يأتي العذاب تراه يصيح كالكلاب، فالعاقل هو الذي يفكر، ويعقل، ويبحث عن منهج الله عز وجل، ويطبق أمر الله عز وجل، ويتصل بالله عز وجل، حتى إذا ما جاء العذاب شعر أنه في مأمن ومنجاة.

 

صبر النبي على قول المكذبين وعلى تصديهم للحق بأمر من الله:


﴿ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ(17)﴾

[ سورة ص ]

الله عز وجل يأمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يصبر على قول هؤلاء المكذبين، على أقوالهم، على تخرصاتهم، على استهزائهم، على صدهم للحق: ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ .

 أيها الأخوة الكرام؛ قبل أن نمضي في الحديث عن قصة هذا النبي الكريم، وفي الحديث عن نبي يأتي بعده سيدنا سليمان، هاتان القصتان تتمحوران حول محور واحد، ما هو هذا المحور؟ المؤمن بشكل عام له نشاطان: نشاط في العبادة، ونشاط في العمل الصالح.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور