وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 09 - سورة التوبة - تفسير الآية 6 ، الرفق والمعاملة الحسنة للطرف الآخر حتى ولو كان كافراً.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد،ٍ وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .


كلّ البشر من دون استثناء مطلوبون للهداية و لرحمة الله :


 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس التاسع من دروس سورة التوبة، ومع الآية السادسة وهي قوله تعالى:

﴿  وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ(6)﴾

[ سورة التوبة ]

 أيها الإخوة الكرام، الحقيقة الأولى: أن كل البشر من دون استثناء مطلوبون للهداية، مطلوبون لرحمة الله، يدعوهم الله إلى الإيمان من دون استثناء، هناك توهمات أساسها الجهل؛ أن الله خلق لجهنم أناساً، وخلق للجنة أناساً، كل الذين خلقهم الله -عز وجل- خلقهم لجنة عرضها السماوات والأرض، والدليل:

﴿ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(119) ﴾

[ سورة هود ]

 خلقنا ربنا ليرحمنا، خلقنا لنعرفه، خلقنا لنهتدي إليه، خلقنا ليسعدنا، خلقنا لجنة عرضها السماوات والأرض. 


حسن الظن بالله ثمن دخول الجنة :


 أيها الإخوة، أنت حينما توقن أنك مخلوق للجنة من خلال هذه الآية:

﴿  وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى(1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى(2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى(3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى(4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7)﴾

[ سورة الليل ]

 اليسرى هي الجنة.

 أيها الإخوة، ينبغي أن تنطلق في أصل عقيدتك من أن الله -سبحانه وتعالى- خلقنا ليسعدنا، وخلقنا لجنة عرضها السماوات والأرض، وما الحياة الدنيا إلا تأهيل للجنة، ما الحياة الدنيا إلا مكان ندفع فيه ثمن الجنة، ما الحياة الدنيا إلا إعداد لدخول الجنة، فلذلك حسن الظن بالله ثمن الجنة، هناك كلمات يقولها عوام الناس، صدقوا ولا أبالغ هي الكفر بعينه، يقول: سبحان الله! الله خلقنا للشقاء، من قال لك ذلك؟ خلقنا ليسعدنا، خلقنا لنعرفه.

 لكن: تصور مدرسة من أعلى مستوى، بناءً، وأساساً، وأدوات، ومدرسين، إنما أُنشِئت كي تخرِّج قادة للأمة، لو أن أحد الطلاب قصّر في أداء واجباته، واستحق أن يُؤدَّب كي يسير على الطريق الصحيح، فقال هذا الطالب: هذه المدرسة أُنشِئت كي تعاقبنا، هذا هو الجهل بعينه. 


الله عز وجل خلق الإنسان ليسعده في الدنيا و الآخرة :


 قد يستحق الإنسان التأديب من الله، قد يستحق معالجة حقيقية، هادفة، فيتوهم أن الله خلقنا للعذاب، الله -عز وجل- خلقنا ليسعدنا ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ هؤلاء الكفار الذين كفروا، هؤلاء المشركون الذين أشركوا، هم مطلوبون لرحمة الله، مطلوبون لهدايته، مطلوبون كي يتعرفوا إليه، كل الخلق مطلوبون للهداية، والدليل: والحديث عن المشركين، والحديث عن براءة من الله -عز وجل- :

﴿  بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(1)﴾

[ سورة التوبة ]

 والحديث عن انحراف هؤلاء، وعن كفر هؤلاء، وعن إشراك هؤلاء، وعن ضلال هؤلاء، ومن ضمن هذا الحديث:

﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾


الله عز وجل خلق الإنسان لجنتين؛ جنة في الدنيا و جنة في الآخرة :


 اِنفِ من كل تصوراتك أن الله خلقنا ليعذبنا، أو أن الله -سبحانه وتعالى- خلق للجنة أناساً، وخلق للنار أناساً، هذا شيء لا يقبله عاقل، خلقك وقدر عليك أن تعصيه فإذا نفّذت إرادته وعصيته يجعلك في جهنم إلى أبد الآبدين؟ هذه رحمة الله؟! هو ينتظرك، ينتظر لفتةً منك.

(( إِذَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا ، وَإِذَا أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ أُهَرْوِلُ ))

[  البزار عن سلمان الفارسي ]

 هو ينتظرك يروى أن الله تعالى قال لسيدنا داوود :

يا داود لو يعلم المعرضون انتظاري لهم، وشوقي إلى ترك معاصيهم ، لتقطعت أوصالهم من حبي ، ولماتوا شوقاً إليّ ، هذه إرادتي في المعرضين فكيف بالمؤمنين ؟

 ينبغي أن نعرف رحمة الله، خلقنا ليرحمنا، خلقنا ليسعدنا، خلقنا لجنتين، جنة في الدنيا، وجنة في الآخرة.

﴿  وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ(46)﴾

[  سورة الرحمن ]

 ما خلقنا ليعذبنا، هذه حقيقة أساسية. 


العقيدة أخطر شيء في حياة الإنسان :


 إخواننا الكرام، إن صحت عقيدة المرء صحّ عمله، وإن فسدت عقيدة المرء انحرف سلوكه، ما من وهم نتوهمه، ما من تصور نتصوره، إلا وله انعكاس في السلوك، فإذا كان التوهم منحرفاً، أو ظالماً، أو بعيداً عن الحقيقة، انعكس شقاء.

 لذلك أقول لكم: أخطر شيء في حياتك عقيدتك، إن صحت صحّ سلوكك، وإن لم تصح انحرف السلوك، فالله -سبحانه وتعالى- يتحدث عن الكفار، وعن كفرهم، وعن المشركين وشركهم، وعن انحرافهم، ولكنه يفتح لهم باب التوبة على مصراعيه إلى يوم القيامة.

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) ﴾

[  سورة الزمر  ]

((  لله أفرح بتوبة عبده من الضال الواجد، والعقيم الوالد، والظمآن الوارد ))

[  ابن عساكر في أماليه عن أبي هريرة ]

 ومن أبلغ ما قيل في هذا المعنى، قصة رمزية رواها النبي -عليه الصلاة والسلام-: رجل ركب ناقته، وعليها طعامه وشرابه، ليقطع بها الصحراء، أدركه التعب، فجلس ليستريح فأخذته سِنة من النوم فأفاق فلم يجد الناقة، ما معنى إنسان بالصحراء لم يجد ناقته وعليها طعامه وشرابه؟ معنى ذلك أنه هالك لا محالة، ميت قطعاً، فأيقن بالهلاك، مشى ثم عاد إلى ما كان، أدركته من شدة البكاء سِنة من النوم، فأفاق فرأى الناقة، فاختل توازنه من شدة فرحه، قال: يا رب أنا ربك وأنت عبدي، يقول الله -عز وجل- برواية النبي الكريم: "لله أفرح بتوبة عبده من هذا البدوي بناقته" .

(( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِن أَحَدِكُمْ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ منه وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فأيِسَ منها، فأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، قدْ أَيِسَ مِن رَاحِلَتِهِ، فَبيْنَا هو كَذلكَ إِذَا هو بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ. ))

[ صحيح مسلم عن أنس بن مالك ]

 هذا موقف الله -عز وجل-، ينتظرنا، يفرح بتوبتنا، يفرح بعودتنا.

في مسند الإمام أحمد عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(( إن الله عز وجل يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة، يبغض الشيخ الزاني والفقير المختال والمكثر البخيل، ويحب ثلاثة رجل كان في كتيبة فكر يحميهم حتى قتل أو يفتح الله عليه، ورجل كان في قوم فأدلجوا فنزلوا من آخر الليل وكان النوم أحب إليهم مما يعدل به فناموا وقام يتلو آياتي ويتملقني، ورجل كان في قوم فأتاهم ورجل يسألهم بقرابة بينهم وبينه فبخلوا عنه وخلف بأعقابهم فأعطاه حيث لا يراه إلا الله ومن أعطاه ))

 وهو حديث صحيح


الشرط و النفي :


 لذلك الله -عز وجل- في أثناء الحديث عن المشركين، وعن الكفار، وعن المنحرفين، في غمرة هذا الحديث يقول الله -عز وجل-:

﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أيها الإخوة، إن: حرف شرطي، معنى الشرط: أن حدثين لا يقع الثاني إلا إذا وقع الأول، هذا المعنى يُستفاد من حرف إن الشرطية، إن تجتهد تنجح، النجاح لا يكون إلا بعد الاجتهاد، لذلك هذا الحرف يدخل على الأفعال: إن استجارك أحد فأجره ﴿وَإِنْ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ﴾ لكن هناك إن أخرى ليست شرطية، بل هي نافية:

﴿ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ ۖ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ ۚ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)﴾

[ سورة المجادلة  ]

 يعني هنا ما ﴿إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ﴾ فإما أن تأتي إن داخلة على الفعل وتفيد الشرط، وإما أن تأتي وبعدها اسم تفيد النفي، هذه حقيقة في علم النحو.

 ولكن هنا في هذه الآية شيء جديد إن شرطية دخلت على الاسم، ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ﴾ ماذا يقول علماء النحو في هذه الصيغة القرآنية الجديدة؟ قال: لابد من أن نقدر فعلاً لهذا الفاعل ﴿أَحَدٌ﴾ فاعل لفعل محذوف، يُقدَّر مما سيأتي بعده، أي نقدر هذه الآية على الشكل التالي: إن استجارك أحد من المشركين ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ﴾ أحد فاعل لفعل محذوف تقديره استجارك. 


استجارة المجير من خصائص الأمة الإسلامية :


 أيها الإخوة، الآية: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ﴾ مشرك، مقاتل، أحياناً مهدور دمه، لمجرد أن يستجير بك ينبغي أن تجيره، لأن إجارته شهامة، والنبي الكريم حينما يقول:

((  خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام  ))

[  أحمد عن أبي هريرة ]

 وفي حديث آخر يخاطب بعض أصحابه:

((  أسلمت على ما أسلفتَ لك من خير  ))

[ أخرجه البخاري ومسلم عن حكيم بن حزام ]

 وحينما قال:

((  إنما بعثت معلماً  ))

[  ابن ماجه عن ابن عمرو ]

((  إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق  ))

[ أخرجه البزار عن أبي هريرة  ]

 في هذه الأحاديث الثلاث إشارة إلى أن الأمة العربية في الجاهلية كانت على بعض القيم الأخلاقية، فقيمة الكرم، والشجاعة، والإجارة من قيم هذه الأمة حتى قبل الإسلام.

 فلذلك استجارة المستجير كانت من خصائص هذه الأمة. 


على المؤمن أن يتأكد من صدق استجارة المستجير :


 الآن قد تعرف من الاستجارة المستجير، وقد تعرف المستجير أولاً، ثم يستجير بك، إما أن نبدأ بالاستجارة، إنسان لا تراه، سمعت صوتاً يقول: أجرني، سمعت الاستجارة قبل أن ترى المستجير، وهناك حالة ثانية: رأيت الإنسان ثم استجار بك.

 لذلك أيها الإخوة، الاستجارة قد تسبق المستجير، وقد يظهر المستجير ثم يستجير، ماذا نقصد بهذا التفصيل؟.

الآية الكريمة: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ﴾ جاء المستجير قبل الاستجارة إشارة إلى أن المؤمن كما وُصف: كيس، فطن، حذر.

 قد تكون الاستجارة خلبية، وقد تكون الاستجارة احتيالاً، وقد تكون الاستجارة مكراً، وقد تكون الاستجارة كسباً للوقت، فالمؤمن ينبغي أن يكون فطِناً، وأن يتأكد من استجارة المستجير، وأنه مستجير حقاً، وليس من باب الاحتيال.

 فلذلك الله -عز وجل- قدم شخص المستجير على استجارته، وما قال وإن استجارك أحد قال:

﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ﴾ تأكد أنه مستجير حقاً، تأكد أنه بريء، تأكد أنه يطلب المعرفة، الاستجارة إما أن تبدأ بالعين عن طريق رؤية شخص المستجير، وإما أن تبدأ بالأذن عن طريق سماع الاستجارة، لذلك المؤمن يتأكد من صدق المستجير وليس من السهل أن يُخدع.

والكلمة الرائعة التي قالها سيدنا عمر: لست بالخِبْ ولا الخِبُ يخدعني ، أي لست من الخبثُ بأن أَخدع، ولا من السذاجة بحيث أُخدع، لا أَخدع، ولا أُخدع، شيء رائع جداً، المؤمن بسيط، طاهر، سليم النفس، متواضع، لكنه ليس بالغبي. 


المؤمن بقدر ما تحبه تجلّه و تحترمه :


 هناك كثير من القصص وأنت دائماً أيها الأخ الكريم لا تُعجب بإنسان بسيط، ساذج، ولا تُعجب بإنسان ذكي خبيث، هناك إنسان ذكي لكنه خبيث، وإنسان بسيط لكنه ساذج، لا يعجبك إلا إنسان بقدر ما تحبه، بقدر ما تحترمه، لكن كما يقول الله دائماً: لله المثل الأعلى:

﴿  تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ(78)﴾

[  سورة الرحمن ]

 بقدر ما تحبه لأنه كريم، بقدر ما تجلّه لأنه عظيم، والمؤمن يتخلق بهذا الخلق، ليس من السذاجة بحيث يحتال الناس عليه، المؤمن: كيس، فطن، حذر، وليس من اللؤم بحيث يقسو على الناس، بقدر ما تحبه تجلّه، بقدر ما تحبه تحترمه، هذا الموقف يحتاجه الأب، هناك أب علاقته مع أولاده علاقة بسيطة، أولاده يكذبون عليه كل يوم، ويصدق كذبهم، وفي جلستهم مع بعضهم بعضاً يسخرون من أبيهم، وهناك أب آخر قاس جداً يرعبهم دائماً، فالأول ليس أباً كاملاً، ولا الثاني أب كامل، الأب الكامل الذي يحبه أولاده وفي الوقت نفسه يجلّونه، أو بقدر ما يحبونه يجلونه، هذا الموقف رائع جداً، الأنبياء يعبدون الله:

﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)﴾

[  سورة الأنبياء ]

 والمؤمن ينبغي أن تحترمه، وتجلّه، سيدنا عمر يقول: لست بالخَبْ، ولا الخَبُ يخدعني، لست من الخبث بحيث أَخدع، ولا من السذاجة بحيث أُخدع، هذا الموقف الكامل.

 فلذلك لو أن إنساناً استجار بك ينبغي أن تتأكد من استجارته، هل هو مستجير حقاً أم هو مخادع؟ هل يطلب المعرفة والأمان أم يطلب المكر والعدوان؟ وفي بعض الأحيان تكون الاستجارة كسباً للوقت ليس غير، وكما قلنا قبل قليل: المؤمن كيّس، فطن، حذر. 


المغزى من القصة الرمزية التالية :


 يعني أنا أذكر قصة رمزية وردت في كتب الأدب، أن صيادَين مرّا بغدير، فيه سمكات ثلاث، كيسة -أي عاقلة- وأكيس منها، وعاجزة –غبية- فرأى الصيادان السمكات الثلاث، كيسة، وأكيس منها، وعاجزة، فتواعدا أن يرجعا، ومعهما شباكهما ليصيدا ما فيه من السمك، فسمعت السمكات قولهما -القصة رمزية- أما أكيسهن، فإنها ارتابت وتخوفت، وقالت: العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها، ثم إنها لم تعرج -أي لم تفعل شيئاً- حتى خرجت من مكان يتصل به الغدير بالنهر، خرجت من هذا المكان فسلمت، ماذا قالت؟ العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها، هذه أكيس السمكات - أعقلهن- أما الأقل عقلاً ، الأقل كياسة وأما الكيّسة فمكثت في مكانها حتى عاد الصيادان، عندها خطة جاهزة، فدخلت لتخرج من حيث خرجت رفيقتها فإذا بالمكان قد سُدّ، فقالت: فرطت وهذه عاقبة التفريط، ثم إن العاقل لا يقنط من منافع الرأي، وقعت في مشكلة، قصرت فوقعت في مشكلة، أما الأولى أكيس السمكات، وهي مرتاحة، في وقت مبكر، قبل أن يرجع الصيادان خرجت من هذا المكان فنجت، الثانية أقل عقلاً، وقعت في مشكلة، لكنها لم تعدم الحيلة، قالت: لكن العاقل لا يقنط من منافع الرأي، ثم إنها تماوتت -تصنعت الموت- فطفت تارةً على ظهرها، وتارةً على بطنها، فظن الصيادان أنها ماتت، فأخذها أحدهما ووضعها على الأرض بين النهر والغدير، فوثبت في النهر فنجت، لكن بعد أن أُحرقت أعصابها، الأقل ذكاء يتحمل أعباء كبيرة جداً، يقصر لكنه يرسم خطة وينجح بعد أن يكون قد أتلف أعصابه.

 وأما العاجزة الثالثة فلم تزل في إدبار وإقبال حتى صيدت، لا يوجد عقل أبداً، كيّسة، وأكيس منها، وعاجزة، الكيّس، أكيس الناس يحتاط للأمور قبل وقوعها، والأقل يحتاط في أثناء وقوعها، والعاجز لا قبل وقوعها، ولا بعد وقوعها.

الآن هناك دول تخطط لعشرين سنة قادمة، وهناك دول تواجه مشكلة تخطط لها هذه أقل، وهناك دول لا تخطط لا قبل المشكلة، ولا بعد المشكلة، دائماً محاطة بمشكلات، وأزمات.


بطولة الإنسان أن يستعد للموت بالاستقامة والتوبة والعمل الصالح :


 فلذلك أيها الإخوة، هذا درس بليغ، النبي قال:

الكيس -العاقل- من دان نفسه ـ ضبطها ـ وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني 

[ أخرجه الحاكم عن شداد بن أوس وهو ضعيف ]

 والله أعرف إنساناً سمعت عنه كان عنده نادي قمار، وهو على فراش الموت، شعر بدنو الأجل، وبالخطأ الكبير الذي عاشه، طلب إنساناً من أهل العلم، لا أعرف من هو، ولا أقرّه على قوله، قال له: ماذا أفعل؟ معه ثمانمئة مليون، قال له: والله لو أنفقتها كلها لا تنجو من عذاب الله، متى انتبه؟ وهو على فراش الموت.

إخواننا الكرم، الموت يأتي بغتةً، والقبر صندوق العمل، فالبطولة لا أن تصدق بالموت أن تستعد له بالاستقامة، بالتوبة، بالعمل الصالح، بتربية الأولاد. 


الاستجارة بداية الهداية :


 على كلٍّ كأن الله -عز وجل- يبين أن فطنة المؤمن كفيلة بمعرفة حال المستجير، وكما قلت قبل قليل: الاستجارة من أخلاق العرب في الجاهلية، كانوا يجيرون المستجير، والاستجارة دليل قوة المؤمنين، دليل شهامتهم، وقد يقع الكافر في أثناء المعركة الطاحنة مع المؤمنين بشك في كفره بل يتطلع إلى الإيمان، لذلك يستجير، الاستجارة أحياناً بداية الهداية، أي وجد الإنسان نفسه في خطأ.

 أذكر لكم قصة سريعة: نُعَيم بن مسعود، هذا كان زعيم قبيلة غطفان، وجاء لمحاربة النبي -عليه الصلاة والسلام-، في الخندق، وهو في خيمته، قلق في الليل، أنقل لكم حواره مع نفسه؛ نعيم بن مسعود، كان زعيم قبيلة غطفان، وجاء ليحارب النبي -عليه الصلاة والسلام-، خاطب نفسه قال: يا نعيم، ما الذي جاء بك إلى هنا؟ لماذا أتيت؟ من أجل أن تقاتل هذا الرجل؟ ـ يقصد النبي الكريم ـ ماذا فعل حتى تقاتله؟ اغتصب مالاً؟ انتهك عِرضاً؟ ماذا فعل؟ أين عقلك يا نعيم؟ أيليق بك أن تقاتل إنساناً رحيماً دعا إلى الله؟ لحظة تفكر صائبة، وقف في خيمته، وتوجه إلى معسكر المسلمين، ودخل إلى معسكرهم، وطلب النبي الكريم -عليه أتمّ الصلاة والتسليم-، ودخل عليه، فالنبي فوجئ به، قال له: نعيم! قال له: نعيم، قال له: ما الذي جاء بك إلينا؟ قال: جئت مسلماً، فبكى النبي، قال: مُرنيِ بما تريد؟ قال له: أنت واحد خذّل عنا، فهو تمّ إسلامه خُفية، هو عند اليهود لا يزال مشركاً، وعند قريش لا يزال مشركاً، فواحد استطاع أن يحدث اليهود بحديث، وقريش بحديث، فاختلفوا، وطلبوا الرهائن، وصدقوا نصيحة نعيم، وانفضوا عن رسول الله، وانتهت هذه المعركة بجهد هذا الإنسان.

 لحظة تفكير، قل لنفسك، لماذا أنت في الدنيا؟ ماذا بعد أن تكون غنياً؟ ماذا بعد المال؟ الموت، ماذا بعد أن تكون قوياً؟ الموت، ماذا بعد أن تستمتع بكل مباهج الدنيا؟ الموت، ما دام الموت نهاية كل حي ماذا أعددت للموت؟.


المستجير إذا آمن له ما للمسلمين وعليه ما عليهم :


 الآن ينبغي أن نستمع إلى المستجير، يطلب المعرفة، يجب أن نحدثه، فإذا آمن فهو واحد منا، نقطة دقيقة جداً، المستجير إذا آمن له ما لنا، وعليه ما علينا، عظمة هذا الدين أن أعدى أعداء الدين لمجرد أن يشهد أن لا إله إلا الله أصبح واحداً من المؤمنين، له كل ميزاتهم، وعليه كل ما عليهم، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام:

(( المسلمون تتكافأُ دماؤهم، ويسعى بذمَّتهم أدناهم، ويُجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم  ))

[ أخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص ]


من ارتقى إيمانه لا يحقد على الكافر بل يشفق عليه :


 أيها الإخوة الكرام ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ الله﴾ والآن لا تكره الطرف الآخر، هو لا يعلم ما دينك، بلغه هذه الرسالة، بأدب، بلطف، بمودة، بتوضيح، بأدلة، أنت لا تكره، النبي الكريم يحب كل البشر، ويقول:

(( لو تعلمون ما أعلمُ لضَحِكتم قليلاً، ولبَكَيْتمْ كثيراً  ))

[ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن أنس بن مالك ]

 أنت كمؤمن لا تكره شخص الكافر، لكن تكره كفره فقط، تكره عمله، فإذا أصغى إليك ينبغي أن تحدثه عن دينك، ينبغي أن تقدم دينك لكل من حولك، أن تقدمه واضحاً، أن تقدمه بالأدلة، أن تقدمه بالبراهين.

 فيا أيها الإخوة الكرام ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ بيّن له، وضح له، بيّن له عظمة الكون، عظمة خالقه، بيّن له هذا المنهج القويم.

﴿ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ هو الآن حر، إن آمن فهو واحد منا، له ما لنا، وعليه ما علينا، وإن لم يؤمن يجب أن توصله إلى مأمنه سالماً، ما هذا الدين؟ مشرك، مقاتل، عدو، كافر يقول لك: أجرني، ينبغي أن تجيره، وأن تسمعه كلام الله، وأن توصله إلى مأمنه، هذا الإسلام.

﴿ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أنت كطبيب، كطبيب أمراض جلدية لو جاءك إنسان مصاب بمرض جلدي مخيف، هل تحقد عليه؟ أبداً، تشفق عليه، كلما ارتقى إيمانك لا تحقد على الكافر، لكن تشفق عليه، وفرق كبير بين أن تحقد عليه، وبين أن تشفق عليه، إنسان ضلّ الطريق، أخطأ خطاً كبيراً، سار في طريق الشقاء ينبغي أن تشفق عليه .

 لذلك كان -عليه الصلاة والسلام- يبكي على خصومه، يبكي على الكفار، الله -عز وجل- سلّاه فقال:

﴿  طه(1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى(2) ﴾

[  سورة طه ]

 كان يبكي على أعدائه رحمةً بهم، وكلما ارتقى مقامك عند الله، يمتلئ قلبك حزناً لحال الناس من حولك، في ضياع، لا تحقد، ارفق بهم، أشفق عليهم، ضلوا سواء السبيل.

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور