وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 11 - سورة فصلت - تفسير الآيات 47- 54 العاقل لا تشغله دنياه عن آخرته
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

استئثار الله سبحانه وتعالى بعلم الساعة:


 أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الحادي عشر والأخير إن شاء الله تعالى من سورة فصِّلت، ومع الآية السابعة والأربعين، وهي قوله تعالى:

﴿ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)﴾

[ سورة فصلت ]

في هذه الآيات الأخيرة من سورة فصِّلت يبيِّن الله سبحانه وتعالى أنه استأثر بعلم الساعة، أي أن علم الساعة متى وقوعها لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، والبشر لا يعلمون الغيب، فلا يعلم الغيب إلا الله.

 

الغيب ثلاثة أقسام:


والغيب أيها الإخوة قسَّمه العلماء إلى أقسامٍ ثلاث: غيب الماضي، وغيب الحاضر، وغيب المستقبل.

من أسباب إعجاز القرآن الكريم أنه أخبرنا عن غيب الماضي، وأنه أخبرنا عن غيب الحاضر، وأنه أخبرنا عن غيب المستقبل، لكن الله سبحانه وتعالى وحده يعلم الغيب، فإذا أعلَمَنا به النبي عليه الصلاة والسلام فهذا من إعلام الله للنبي عليه الصلاة والسلام، النبي عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب بذاته، بل بإعلام الله له، هذه حقيقة.

﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)﴾

[ سورة آل عمران ]

هذه القصص التي وردت في القرآن الكريم من غيب الماضي، والذي ذكره القرآن الكريم.

﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)﴾

[ سورة الروم  ]

هذا غيب المستقبل، وقد وقعت هذه المعركة، بل إن في هذه الآية إعجازاً إخبارياً مستقبلاً، وفي الآية إعجازٌ علمي، لأن أدنى نقطةٍ في الأرض هي غَوْر فلسطين، الغور الذي ينخفض عن سطح البحر مئات الأمتار، وقد تمَّت المعركة بين الفرس والروم في هذا الغَور، ولا يعلم أحدٌ إلا منذ أمدٍ قصير أن هذه النقطة أخفض نقطة على سطح الأرض، لذلك قال تعالى: ﴿غُلِبَتْ الرُّومُ(2)فِي أَدْنَى الأَرْضِ﴾ أي في أدنى مكان ﴿وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ هذا من إعجاز القرآن العلمي.

وأما إعجازه الإخباري فإخباره عن قصص الأنبياء السابقين، وعن شيءٍ وقع بعيدًا عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، هذا غيب الحاضر، وعن شيءٍ سيقع في المستقبل، هذا غيب المستقبل، ولا يعلم الغيب إلا الله.

 

العالَم عالمان؛ عالَم مشهود وعالم غيبي:


لكن الإنسان الذي يعيش في منطقةٍ ما يشهد الوقائع التي تجري أمامه، فهذا الواقع بالنسبة إليه عالَم مشهود، فالعالَم عالمان؛ عالَم مشهود، وعالم غيبي، فالذي تعيشه أنت، تعاصره، تراه بعينيك وبحواسِّك، هذا عالم الشهود بالنسبة إليك، أما من ابتعد عن هذا المكان فهو غيبٌ بالنسبة إليه، لكنه غيب الحاضر، الذي وقع في الماضي، ولا تعلم كيف وقع هذا غيب الماضي، لكن غيب المستقبل لا أحد على وجه الأرض يعلمه إلا الله، ومن أبرز أحداث المستقبل علم الساعة، نهاية العالم:

(( كنَّا جُلوسًا عندَ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فجاءَ رجلٌ شديدُ بياضِ الثِّيابِ شديدُ سَوادِ شعرِ الرَّأسِ لا يُرَى علَيهِ أثرُ سَفرٍ، ولا يعرفُهُ منَّا أحدٌ، فجلسَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فأسندَ ركبتَهُ إلى ركبتِهِ ووضعَ يدَيهِ علَى فخِذيهِ، ثمَّ قالَ: يا محمَّدُ ما الإسلامُ؟ قالَ: شَهادةُ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنِّي رسولُ اللَّهِ، وإقامُ الصَّلاةِ، وإيتاءُ الزَّكاةِ، وصَومُ رمضانَ، وحَجُّ البَيتِ، فقالَ: صدَقتَ، فعجِبنا منهُ يسألُهُ ويصدِّقُهُ ثمَّ قالَ: يا محمَّدُ ما الإيمانُ؟ قالَ: أن تؤمِنَ باللَّهِ وملائكتِهِ ورسلِهِ وكتبِهِ واليومِ الآخرِ والقدَرِ خيرِهِ وشرِّهِ، قالَ: صدَقتَ فعَجِبنا منهُ يسألُهُ ويصدِّقُهُ، ثمَّ قالَ: يا محمَّدُ ما الإحسانُ؟ قالَ: أن تعبدَ اللَّهَ كأنَّكَ تراهُ فإنَّكَ إن لا تراهُ فإنَّهُ يراكَ، قالَ: فمتَى السَّاعةُ؟ قالَ: ما المسؤولُ عنها بأعلمَ منَ السَّائلِ ، قالَ: فما أمارتُها؟ قالَ: أن تلِدَ الأمةُ ربَّتَها، قالَ وَكيعٌ: يعني تلِدُ العجَمُ العربَ، وأن ترَى الحُفاةَ العُراةَ العالةَ رِعاءَ الشَّاءِ يتطاولونَ في البِناءِ، قالَ: ثمَّ قالَ فلقيَني النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ بعدَ ثلاثٍ فقالَ أتَدري مَن الرَّجلُ قلتُ اللَّهُ ورسولُهُ أعلمُ قالَ ذاكَ جبريلُ أتاكم يعلِّمُكُم معالمَ دينِكُم. ))

[ صحيح ابن ماجه ]

أحد الأئمَّة الكبار، وهو الإمام مالك رأى في المنام ملك الموت، قال: "يا ملك الموت كم بقي لي من أجلي؟ فأشار ملك الموت إليه بأصابعه الخمس، فلما استيقظ الإمام مالك وقع في حيرةٍ شديدة، أهي خمس سنوات؟ أم خمسة أشهر؟ أم خمسة أسابيع؟ أم خمسة أيام؟ أم خمس ساعات؟ فلمَّا توجَّه إلى الإمام ابن سيرين المختصُّ بتفسير المنامات قال: يا إمام، يقول لك ملك الموت: إن هذا السؤال من خمسة أشياء لا يعلمها إلا الله" ﴿إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ .

 

مادام القلب ينبض فباب التوبة مفتوح:


لذلك الإنسان لا يعلم متى الساعة، فإذا أردت أن تفهم الساعة يوم القيامة، وإن أردت أن تفهم أن الساعة ساعة الإنسان، لكلٍ منا ساعة، يا ترى متى؟ "من عدَّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت" .

متى الساعة؟ متى ينتهي أجلي؟ في أي سن؟ في أي يوم؟ في بيتي أم خارج بيتي؟ في حضرٍ أم في سفر؟ في الليلٍ أم في النهار؟ على أي طريقةٍ أموت؛ بمرضٍ؟ بحادثٍ؟ لا أحد يعلم، وما دمنا لا نعلم ينبغي أن نستعدَّ لهذا الحدث الذي لابدَّ منه، وما رأيت عاقلاً أعقل ممن يستعد للقاء الله تعالى، بالاستقامة على أمره، وبالأعمال الصالحة، وبالتوبة إليه، وباب التوبة مفتوحٌ للإنسان ما لم يغرغر.

﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)﴾

[ سورة الأنعام ]

أي المؤمن العاقل يبادر من فوره إلى التوبة إلى الله. 

ابن آدم، لا تعجز، ادعني أجبك، استغفرني أغفر لك، ولا تنسوا هذا الحديث الشريف الصحيح الذي يصف فيه النبي عليه الصلاة والسلام ربه فيقول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : 

(( إذا كان ثُلُثُ الليلِ أو شَطْرُه يَنزِلُ اللهُ إلى سماءِ الدنيا فيقولُ: هل من سائلٍ فأُعطيَه؟ هل من داعي فأستجيبَ له؟ هل من تائبٍ فأتوبَ عليه؟ هل من مستغفِرٍ فأغفرَ له؟ حتى يَطْلُعَ الفجرَ. ))

[  تخريج كتاب السنة  :  خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح على شرط الشيخين : أخرجه ابن أبي عاصم في ((السنة)) ]

أي يجب على الإنسان ألا يضيع الفرصة، أن باب التوبة مفتوح، مادام القلب ينبض فباب التوبة مفتوح، والصلح مع الله يسيرٌ جداً، "إذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنِّئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله". 

(( عن أنس بن مالك  قال اللهُ تعالى: يا ابنَ آدمَ! إِنَّكَ ما دَعَوْتَنِي ورَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لكَ على ما كان فيكَ ولا أُبالِي يا ابنَ آدمَ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لكَ  ولا أُبالِي  يا ابنَ آدمَ! لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خطَايا ثُمَّ لَقِيْتَني لا تُشْرِكْ بِيْ شَيْئَا لأتيْتُكَ بِقِرَابِها مَغْفِرَةً.  ))

[ صحيح الترغيب حسن لغيره أخرجه الترمذي ]

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾

[ سورة الزمر ]

عندما أغفل ربنا عزَّ وجل عنا علم الساعة أو أخفى عنا علم الساعة، لك أن تقول: ساعة يوم القيامة، ولك أن تقول: ساعة نهاية الحياة، هذه الساعة مُغيَّبةٌ عنَّا، وأقرب الساعتين إلينا ساعة الموت.

﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)﴾

[ سورة الفجر ]

﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27)﴾

[ سورة الفرقان  ]

 

العاقل مَن يستعد لساعة الحقيقة:


هذه الساعة الإعداد لها هو قمة العقل، قمة الذكاء، قمة التوفيق، قمة النصر، قمة التفوُّق، قمة الفلاح، قمة الفوز، قمة العقل أن تعد لهذه الساعة عُدَّتها، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ.))

[ الترمذي: حكم المحدث: صحيح ]

أخشى ما يُخشى على الإنسان أن يستهلكه الزمن، وأن تستهلكه همومه ومتاعبه ومشاغله، من همٍّ إلى همٍّ، من إنجازٍ إلى إنجاز، من موعدٍ إلى موعد، من لقاءٍ إلى لقاء، من مشكلةٍ إلى مشكلة، من مطبٍ إلى مطب إلى أن يأتي أجله، فيذهب إلى الدار الآخرة صفر اليدين، وكل شيءٍ تَعِبَ فيه في الدنيا خلَّفه في الدنيا، دقِّقوا، أندم الناس رجلٌ دخل ورثته بماله الجنَّة، ودخل هو بماله النار.

المال نفسه حصَّله هذا بطريقةٍ غير مشروعة، وضيَّع من أجل هذا المال دينه وآخرته فاستحق دخول النار بهذا المال الذي كسبه، فجاء ورثته - أبناؤه - كسبوه حلالاً، وأنفقوه في الطريق المشروع، فاستحقوا دخول الجنة، فأندم الناس رجلٌ دخل ورثته بماله الجنَّة، ودخل هو بماله النار، والميِّت ترفرف روحه فوق النعش تقول: يا أهلي يا ولدي، لا تلعبنَّ بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حلَّ وحرم، فأنفقته في حلِّه وفي غير حلِّه، فالهناء لكم، والتبعة عليّ، ﴿إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ .

 

انعقاد الثمرة بأمر الله عزَّ وجل:


شيءٌ آخر يُردُّ إليه: ﴿وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا﴾ انعقاد الثمرة بأمر الله عزَّ وجل، لذلك إخواننا الريفيون يلاحظون ملاحظة عجيبة، يقول لك: في هذه السنة الموسم الفلاني جيد جداً، الموسم الفلاني ضعيف، أحياناً يعطي الله عطاءً مدهشاً، ففي بعض السنوات كيس القمح في المناطق الريفية في شمال سورية وفي شرقها أعطى أكثر من سبعين أو ثمانين كيسًا، وصل كيس القمح إلى مئة وعشرين كيسًا، وفي بعض السنوات نحتاج جميعاً إلى مليون طن من القمح فكان إنتاجنا ثلاثة ملايين طن، وفي سنوات أربعمئة ألف، أقلّ من حاجتنا، فانعقاد الثمرة في المحاصيل، أو في الخضراوات، أو في الفواكه والثمار، ﴿إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا﴾ .

لكن انعقاد الثمرة شيء لا يصدَّق، أي ربنا عزَّ وجل جعل النبات آيةً من آياته الدالَّة على عظمته، ظاهرة النبات أن هذا النبات الأخضر،

أن هذه الورقة الخضراء فيها من العجائب ما لا يُصدَّق، الورقة الخضراء معملٌ، أعظم معمل صنعه الإنسان يبدو أمامها سخيفاً، تافهاً، مبتذلاً.

الآن أعظم معمل صنعه الإنسان يبدو أمام الورقة الخضراء عملاً سخيفاً بسيطاً، لأن هذه الورقة تأخذ من التربة ما يزيد عن ثمانية عشر معدناً مذابًا في الماء عن طريق الجذور، وعن طريق النسغ الصاعد، وتأخذ من الشمس طاقتها الحراريَّة - الفوتونات - وتأخذ من الهواء ثاني أوكسيد الكربون، وفيها مادة اليخضور، وفيها شيلات الحديد، هذه الورقة بتفاعلاتٍ عديدةٍ عجيبة يصعب على العقل فهمُها، تصنع الورقة نسغاً آخر ينزل، هذا النسُغ سائل موحَّد يسهم في تصنيع الجذور، وتصنيع الجذع، وتصنيع الفروع، وتصنيع الأغصان، وتصنيع الأوراق، وتصنيع الثمار والأزهار، فانعقاد الثمرة في أكمامها بيد الله سبحانه وتعالى.

 

النبات آيةٌ من آيات الله الدالَّة على عظمته:


الشيء الذي يلفت النظر هو أن هذه البذرة فيها خصائص الثمرة، وقد تزيد الخصائص عن مئة خاصَّة، كلها في البذرة على شكل أوامر مُبَرْمَجَة، تقول: هذا النبات يقاوم المرض الفلاني، وهذا النبات يقاوم البرد، وهذا النبات إنتاجه مبكِّر، وهذا النبات إنتاجه حامضي، وهذا النبات نسيجه كثيف، وهذا النبات ماؤه كثيف، وهذا النبات من أجل العصير، وهذا النبات من أجل المائدة، أي أنواع منوَّعة جداً جداً في كل نبات يخلقه الله سبحانه وتعالى.

يكفي أن من أصناف القمح ما يزيد عن ثلاثة آلاف وخمسمئة نوع، يكفي أن أنواع العنب تزيد عن ثلاثمئة، يكفي أن كل محصولٍ وكل نباتٍ أنواع منوَّعة ترضي كل الأذواق، التفَّاح مثلاً كم نوعاً؟ الدرَّاق كم نوعاً؟ القمح كم نوعاً؟ هناك نوع قاس، نوع ليِّن، نوع يصلح للصناعة، نوع يصلح للخبز، فكل نوع له خصائص.

على كل هذا العلم؛ إنبات النبات، انعقاد الثمار في أكمامها هذا يرجع إلى الله سبحانه وتعالى، هو الرزَّاق، وهذه ظاهرة وعلى مستوى البلاد كلِّها، يقول لك: هذه السنة المحصول الفلاني جيد جداً على مستوى كل المحافظات، هذه السنة المحصول الفلاني ضعيف جداً، في بعض السنوات الذين ضمنوا بعض الفواكه، دفعوا ثمن الكيلو في تقديرهم عشر ليرات، بيعت هذه الفاكهة بخمس ليرات لوفرة الإنتاج، فلذلك انعقاد الثمرة تعود إلى الله سبحانه وتعالى.

 

حمل الأنثى للجنين بيد الله سبحانه وتعالى:


﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى﴾ أيّ أنثى، أي الشيء الذي يتوالد هو النبات والحيوان، فانعقاد الثمرات بيد الله، وحمل الأنثى للجنين بيد الله سبحانه وتعالى، يجعل امرأةً عقيماً، ويجعل امرأةً تلد الإناث، وهذا من الرجل في العلم الحديث، وتؤكِّده الآية الكريمة:

﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى(45)مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى(46)﴾

[ سورة النجم ]

أي الذي يحدِّد نوع الجنين ليست الأنثى لكنه الرجل، على كل بحث انعقاد الحمل في رحم الأنثى بحثٌ طويل. 


التفكُّر في خلق الإنسان من أرقى العبادات:


لكن الشيء الذي يلفت النظر هو أن هذه الحوين الذي تصنعه الغُدَد الخاصة به يجري إعداده في ثمانية عشر يوماً، الحوين يُعدُّ في الغدَّة الخاصَّة به لفترةٍ طويلة، ولكن قبل أن ينتقل من مكان إعداده إلى مكان فاعليَّته تُجرى عليه عمليَّةٌ بسيطة حتى يصبح فعَّالاً.

هذه النطَف ثلاثمئة مليون حوين في اللقاء الواحد، كل حوين له رأسٌ، وله عنقٌ، وله ذنبٌ، وهذا الحوين فيه معلومات لتشكيل الجنين تزيد عن خمسة آلاف مليون معلومة مبرمجة، لك أن تسميها مورِّثات، أو تسميها صبغيات، أو تسميها معلومات تسهم في تشكيل هذا الجنين، كل صفات الجنين؛ صفات جلده، وصفات شعره، وصفات أعضائه، وعضلاته، ولونه، حتى خصائصه الداخليَّة؛ خصائص دمه، وكبده، وقلبه، هذه الخصائص تزيد عن خمسة آلاف مليون معلومة، لو أردنا أن نكتبها في كُتُب لكانت مكتبة بأكملها لا تتسع لهذه المعلومات، كلُّها في حوينٍ، كل ثلاثمئة مليون حوين لا تزيد عن سنتيمتر مكعَّب، والبويضة تحتاج إلى حوين واحد، يصل إلى البويضة أقواها، وفي رأس الحوين مادَّةٌ نبيلة مغلَّفةٌ بغشاءٍ رقيق، إذا اصطدمت بالبويضة تمزَّق الغشاء فأسهمت هذه المادة النبيلة بالوصول إلى داخل البويضة، تذيب جدار البويضة، يدخل هذا الحوين إلى البويضة، يُغلق الباب، وتصاب بقية هذه الحوينات بالإحباط، لقد انتقت البويضة أقوى هذه الحوَيْنات وانعقدت، وانعقد الحمل.

تنطلق البويضة من المبيض إلى الرحم، في أثناء انطلاقها تنقسم إلى عشرة آلاف خليَّة دون أن يزيد حجمها، ولو زاد حجمها لوقفت في الطريق، لأن الأنبوب دقيق جداً، فإذا وصلت إلى الرحم انغرست فيه، وهناك علومٌ والله لا يتسع لا هذا الدرس ولا مئة درسٍ لتفصيلها في علم الأجنَّة فقط، شيء لا يصدَّق.

كيف تغرس في جدار الرحم؟ كيف تأتي الدماء لتغذي هذه البويضة؟ كيف تتشكَّل أعضاؤه الأساسيَّة؟ كيف تطوَّر هذا الحمل إلى أن يصبح طفلاً جنيناً في تسعة أشهر، كاملاً؛ فيه دماغ، فيه جمجمة، فيه عمود فقري، فيه عضلات، فيه عظام، فيه جهاز هضم، فيه جهاز دوران، فيه جهاز تصفية، فيه غدد صمَّاء، فيه بنكرياس، فيه كبد، فيه شعر، فيه جهاز تناسلي، فيه جهاز بولي، فيه جهاز هضمي، فيه جهاز دوران، كل هذا من حوينٍ واحد، فالإنسان بإمكانه أن يعرف كيف خُلِق من خلق ابنه.

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)﴾

[ سورة القيامة  ]

من دون حساب.

﴿ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40) بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)﴾

[ سورة القيامة  ]

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)﴾

[  سورة القيامة ]

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)﴾

[ سورة المؤمنون  ]

أيها الإخوة الكرام؛ التفكُّر في خلق الإنسان من أرقى العبادات، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)﴾

[ سورة عبس  ]

﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)﴾

[ سورة الطارق  ]

 

اعتراف الكفار بأن الله هو الواحد لا شريك له:


إذاً:

﴿ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)﴾

[ سورة فصلت ]

أي الذين عبدتموهم من دوني، الذين أشركتموهم معي، أين هؤلاء الشركاء؟ قالوا: ﴿قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ﴾ أعلمناك يا رب أنه ما شهدنا أحداً غيرك، ولكن كذبنا على أنفسنا، قال:

﴿ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)﴾

[ سورة الأنعام ]

آذنَّاك أي أعلمناك ما منا من شهيد، ﴿وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ﴾ لو أنهم دعوا شركاء غير الله سبحانه وتعالى في الدنيا، وجاؤوا ربَّهم يوم القيامة فاستنجدوا بهؤلاء الشركاء، أين هم؟ أين شركائي؟ ﴿وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ﴾ .

 

المؤمن يعرف الحقيقة وهو في الدنيا:


أيها الإخوة؛ من نعمة الله الكبرى على المؤمن أن الحقيقة التي يعرفها كل الخلق يوم القيامة، الخمسة آلاف مليون الذين يعيشون معنا الآن وهم في ضلالٍ عن هذه الحقيقة، الحقيقة التي سيعرفها الناس جميعاً يوم القيامة يعرفها المؤمن، وهو في حياته الدنيا، هذه أكبر نعمةٍ على الإنسان، لذلك قال بعض الصحابة وأظنَّه سيدنا عليّ بن طالب كرَّم الله وجهه: "والله لو كُشِف الغطاء ما ازددت يقيناً" ، وقال صحابيٌ آخر: "والله لو علمت أن غداً أجلي ما قدرت أن أزيد في عملي" .

أروع شيء أن يعرف الإنسان الحقيقة في الوقت المناسب، لكن إنساناً اعتنق مبدأ غير صحيح، ثم اكتشف في آخر حياته أن هذا المبدأ هدَّام، ليس له أصل في الواقع، مبدأ مُفْتَعَل، مبدأ شيطاني، أليست هذه خسارة كبيرة؟ أليس هذا إحباطاً لا يُحتمل؟ ﴿وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ﴾ أي لابدَّ من أن يلقوا هذا العذاب، ولم ينفعهم أحدٌ دعوه من دون الله عزَّ وجل.


من طبيعة الإنسان أنه يحب الخير ولا يسأم منه:


أما طبيعة الإنسان: 

﴿ لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)﴾

[ سورة فصلت ]

دائماً يطلب الخير، يريد الصحَّة، يريد المال، يريد الجمال، يريد البيت، يريد الأثاث، يريد المَركبة، الدخل الكبير، العِزَّ العريض، الشأن الرفيع، هذا الخير؛ المال، والجمال، والقوة، والمَنَعَة، والأنصار، والأتباع، والأشياء الماديَّة المُبْهِجَة، ﴿لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ﴾ لا يمل، أيّ إنسانٍ هذا؟ قبل أن يعرف الله، الإنسان إذا ورد معرَّفةً بال فهذه ال الجنسيَّة، أي أن جنس الإنسان قبل أن يعرف الله، ﴿لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ﴾ من طلب الخير، من البحث عن الخير في مقياسه، في نظره، في موازينه.

 

من طبيعة الإنسان أنه يكره الشرّ:


﴿وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ﴾ لو أن هذا العطاء توقَّف قليلاً، لو أنه خسر بعض صحَّته قليلاً، بعض ماله، تراه عابساً، مُقَطِّباً، مُزَمْجِرَاً، يائساً، سوداوي المزاج، ضيِّق القلب، ما هذا التناقض؟ ﴿لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ﴾ هذه حقيقة الإنسان، لكن المؤمن يطلب الخير، ويصبر على بلاء الله سبحانه وتعالى، يطلب الخير الحقيقي -خير الآخرة- ولا تعنيه الدنيا كثيراً، فإذا امتحنه الله بشيء تجده صابراً، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: عن صهيب بن سنان الرومي 

(( عجِبْتُ لأمرِ المؤمنِ، إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ خيرٌ، إن أصابَهُ ما يحبُّ حمدَ اللَّهَ وَكانَ لَهُ خيرٌ، وإن أصابَهُ ما يَكْرَهُ فصبرَ كانَ لَهُ خيرٌ، وليسَ كلُّ أحدٍ أمرُهُ كلُّهُ خيرٌ إلَّا المؤمنُ. ))

[ صحيح مسلم : السلسلة الصحيحة : خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح ]

الكافر يطلب الدنيا، وإذا أصابته فيها مصيبة ﴿فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ﴾ ، المؤمن يطلب خير الآخرة، فإذا ابتلاه الله في الدنيا بمصيبةٍ تراه صابراً راضياً عن الله عزَّ وجل. 

 

الغافل ينسب الخير لنفسه:


الآن حالة ثالثة:

﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)﴾

[ سورة فصلت ]

أصابه شبح مرضٍ عُضال، ثم أثبت التحليل أنه بريء من هذا المرض العضال، أصابه فقرٌ مدقع، ثم زال هذا الفقر، ونَعِمَ بدخلٍ كبير، أصابه همٌّ فزال ذلك الهم، أصابته مصيبة فانحسرت تلك المصيبة، قال: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا﴾ منَّا تفضُّلاً، وتكرُّماً، ومِنْحَةً، وهبةً، ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي﴾ بعضهم قال: هذا ما أستحقُّه، وبعضهم قال: هذا من صنعي، ومن تدبيري، ومن علمي، ومن خبرتي، ﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً﴾ يعبِّر بعض الناس الغافلين عن هذه الحقيقة، يقول لك: معك قرش تساوي قرشًا، الدراهم مراهم، ليس هناك آخرة، هذه الدنيا هي كل شيء، من كان فيها غنياً فهو السعيد، ومن كان فيها فقيراً فهو الشقي، الإنسان أحياناً القوة تُعْمِيه، والمال يُطْغِيه، والصحة تُلْهِيه، قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي﴾ أي هذا ما أستحقُّه تألياً على الله، أو هذا ما كان من صنعي، ومن تدبيري، ومن خبرتي، ومن سعيي، ومن كدِّي، ومن اجتهادي، أي يعزو هذا الفضل الكبير الذي تفضَّل الله به، والذي أكرمه به إلى سعيه، هذا شرك. 


الغافل لا يدخل الآخرة في حسابه:


 ﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً﴾ أخي من مات ورأى ماذا بعد الموت؟ من هنا إلى يوم الله يفرجها الله، هذا كلام الناس، أي يُدخل في حسابه كل شيء إلا الموت، مع أن الموت أخطر شيء، تجد تفكير الإنسان في العمر الفلاني يحتاج إلى دخل أكبر، إذا يوظّف أموالاً من الآن، يقتطع من دخله مالاً يوظِّفه في جهة ليكون له دخل بعد سن معيَّنة من دون تعب، تجده يفكر في شيخوخته، يفكر بمستقبل أولاده، يفكر في بيته، أبيع هذا البيت بثمانية ملايين، ونأخذ بيت بالضواحي بلميونين، معنا فرق مالي نشتري به سيارة، نأخذ بيتًا صغيرًا، يخطِّط، لكن يا ليته يخطِّط لمستقبله الحقيقي، لآخرته، ﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً﴾ لو لم يقل الإنسان هذا الكلام  فعله يؤكِّد ذلك، يخطِّط دائماً، إلا لما بعد الموت، هذا خارج حسابه، ﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً﴾ .

 

استنباطات الجاهل الغافل:


﴿وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى﴾ ما دام أغناني في الدنيا فهو راضٍ عني، ولولا أنه راضٍ عني ما أغناني، ما دام قد أطلعني على ملكه فهو راضٍ عني، استنباطات الإنسان الجاهل الغافل سخيفةٌ جداً؛ ما دام قد أطلعه على مُلكه فهو راضٍ عنه، ما دام قد أغناه فهو راضٍ عنه، مع أن الله أغنى قارون وهو لا يحبه، وأعطى فرعون وهو لا يحبه، لكن الذي يحبه يعطيه علماً وحكمةً.

﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)﴾

[ سورة القصص  ]

﴿وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى﴾ أي ضَمِن الدنيا والآخرة تألياً على الله، ببساطة، بسخف، بجهل، بغباء، ﴿فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا﴾ أي هؤلاء الذين كفروا سوف ينبئون بما عملوا يوم القيامة؛ أعمالهم، إساءتهم، فسادهم، انحرافهم، كذبهم، إفسادهم للناس، أعمالهم السيئة، اغتصابهم للأموال، انتهاكهم للأعراض، إفسادهم للمُجتمع، تسخير الناس لهم، بناء مجدهم على أنقاض الآخرين، بناء غناهم على فقر الآخرين، بناء أمنهم على خوف الآخرين، هؤلاء الذين كفروا ينبؤون بما عملوا يوم القيامة، ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾  أي عذاب لا يحتمل، الله سبحانه وتعالى العظيم يقول: 

﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)﴾

[ سورة البقرة  ]

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)﴾

[ سورة البقرة  ]

 

حال الإنسان قبل الإنعام غير حاله بعده:


الآن هذا الإنسان نفسه ربنا عزَّ وجل يحدِّثنا عن خصائصه:

﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)﴾

[ سورة فصلت ]

كان يصلي فلم يعُد يصلّي، كان يحضر مجلس علم عندما كان فقيرًا، فلما اغتنى قال لك: والله ما عندي وقت، عندنا عمل فلا مجال للحضور، قبل الزواج كان يحضر، تزوَّج ألْهته الزوجة، واحتوته، وأنهته، ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا﴾ الزواج نعمة، العمل نعمة، الوظيفة نعمة إذا كانت وظيفة جيدة، العمل التجاري نعمة، العمل الصناعي نعمة، لكن الإنسان يغفل عن ربه للدنيا، لذلك قالوا: العمل المهني إذا كان في أصله مشروعاً، ومارسه الإنسان بطريقةٍ مشروعةٍ؛ لا كذب فيها ولا احتيال، وابتغى به كفاية نفسه وخدمة المسلمين، ولم يشغله عن فريضةٍ ولا عن واجبٍ ولا عن طلب علمٍ انقلب إلى عبادة، أما إذا شغله عن واجبٍ ديني، أو عن فريضةٍ، أو عن طلب علمٍ فهذا العمل الدنيوي خسارةٌ محقَّقة، ولو درَّ على صاحبه آلاف الملايين.

أيها الإخوة؛ دقِّقوا في هذه الكلمة: العمل الذي يستغرق كل وقتك عملٌ خاسرٌ حتماً، لأنه ألغى وجودك، ألغى رسالتك، ألغى مهمَّتك في الحياة، العمل الذي يستغرق كل الوقت هذا خسارةٌ كبيرة ولو درَّ عليك بأكبر رقم.

 

لا ينبغي للعاقل أن تشغله الدنيا عن الآخرة:


إخواننا الكرام؛ أحياناً يبحث الناس عن عمل، فيجدون عملاً يشترط صاحب العمل أن الدوام كامل حتى الساعة التاسعة، يلغي له كل الدروس، هناك إخوان صادقون لا يرضون بهذا، لا يقبل عملاً يلغي له طلبه للعلم، لا يقبل عملاً يلغي له هذه الساعات المباركة التي يكرمه الله بها، لذلك الذي يؤثر الله على الدنيا يأتيه عملٌ في المستقبل مريح، ويتيح له أن يطلب العلم، وبدخلٍ أكبر.

(( عن سالم عن أبيه مرفوعاً: ما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه.  ))

[ رواه أبو نعيم عن ابن عمر مرفوعا وقال غريب، لكن له شواهد منها ما رواه التيمي في ترغيبه  ]

قال: ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ﴾ كان له دعاء رقيق ترك الدعاء، كان يجلس يقرأ القرآن بحرارة ترك القرآن، كان يصلي صلاة مُتقنة صار يصلي ترقيعاً، كان يحضر مجلس علم فترك مجلس العلم، صار شخصيَّة لامعة، صار رجل أعمال، صار عنده مشروع.

 

المؤمن راض عن قضاء الله والكافر ساخط:


قال: ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ﴾ أما إذا أرسل الله عزَّ وجل له مشكلة تجده يعوي كالكلاب، ينهار، يصيح صياح الأعمى، هذه صفات الإنسان الغافل المُعرض؛ لكن المؤمن أحياناً تأتيه مصيبة يرضى بها عن الله، يقبلها بقبولٍ حسن، يقول: يا رب أنا راضٍ عنك، أنا راضٍ عن قضائك وقدرك، أنا راضٍ بما قسمته لي، شتَّان بين هذا وذاك.

قال لي طبيب يعمل في مستشفى، جاءهم مريض مصاب بمرض عضال، آلامه لا تحتمل، فهذا الرجل بعيدٌ عن الدين، ما من نبيٍ إلا وسبَّه سباباً لا يحتمل، رائحة كريهة، الغرفة قطعة من جهنَّم، إذا قرع الجرس لا يأتيه أحد اشمئزازاً منه، لحكمةٍ أرادها الله جلَّ جلاله في الغرفة نفسها جاء مريضٌ آخر مصابٌ بالمرض نفسه، وبالآلام نفسها، ولكنه يبدو أنه من أهل الإيمان، الطبيب الذي عالجه حدَّثني من فمه قال لي: والله يا أستاذ، كلَّما زاره زائر يقول له: اشهد أنني راضٍ عن الله، هذه كلمة مأثورة له، وما سمعنا صياحه، ولا صوته، ولا تأفُّفه، مع أنه كان يتحمَّل أصعب الآلام، وكلَّما جئته رأيت وجهه كالكوكب الدرِّي، أقسم لي إن له رائحةً كرائحة المِسك، إذا قرع الجرس يتدافع الممرِّضون لتلبية طلباته، وتوفَّاه الله بأحلى حالة، مرض واحد أصاب مؤمنًا، وأصاب غير مؤمن، وهذا النجاح يجعله في أعلى عليين، والدنيا لا قيمة لها.

﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)﴾

[ سورة يس ]

الإنسان قد يكون مبتلى أحياناً، لكن بطولته ليس في ألا يصاب بمرض، لكن بطولته إذا أُصيب بمرض أن يتقبَّله من الله عزَّ وجل بالرضا.

ذكرت لكم من قبل أن رجلاً كان يطوف حول الكعبة ويقول: "يا رب هل أنت راضٍ عني؟، كان وراءه الإمام الشافعي فقال له: وهل أنت راضٍ عن الله حتى يرضى الله عنك؟ قال: سبحان الله! من أنت يرحمك الله؟، قال: أنا محمد بن إدريس، قال: كيف أرضى عنه وأنا أتمنَّى رضاه؟ قال: يا هذا إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله"

علامة إيمانك أن تستقبل قضاء الله وقدره بنفسٍ راضية، ألم يقل الله عزَّ وجل:

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)﴾

[ سورة الطور ]

 

الحياة دار ابتلاء:


الحياة دار ابتلاء أيها الإخوة، الله يمتحنك بالمال وبالفقر، بالصحَّة والمرض، وبالقوَّة والضعف، وبإقبال الدنيا وبإدبارها، دائما ممتحَن، وأغلب الظن أنك ممتحنٌ في الحالتين دائماً.

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾

[  سورة العنكبوت  ]

أتُمتحن المركبة بالطريق النازلة؟ لا، بالطريق الصاعدة، الامتحان الصعب هو الذي يثبت جدارة هذه الآلة، هذا الإنسان الغافل الجاهل، ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ﴾ على الإكرام يهرب، وقد سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم الإكرام بالغنى المُطغي، على الإكرام ينسى ربه، ينسى الصلاة، ينسى الصوم، يسافر لبلد غريب يقول لك: هنا ليست الصلاة مناسبة، الصلاة فرض، لا يصوم، أحياناً يرتكب أكبر المعاصي لأتفه الأسباب، لئلا يقال عنه كذا وكذا، ﴿أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ﴾ .

 

المؤمن كلَّما زاده الله إكراماً زاد حباً له:


أيها الإخوة؛  والله الذي لا إله إلا هو إن المؤمن كلَّما زاده الله إكراماً زاد حباً لله، وزاد تواضعاً له، وزاد طاعةً له، وزاد ائتماراً بأمره، وزاد ذكراً له، وزاد خدمةً للناس، المؤمن كريم الأخلاق، أي إذا أكرمه الله يذوب شكراً، النبي الكريم كانت تعظم عنده النعمة مهما دقَّت.

ومرَّة ثانية أقول لكم أيها الإخوة: سهل جداً أن ينطلق الإنسان إلى الله بالمصيبة، ولكن بطولته تظهر في أن يذكر الله في الرخاء، ليس بك شيء، صحَّتك تامَّة، بيتك جيد، دخلك جيد، ليست لديك مشكلة في عملك، بطولتك وأنت في هذا الرخاء أن تنطلق إلى الله:

﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)﴾

[ سورة الذاريات ]

الإنسان لا ينتظر من الله تأديبًا، انطلق إليه قبل أن يحملك على أن تنطلق إليه، انطلق إليه طواعيةً، انطلق إليه مبادرةً، انطلق إليه حباً قبل أن يسوق الله للإنسان مصيبةً يجعله ينطلق إليه مقهوراً، وشتَّان بين أن تنطلق إليه باختيارك، وبين أن تنطلق إليه مقهوراً.

أرجو الله سبحانه وتعالى أن نكون جميعاً غير هذا النموذج: ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ﴾ المؤمن يزداد طاعةً، والتفاتاً، وإقبالاً، وشكراً، وعملاً صالحاً، وتضحيةً، ومؤاثرةً كلَّما زاده الله إكراماً، لذلك:

﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)﴾

[ سورة إبراهيم ]

إذا كان الإنسان بحالة طيِّبة، في بحبوحة، أموره ميسَّرة، ليس عنده مشكلة، وأراد أن تستمرَّ هذه الحالة من دون أن تهتز فعليه بطاعة الله لقول الله عزَّ وجل:

﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)﴾

[ سورة الرعد ]

لا تغيِّر كي لا يغيّر، إذا كان الإنسان متمتِّعًا بصحَّة، متمتِّعًا ببيت، متمتِّعًا بأهل، عنده سعادة، هذا التمتع بهذه السعادة لو أنه ثابر على طاعة الله، وعلى عبوديَّته لله، وعلى خدمته للخلق، وعلى أعماله الصالحة، أغلب الظن أن الله سبحانه وتعالى لا يُغير ما به أبداً، بل إنه يزيده من فضله، فالمؤمن دائماً من حال إلى أرقى، من سعادة إلى أرقى، من توفيق إلى أكثر، دائماً في ازدياد، أي المؤمن خطه البياني صاعد صعودًا مستمرًا، حتى لو جاءه الموت يبقى خطّه البيانيُّ صاعداً، ما الموت إلا نقطة تحوُّل بسيطة على هذا الخط، خلع ثيابًا، وارتدى ثيابًا، وبقي خطه البياني صاعداً.

 

أشدّ الناس ضلالاً من يشاقق الله:


﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ(52)﴾

[ سورة فصلت ]

إنسان يُشاقق الله عزَّ وجل، عدوٌ لدينه، عدوٌ لشرعه، عدوٌ لأوليائه، عدوٌ للمؤمنين، هل يعقل هذا؟ ﴿مَنْ أَضَلُّ﴾ أي من أشدّ الناس ضلالاً ممن يشاقق الله سبحانه وتعالى؟! يخاصم دينه، يخاصم أولياءه، يخاصم المؤمنين، يتمنَّى لهم المصائب، يفرح بمصائبهم، يتألَّم لنجاحهم، هذا إنسان مع المنافقين، ﴿مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ .

 

الإنجازات العلميَّة كانت على يد الغَرْبيين لحكمة أرادها الله:


ثم يقول الله سبحانه وتعالى:

﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)﴾

[ سورة فصلت ]

 المتكلِّم هو الله، والمخاطّب هم المؤمنون، والغائب من؟ قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ﴾ بعض المفسِّرين قالوا: لحكمةٍ أرادها الله عزَّ وجل جعل الإنجازات العلميَّة على يد الغَرْبيين، والتي تأتي متوافقةً مع آيات القرآن الكريم بشكلٍ لا يصدَّق، فهذه الآيات سنريها للكفَّار، ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾ .

 

آيات الله في الكون لا تعد ولا تحصى:


كنت أقول دائماً: أبعد مجرَّة اكتُشِفَت بعدها عنا ستة عشر ألف مليون سنة ضوئيَّة، كنت قبل يومين في مجلس علمي، دكاترة في الجامعة مختصين في الفلَك، فأنبأني أحدهم أن أحدث مجرَّة تبعد عنا الآن خمسة وعشرين ألف مليون سنة ضوئيَّة، والأربع سنوات ضوئيَّة تحتاج إلى مسيرة بمركبة أرضيَّة خمسين مليون عام، الأربع سنوات، كيف بخمسة وعشرين ألف مليون؟ ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ﴾ وكلَّما تقدَّم العلم وجد في الجسد شيئاً عجيباً- شيء لا يصدَّق- مليار خليَّة بالمعدة، ذكرتها اليوم في الخطبة، مليون نفرون في الكليتين، طول النفرونات خمسون كيلو متر، الكليتان مئة كيلو متر، يقطعها الدم في اليوم خمس أو ست مرَّات، أي شيء لا يكاد يصدَّق، مئة وثلاثون مليون عُصيَّة ومخروط في الشبكيَّة، ثلاثمئة ألف شعرة في رأس الإنسان، لكل شعرة بصلة، ووريد، وشريان، وعضلة، وغدَّة، وعصب،﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾ إذا أردت الآفاق فما أعظم الآيات في الآفاق، بعض العلماء قال: الكون فيه تقريباً مليون مليون مجرَّة، وفي كل مجرَّة مليون مليون نجم، والمسافات بين النجوم لا تصدَّق.

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75)وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76)﴾

[ سورة الواقعة  ]

والشمس تتّسع مليون وثلاثمئة ألف أرض، وهناك نجوم تتسع لمليون شمس،هذه في الآفاق، اقرؤوا، ادرسوا، الآيات ناطقةٌ بوجود الله، وعظمة الله، وكمال الله، وعلم الله، ووحدانية الله.

 

جسم الإنسان آية من آيات الله:


﴿وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾ جسمك، أبسط شيء أنت ماشٍ في الطريق أطلقت وراءك سيارةٌ بوقها تحذِّرك، فانتقلت إلى الرصيف الأيمن، هل هناك في حياتك أبسط من هذه الحادثة؟ قال: جهاز معقَّد جداً في الدماغ يحسب تفاضل وصول الصوتين إلى الأذنين، صوت إلى كل أذن، والتفاضل واحد على ألف وستمئة جزء من الثانية، هذا الجهاز يحسب التفاضل، جاء الصوت إلى هذه الأذن قبل هذه الأذن بواحد على ألف وستمئة جزء من الثانية، إذاً الصوت من اليمين يعطي الدماغ أمرًا للعضلات أن اذهب إلى اليسار، ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾ .

أيها الإخوة؛ فكِّروا في أجسامكم، شيء لا يصدَّق، القلب مضخَّة، تضخ كل يوم ثلاثة أمتار مكعَّبة، انظر إلى مستودعات الوقود السائل على ظهور أسطحة البنايات، تجد من يقول: أخي أنا عندي خزان سعته اثنين طن، أي ألفي لتر، الطن عبارة عن ألف طن، الجسم يضخ ثمانية أطنان باليوم، يضخ الجسم بالعمر ما يملأ أكبر ناطحة سحاب في العالَم، ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾ الغدَّة النخاميَّة ملكة الغُدد، وزنها نصف غرام، تفرز اثني عشر هرموناً، لو اختل هرمون واحد تصبح حياة الإنسان جحيماً، بعض الهرمونات تقيم توازنًا للسوائل، لو اختلَّ هذا الهرمون الإنسان يجب عليه أن يجلس بجانب الصنبور يشرب طوال حياته، ويُخرج هذا الماء بولاً، إذا اختل نظام السوائل في الجسم شيء لا يصدَّق.

على كل هذا عناوين موضوعات، إذا لم يفكَّر الإنسان بجسمه كل يوم؛ بشعره، بعينيه، بأذنيه، بجهاز الهضم، بالمعدة، بالأمعاء، بالرئتين، بالقلب، بالشرايين، بالأوردة، بالقلب، بدسَّامات القلب، كيف يعرف عظمة الله عزَّ وجل؟ ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾ .

 

العاقل من يبحث عن شيء يقربه من الله:


﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ حتى يؤمنوا بكل خليَّة، أحياناً الإنسان يعبِّر عن إيمانه بالشكل التالي، يقول لك: والله كل خليَّة في جسمي تنطق بوجود الله، كل خليَّة تنطق بحمد الله، تنطق بعظمة الله، هذا الإيمان، المؤمن لو قُطِّع إرباً إرباً لا يعصي الله، يرى عظمة الله عزَّ وجل، ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ في الكون حقيقة واحدة هي الله، كل شيء يقرِّبك لها هو حق، وكل شيء يبعدك عنها فهو باطل، الشهوات تبعد، الطاعات تقرِّب، لذلك أفضل مكان في الأرض المساجد لأنها تقرِّب، أبعد مكان الملاهي لأنها تبعد، والأسواق.  

(( عن عبد الله بن عمر  رجلًا سألَ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: أيُّ البِقاعِ خيرٌ؟ وأيُّ البِقاعِ شرٌّ؟ قالَ: لا أَدري حتَّى أسألَ جبريلَ عليهِ السَّلامُ فسألَ جبريلُ عليهِ السَّلامُ فقال: لا أدري حتَّى أسألَ ميكائيلَ فجاءَ فقالَ: خيرُ البقاعِ المساجدُ وشرُّ البقاعِ الأسواقُ. ))

[ الترغيب والترهيب:  خلاصة حكم المحدث : صحيح أو حسن ]

ابحث عن شيء يقرِّبك؛ القرآن يقرِّب، الكون يقرِّب، الطاعة تقرِّب، الصلاة تقرِّب، العلم يقرِّب، ابحث عن شيءٍ يقرِّبك إلى الله عزَّ وجل.


كل إنسان سيموت والعاقل من يعتني بأعماله: 


﴿ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)﴾

[ سورة فصلت ]

ساعة الموت ليسوا مستوعبين لها، والله أيها الإخوة لو الإنسان يكون على غير طاعة لله، غير مصطلح مع الله، عليه ذمم كثير، عليه مشكلات ويشعر أن موته اقترب لمرض ألمَّ به فجأةً، تشعر أن كل كيانه قد اهتز، شيء لا يصدَّق، سأموت.

 قال لي مرَّة طبيب زار امرأة بانهيار عصبي، قالت له: سأموت، فقال لها: وأنا سأموت، كلنا سوف يموت، كل مخلوقٍ يموت، ولا يبقى إلا ذو العزَّة والجبروت.

والليل مهما طال فلابد من طلوع الفجر        والعمر مهما طال فلابد من نزول القبر

[ صالح بن محمد بن عبد الله ]

كلما فكرت بهذه الساعة، واستعديت لها بالطاعة، والعمل الصالح، والإنفاق، وتلاوة القرآن، وتعلّم القرآن، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبغض البصر، وبخدمة الأهل، وبصلة الرحم، وبالدعوة إلى الله كلما كنت أعقل، هناك أشخاص كثر تركوا مئات الملايين، تركوا ألفاً وسبعمئة  مليون وغادروا الدنيا صفر اليدين، ليسوا عقلاء، في حضيض الغباء لذلك: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ﴾ ليس متأكداً من لقاء الله عز وجل: ﴿أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾.

أعمال الإنسان كلها مسجلة، بتفاصيلها، بدقائقها، حتى قال بعض العلماء بصورها، أي يوم القيامة تُعرض على الإنسان أعماله أمام عينيه:

﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)﴾

[ سورة الإسراء ]

 

عقلنا لا يظهر إلا بطاعتنا لله وإخلاصنا في عملنا:


فيا أيها الإخوة الكرام؛  عقلنا لا يظهر إلا بطاعتنا لله، لا يظهر إلا باصطلاحنا معه، لا تقل لا أقدر، عندك مملكتان؛ مملكة بيتك، مملكة عملك، هذا ما تقدر عليه والله عز وجل يعذرك فيما لا تقدر عليه، أنت لا تستطيع أن تصلح المجتمع، ليس بيدك، لا تستطيع أن تمنع الفساد، لا تستطيع أن تنزل الأمطار، لا تستطيع أن توقف القوى المعادية، أنت ضعيف، لكن الله عز وجل مكنك من بيتك ومكنك من عملك، فكل شخص يلتفت لبيته، يقيم الشرع في بيته، أولاده يدعوهم إلى الصلاة، بناته يحجبهن، عمله أن يكون دخله حلالاً، لا يكون فيه كذب إطلاقاً، هذا كلام السخفاء العوام: إذا لا نكذب لا نربح، هذا كلام الشيطان، لا يوجد كذب، ولا يوجد غش، ولا تدليس، ولا مخالفة للشرع، مملكتك بيتك وعملك، اضبط بيتك وعملك وعلى الله الباقي، وأجمل تفسير لآية أن الله كلفك فيما تستطيع، وتولى عنك ما لا تستطيع، قال لك: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ﴾ من الظروف المحيطة بك، لا تقدر عليها أنت ﴿حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ مما تقدر عليه، إذا غيرت ما تقدر عليه يُغير ما لا تقدر عليه، فإن لم تُغير ما تقدر عليه لا يغير ما لا تقدر عليه، فهذا ملخص الملخص، كل شخص ينطلق لبيته، يراقب أهله، أولاده، دخله، إنفاقه، فإذا طبقنا الدين جميعاً من دون نفاق، من دون مزاودات، من دون مظاهر فارغة، من دون منافسة سخيفة، إذا طبقنا أوامر ربنا عز وجل لعل الله سبحانه وتعالى ينظر إلينا برحمة منه.

 والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور