وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 09 - سورة فصلت - تفسير الآيات 40- 44 طريق الجنة معروف وسبيلها واضح
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

كلمة الآيات في القرآن الكريم إذا أُطلقت تعني الآيات التي تدل على وجود الله:


 أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس التاسع من سورة فصِّلت، ومع الآية الأربعين، وهي قوله تعالى: 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(40)﴾

[ سورة فصلت ]

أيها الإخوة؛ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا﴾  الآيات جمع آية، وهي العلامة الدالَّة على الشيء، فإذا أُطلقت كلمة الآيات في القرآن الكريم فإنما تعني الآيات التي تدل على وجود الله، وعظمته، وقدرته، ووحدانيَّته، وكماله. 

والآيات أحياناً تأتي على أنواع ثلاث: آياتٌ كونيَّة، وآياتٌ قرآنيَّة، وآياتٌ تكوينيَّة أي أفعال الله عز وجل، آياته الكونيَّة خلقه، وآياته التكوينيَّة أفعاله، وآياته القرآنيَّة كلامه، خلقه وأفعاله وكلامه هذه كلها آياتٌ تدلُّ عليه.


  معنى الإلحاد في آيات الله:


﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(40)﴾

[ سورة فصلت  ]

الإلحاد في الآيات الطعن بها، أو ردُّها، أو عدم اعتمادها دليلاً على ما تدلُّ عليه، هذا المعنى الأول.

 والمعنى الثاني: حَرْفُهَا عن مرادها، أو تأويلها على غير ما يريد الله سبحانه وتعالى، أو الحذف منها، أو الإضافة عليها، الكافر أحياناً إما أنه يردُّ هذا الدين رداً مباشراً، وإما أنه يخشى ألا ينجح في هذه المحاولة فيحاول أن يفجِّره من داخله، فردُّ هذه الآيات رداً مباشراً هو الطعن بها، أو عدم قبولها، أو الاستخفاف بها، أو عدم قبول ما تدل عليه، هذا المعنى الأول.

 والمعنى الثاني تزوير هذه الآيات، وتحريفها، وتغييرها، وتأويلها.

 المفاد أن الكافر إما أن يرد هذه الآيات، وإما أن يؤوِّلها تأويلاً لا يرضي الله عزَّ وجل، لنأت ببعض الأمثلة. 


  مثالٌ للإلحاد في آيات الله:


عندما قال ربنا عزَّ وجل:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)﴾

[ سورة آل عمران ]

فالمقيم على الربا يؤوِّل هذه الآية على غير ما يريد الله سبحانه وتعالى، يقول: أنا لا آكل الربا أضعافاً مضاعفة، أنا آكله بنسبٍ قليلة، فهذا تأويلٌ لا يرضي الله، لأن الله سبحانه وتعالى يقول: 

﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)﴾

[ سورة البقرة ]

والقرآن مثان، أي كل آيةٍ تنثني على أختها فتفسِّرها، فإذا التبس الأمر في هذه الآية فالآية الثانية توضِّحها. 

إذاً الكافر إما أن يردَّ هذه الآيات رداً مباشراً، وإما أن يؤوِّلها تأويلاً لا يرضي الله عزَّ وجل، على كل رَفَضَ الحق، إما رفضه بشكلٍ وقح، أو بشكلٍ فيه مداراة. 

مرَّةً ثانية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ﴾ الإلحاد هو الطعْنُ في الآيات، أو عدم قبولها، أو الاستخفاف بها، أو السخرية منها، أو عدم قبول ما تدل عليه، تقول له: هذا الزلزال دليل قدرة الله عزَّ وجل، ودليل أن الله يعاقب هؤلاء الذين ابتلاهم به، فيقول لك: هي حركة القشرة الأرضيَّة لا تعني أكثر من ذلك، فالإلحاد في الآيات هو الطعن فيها، أو الاستخفاف بها، أو السخرية منها، أو عدم قبول ما تدل عليه، وهذا هو الرد المباشر، أو تأويلها تأويلاً على خلاف ما هي عليه، أو تزويرها، أو اللغو فيها، ففي المرحلة الأولى كان الرد مباشراً، وفي المرحلة الثانية كان الرد غير مباشر، هؤلاء جميعاً الذين رفضوا الحق إما رفضاً مباشراً أو رفضاً غير مباشر، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ إنْ في آياتنا الكونيَّة، أو في آياتنا القرآنيَّة، أو في أفعالنا التكوينيَّة.

 

لا يخفى على الله شيءٌ:


﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا﴾ هم في علمنا، إن الله سبحانه وتعالى لهم بالمرصاد.

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)﴾

[ سورة النساء ]

إن الله سبحانه وتعالى يعلم سرَّهم وجهرهم، أي الإنسان حينما يعلم أن الله يعلم حُلَّت مشكلته مع الله، لأنه إذا أيقن أن الله يعلم لابدَّ من أن يستقيم على أمر الله.

 

إذا علمتَ أن الله يعلم فلابد من أن تستقيم:


ربنا عزَّ وجل يقول: ﴿لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا﴾ الإنسان لا يستطيع أن يخالف إنساناً من جنسه إذا كان أقوى منه، وإذا كانت هذه المخالفة يعلمها ويضبطها، هذا شأن الإنسان مع الإنسان فكيف شأنه مع الواحد الديَّان؟ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا﴾ هم بالمرصاد، ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ وكما قال عليه الصلاة والسلام: عن ابن معاوية:

((  ثلاث من فعلهن فقد ذاق طعم الإيمان : ن عبد الله عز وجل وحده بأنه لا إله إلا هو، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه في كل عام، ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولكن من أوسط أموالكم، فإن الله عز وجل لم يسألكم خيرها ولم يأمركم بشرها، وزكى نفسه، فقال رجل: وما تزكية النفس؟ فقال:  أن يعلم أن الله عز وجل معه حيث كان. ))

[ سنن أبي داود : تفرد به الزبيدي ، ولا نعرف لعبد الله بن معاوية الغاضري حديثا مسندا غير هذا ]

لمجرَّد أن تعلم أنك تحت المراقبة، وأن الله مطلعٌ عليك، مطلعٌ على ظاهرك وعلى باطنك، على سرِّك وعلانيَّتك، على خلوتك وجلوتك، لمجرَّد أنك موقنٌ أن الله مطلعٌ عليك لابدَّ من أن تلتزم أمره، وأن تبتعد عما نهى عنه، وقد سُئل أحد العارفين بالله وهو الإمام الجنيد: من الولي ؟ فقال هذا الإمام الكبير: "ليس الولي الذي يطير في الهواء، ولا الذي يجري على وجه الماء، إنما الوليُّ كل الولي الذي تجده عند الحلال والحرام" .

مرَّةً ثانية، أيها الإخوة، وهذا من باب التأكيد والتوضيح، إذا أيقنت أن الله يعلم وسيحاسب لا يمكن بحسب فطرتك، وبحسب عقلك أن تعصيه، فإذا وصلت إلى اليقين القطعي أن الله يعلم، وأنه سيحاسب، لاشك أنك مستقيمٌ على أمره، لن يفلح العاصي مهما كان ذكياً، لابدَّ من أن يدفع ثمن معصيته باهظاً. 

 

المؤمن يأتي يوم القيامة آمنًا:


﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)﴾

[ سورة فصلت ]

الظاهر أن الله سبحانه وتعالى يقول: أفمن يُلقى في النار خيرٌ أمن يدخل الجنَّة أيهما أفضل؟ فربنا سبحانه وتعالى عَدَلَ عن قوله أمن يدخل الجنَّة إلى قوله: ﴿أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً﴾ عبّر الله عن الجنَّة بكلمةٍ أخرى، أن تأتي يوم القيامة آمناً، لأن الله سبحانه وتعالى سمَّى يوم القيامة يوم الفزع الأكبر، فحينما يفزع الناس جميعاً لأنهم ما عرفوا ربهم في الدنيا، واقترفوا من السيئات ما لا يُعد ولا يحصى، حينما يأتون يوم القيامة آمنين فهذه جنَّةٌ لا تعدلها جنَّة، إذا خاف الناس كثيراً، واضطربوا، وكنت أنت أيها المؤمن آمناً فهذا عطاءٌ لا يقدَّر بثمن.

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ(1)يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ(2)﴾

[ سورة الحج  ]

فهذا يوم الفزع الأكبر المؤمن يأتي آمناً يوم القيامة، أي هل من سعادةٍ تفوق أن تكون أيها المؤمن آمناً يوم الفزع الأكبر؟ يوم ينخلع قلب الناس خوفاً وإشفاقاً من عذابٍ أليم، ويأتي المؤمن آمناً يوم القيامة، أي هل يستوي إنسان سوف يُلقى في النار وإنسان سيأتي يوم القيامة آمناً ليدخل الجنَّة؟ كأن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا﴾ ، ﴿لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا﴾ أي أنه يعلم ما يفعلون، وأما ﴿أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ﴾ إذاً: سوف يحاسبهم، المعنيان أتيا في هذه الآية، علم الله ومحاسبته، أي إذا أيقنت أن علم الله يطولك، وأن محاسبته تطولك، لا يمكن أن تعصي الله، هذا ما أكَّده الإمام الغزالي حينما خاطب نفسه فقال لها: "يا نفس! لو أن طبيباً منعكِ من أكلةٍ تحبينها لاشكَّ أنكِ تمتنعين، أيكون الطبيب أصدق عندكِ من الله؟ إذاً ما أكفركِ! أيكون وعيد الطبيب أشد عندكِ من وعيد الله؟ إذاً ما أجهلكِ!"

إذاً كل إنسان يعصي الله عزَّ وجل فهو مدموغٌ إما بالحمق والجهل، وإما بالكفر والانحراف.  

 

موازنة بين حالتين متضادتين:


ثم يقول الله عزَّ وجل: 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)﴾

[ سورة فصلت ]

قال: هذا استفهام تقريري، ومعنى كونه تقريرياً أي أن من يلقى في النار لا يستوي مع من يأتي يوم القيامة آمناً، هذا معنى الاستفهام التقريري، من يلقى في النار لا يستوي أبداً مع من يأتي يوم القيامة آمناً، وهذا المعنى تؤكِّده آياتٌ كثيرة.

﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾

[ سورة السجدة  ]

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

[ سورة الجاثية ]

﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)﴾

[ سورة القلم  ]

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾

[ سورة القصص  ]

هذه الموازنة بين حالتين متضادتين، من يأتي آمناً أو من يأتي خائفاً، من يلقى في النار أو من يدخل الجنَّة، من يعامل بالإكرام والإحسان ومن يعامل بالعقاب الأليم والعذاب الأبدي، قال: أين عقلكم أيها البشر؟ أيستوي هذا مع هذا ؟ طبعاً الإلقاء في النار سببه المعصية في الدنيا، وأن تأتي يوم القيامة آمناً سببه أن تستقيم على أمر الله في الدنيا، فالثمن في متناول اليد، أي هذه النتيجة المخيفة أنت السبب فيها، وهذه النتيجة المُسعدة أنت الذي اخترت هذا الطريق، فالأمر باختيارك، إما أن تختار جنةً عرضها السماوات والأرض، وأن تأتي الله آمناً يوم القيامة مكرَّماً، وإما أن يعصي الإنسان ربَّه فيستحق دخول النار إلى أبد الآبدين.

 

الآية التالية تفيد الاختيارَ وتفيد التهديدَ:


 ثم يقول الله عزَّ وجل: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ هذه الآية تفيد الاختيار، وتفيد التهديد، أي أنتم مخيَّرون، لكم أن تطيعوا الله في الدنيا فتأتون يوم القيامة آمنين، ولكم أن تعصوه في الدنيا فتلقوا في النار، الأمر بيدكم.

(( عن أبي ذر الغفاري عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ . وفي روايةٍ: إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا. ))

[ صحيح مسلم ]

الأمر بيدكم، أي خيرك منك وشرّك منك.. 

﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)﴾

[ سورة الإسراء  ]

موضوع التشاؤم، التفاؤل، ليس لي حظ، حظّي قليل، كل هذا كلام فارغ.

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)﴾

[ سورة الليل  ]

الأمر واضح.

العجيب أن الحياة قصيرة، ووقتها محدود، والطاعات بيد الإنسان أن يفعلها، وفي إمكانه أن يفعلها، ومتاحة لكل البشر، والمعاصي حالات سقوط وحالات انحطاط وقذارة، فالناس حينما يقبلون على الطاعات يسعدون في الدنيا والآخرة، وحينما يقعون في السيئات يشقون في الدنيا والآخرة، أين عقل الناس؟ هل من شهوةٍ أودعها الله في بني البشر ليس لها قناةٌ نظيفة يسلكها الإنسان؟ لا، لكن الناس بوسوسةٍ من الشيطان يندفعون إلى المعاصي، ويجتنبون الطاعات فيستحقون عذاب جهنَّم يوم القيامة، ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾  تفيد التهديد، افعل ما بدا لك وكل شيءٍ له حسابه،﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ هذه الآية مخيفة.

والمعنى الثاني أنتم مخيَّرون، طريق الجنَّة معروفٌ لديكم، وطريق النار معروفٌ لديكم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: 

(( حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُجِبَتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِه. ))

[ صحيح بخاري ]

(( عن عبد الله بن عباس  أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَن أنظَرَ مُعسِرًا أو وضعَ لهُ وقاهُ اللهُ مِن فَيْحِ جهنَّمَ، ألا إنَّ عملَ الجنَّةِ حَزنٌ بِرَبوةٍ ثلاثًا ألا إنَّ عملَ النَّارِ سَهلٌ بسَهوةٍ، والسَّعيدُ مَن وُقيَ الفِتنَ، وما مِن جرعةٍ أحبَّ إلى اللهِ من جَرعةِ غَيظٍ يكظِمُها عبدٌ ما كظَمها عبدٌ للَّهِ إلَّا ملأَ جوفَه إيمانًا. ))

[ ابن كثير المصدر تفسير القرآن العظيم، حديث حسن،  أخرجه أحمد واللفظ له، وابن أبي الدنيا في اصطناع المعروف ]

طبعاً عمل الجنَّة يحتاج إلى جهد، ويحتاج إلى كُلفة، إنه ذو كلفة، لكنه في مقدور الإنسان، وعمل النار هو سهوٌ واسترخاءٌ وإعطاء النفس ما تشتهي، ((إن عمل الجنة حزن بربوة. ألا وإن عمل النار سهل بسهوة)) ، ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ .

 

إلغاء الاختيار إلغاء للتكليف:


مرَّةٌ ثانية أيها الإخوة، لو ألغينا الاختيار الذي تؤكِّده هذه الآية لألغينا التكليف، ألغينا الثواب، ألغينا العقاب، ألغينا الجنَّة والنار، ألغينا المسؤوليَّة، ألغينا جوهر الدين، هذا ما قاله الإمام عليٌّ كرَّم الله وجهه حينما قال: << ويحك لو ما كان قضاءً لازماً، وقدراً حاتماً إذاً لبطل الوعد والوعيد، ولانتفى الثواب والعقاب، إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلَّف يسيراً ولم يكلِّف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعصَ مغلوباً، ولم يُطع مكرهاً >> أنت مخيَّر، قال لك: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ .

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)﴾

[  سورة الإنسان  ]

﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)﴾

[ سورة فصلت ]

﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)﴾

[ سورة البقرة ]

﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)﴾

[  سورة الأنعام  ]

حينما يشتطُّ عقل الإنسان فيعتقد أن الله قد أجبره على هذه المعاصي فقد وقع في شرّ عمله، أي ما من عقيدةٍ تشُل الإنسان وتقعده، وتوقعه في سوء الظن بالله عزَّ وجل، وتجعله كتلةً هامدة كعقيدة الجَبْرِ، أن تعتقد أن الله أجبرك على فعل المعاصي، وأنها مقدَّرةٌ عليك، ولا سبيل إلى الخلاص منها، هذه عقيدة أهل الضلال، هذه عقيدة المشركين، ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ من جهة تهديد، افعل ما بدا لك وسوف ترى نتيجة عملك.

 والمعنى الثاني أنك مخيَّر، لك أن تستقيم ولك أن تنحرف، لك أن تحسن ولك أن تسيء، لك أن تُقْبِلَ ولك أن تُعْرِضْ، لك أن تطيع ولك أن تعصي، لك أن تؤمن ولك أن تكفر، لك أن توحِّد ولك أن تُشرك، هذا باختيارك ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾

 

طريق الجنة معروف وسبيلها واضح:


طريق الجنَّة معروف؛ طاعة الله عزَّ وجل، والتقرُّب إليه بالأعمال الصالحة، وطريق النار معروف؛ معصية الله عزَّ وجل، والتقرُّب منها بالموبقات والمعاصي، والبشر على اختلاف أنواعهم، ومشاربهم، وأجناسهم، وألوانهم، وأعراقهم لا يزيدون على رجلين؛ رجل منضبط بالشرع، محسن إلى الخلق، سعيد في الدنيا والآخرة، ورجل متفلِّت من الشرع، مسيء إلى الخلق، شقي في الدنيا والآخرة، الأمور بسيطة ومضغوطة، عن ابن عمر:

(( الناس رجلان: رجل بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله. ))

[ صحيح  الجامع الصغير: حسن ]

أخطر شيء في حياتك أن تحسن الاختيار، اختر أن تكون مؤمناً، الإيمان يحتاج إلى تفكُّر في خلق السماوات والأرض، يحتاج إلى معرفة أمر الله، يحتاج إلى حضور مجالس العلم، يحتاج إلى الذكْر، يحتاج إلى الطاعة، يحتاج إلى الأعمال الصالحة، الإيمان معرفة الله عزَّ وجل وطاعته، والتقرُّب إليه، أما أن تعطي النفس شهواتها، أما أن تعطي نفسك ما تريد عندئذٍ لابدَّ من أن تقع في العدوان، ومع العدوان هناك العقاب الأليم، فتجد حياة الكافر من مصيبةٍ إلى مصيبة، ومن مطبٍ إلى مطب، ومن أزمةٍ إلى أزمة، ومن معضلةٍ إلى مُعضلة. وحياة المؤمن من إكرامٍ إلى إكرام، من سعادةٍ إلى سعادة، ﴿إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ .


  ملخص الآية:


الآية صارت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ آياتنا الكونيَّة، أو التكوينيَّة، أو القرآنيَّة، والإلحاد نوعان: إما طعنٌ بالآيات ورفضٌ لها، وعدم قبول دلالتها، واستخفافٌ، واستهزاءٌ، وإما تحايلٌ على ردِّها بتأويلها، أو تزويرها، أو اللغو فيها، أو صرفها عن غير ما هي هادفةٌ إليه، هؤلاء ﴿لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا﴾ بعلمنا، وسوف يحاسبون، والدليل: ﴿أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ﴾ فربنا عزَّ وجل بيَّن لك أن الانحراف مضبوط وسوف تُحاسب عليه.

أحياناً الإنسان يخفي شيئاً عن بعض الجهات الماليَّة، والشيء الذي استورده أُرسلت نسخة منه إلى الماليَّة، وبسذاجة يخفيه، هو مضبوط، فإذا كُشِف أمره ندم على فعله، هذا مثل بسيط من حياتنا الواقعيَّة، فأعمالك مضبوطة ولابدَّ من الحساب، هذان المعنيان يكفيان للاستقامة على أمر الله، وأنت مخيَّر، ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ وأثمن ما في الجنَّة أن الإنسان يأتي يوم القيامة آمناً، ونعمة الأمن لا تعدلها نعمة على الإطلاق. 

 

كتاب الله عزَّ وجل كتابٌ ممتنعٌ عن التقليد لا يستطيع أحدٌ أن يأتي بمثله:


ثم يقول الله عزَّ وجل: 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41)﴾

[ سورة فصلت ]

الذكر هو القرآن الكريم ﴿لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ﴾ كلمة عزيز لها عدة معان، من معانيها أن هذا الكتاب لا يستطيع أحدٌ أن يأتي بمثله، شيءٌ نادر، عزيز، أي ممتنع عن أن يحاكى، عن أن يُقلَّد، عن أن يُؤتى بمثله، هذا المعنى الأول. 

وكلمة عزيز لها عدة معان في اللغة، أن الشيء إذا أصبح نادراً صار عزيزاً، إذا كان هذا الشيء يصعب الوصول إليه صار عزيزاً، فصار الكتاب كتاب الله عزَّ وجل ليس كمثله كلامٌ آخر، فَضْلُ كَلامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ ، كما أن الله واحدٌ في ذاته، وفي صفاته، وفي أفعاله كذلك كلامه لا مثيل له، ولا يرقى إليه كلامٌ آخر، ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ﴾ أي كلام الله عزَّ وجل كتابٌ ممتنعٌ عن التقليد، لا يستطيع أحدٌ أن يأتي بمثله، ولا أن يحاكيه، ولا أن يقلِّده، ولا أن يعارضه.

 

كتاب الله لا يُنقَض بمرور الأيام:


قال:  

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)﴾

[ سورة فصلت ]

أي لا يمكن أن يأتي كتابٌ آخر ينقض ما فيه من قبل، كما أنه لا يمكن أن يأتي بعده كتابٌ آخر ينقض ما فيه، وهذه النقطة واضحة جداً، ما من كتابٍ على وجه الأرض ألَّفه بشر إلا وبعد حينٍ ظهرت حقائق تناقض ما فيه، كل كتاب له عُمر، ما من كتابٍ على وجه الأرض ألَّفه بشر إلا وبعد حينٍ ظهرت حقائق تناقض ما فيه، لابدَّ له من تعديل، وهذه حقيقة ثابتة.

 

العقل الصريح لا يتعارض مع النقل الصحيح:


لكن كتاب الله عزَّ وجل منذ أن أنزله الله عزَّ وجل وإلى الآن وإلى قيام الساعة لا يمكن أن تظهر حقيقة علميَّة تناقض آياته، لماذا؟ لأن الحقائق العلميَّة هي استنباطاتٌ من الواقع، من خَلَق هذا الواقع؟ هو الله عزَّ وجل، وهذا كلامه فالمصدر واحد، الكون كلُّه من خلق الله، من قنَّن قوانينه؟ الله سبحانه وتعالى، من سنَّ سُنَنَهُ؟ الله سبحانه وتعالى، من بيَّن العلاقات فيما بين مكوِّناته؟ الله سبحانه وتعالى، وهذا كلامه، لذلك يجب أن تطمئن إلى أن النقل الصحيح لا يمكن أن يتعارض مع العقل الصريح أبداً، العقل الصريح لا يتعارض مع النقل الصحيح، لأن العقل الصريح مقياسٌ أودعه الله فينا، وأن الواقع هو من خَلق الله، وأن هذا القرآن كلام الله، وأن الفطرة التي فُطرنا عليها هي من صنع الله عزَّ وجل، لذلك هناك من يقول: إنه لابدَّ من تطابق العقل والنقل والواقع والفطرة، الحق ما جاء به النقل، وأكَّده الواقع، وارتاحت إليه الفطرة، وأقرَّه العقل، أبداً هذا الحق، هذا الحق الذي قامت من أجله السماوات والأرض. 

أنت عندما تعتقد اعتقادًا صحيحًا حقيقيًا حينما تؤمن بالحق أي آمنت بالواقع، وآمنت بالمنطق، وآمنت بالفطرة، وآمنت بالقرآن، هذا هو الحق، كلمة حقّ تعني النقل والعقل والواقع والفطرة، لا يمكن للواقع أن يظهر خطأ في القرآن، مستحيل، الواقع من خلق الله، وقوانينه قنَّنها الله عزَّ وجل، سُنَنه سنَّها الله عزَّ وجل، وهذه النفس لا ترتاح إلا للحق، إلا لما في القرآن، هكذا فُطرت.

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)﴾

[ سورة الروم ]

طبيعة النفس هكذا، لا ترتاح إلا لما جاء في القرآن الكريم.

 

النفس لا ترتاح ولا تنسجم إلا بما جاء في القرآن الكريم:


لذلك إخواننا الكرام، المؤمن حينما يتوب إلى الله عزَّ وجل - ولست مبالغاً في هذا القول-ـ يشعر كأن جبالاً قد أُزيحت عن كاهله، لأنه وجد نفسه، ارتاحت فطرته، اطمأنَّ عقله، انسجم الواقع مع العقل مع الفطرة مع النقل، هذا الحق، الحق الذي قامت من أجله السماوات والأرض، والذي دعا إليه الأنبياء السابقون ونبيُّنا عليه الصلاة والسلام، الحق هو الله، الكون من خلقه، والقرآن كلامه، والفطرة هو الذي فطرنا عليها، والواقع هو الذي خلقه، هذا الانسجام بين الواقع والفطرة والعقل والنقل هو أجمل ما في الحق، ليس في حياة المسلم اثنيْنيَّة، لا يوجد ازدواجيَّة، لا يوجد تناقض، لا يوجد تنافر، لا يوجد تباعد، لا يوجد تشتُّت، لا يوجد تمزُق، الإنسان أحياناً يتمزَّق يقول لك: شيء يحيِّر، إن اقتنعت بهذا الرأي نقضت هذا الرأي، وإن اقتنعت بهذا الرأي نقضت هذا الرأي، إن أرضيت زيداً أغضبت عبيداً، أي أصعب ما في الحياة هذا التمزُّق، لكن أجمل ما في الدين ذاك الانسجام.

في حياتك لا يوجد اثنينيَّة أبداً، دنياك وآخرتك واحدة، مهنتك وعبادتك واحدة، تعبد الله في مهنتك، في حرفتك، في نصح المسلمين، وتعبده ثانيةً في مسجدك، إن عملت وكسبت الرزق لأهلك فأنت في عبادة، وإن أتيت المسجد واستمعت إلى درس العلم فأنت في عبادة، فالعبادة واحدة.

إذاً: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ﴾ أي ممتنع عن أن يُحاكى، يمتنع عن أن يُقلَّد، يمتنع عن أن يؤتى بمثله، عزيزٌ لا مثيل له، ما من كتابٍ على وجه الأرض يمكن أن ينقضه لا سابقاً ولا لاحقاً، هذا معنى: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾ أكبر نعمة على الإنسان أن تعتقد اعتقاداً مع اعتقادك بهذا الشيء تطمئنّ إلى أنه لن يزول، ألا ترون أيها الإخوة أن هناك من اعتقدوا اعتقاداتٍ باطلة بعد حين تداعت كبيت العنكبوت وتلاشت وأيقن الناس بضلالها وانحرافها؟ هذه مشكلة أن يعتقد الإنسان شيئاً ويسعى من أجل هذه العقيدة طوال حياته، ثم يكتشف فجأةً أن هذه العقيدة باطلة ولا أصل لها، ولا تنسجم مع طبيعة النفس، ولا تحقِّق لصاحبها سعادةً ولا شيئاً من هذا القبيل، لكن المؤمن مطمئن، هو مع الحق الذي قامت من أجله السماوات والأرض، ليس هناك مفاجأة، عندما يؤمن الإنسان بالله عزَّ وجل صار عنده انسجام، هذا الكون يتناسب مع ما ذكره الله عزَّ وجل، حتى إنهم قالوا: الكون قرآنٌ صامت، والقرآن كونٌ ناطق، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآنٌ يمشي.

 

الله تعالى حكيم حميد:


الحق واحد، هذه الحقيقة الوحيدة في الكون حقيقة الذات الإلهيَّة تتبدَّى في الكون إبداعاً، وقدرةً، ورحمةً، وجمالاً، ولطفاً، وخبرةً، وغنًى، وتتبدَّى في القرآن إعجازاً، وتتبدَّى في أفعاله حكمةً ورحمةً، أفعاله كأقواله كخلقه، وأنت مخلوقٌ من مخلوقات الله عزَّ وجل، أي أروع ما في حياة المسلم هذا الانسجام في عقله، بين عقله وعاطفته، بين حاجاته وقيَمِهِ، بين دُنياه وآخرته؛ تضاد، تنافر، تشتُّت، تمزُّق، تبعثر، كل هذه الأمراض التي يعانيها الناس المؤمن معافاً منها، هذا معنى ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ حكيم يضع الشيء المناسب، في الوقت المناسب، في المكان المناسب، بالقدر المناسب، مع الرجل المناسب، هذه الحكمة، ومعنى الحكمة أن كل شيءٍ وقع أراده الله، وأن كل ما أراده الله وقع، وأن إرادة الله سبحانه وتعالى متعلِّقةٌ بالخير المطلق، وأن إرادة الله سبحانه وتعالى متعلِّقةٌ بالحكمة المطلقة، وأن حكمته المطلقة متعلِّقةٌ بالخير المطلق.

 معنى الحكمة أن كل شيءٍ وقع على نحو ما وقع لو لم يقع على نحو ما وقع لكان هذا نقصاً في حكمة الله عزَّ وجل، الشيء إذا وقع على خلاف ما وقع يُعد هذا نقصاً في حكمة الله عزَّ وجل، ﴿تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ وحميد أي يُحمد على أفعاله كلِّها، لذلك المؤمن حينما يؤمن أن أفعال الله سبحانه وتعالى حميدة، أي يحمده عليها كل مخلوق، يستقبل القضاء والقدر بكل رضا.

 لذلك مرَّةً كان أحد الرجال يطوف حول البيت، وكان يقول: "يا رب! هل أنت راضٍ عني؟ كان وراءه الإمام الشافعي فقال له: يا هذا وهل أنت راضٍ عن الله حتى يرضى عنك؟ فالتفت نحوه وقال: من أنت يرحمك الله؟ قال له: أنا محمد بن إدريس، قال: كيف أرضى عن الله وأنا أتمنَّى رضاه؟" قال: إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله" معنى ذلك أن الإنسان عليه أن يوقن أن أفعال الله يُحمد عليها، لكن لماذا نرى بعض الشر؟ هذا الشر نسبي، الإنسان حينما يرى أن الدنيا هي كل شيء، ويأخذ الله منه بعض الصحَّة، أو بعض المال، يظن أن هذا شراً، لكن إذا أدخلنا في الحساب الآخرة، وأن الله سبحانه وتعالى إنما يسوق بعض الشدائد للعبد المؤمن المسلم من أجل أن يرقى به، وأن يفوز بسعادة الدارين، عندئذٍ يتضح أن كل ما يفعله الله سبحانه وتعالى خيرٌ محضٌ. 


  الآية التالية تسليةٌ للنبي عليه الصلاة والسلام:


ثم يقول الله عزَّ وجل:

﴿ مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)﴾

[ سورة فصلت ]

هذا تسليةٌ للنبي عليه الصلاة والسلام، أي هذا شأن الرسالة.

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)﴾

[ سورة الحج ]

أي النبي يتمنَّى هداية الخلق، والشيطان يتمنَّى إضلالهم:

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)﴾

[ سورة الأنعام ]

فالله سبحانه وتعالى يُسَلِّي نبيَّه، يسرِّي عنه بهذه الآية، أي: ﴿مَا يُقَالُ لَكَ﴾ من تكذيب واعتراض وردّ للحق واستخفاف، مرة قالوا، ساحر، ومرة قالوا: شاعر، ومرة قالوا: مجنون، هذا الذي قيل لك قيل أيضاً لمن كان قبلك، ﴿مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ﴾ وهذا أيضاً نقوله لكل مؤمن صادق، لابد من خصوم لك أيها المؤمن، لابد من أهل الباطل، لابد من مبطلين يضيقون ذرعاً بدعوتك، لابد أن أهل الدنيا لا يعجبهم أن تدعو إلى الله، لابدّ أن المنحرفين يضايقهم أن تستقيم أنت، استقامتك تكشفهم، لذلك يصبون عليك كل انتقادهم، وكل تفنيدهم، وكل تجريحهم، فشيء طبيعي جداً، معركة الحق مع الباطل معركة أزلية أبدية، فكل من آمن بالله، ودعا إليه، له خصوم، وكل مؤمن له حسّاد، وكل من استقام على أمر الله باستقامته هذه يكشف انحراف المنحرفين، كل من اعتقد اعتقاداً صحيحاً مع الحجة والبرهان بحجته اليقينية يكشف زيغ الضالين فإذاً المجتمع في صراع أبدي سرمدي، قديم ومستمر، ﴿مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ﴾ هذا المعنى الأول.

المعنى الثاني: أي ما سأقوله لك يا محمد قلته لمن قبلك، ماذا قال الله له? قال: ﴿مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي الحق الذي قامت من أجله السماوات والأرض ينتهي بحساب دقيق، المحسن يُغفر له، والمسيء يعاقب عقاباً أليماً، المستقيم يُغفر له، والمنحرف يعاقب عقاباً أليماً، الوقّاف عند حدود الله يُغفر له، والذي لا يقف المجترئ على المعاصي يعاقب عقاباً أليماً، فملخص هذا الكون أن الله سبحانه وتعالى سيثيب المحسن وسيعاقب المسيء، هذا المعنى الثاني، أي سأقول لك يا محمد ما قلته لمن قبلك: ﴿مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ﴾ ما هو القول؟ ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي البشرية على اختلاف أجناسها، وألوانها، وأعراقها، وانتماءاتها، وعصورها، تنتهي إلى رجلين، رجل غفر له واستقر في الجنة، ورجل استحق النار، والثمن الطاعة والمعصية.

 

معاني قوله تعالى: جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ:


﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)﴾

[ سورة فصلت ]

الآية دقيقة جداً، ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾ بعضهم قال: لو أن القرآن نزل بلغة الأعاجم تعنتاً فالله سبحانه وتعالى يرد عليه، لو جعلناه قرآنا أعجمياً بلغة الأعاجم، لقال من لم يفهموه وهم العرب لولا فصلت آياته، لو جاء بلسان العرب، هذا المعنى الأول، ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ بلسان عربي ﴿أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾ ولو جعلناه قرآناً أعجمياً، والذي جاء به عربي، يقول بعضهم: أيكون الرسول عربياً ولسانه أعجمياً? لو جعلنا بعضه عربيّ وبعضه أعجميّ لقالوا: أيعقل أن يكون في وقت واحد أعجمياً وعربياً? هذا الكلام هو تعنت المُبطلين، إنسان يرفض الحق يريد أن يخترع اعتراضات، انتقادات، أسئلة، يريد أن يرد الحق، ويستخدم عقله لمحاولة إطفاء نور الله عز وجل.

 ثم يقول الله عز وجل– يوجد  معنى ثالث- أول معنى: النبي عربي والقرآن أعجمي، لو أن الله جعل بعضه عربياً وبعضه أعجمياً لقالوا: معقول أن يأتي قرآن واحد بعضه عربي وبعضه أعجمي؟

 طلبوا أن يكون أعجمياً ثم طلبوا أن يكون عربياً ثم عجبوا أن يكون أعجمياً وعربياً في وقت، ثم عجبوا أن يكون النبي عربياً وأن يكون كلامه أعجمياً. 

المعنى الثالث: أيعقل أن يكون كلام واحد واضحاً وضوح الشمس لأناس وغامضاً غموض الليل لأناس آخرين؟ كلام واحد أيعقل أن يكون واضحاً وغامضاً? أيمكن أن يكون كالشمس المضيئة لأناس وكالليل البهيم لأناس آخرين? فجاء الجواب: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ القرآن هو هو، كلام الله، المنزل على نبيه، المتعبد بتلاوته، المعجز في آياته، هذا الكلام إذا كنت مؤمناً وكنت قريباً من الله تكون آياته لك هدى وشفاء، يهتدي عقلك بآياته، وتشفى نفسك من أمراضها، كما قال الله عز وجل:

﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)﴾

[ سورة طه ]

وإذا كنت بعيداً عن الله أبعدتك المعاصي والآثام عندئذ تُنادى من مكان بعيد، عندئذ يكون هذا القرآن عمى على الظالم، قال تعالى:

﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)﴾

[ سورة الإسراء ]

وقال تعالى: ﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ إذاً لا القضية أعجمي ولا عربي، ولا أعجمي وعربي بآن واحد، ولا النبي عربي والكلام أعجمي، هذا كله  تعنت الكفار، وقالوا: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ .

 

القرآن هدى للضال وشفاء للمريض:


تعريف القرآن الكريم للمؤمن هدى وشفاء، لا يوجد عنده مشكلة فكرية إلا ولها حل في القرآن الكريم، القضايا الكبرى الاعتقادية القرآن أجاب عليها، أي سؤال كبير كبير القرآن أجاب عنه، وأي مرض نفسي القرآن شفاه، فالقرآن هدى للضال وشفاء للمريض، ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ﴾ لا يسمع ﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ لا يبصر، لماذا? قال: ﴿أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ معنى هذا القرآن يحتاج إلى قرب من الله عز وجل، لهذا قال أصحاب النبي: أوتينا الإيمان قبل القرآن، أي إذا الإنسان آمن بالله، واستقام على أمره، وأقبل عليه، وصار قريباً منه، القرآن الكريم يكون له هدى وشفاء، يهتدي عقله وتشفى نفسه، أما إذا كان بعيداً لا يعرف الله عز وجل، ومتلبساً بالمعاصي والآثام، فتبتعد نفسه عن الله، إذا كان بعيداً يُنادى من مكان بعيد، يكون كلام الله عليه كالكلام الأعجمي، إذا شخص لغته عربية ولا يتقن أي لغة أخرى وتحدث أمامه شخص باللغة الصينية أو باللغة التركية ماذا يفهم؟ يقول لك: لم أفهم شيئاً إطلاقاً، هذا تشبيه بليغ، هذا الذي لا يعرف الله والمتلبس بالمعاصي يكون القرآن عليه كالكلام الأعجمي الذي لا يفهم منه شيئاً، هذه الآية  دقيقة، القرآن هو هو، كلام الله، على أناس واضح كالشمس هدى وشفاء، وعلى أناس كالطلاسم: ﴿فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ والسبب: ﴿أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيد﴾ الله عز وجل رمز لبعدهم عن الله بالبعد المكاني، والإنسان إذا كان في طرف المدينة، وكان هناك صوت ضعيف ظهر من مركزها لا يسمعه، وإذا سمع يسمع أصوات لا يسمع كلاماً، فإذا واحد مثلاً وقف خارج الصحن، آخر الصحن، ولم يكن هناك أجهزة تكبير صوت يسمع كلاماً بالحرم، لكن لا يفهم، يسمع صوتاً لكنه لا يسمع كلاماً، لأنه بعيد ما فهم شيئاً، لو اقترب يفهم، انظر المعنى كيف أنه مجسد، وكذلك القرآن الكريم أنت لو عرفت الله، واستقمت على أمره، وأقبلت عليه، اقتربت منه، تفهم كلامه، تجد كلاماً واضحاً كالشمس، يحل كل مشكلة، يشفي كل مرض، أما إذا إنسان ابتعد فالمعاصي تُبعد، المعاصي بريد الكفر، الذي يبتعد لا تقطعنا بقواطع الذنوب، الطاعات توصل والمعاصي تبعد، معنى هذا تجسيد لقانون فهم كلام الله عز وجل، إذا ابتعدت عن الله لا تفهم، إذا شخص قال لك: والله ما فهمت شيئاً، هناك حوادث نادرة أخ له قريب يبدو أنه متلبس بآلاف المعاصي، أحضره إلى الجامع، أنا سمعتها بأذني والله، قال له: والله ما فهمت شيئاً، فعلاً لا يفهم شيئاً، غريب، بعده عن الله جعل بينه وبين كلام الله سداً: ﴿فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ :

﴿ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)﴾

[ سورة يس ]

المعاصي تعمل حجباً كثيفة فإذا الإنسان لم يفهم القرآن فليتهم نفسه، لا يتهم القرآن الكريم، القرآن واضح كالشمس، والآية دقيقة جداً، كلما اقتربت من الله ازداد فهمك لكتاب الله.

 

معاني القرآن الكريم تحتاج إلى قرب من الله واستقامة على أمره:


لذلك يوجد آية وإن كانت هي من المشترك اللفظي، قال:

﴿ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)﴾

[ سورة الواقعة ]

من معاني هذه الآية أن الإنسان غير الطاهر، المشرك، المتلبس بالمعاصي لا يستطيع أن يمس معاني هذا القرآن الكريم، هذه الآية ليست نهياً، لو أنها نهي لقال الله عز وجل: لا يمسسه، اللا ناهية والفعل المضعف فُكّ تضعيفه، لكن الله قال: لا يمسه، هذه اللا نافية أي الآية تنفي أن غير الطاهر يستطيع أن يمس المصحف، أن يمس كلام الله بالفهم، والتدبر، والوعي. 

هذا من بعض معاني الآية، ومن معانيها الظاهرة أن غير المتوضئ ينبغي ألا يمس القرآن، المعنى الظاهري، إذاً معاني القرآن الكريم تحتاج إلى قرب من الله، والقرب أساسه العمل الصالح والاستقامة على أمره، والاستقامة والعمل الصالح أساسه الإيمان به من خلال خلقه، هذه الآية أعطتنا قانون فهم القرآن الكريم:

﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)﴾

[ سورة فصلت ]

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور