وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 02 - سورة الزمر - تفسير الآيتين 5-6 معرفة الكون نفعية وإيمانية وأهمية الآيات الكونية.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. 

 

الآيات الكونية التي تحدث عنها القرآن تأخذ حَيِّزاً واسعاً جداً في كتاب الله:


أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس الثاني من سورة الزمَر، ومع الآيتين الخامسة والسادسة.

الآية الرابعة أيها الأخوة آيةٌ قرآنية تتحدث عن الكون، وقبل أن نمضي في شرح هذه الآيات بتوفيق الله وبعونه، أحبّ أن أقف قليلاً عند الآيات الكونية.

يا أيها الأخوة الأكارم؛ لو قرأتم القرآن بأجزائه الثلاثين لوجدتم أن حجم الآيات الكونية حجمٌ كبير، تأخذ الآيات الكونية التي تحدث عنها القرآن حَيِّزاً واسعاً جداً في كتاب الله، ألم يسأل أحدكم هذا السؤال: لماذا ذكَّرنا الله بهذه الآيات؟ ما الهدف من ذلك؟ الإنسان العادي العاقل إذا تكلم فلكلامه قصدٌ واضح، ربنا سبحانه وتعالى حينما قال: 

﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)﴾

[ سورة الزمر ]

 

الآيات الكونية في القرآن الكريم ما ذكرها الله إلا لتكون وسيلةً لمعرفته سبحانه:


سؤالٌ كبير وسؤالٌ خطير: لماذا هذه الآيات الكونية؟ الجواب البسيط هو أن الله سبحانه وتعالى لا يُدرَك بالحواس، قال تعالى:

﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)﴾

[ سورة الأنعام  ]

ولكن العقول تتعرف إليه، الشيء اللطيف في الموضوع أن الشيء إذا ظهر وآثاره فسبيل الإيمان به الحواس، هذا اليقين الحسي، إذا رأيت عينَ النارِ ودخانها يكفي أن تنظر إليها، تقول: هذه النار، أما إذا غابت ذات الشيء وبقيت آثاره، فسبيل الإيمان به الاستدلال العقلي، ربنا جلّ جلاله ذاته غابت عن حواسِّنا، ولكن آثاره باديةٌ لنا، آثاره في كل شيء، في أنفاسك، في تفكيرك، في أحاسيسك، في طعامك، في شرابك، في مسكنك، في لباسك، في أهلك، في أولادك..

وفي كل شيء له آية                 تدل على أنه واحد

[ لبيد بن ربيعة ]

* * *

هذه كلها تنطق بوجوده، تنطق بكماله، تنطق بوحدانيته، تنطق بأنه هو الخالق، هو الرب، هو المسَيِّر، لذلك لما ذكر ربنا عز وجل هذه الآيات الكونية في قرآنه الكريم، ما ذكرها إلا لتكون وسيلةً لمعرفة الله، قال تعالى:

﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)﴾

[ سورة الجاثية ]

أي ما من طريقٍ إلى الإيمان بالله إلا من خلال آياته، لأن ذات الله غابت عن حواسِّنا:

﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)﴾

[ سورة الأعراف ]

أي طبيعتك المادية لا تحتمل أن تراني: ﴿وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً﴾

 

الكون تجسيد لأسماء الله الحسنى:


إذاً لا سبيل إلى معرفة الله عن طريق الحواس، كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك، ليس بشيءٍ ولا متبَعِّضٍ ولا متجزئٍ، أي هناك وصف لله عظيم جداً، لكن هذا الكون يدل عليه، ربما كان هذا الكون- إن صح التعبير- مظهراً لأسماء الله الحسنى، ربما تجسَّدت- إن صح التعبير- أسماء الله الحسنى بهذا الكون، فأنت إذا تأمَّلت في الكون وصلت إلى الله، الأجانب تأملوا في الكون، لكن ما وصلوا إلى الله، لأنهم حينما تأملوا في الكون أرادوا النفع المادي، هدفهم مادي، وصلوا إلى أهدافهم بأعلى درجة، ولكنَّهم ما عرفوا الله، لكن المؤمن إذا تأمل في الكون لا ليخترع اختراعاً ويسجله في دائرة حفظ المُلكية الأدبية، ليربح منه ألوف الملايين، لا، يتأمل في الكون ليتعَّرف إلى خالق الكون، لأنك إذا تعرَّفت إلى خالق الكون صرت إنساناً آخر، قال تعالى:

﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)﴾

[  سورة طه  ]

﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)﴾

[ سورة البقرة ]

هل تريد أكثر من ذلك؟!!

آلا يضل عقلك، وآلا تشقى نفسك، وآلا تندم على ما فات، وآلا تخشى مما هو آت، هذه أعلى درجة بالسعادة النفسية، آلا يضل عقلك، وآلا تشقى نفسك، وآلا تندم على ما فات، وآلا تخشى مما هو آت، ﴿فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾ .

 

التدين فطري:


كم هناك من ضلالات في البشر؟ ملايين مُمَلينة - إن صح التعبير- تعبد البقر من دون الله، ملايين مُمَلْيَنَة تعبد آلهةً نُحِتَت من الحجر في شرقِ آسيا، ضلالاتٌ وأوهامٌ، التدين فطري أيها الأخوة، قال تعالى:

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)﴾

[  سورة الروم ]

إقامة وجهك للدين حنيفاً هي الفطرة، أي نفسك مهما تحركتْ، مهما سعيت إلى السعادة لن تجدها إلا بالله، ربما لاح لك في أوائل الحياة أن المال هو كل شيء، ربما بدا لك أن المرأة هي كل شيء، ربما ظننت أن العلو في الأرض هو كل شيء، ولكن في منتصف الحياة ترى أن المال شيءٌ وليس كل شيء، وأن اللذة شيءٌ وليست كل شيء، وأن العلو في الأرض شيءٌ وليس كل شيء، ولكن إذا اقتربت ساعة المُغادرة، المغادرة بلا عودة إذا اقتربت ترى أن المال ليس شيئاً، وأن اللَّذة ليست شيئاً، فالبطولة أن ترى هذا في مقتبل حياتك، إذا كانت هذه الرؤية لابُدَّ منها في وقتٍ ما فالبطولة أن تراها في وقت مناسب، أن تراها وأنت مقبلٌ على الدنيا حتى تتعرف إلى الطريق الصحيح، ماذا تفعل؟

 

تعاملنا مع الكون يجب أن يكون تعاملاً نفعياً وتعاملاً معرفياً:


إذاً ربنا سبحانه وتعالى جعل الكون مظهراً لأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى، فحيثما وَرَدَ في القرآن ذِكْرُ الكون فالقصد الكبير أن تتأمل في الكون، لا من أجل أن تنتفع منه كشأن أهل الكفر، إذا تأمَّلت من أجل أن تنتفع منه لا مانع إذا اقترن النفع مع الهدى، ابنك الذي أمامك، خيرٌ لك ينفعك إذا شاء الله ذاك، وهو يرشدك إلى الله عزَّ وجل، كأس الماء، رغيف الخبز، الوردة التي خلقها الله إكراماً لك، تشم رائحتها، تنتعش برائحتها الفوَّاحة، وتدلُّك على الله.

ولكن أيها الأخوة الأكارم؛ أتمنى على الله أن تقنعوا أن الهدف الأول من خلق الكون هو أن تتعرف إلى الله منه.

الهدف الثاني هو أن تستفيد منه، لو أن الإنسان استفاد من الكون من دون أن يتعرف إلى الله عزَّ وجل، ماذا أقول لك؟ لا أستطيع أن أعبر لك عن فكرة دقيقة، لو معك شيك بمليار، وأنت استخدمته كمسودة ثم مزَّقته، يا ترى هذه الورقة الصغيرة أيهما أشد قيمةً أن تأخذ ثمنها مليوناً أم أن تستخدمها كورقة مسودة ثم تمزِّقها؟ أنت حينما تنتفع بالكون، ولا تتعرف إلى الله من خلاله هذا النفع محدود في الدنيا، لو وصلت إلى القمر، لو غُصت في أعماق البحار، لو ملكت أعظم الأسلحة، لو تحكَّمت بالعالم كله، أليس هناك موت؟ سبحان من قهر عباده بالموت، أليس هناك نهاية؟ لابدّ من نهاية، كل مخلوقٍ يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت.

الليل مهمـا طـال  فلا بدَّ من طلوع الفجر    والعمر مهما طـال  فلا بد مـن نزول القبر

[ صالح بن محمد بن عبد الله ]

* * *

إذاً هذا الكون تعاملي معه بطريقتين أو بنوعين من التعامل؛ تعامل نفعي، وتعامل مَعرفي، التعامل النفعي تنتفع به ما دُمت حياً ترزق، تنتفع به ما دام قلبك ينبض، تنتفع بطعامه، بشرابه، بحدائقه، بمبانيه، بمقاصفه، بجباله الخضراء، بسواحله الجميلة، تنتفع به، تنتفع بهذه المُخترعات، مركبة فارهة، يَخْت جميل، طائرة ضخمة، مقاصف جميلة، بساتين، قصور شاهقة، وسائل حديثة، تنتفع به، ولكن ماذا بعد الموت؟ هنا المشكلة، لو أن الحياة الدنيا هي كل شيء، لكان الذين انتفعوا بالكون هم أذكى الأشخاص، ولكن لأن الحياة الدنيا ظلّ زائل، وعاريةٌ مستردة، أمدها قصير، وشأنها حقير، فمن أقبل عليها إقبال النهِم، من اتَّجه إليها اتجاه اللهفان، ثم فوجئ بعد نهاية المطاف أنها ليست كل شيء، وأن الدار الآخرة لهي الحيوان، لهي الحياة الحقيقة.

 

ثلاثة طرقٍ سالكةٍ إلى الله عزَّ وجل طريق خلقه وطريق كلامه وطريق أفعاله:


ما قولك أن يقول الإنسان عند الموت:

﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)﴾

[ سورة الفجر ]

لي قريب ترك ثروةً طائلةً، قال لامرأته قبل أيام من موته: أقبلنا على التافِه وتركنا الثمين، متى عرف ذلك؟ بعد فوات الأوان، الثمين أن تعرف الله، الثمين أن تغتني حياتك بالعمل الصالح، يا بشر لا صدقة ولا جهاد فبمَ تلقى الله إذاً؟ والله سؤال خطير وسؤال محرج، يا ربي، أنت إذا أوقفتني أمام خلقك، أنت إذا أوقفتني أمام هؤلاء المؤمنين الذي باعوا أنفسهم في سبيل الله، أنت ماذا قَدَّمت؟ ماذا فعلت؟ ماذا تركت؟ كل شيءٍ تفعله للدنيا يبقى في الدنيا.

أيها الأخوة الأكارم؛ لماذا الإيمان؟ من أجل العمل، ولماذا العمل؟ من أجل السعادة، أنت لا تسعد إلا مع الله، والله لا يقبلك إلا بعملٍ صالح..

﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)﴾

[ سورة النحل  ]

ولن تعمل صالحاً إلا إذا آمنت به، وكيف تؤمن به؟ من هذه الآيات التي بثَّها الله في الكون، إذاً يمكن أن تؤمن بالله من خلال خلقه، ويمكن أن تؤمن به من خلال أفعاله، آياته الكونية، أو آياته التكوينية، ويمكن أن تؤمن به من خلال كلامه، ثلاثة طرقٍ سالكةٍ إلى الله عزَّ وجل، طريق خلقه، وطريق كلامه، وطريق أفعاله. 

 

لا زال الفكر حتى الآن عاجزاً عن إدراك ذات الله تعالى:


ربنا عز وجل في آياته القرآنية حَدَّثَنَا عن آياته الكونية، قال: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ قبل أن نقول بالحق، كلمة السماوات والأرض أي أنت إنسان، أنت إنسان مكرم، أنت المخلوق الأول، أنت الإنسان الذي أعطاك الله قوةً إدراكية، هذا كأس الماء لا يُدرك، تشربه لكنه لا يدرك، هذه الطاولة تستعملها لكنها لا تدرك، الحيوان هرةٌ صغيرة في بيتك، كم تعرف من قضايا العالم؟ يا ترى هذه الأزمات الطاحنة بالعالم هل عندها علم بها؟ أطعمها قطعة لحمٍ رضيت وانتهى الأمر، هذه هي حالة الحيوان، خُلِقَ ليأكل ويشرب، المَلَك خلق ليسبِّح، لكنك أنت أيها الإنسان رُكِّبْتَ من عقلٍ وشهوة، فحينما أعطاك هذه القوة الإدراكية، شيءٌ مؤلمٌ جداً أن تستخدم هذا الفكر البشري الذي يُعدُّ أعقد ما في الكون - أنا أعني ما أقول - أعقد ما في الكون، لا زال هذا الفكر عاجزاً عن إدراك ذاته، الآن هناك أسئلة كثيرة، اسألوا عنها الأطباء، لا يزال تحول الصوت، أنت سمعت صوتاً، هذا الصوت تطرَب له، وهذا الصوت يكاد يخرجك من جلدك، كلاهما ذبذبات، وكلاهما موجات، حتى الآن العلم عاجزٌ عن أن يدرك كيف تُفَرق الأذن بين النغم وبين الضجيج، تدخل إلى شلالٍ، صوتٌ صاخب ولكنك تطرب له، تدخل إلى معملٍ تشعر كأن وخزاً في أذنك، هذا صوت وهذا صوت، العلم لا يزال يحبو، لا يزال كما قال بعض العلماء: لم تبتل بعد أقدامنا ببحر العلم. 

كيف يتحول هذا الإحساس الكيميائي إلى ذَوْق؟ هذا الطعام طيب، هذه النكهة طيبة، حتى الآن ليس معروفاً، كيف تتذكر؟ فرضيَّات، مثلاً إن في ذاكرتك الشمية ثمانمئة رائحة، تشم هذه الرائحة، تفكر لعدة ثوان ثم تقول: هذه رائحة الياسمين، أو فيها يانسون، أو في هذه الرائحة مثلاً عنبر، من قال لك ذلك؟ قال بعض العلماء: إن هذه الرائحة التي شممتها قد عُرِضت على ثمانمئة رائحةٍ في أقل من لمح البصر، ثم أثناء العرض توافقت هنا تقول: هذه ياسمين، أحياناً تنظر إلى رجل قد رأيته قبل أربعين عاماً مرةً واحدة، تقول له: أنت فلان، ما هذه الذاكرة؟ كم تتسع؟ إلى صور، إلى مشمومات، إلى محسوسات، إلى مُدركات، سبعون مليار صورة، قال بعض العلماء هو الحد الأدنى لذاكرة الإنسان، سبعون ملياراً.

 

البطولة أن تتعرف إلى الله من خلال الفكر:


هذا الفكر أليس من الجهل والعار أن تستخدمه لهدفٍ تافه؟ إنسان يشتري كمبيوتراً، ثمنه خمسة وثلاثون مليوناً يستعمله طاولة يضع عليها جهاز الهاتف؟! لا، قد يقوم مقامه طاولة ثمنها خمسة آلاف، خمسة وثلاثون مليوناً تجمِّدها من أجل أن تضع فوقها جهاز هاتف! هذا إنسان غير عاقل، يبدو أن هذا المثل صارخ وحاد، لا، الذي يستخدم فكره هذه الطاقة الإدراكية الكبرى في كسب المال فقط، أو في الاحتيال على الناس، أو في الإيقاع بينهم، أو في امتلاك أموال الناس، أو في السيطرة عليهم، من دون أن يستخدمه في معرفة الله، فو الله مغبون، ألم يسمِّ الله يوم القيامة بيوم التغابن، ما هو يوم التغابن؟ الإنسان الذي قَصَّرَ في معرفة الله يشعر أنه مغبون، الإنسان يبكي ولو أجريت السفن في دموعه لجرت، ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي*فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ*وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾ .

﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)﴾

[  سورة الحاقة ]

أي هذا الفكر لم يستخدمه في معرفة الله، استخدمه في كسب المال، في الإيقاع بين الناس، في الاحتيال، استخدمه في السيطرة على العالم، ليس هذا هو الذكاء، البطولة أن تتعرف إلى الله، لو ملكت العالم كله، ولو كان العالم كله يأتمر بأمر رجلٍ واحد، لابدّ من أن يموت، ولابدّ من أن يُحَاسب عن كل دمعةٍ سالت في الشعوب، وعن كل قطرة دمٍ سالت من أجل كسب الأموال، والثروات، والسيطرة، أبداً، لذلك المؤمن العاقل حينما يمتن الله عليه بالهداية، يرى أنه قد حصَّل شيئاً ما حصَّله أحدٌ من أهل الدنيا، ما قاله بعض الأئمة رضوان الله عليهم: "لو يعلم الملوك ما نحن فيه - والله لم يبالغ، لا والله - لو يعلم الملوك ما نحن فيه لقاتلونا عليه بالسيوف"

 

الإنسان في حياةٍ إعدادية لحياةٍ أبدية:


تتعرف إلى خالق الكون، وتهتدي بهداه، وتُحقق الهدف الذي من أجله خُلِقت، وأنت في طريقك إلى الجنة، هذا هو المُلْك، قال تعالى:

﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)﴾

[ سورة الإنسان ]

إذا قلنا لشخص: فلان مساحة بيته ألفا متر، ما هذا الكلام، ليس من المعقول؟ ويقع وسط غابات مساحتها عشرة آلاف متر مربع، وله بكل مكان قصر جميل، وله يخت، ما هذا المُلك العظيم؟ ربنا العظيم قال: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً﴾ عندما أنت تؤمن لك عند الله ملكٌ كبير، الله عزَّ وجل خلقك لحياةٍ عُليا أبدية، وجاء بك إلى حياة دُنيا إعدادية، نحن في الإعداد، نحن في حياةٍ إعدادية لحياةٍ أبدية، فالشقي معه هذه السنَد أو هذا الشيك، استعمله كورقة مسوّدة ومزقه، هذا الشيك بمليون أو بألف مليون بالعملة الصعبة، حينما يكتشف أن هذا شيك بألف مليون دولار، استخدمه مسوّدة ثم مزّقه، يمكن أن يموت من القهر، هذه حالة الكافر يوم القيامة، ﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي*فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ*وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾ .

 

الكون من آيات الله الدالة على عظمته:


إذاً ما حجم الكون؟ سؤال محرج: هل أنت موقن يقيناً يشبه يقينك بوجودك أن هذا كلام الله؟ إذا كنت كذلك فإن الله عزَّ وجل يقول:

﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)﴾

[  سورة الجاثية ]

أرجو الله أن أتمكن من أن أقرب لكم فكرة عن الكون، الكون في بعض التعاريف الحديثة فيه مليون ملْيون مجرة، درب التبَّانة هي مجرتنا، المجموعة الشمسية، التي هي الشمس وأحد عشر كوكباً منها الأرض تبدو نقطة صغيرة على هذه المجرة، تصور شكلاً مغزلياً والمجموعة الشمسية بأكملها نقطة على هذه المجرة، المجموعة الشمسية طولها مئة وخمسون ألف سنة ضوئية، ما معنى سنة ضوئية؟ أي الضوء يقطع في الثانية ثلاثمئة ألف كيلو متر، أي القمر يبعد عنا ثانية ضوئية واحدة، أي إذا صدرت أشعةٌ من القمر نراها في الأرض بعد ثانية، القمر بعده ثانية والشمس بعدها ثماني دقائق، الشمس بعدها عنا مئة وستة وخمسين مليون كيلو متر، ضوءها يصلنا بعد ثماني دقائق فقط، المجموعة الشمسية كلها - أحد عشر نجماً - قطرها ثلاث عشرة ساعةً ضوئية، أما درب التبانة فطوله مئة وخمسون ألف سنة ضوئية، المجرة، بعض المجرات المتوسطة فيها مليون ملْيون نجم، كل هذا الكون من أجلك بنص القرآن الكريم: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ﴾ .

أتحسب أنك جرمٌ صغير             وفيك انطوى العالم الأكبر

[ علي بن أبي طالب ]

* * *

 

إعجاز الله في خلق الكون:


لا أريد أن أجعل الدرس درس علوم، لكن لا بُدَّ من ذلك، أقرب نجم ملتهب يبعد عن الأرض أربع سنوات ضوئية، أما المنطفئ فالقمر طبعاً وهو أقرب نجم يبعد ثانية ضوئية، أما الملتهب كالشمس فأربع سنوات ضوئية، الشمس ثماني دقائق، ثماني دقائق بعدها عنا، أما أقرب نجم ملتهب غير الشمس أربع سنوات ضوئية، عليك اليوم أن تجري حساباً بالآلة الحاسبة إن شئت، هذا النجم الذي يبعد عنا أربع سنوات ضوئية، لو ضربت المسافات وحولتها إلى الكيلو مترات، وقسمتها على مئة بالساعة، وقسمتها على أربعٍ وعشرين ساعة باليوم، وقسمتها على ثلاثمئة وخمسة وستين يوماً بالسنة، من أجل أن تصل إليه بمركبة أرضية تحتاج إلى ما يقارب من خمسين مليون عام، هذا النجم الذي هو أقرب نجم ملتهب إلى الأرض، أربع سنوات ضوئية فقط، بمركبةٍ أرضية سرعتها مئة كيلو متر في الساعة، تحتاج إلى أن تصل إليه إلى ما يقارب من خمسين مليون عام، وكل عمر الإنسان ستون سنة، فكيف بنجم القطب أربعة آلاف سنة ضوئية؟ فكيف بمجرة المرأة المسلسلة مليون سنة ضوئية؟ فكيف ببعض المجرات ستة عشر ألف مليون سنة ضوئية؟ اسمع قوله تعالى:

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75)وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76)﴾

[ سورة الواقعة  ]

أنت هل تعرف ما حجم الكون؟ هل تعرف معنى مليون ملْيون مجرة؟ هل تعرف أن المجرة فيها مليون ملْيون نجم؟ هذا خلق الله، والله سبحانه قال:  

﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)﴾

[ سورة يونس ]

 

الإيمان أن يجتمع في قلبك تعظيمٌ وحبّ وخوف:


الله عز وجل قال:

﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)﴾

[ سورة يوسف ]

غافل، أكبر مرض هو الغفلة والأمل، غافل عن الله، مُتأمل في الدنيا، هذا مرض خطير، لذلك ربنا عزَّ وجل قال: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ هو الخالق، هل من خالقٍ غير الله؟ ما من إلهٍ إلا الله الواحد القهار، هذا الإله العظيم ألا يستحق أن تعبده؟ ألا يستحق أن تخافه؟ قال: يا رب! أي عبادك أحبّ إليك حتى أحبه بحبك؟ قال: أحبّ عبادي إليّ تقي القلب، نقي اليدين، لا يمشي إلى أحد بسوء، أحبني، وأحبّ من أحبني، وحببني إلى خلقي، قال: يا رب إنك تعلم إني أحبك، وأحبّ من يحبك، فكيف أحببك إلى خلقك؟ قال: ذكرهم بآلائي، ونعمائي، وبلائي، أنا ذكرت هذا النص للفقرة الأخيرة منه: ذكرهم بآلائي ونعمائي وبلائي، الآلاء من أجل التعظيم، والنَعماء من أجل الحُبّ، والبلاء من أجل الخوف، فينبغي أن تعظِّمَهُ بقدر ما تحبه بقدر ما تخافه، الإيمان أن يجتمع في قلبك تعظيمٌ وحبّ وخوف، من الأمراض الوبيلة التي لا يحتملها الإنسان أحياناً، من الزلازل والبراكين، من الفيضانات، من الصواعق، من الرياح العاتية، من بأس الإنسان.  

﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)﴾

[ سورة الأنعام  ]

وتستمعون ماذا يجري في بعض البلاد من بأس شديدٍ يفعله الإنسان بأخيه الإنسان، بأس شديد، فهذا البلاء من أجل أن تخافه، هناك أمراضٌ وبيلة، هناك قهرٌ، هناك إذلالٌ، هناك فقرٌ، هناك فقرٌ مدقع.

 

العبادة الأولى هي التفكُّر في خلق السماوات والأرض:


إذاً العبادة الأولى هي التفكُّر في خلق السماوات والأرض، ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ معناها بالحق، معنى بالحق أي هذا الكون مبني على عِلم إلهي، هذا الكون إذا كان مليون ملْيون مجرة، وبكل مجرة مليون ملْيون نجم أو أقل أو أكثر تقريباً، هذه النجوم متفاوتة في الحجم، شمسنا تكبر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرة، أي مليون وثلاثمئة ألف أرض تدخل في جوف الشمس، وشمسنا نجمٌ ملتهبٌ متوسِّط، هناك شموس تكبره بملايين المرات، تصوَّر حجم الكواكب والنجوم، تصور عددها، تصور الفراغات فيما بينها، تصور ساحة مدرسة مساحتها تعدل خمسين متراً بخمسين متراً، فيها كرات صغيرة، فيها عشرون كرة ملقاة في هذه الساحة، هذا حجم الفراغ الكوني إلى الكواكب في الكون، الأرض فيها فراغات بينية، لو دخلت - كما يقول العلماء - في ثقبٍ أسود لأصبحت بحجم البيضة، الأرض تتكون من خمس قارَّات، وأربعة أخماسها بحر، بحجمها الكبير، لو دخلت في ثقبٍ كوني أسود لأُلغيت الفراغات البينية، وأصبحت في حجم البيضة، وفي وزن الأرض نفسه، إذاً الكون بالمسافات بين الكواكب.. 

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)﴾

[  سورة الحاقة  ]

﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ بعدد مجرَّاته، بعدد نجوم المجرة الواحدة، بالفراغات بين المجرات، بالفراغات بين النجوم في المجرة الواحدة، بالفراغات بين الذرَّات، هذا الكون متجاذب تجاذباً حَرَكِيّاً.

 

قوة التجاذب في الكون من آيات الله الدالة على عظمته:


هل تستطيع أنت ولو كنت من أعلم العلماء بالفيزياء أن تأتي بقطعتي مغناطيس متساويتين بالحجم، وأن تضعهما على سطحٍ صقيل، وأن تضع بينهما كرةً صقيلةً، بحيث يتكافأ جذب الكتلتين فتستقر في الوسط؟ لن تستطيع ذلك، لن تستطيع مهما جهدت، أن تجعل هذه الكرة الصقيلة على سطحٍ صقيل تستقر بين الكتلتين المغناطيسيتين، لو تحركت ميكروناً واحداً تنجذب إلى جهة أخرى، تصور كتلتين ليستا في حجمٍ واحد، معنى ذلك أنها تحتاج إلى حسابات، لو كانت بحجوم مختلفة هناك حسابات أخرى، لو كانت خمس كتل بحجوم مختلفة فالحساب أصعب وأصعب، لو كان بالفراغ، لو كان ملايين الملايين من الكتل كلها متحركة، هي مستقرة صعب فكيف وهي متحركة؟ ملايين الكتل كلها متجاذبة حركياً، وكلها تتحرك في الفراغ، والمحصلة استقرار حركي، توازن حركي، هذه قوة التجاذب:

﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)﴾

[  سورة الرعد ]

يوجد أعمدة، قالوا: لو أن الأرض خرجت من جذب الشمس، وأردنا أن نعيدها إلى الشمس، كم نحتاج؟ قال: نحتاج إلى مليون ملْيون كبل من الفولاذ المضفور، قطر كل كبلٍ خمسة أمتار، وكل كبل يتحمل قوة شد تقدر بمليوني طن، أي الأرض مربوطة بقوة جذب للشمس تعادل مليوني طن ضرب مليون مليون، أي بألفي مليار طن الشمس تجذب الأرض، كل هذا الجذب من أجل أن تحرف الأرض في مسارها حول الشمس ثلاثة ميليمترات في كل ثانية، في أثناء حركتها حول الشمس تنحرف ثلاثة ميليمترات في كل ثانية فتشكل مداراً مغلقاً حول الشمس وتدور، وهذا معنى قوله تعالى:

﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)﴾

[ سورة الطارق  ]

كل كوكبٍ في الكون يدور ويرجع إلى مكان انطلاقه، لأن مساره مغلق.

 

معنى كلمة (بالحق):


ربنا عزَّ وجل بكلمة واحدة وصف الكون كله، قال: ﴿وَالسَّمَاء ذَاتِ الرجع﴾ هذه معنى بالحق، يوجد أشياء كثيرة في موضوع المجرات، أنا هيَّأت لكم بعض الحقائق، أولاً تصور أن الكون ليس متحركاً، ما معنى بالحق؟ لولا الذي هو عليه لانتهى الكون، كلمة بالحق أي مبني على علم، لو أن الكون كَفَّ عن الحركة، ما دام هناك قوى تجاذب بين المجرات والنجوم، الأكبر يجذب الأصغر، إلى أن يصبح الكون كتلةً واحدة، نحن أين نصير؟ ذرة وسط جسم لا يعلم إلا الله حجمه، إذاً لولا الحركة، لأن الحركة ينشأ عنها قوة نابذة، هذه القوى النابذة تكافئ القوى الجاذبة، توازن حركي، فإذا أمسك أحد ما وعاء ماء وأداره، الماء لا يقع، حينما صار الوعاء في الأعلى تحت الماء فارغ، لماذا بقي الماء في قعر الوعاء؟ شيء عجيب!! لا، حين الدوران تنشأ قوى نابذة، لولا حركة الكون لأصبح الكون كتلةً واحدة، ما معنى بالحق؟ أي الكون خُلِقَ وفق علم، علم دقيق، الأغرب من ذلك، الأرض مثلاً في دورتها حول الشمس سرعتها متبدلة بحسب مكانها في مسارها، لأن مسار الأرض حول الشمس إهليلجي - ليس دائرياً - معنى ذلك أن هناك قطراً أعظمياً وقطراً أصغرياً، حينما تقترب الأرض من القطر الأصغري تزيد سرعتها لئلا تنجذب إلى الشمس، ولو أنها زادت من سرعتها فجأةً واحدة يُقال: هنا كانت مدينة اسمها باريس، لو أن الأرض رفعت سرعتها فجأةً لانهدم كل ما عليها، ما بقيت عليها مدينة، ولكن الله لطيف، يزيد سرعتها شيئاً فشيئاً، بالتدريج، وهذا ما يسمونه بالتسارع، تسارعها بطيء، وحينما تخرج من دائرة قطرها الأصغر تعود إلى سرعتها البطيئة أيضاً بالتدريج، ما معنى بالحق؟ أي وفق علم، هذا علم الله عزَّ وجل، هذا الذي سمَّاه الفلاسفة العقل الأول، تصميم رائع.

 

خلق الله عز وجل الأرض وما يتعلق بها بالحق أي وفق العلم:


هذه الأرض تستمد الحرارة والضوء من الشمس، لو أنها لا تدور حول نفسها لانتهت الحياة من على سطحها، هذا الوجه ثلاثمئة وخمسون درجة، وهذا الوجه مئتان وسبعون درجة تحت الصفر، لكنها تدور، بهذا الدوران يصبح جوُّها معتدلاً، لو أنها توقفت عن الدوران لانتهت الحياة، ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ أي وفق علم، لو دارت على محورٍ موازٍ لسطح دورانها حول الشمس - مستوي دورانها - دارت هكذا والشمس من هنا، كأنها واقفة، لو أنها دارت هكذا، والشمس من هنا، نصفها الأول مع الشمس دائماً وأبداً، ونصفها الآخر من دون شمسٍ دائماً وأبداً كأنها واقفة، من الذي صممها أن تدور بمحورٍ ليس قائماً تماماً مائلاً على مستوي دورانها؟ هو الله عزَّ وجل، إذاً أنت لو أيقنت أن الأرض لو كفت عن الدوران لانتهت الحياة، ولو أنها دارت على محورٍ موازٍ لمستوي دورانها حول الشمس لانتهت الحياة، ولو أنها دارت على محور قائمٍ مع مستوي دورانها لانتهت الحياة، لا يوجد الفصول، هذه المنطقة صيف إلى أبد الآبدين، وهذه شتاء إلى أبد الآبدين، النبات يحتاج إلى حرارة وبرودة، وإلى طقس متبدل ورياح، أما ميل محورها جعل هذه المنطقة في الأرض أشعة الشمس فيها عمودية، هنا مائلة، هنا صيف، هنا شتاء، فلمَّا وصلت الأرض إلى هذه الجهة، الآية انعكست، عمودية في الجنوب مائلة في الشمال، إذاً دورتها حول محورٍ ليس موازٍ لمستوي دورانها بالحق، دورتها حول محورٍ مائلٍ بالحق، حجمها بالحق، لو كان حجمها أكبر لكان الإنسان وزنه أكبر، الإنسان على القمر، الذي شاهد الإنسان على القمر بصور متحركة، رأى كيف أن رائد الفضاء لما ضغط ضغطة على قدمه ارتفع مترين، لأن وزن الإنسان على سطح القمر سدس وزنه على الأرض، كلما كبر الحجم زادت الجاذبية، من خلق الجاذبية؟

﴿ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)﴾

[ سورة النمل ]

من جعل الأشياء تنجذب إلى الأرض؟ الله عز وجل.

 

الماء أيضاً من آيات الله الدالة على عظمته:


إذاً: 

﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ﴾

[ سورة الزمر ]

 معنى بالحق وفق العلم، معنى بالحق وفق الحكمة، بحكمةٍ ما بعدها حكمة، هل تصدق أن بالماء ظاهرة واحدة لو انعدمت لانعدمت الحياة؟ الماء شأنه شأن أي عنصر يتمدد بالحرارة وينكمش بالبرودة، كأي عنصر، إلا أن الماء يتميِّز بأنك إذا بَرَّدته إلى درجة (+4) تنعكس الآية، يزداد حجمه مع تبريده تحت هذه الدرجة، من يصدق أن حياة الأحياء متوقفةٌ على هذه الخاصَّة؟ ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ لو قلنا: إن الماء كلما برَّدناه أو برد انكمش لارتفعت كثافته، وإذا ارتفعت كثافته غاص في أعماق البحار، قطعة الثلج لو زادت كثافتها لغاصت في أعماق الماء، فالبحار المتجمدة كلما تجمد سطحها غاصت إلى أسفلها، بعد حين تصبح البحار كلها متجمِّدة، وبعد حين ينعدم هطول الأمطار، فينعدم النبات، فينعدم الحيوان، فينعدم الإنسان، هذه الحياة أساسها خاصَّة موجودة في الماء، لا تزال تحيِّر العلماء خاصة الماء، هذا الماء إذا أراد أن يتمدد لا شيء يقف في وجهه، الآن أحدث عملية في تفتيت الصخور هي حقنها بماء ثم تبريد الماء، صخر من أقسى العناصر، الماء إذا تمدد يفلق الصخر كما يقولون، من أعطى الماء هذه الخاصة؟ الماء لا يُضغط، ثمانمئة طن بمكبس على متر مكعب ماء لم ينضغط ولا ميلي، الماء لا ينضغط وإذا تمدد لا شيء يقف في وجهه، هذا معنى:

﴿ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12)﴾

[  سورة الطارق ]

ما الذي صَدَّعها؟ تجمُّد الماء، ما الذي قلب الأرض من صخور إلى تربة؟ تجمد الماء: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ*وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ*إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ .

 

بعض من دلالات معنى (بالحق):


إذاً هناك أشياء بالكون مذهلة أيها الأخوة، هذا معنى بالحق؛ أي بالحكمة، حدثني أخ من مدة قال لي: كنا بفنلندا، كانت درجة الحرارة أربعين تحت الصفر، قلت له: هناك آية كونية، هل انتبهت لها؟ قال: لا، لم أنتبه لهاـ قلت له: أنت بهذه المنطقة الباردة ممكن أن تضع قفَّازات في يديك صوف أو جلد، وممكن أن تغطي رأسك بقطعة من الصوف، ويمكن أن تضع على رأسك شيئاً يقيك البرد، ويمكن أن ترتدي ألبسة قدم سميكة جداً، قال لي: جيد، قلت له: هل بإمكانك أن تغطي عينيك من أجل ألا يصيبهما البرد؟ قال: لا، قلت: إذا كانت الحرارة أربعين تحت الصفر لمَ لم يتجمد ماء العين؟ الله عزَّ وجل أودع في ماء العين مادةً مضادةً للتجمُّد، هذه معنى بالحق، أنت مخلوق بالحق، أي خلقك أساسه فيه علم، أساسه فيه حكمة، أساسه فيه رحمة، أساسه فيه لُطف، أبرع طبيب أسنان هل يتمكن من قلع سنّ لطفل دون أن يبكيه؟ يقول لك: أخدِّره بالبنج؟! لكنه يصرخ صوت عند وخز الإبرة لأنها أصعب من قلع الضرس، أما ربنا لطيف إذا أراد أن يُبَدل أسنان الطفل، تجد الطفل وهو لا يشعر رأى قطعة قاسية مع الطعام، ما هذه؟ سنه، كيف هذا السن ذاب من جذره؟ بالتدريج دون أن يشعر، الله عز وجل لطيف، المطر فيه لطف، لو كانت كل بَرَدَة تزن خمسة كيلوات، لما بقي على الأرض أي شيء سليماً، البرد حجمه صغير، المطر حجمه لطيف، فكل شيء بلطف الله عزَّ وجل، وبرحمة الله عز وجل وتدبيره. 

عثروا بقمة جبل بأعلى جبال بالهند على نبع ماء، ليس لهذه الظاهرة في الفيزياء تفسير إلا أن يكون لهذا النبع مستودعاً في جبل أعلى منه، مستحيل، لأن بعض الوحوش تعيش في قمم الجبال، هناك رحمة، وهناك علم، وهناك حكمة، وهناك لطف، هذه بالحق، أي كل أسمائه الحُسنى داخلةٌ في خلقه.

 

الكون أوسع بابٍ لمعرفة الله وأقصر طريقٍ إليه:


﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ كلمة الحق اسمحوا لي أنا أشعر أن كلمة (بالحق) أنها وفق العلم، أنها وفق الحكمة، أن هذه السماوات والأرض خُلِقت لهدفٍ كبير ليس فيها عَبَث، مأخوذٌ هذا من قوله تعالى:

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)﴾

[  سورة الأنبياء ]

اللعب شيء مخالف للجد، اللعب هو الشيء العابث، عمل بلا هدف، تجد إنساناً يلعب لعبة، لا فائدة من ورائها، خمس ساعات والله غلبتك مرتين، ماذا أفاد منها؟ عمل غير جاد، عمل عابث، ليس وراءه هدف، لكن بالحق خلاف اللعب، بالحق خلاف الباطل، أي خُلِقت لتبقى ولهدفٍ كبير، إذاً كلمة بالحق تعني الكون مخلوق وفق علم، وفق رحمة، وفق حكمة، وفق لطف، وفق قوة، ولهدفٍ كبير، وبعيداً عن الزوال، ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ﴾ أي هناك أشياء والله أيها الأخوة ساعاتٌ طويلةٌ، وأشهرٌ عديدة، وسنواتٌ مديدة، لا تكفي للحديث عن عظمة الله من خلال الكون، كتابٌ مفتوح، اسمعوا مني هذه الكلمة: الكون أيها الأخوة أوسع بابٍ لمعرفة الله، وأقصر طريقٍ إليه، أوسع باب وأقصر طريق:

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)﴾

[  سورة آل عمران ]

 

خشية الله تعالى تحملنا على طاعته:


ربنا عزَّ وجل قال:

﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)﴾

[ سورة فصلت  ]

وربنا عزَّ وجل قال: 

﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)﴾

[ سورة الزمر ]

لا إله إلا هو إلى أين تمشون؟ فأنى تصرفون.

إن شاء الله في درسٍ قادم نتابع هذه الآيات، لكن الذي أرجوه من الله عزَّ وجل أن يُعْمل أحدكم فكره في الكون، وهو يأكل آلاف الأسئلة، كأس الماء، يقول لك: اللتر ببعض البلاد النفطية يكلف ستة ريالات تحلية، ستة ضرب ثلاث عشرة ليرة، حوالي مئة ليرة تقريباً، مئة ليرة ثمن تحلية لترٍ من الماء، كأس الماء من جعله حلواً عذباً فراتاً؟ ذلكم الله رب العالمين، ممكن  من كأس الماء، من خصائص الماء، من الهواء اللطيف، فالهواء لا يحجب الرؤية لكنه يحمل طائرة، وزنها ثلاثمئة وخمسون طناً، الهواء شيء عظيم إذا تحرك وزادت سرعته على مئتي كيلو متر بالساعة صار إعصاراً، لا يذر شيئاً أمامه، الهواء لطيف، والماء لطيف، الطعام والشراب، في ابنك، في خلقك، أنت محاط بآيات، هذه إذا تأملت بها وعرفت من خلالها عظمة الله عزَّ وجل، هذه الخشية حملتك على طاعته..

﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)﴾

[  سورة فاطر  ]

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور