وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 14 - سورة الشورى - تفسير الآيات 44-46 ،الدنيا ليست مقياساً للتفاضل بين الناس
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

على الإنسان أن يعفو عمن يعتقد أنه بالعفو عنه يقربه من الله:


أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الرابع عشر من سورة الشورى، ومع الآية الكريمة الرابعة والأربعين وهي قوله تعالى:

﴿ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ(44)﴾

[ سورة الشورى ]

أيها الأخوة؛ قبل أن أمضي في الحديث عن هذه الآية الكريمة سُئلت سؤالاً في الأسبوع الماضي حول آيات الدرس السابق، والسؤال هو: يبدو أن في الآية مفارقةً بين قوله تعالى:

﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)﴾

[ سورة الشورى ]

كأن الله سبحانه وتعالى يثني على المؤمنين الذين إذا أصابهم البغي ينتصرون، ثم يقول: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ فكيف نوفِّق بين أن ينتصر المؤمن على من بغى عليه وبين أن يعفو عنه؟ 

ذكرت في الدرس الماضي جانباً من تَبْيَان المفارقة بين الجزأين، والحقيقة إذا غلب على ظنِّك أنك إذا عفوت عن إنسانٍ أساء إليك سيجعله يجترئ على ظلم الآخرين ينبغي ألا تعفو عنه، ينبغي أن تنتصر منه، أما إذا غلب على ظنِّك أنك إذا عفوت عنه أصلحته وقرَّبته إلى الله عزَّ وجل فينبغي أن تعفو عنه، هذا هو المقياس.

 

من عفا عن غيره فأجره على الله لا يقدر بثمن:


المؤمن لشدة التوحيد الذي ملأ كيانه ليس له حظّ وليس له رغبةٌ في الانتقام، لكن إذا كان الأصلح، والأكمل، والأحكم أن تنتصر من هذا الذي بغى عليك كي تردَعه عن أن يظلم إنساناً آخر فالحكمة أن تنتصر منه، أما إذا رأيته قد نَدِم، وكان ضعيفاً أمامك، ورأيت فيه جانباً من الخَير بحيث أنك إذا عفوت عنه تقرِّبه من الله عزَّ وجل، وتُنْهِضُهُ وتعينه على نفسه فالأولى أن تعفو عنه، هذا هو المقياس، ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ(39)وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ﴾ الأجر ما بيَّن، قال: ﴿فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ لو أن أحداً -من باب التقريب- قال لك: أجرك من الملك، ماذا تعني كلمة مَلِك؟ هل سيعطيك قلم رصاص؟ هل ليرة واحدة سيعطيك؟ ماذا تعني أجرك من الملك؟ شيء لا يقدَّر، ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾

 

على كل مسلم أن يوقع الجزاء العادل بمن بغى عليه إن كان العفو لا ينفع معه:


إذاً أنت حينما تكون قادراً على أن توقع الجزاء العادل بمن بغى عليك، لكنك رأيت أنك إذا عفوت عنه تنهضه من كبوته، تعينه على شيطانه، تقرِّبه من ربِّه، تقربه من المسلمين، تجعله ينضمُّ إلى المؤمنين بعفوك عنه فينبغي أن تعفو عنه، لكن أين حقُّك؟ أجرك على الله. 

إذا كان لك مع واحد ألف، وقال لك شخص: سامحه وخذ مني مليوناً، ألا تسامحه؟ ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ إذاً الذي يجمع بين طرفي الآية هو أنه إذا غلب على ظنِّك أنك بعفوك عنه تقرِّبه فينبغي أن تعفو عنه، أما إذا غلب على ظنِّك أنك بعفوك عنه تجعله يجترئ، ويعتدي على إنسان آخر فينبغي عليك أن توقفه عند حدِّه.

 

الله تعالى منتقم إذا أساء الإنسان يوقفه عند حدِّه ويحمله على الاستقامة:


ولعمري إن معنى المنتقم، المنتقم اسمٌ من أسماء الله عزَّ وجل، إذا قلنا: فلان انتقم، لا نشعر أننا نثني عليه، كأننا نَذُمُّهُ، الله سبحانه وتعالى منتقم بمعنى إذا أساء الإنسان يوقفه عند حدِّه، يحمله على الاستقامة، يحمله على التوبة، الانتقام من الله ليس بالمعنى الذي نفهمه فيما لو نُسِبَ هذا الاسم إلى الإنسان، الانتقام من الله عزَّ وجل يعني أن الله إذا رأى عبداً طغى وبغى، واستمرأَ الظلم، وتجاوز الحدود، واعتدى، يعالجه معالجةً يوقفه بها عند حدِّه رحمةً به، لأن الله عزَّ وجل قال:

﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)﴾

[ سورة الأعراف ]

أسماؤه كلُّها حسنى، وكماله مُطْلَق، وكل ما في الكون ينطق بوجوده ووحدانيَّته وكماله، هذا التوضيح من الدرس السابق، ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ(39)وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾

 

الله عز وجل خلق الإنسان ليهديه لا ليضله:


أما الدرس الذي بدأنا به:

﴿ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ(44)﴾

[ سورة الشورى ]

إخواننا الكرام؛ لا يعقل أن يَخْلِقَ الله الإنسان ليهديه إليه ثمَّ يضلِّه، هذا الشيء لا يتناسب مع روح القرآن، ولا يتناسب مع سرِّ الوجود.

﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)﴾

[ سورة هود ]

فكيف يضلُّهم؟ ماذا نفعل بالآيات التي تعزو الإضلال إلى الله عزَّ وجل؟

الحقيقة أن الله جلَّ جلاله سمَّى القرآن الكريم مثاني، معنى مثاني أي أن كل آيةٍ تنثني على أختها فتفسِّرها.


إذا عُزي الإضلال إلى الله فهو: 

 

1 ـ الإضلال الجزائي المبني على الضلال الاختياري: 

قال تعالى:

﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)﴾

[ سورة الصف ]

فإذا عُزيت إزاغة القلب إلى الله، قال العلماء: هذه الإزاغة الجزائيَّة المبنيَّة على زيغٍ اختياري، وإذا عُزي الإضلال إلى الله فهو الإضلال الجزائي الذي بُنِي على ضلالٍ اختياري.

وأنا دائماً أوضِّح هذه الآية بمثل في متناولكم جميعاً: عندما لا يداوم طالب بالجامعة، ولا يشتري كتباً، ولا يؤدي امتحاناً، أعطي فرصةً ليسجِّل فلم يسجِّل، أُنْذِر فلم يستجب، أُعطي فرصة استثنائيَّة ليقدِّم الامتحان من خارج الجامعة فلم يقدِّم، أُرسل له مندوب شخصي ليقنعه بمتابعة الدراسة فلم يستجب، اسمه داخل السجلات عندئذٍ صدر قرارٌ بترقين قيده من الجامعة، فهل هذا الترقين ظلمٌ له؟ هذا الترقين تعبيرٌ عن موقف الطالب، إنه ترقين جزائي مبني على اختيارٍ ذاتيٍ من الطالب، فكلَّما عُزي الإضلال إلى الله عزَّ وجل فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلالٍ اختياري ويؤكِّد هذا المعنى قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ هذا هو المعنى الأول الذي يمكن أن نَلْمَحَهُ من الضلال.  

2 ـ الضلال الحُكمي:

المعنى الثاني كما قال بعض العلماء: هو الضلال الحُكْمِيّ، كيف؟ يضربون على ذلك مثلاً يوضِّح الفكرة؛ فأنت في الطريق إلى بلدةٍ بعيدة، في منتصف الطريق رأيت فرعين كبيرين للطريق، يا ترى حمص من أي الفرعين؟ رأيت رجلاً يقف على المفرق فسألته: أين حمص؟ قال لك: من هنا، فقلت له: جزاك الله خيراً، عندما رأى منك هذا الود، وهذه الاستجابة، وهذا التقدير أعطاك عشرات المعلومات الإضافيَّة قال: انتبه بعد كذا كيلو متر يوجد تحويلة، وبعد كذا كيلو متر يوجد حاجز، وبعد كذا كيلو متر هناك سؤال، وهنا يوجد طريق مُنزلق، فأنت عندما قبلت هذا الإرشاد من هذا الإنسان أعطاك معلوماتٍ كثيفةً كثيرةً، قال تعالى: 

﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)﴾

[ سورة الكهف ]

جاء إنسان آخر فرأى طريقين متشابهين من دون لوحة، ورأى رجلاً يقف فقال له: من أين حمص؟ قال له: من هنا، قال له: أنت كاذب، هل بإمكان هذا الدليل أن يعطيك المعلومات الإضافيَّة؟ 

 

من رفض الدين سيرفض تفاصيله أيضاً:


الإنسان عندما رفض الدين أصلاً كل الميزات، والتفاصيل، والأحكام، والأدلَّة، والقواعد، وأصول التعامل، وأصول التربية، وأصول كسب المال، كل هذه الحقائق والقوانين حُرِم منها حكماً، أضلَّه الله رفض الإنسان أصل الدين، رفض جوهر الدين، إذاً تفاصيل الدين، أحكام الزواج، أحكام الطلاق، أحكام البيع، أحكام الشراء، طريق تربية الأولاد، السعادة في النفس، هو رفض الأصل، وكان مع رفضه الأصل رفضه للتفاصيل، إذاً هذا أيضاً إضلال، لذلك قال الله عزَّ وجل: ﴿وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ﴾ الحالة الثانية.  

3 ـ الله تعالى يضل عن شركائه ولا يضل عن ذاته:

الحالة الثالثة دقيقة جداً، أن الله سبحانه وتعالى لا يُضِل عن ذاته، يُضِلُّ عن شركائه، أنت حينما تتخذ إنساناً إلهاً لا تقول: هو إله، لا، لكن تعتمد عليه، وتثق به، وتطيعه في كل شيء ولو عصيت الله عزَّ وجل، حينما ترى أن هذا الإنسان ينفعك، ويرفعك، ويعطيك، ويغنيك، وأن رضاه جنَّة وغضبه نار، فلو تركك ربنا عزَّ وجل على ما أنت عليه لمِتَّ مشركاً، ماذا يفعل؟ لا يضلِّك عن ذاته، يضلُّك عن هذا الشريك، أي وأنت في أحوج ما تكون إليه يتخلَّى عنك، وأنت في أشد الشعور بأنه قوي يريكه ضعيفاً، متخاذلاً، وأنت تظنُّ أنه وفيّ يبدو لك لؤمه، الله أضلَّك ولكن ما أضلَّك عن ذاته بل أضلَّك عن شركائه. 

 

الإنسان حمل الأمانة ومن لوازمها أنه مُنِح حريَّة الكسب:


لو أن معلِّماً مخلصاً رأى طالباً يروِّج بين زملائه أسئلةً يدَّعي أنها من المدرِّس، وهو كاذب بهذه الدعوى، فلو جاء المدرِّس بهذه الأسئلة في الامتحان لقوَّاه ودعَّمه، ماذا ينبغي أن يفعل المدرِّس؟ أن يأتي بأسئلةٍ لا علاقة لها إطلاقاً بهذه الأسئلة التي يروِّجها هذا الطالب، كي يكشف كذبه، كي يجعله صغيراً، هذا معنى آخر من معاني الضلال. 

الله سبحانه وتعالى يضلُّ عن شركائه.

المعنى الأول: هو الضلال الجزائي المبني على الضلال الاختياري.

والمعنى الثاني: هو الضلال الحُكْمِيّ، بمعنى أن الإنسان إذا رفض أصل الدين خسر تفاصيل الدين، والأحكام الدينيَّة، وأساليب الحياة السعيدة.

والمعنى الثالث: هو أن الله سبحانه وتعالى يُضِلُّ عن شركائه، ولا يضلُّ عن ذاته.

هذه المعاني الثلاث تليق بأسماء الله الحسنى، مُضِل عن شركائه، مُضل أي يحقِّق اختيار العبد، أنت جئت إلى الدنيا على أساس أنك مختار، وأن لك إرادةً، فإذا أصررت على شيء لابدَّ من أن يُنَفَّذ، هذه طبيعة الأمانة، الإنسان حمل الأمانة، من لوازم حمل الأمانة أنه مُنِح حريَّة الكسب، فلو أصرَّ على الضلال لابدَّ من أن يسمح الله به، ليس معنى أنه أراد أي رضي، قد يريد ولا يأمر، قد يريد ولا يرضى، أمرك بالطاعة ورضي لك الطاعة، لكنَّك إذا أصررت على المعصية سمح لك بها تنفيذاً لوعده، الفكرة دقيقة جداً، ما أمرك بالمعصية، ولا رضي لك المعصية، لكنَّك إذا أصررت عليها سمح لك بها، لأن هذا هو التكليف، وهذه هي حرية الكَسْبِ، وهذه هي الأمانة التي حُمِّلتها.

 

كل إنسان خلقه الله تعالى في طور الاختيار والابتلاء:


إذاً فرَّق علماء التوحيد بين إرادته، وبين أمره، وبين رضاه، أراد ولم يأمر، أراد ولم يرضَ.

﴿ وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)﴾

[  سورة إبراهيم  ]

﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)﴾

[  سورة الزمر ]

﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)﴾

[  سورة الأعراف  ]

لم يأمر ولم يرضَ، ولكنَّه أراد بمعنى أنه سمح، أي إذا كنت صيدلياً، وتحتاج إلى موظَّف على مستوى عالٍ من العلم، فجاءك موظَّف متمرِّن وأردت أن تمتحنه، جئت بكمية من الأدوية وضعتها على الطاولة وقلت له: هذه الخزانة فيها مضادات حيويَّة، هذه الخزانة فيها فيتامينات، هذه فيها سموم، هذه فيها كذا، هذه الأدوية ضعها في أمكنتها، فإذا مسك دواء الفيتامينات ووضعه مع السموم، وتحرَّك باتجاه هذه الخزانة، أنت إذا منعته ألغيت اختياره، هو الآن في طور الامتحان، يجب أن تسمح له بالتحرُّك الخطأ، فالآن أنت تمتحنه، يجب أن تسمح له بذلك، أنت في طور الاختيار والابتلاء.

 

كل إنسان يحاسب يوم القيامة على اختياره في الدنيا:


لمَّا يختار الإنسان المعصية ويُصرُّ عليها يُسمح له بها، هذا معنى أن الله سبحانه وتعالى أراد من هذا العبد أن يعصيه بمعنى سمح له، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى حينما جاء به إلى الدنيا، جاء به على هذا الأساس، ما هو الأساس؟

﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)﴾

[ سورة الإسراء  ]

اطلب تُعطَ..

﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)﴾

[ سورة الإسراء ]

كلام واضح كالشمس، بيِّن، قال عليه الصلاة والسلام: عن العرباض بن سارية:

(( تركتُكم على البيضاءِ ليلِها كنهارِها لا يزيغُ عنها بعدي إلا هالِكٌ. ))

[ أحمد عن العرباض بن سارية ]

 

من يصرّ على الضلال ويرفض الدين فالنار مثوى له:


إذاً: ﴿وَمَنْ يُضْلِلْ اللهّ﴾ عندما يصر الإنسان على الضلال، ويضلُّه الله جزاء اختياره، أو عندما يرفض الدين أصلاً، يضلُّه الله ضلالاً حكمياً، أو أن الله سبحانه وتعالى يضلُّه عن شركائه، ﴿وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ﴾ هو أرحم الراحمين، هو العليم، هو الرحيم، هو الحكيم، هو القريب، هو القوي، هو الغني، عندما يرى الله عزَّ وجل بعلمه بهذا الإنسان أنه مصرٌ على المعصية، من في الأرض بإمكانه أن يهديه؟ ﴿وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ﴾ .

 

الإنسان كلَّما ارتقى مستواه يخاف بعقله:


أيها الأخوة؛ شيءٌ دقيقٌ جداً، من تعاريف العقل: أن العاقل لا يفعل شيئاً يندم عليه، حينما تفعل شيئاً ثمَّ تندم عليه فهذا ضعفٌ في عقلك، فهؤلاء الظالمون: ﴿وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ﴾ .

إخواننا الكرام؛ الإنسان كلَّما ارتقى مستواه يخاف بعقله، وكلَّما هبط مستواه يخاف بعينه، الإنسان العاقل يصل إلى الشيء بعقله قبل أن يصل إليه حقيقةً، دائماً العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها، العاقل يعيش المستقبل، الأقل عقلاً يعيش الحاضر، الغبي يعيش الماضي، فالإنسان عندما يكون قوياً ويتحرَّك حركة وَفق شهواته، ثم يدفع ثمن انحرافه كبيراً عندئذٍ يندم، حالة الندم دليل ضعف العقل، من هو الإنسان الذي لا يندم؟ هو العاقل، النبي عليه الصلاة والسلام فيما روي عنه أنه يقول: أرجحكم عقلاً أشدُّكم لله حبَّاً.

  عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ .))

[ الترمذي : حكم المحدث : صحيح ]

 

العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها:


إذاً يُمتحن العقل فيما إذا فعلت فعلاً هل تندم عليه أو لا تندم؟ كلَّما ندمت على شيءٍ فحينما فعلته كان هناك ضعفٌ في العقل، لذلك فهؤلاء الظالمون: ﴿وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ﴾ الإنسان أحياناً يدخِّن مثلاً يقول لك: ليس في جسمي شيء ماذا حصل؟ هناك إنسان واحد عاش مئة وثلاث عشرة سنة وكان مدخِّناً يتخذه حجَّة، لكن الأطبَّاء يؤكِّدون أن الدخَّان له آثار واضحة جداً في القلب، والرئتين، والضغط، والشرايين، والأوردة.. إلخ، لكن متى يتخذ قراراً صارماً بالإقلاع عنه؟ حينما يُعطب، هل هذا دليل عقله؟ لا، كل إنسان يخاف بحواسِّه هذا يدلُّ على ضعف عقله، وكل إنسان يخاف بعقله هذا يدل على رجاحة عقله، الطلاب الكُسالى متى يندمون على كسلهم؟ في أثناء الامتحان، هذا السؤال لم يعرفه، هذا ما قرأه، هذا لم يتوقَّعه، لكن الطالب النبيه من أول يوم بالعام الدراسي يتصوَّر الامتحان، صورة الامتحان لا تفارقه إطلاقاً، فيتوافق أو يتكيَّف مع الامتحان من أول يومٍ في العام. 

 

المؤمن يعيش المستقبل والملحد يعيش اللحظة:


المؤمن يعيش المستقبل، يا تُرى هل في حياتنا جميعاً حدث سيقع أشد واقعيَّةً من الموت؟ هل واحد منَّا يجرؤ على أن يقول: أنا لن أموت؟ هذا الموت ما هو؟ نقلة خطيرة من كل شيء إلى لا شيء. 

كل واحد له بيت، غرفة نوم، غرفة طعام، مطبخ، حمَّام، له زوجة، أولاد، وجبة غذاء، وجبة عشاء، يوجد مسليَّات، يوجد مرفِّهات، يوجد أماكن جميلة، وهذه المقابر أمامكم، هل هناك قبر خمس نجوم؟ لا يوجد، كله نجمة واحدة أو نجوم الظهر، فهذا الحدث الواقعي هل يستطيع واحد أن يتلافاه؟ إذاً كل إنسان يخاف عند الموت يكون ضعيف العقل، أما النبي فقد قال:((الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ)) ويقولون: الأغبياء يعيشون لحظتهم، قوي ينكب على الشهوات، يعيش لحظته، ويأكل، ويشرب، ويستمتع، لا يصلي، لا يفكِّر في ربِّه، لا يتأدَّب معه، لا يطيعه مادام قوياً، متى يصيح؟ عندما يمرض. 

 

بطولة الإنسان أن يخاف من الله ويلجأ إليه عند الرخاء لا في الشدة:


أنا سمعت أن طائرة تُقِلّ أشخاصاً ملحدين، فلمَّا دخلت في غيمةٍ مكهربةٍ واضطربت وكانت على وشك السقوط، ما من هؤلاء المُلحدين إلا ويقول: يا رب أنقذنا، فالإنسان عند المصيبة يلجأ إلى الله، الناس جميعاً كذلك، لذلك البطولة وأنت في الرخاء، وأنت في النَعيم، وأنت في الصحَّة، وأنت في القوَّة، وأنت في المال، وأنت شاب في رَيْعان الشباب، وأنت تتقِّد عزيمةً ومضاءً أن تخاف من الله، لذلك..

(( عن عبد الله بن عباس  كنتُ رديفَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال يا غلامُ أو يا غُلَيمُ ألا أُعلِّمُك كلماتٍ ينفعُك اللهُ بهنَّ فقلتُ بلى قال احفَظِ اللهَ يحفَظْك احفَظِ اللهَ تجِدْه أمامك تعرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ يعرِفْك في الشِّدَّةِ وإذا سألتَ فاسأَلِ اللهَ وإذا استعنْتَ فاستعِنْ باللهِ قد جفَّ القلمُ بما هو كائنٌ فلو أنَّ الخلقَ جميعًا أرادوا أن ينفعوك بشيءٍ لم يقْضِه اللهُ تعالَى لم يقدِروا عليه وإن أرادوا أن يضُرُّوك بشيءٍ لم يكتُبْه اللهُ عليك لم يقدِروا عليه واعلَمْ أنَّ في الصَّبرِ على ما تكرهُ خيرًا كثيرًا وأنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ وأنَّ الفرَجَ مع الكربةِ وأنَّ مع العُسرِ يُسرًا ))

[  الصنعاني : سبل السلام: خلاصة حكم المحدث : إسناده حسن  ]

(( عن عبد الله بن عباس قال : قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لرجلٍ وهو يَعِظُه : اغتنِمْ خمسًا قبل خمسٍ: شبابَك قبل هَرَمِك، وصِحَّتَك قبل سَقَمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك. ))

[ أخرجه المنذري الترغيب والترهيب إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما  ]

﴿وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ﴾ فالأغبياء يتعظون بحواسِّهم، العوام يقولون: يخاف بعيون، أما العاقل فيخاف بالكلمة، يخاف من الوعيد فقط، يفكِّر في المستقبل. 

 

كل ظالم يعالج بالذّل والمهانة:


لكن يقول هذا الظالم بشكل يائس: هل هناك من أمل أن أعود إلى الدنيا فأؤمن؟ هل هناك من أمل أن أعود إلى الدنيا فأستقيم، هل هناك من أمل أن أعود إلى الدنيا أصلي؟ ﴿هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ﴾ في الأعم الأغلب إن الظالم كان قوياً، وكان متكبِّراً، وكان مستبَّداً، وكان مسيطراً، فهذا القوي كيف يُعالج؟ بالذل.. 

﴿ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)﴾

[  سورة الشورى ]

ليس خشوع التقوى ولا خشوع العبادة؛ ولكن خشوع الذّل والمهانة، أن يكون إنسان رئيس عصابة، سرقة، مجرماً عاتياً، متكبِّراً، فَظاً، غليظاً، حينما يقع في قبضة العدالة تراه صغيراً، متطامناً، نظره في الأرض أين عُنْجُهِيَّته؟ ﴿وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنْ الذُّلِّ﴾ من شدَّة خوفهم ﴿يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ تُرى ماذا سيُفْعَلُ بهم؟

 

المؤمنون يوم القيامة هم سادة الموقف:


أحياناً الإنسان إذا كان مجرماً وألقي القبض عليه يضطرب اضطراباً شديداً، لا ينظر إلا بطرفٍ خفي، ﴿وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنْ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لمن السيطرة في اليوم الآخر؟ للذين آمنوا، هم سادة الموقف، أحياناً في الدنيا يكون الكفار هم سادة الموقف، الكلام لهم، والرأي لهم..

﴿ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)﴾

[ سورة غافر ]

الكلام لهم، والرأي لهم، الحق الذي يقولون، والباطل الذي لا يقولون، فالكفار هم سادة الموقف في الدنيا -أحياناً طبعاً- لكن المؤمنين يوم القيامة هم سادة الموقف.. 

﴿ إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ(1)لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(2)خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ(3)﴾

[ سورة الواقعة  ]

الذي كان في الأوج تراه في الحضيض، والذي كان في الحضيض تراه في الأوج. 

 

الحظوظ في الدنيا توزَّع توزيع ابتلاء وفي الآخرة توزيع جزاء:


ذكرت اليوم في الخطبة أن الحظوظ في الدنيا توزَّع توزيع ابتلاء، وسوف توزَّع في الآخرة توزيع جزاء، أنت لك حظ من المال مُعيَّن، فقد يكون وفيراً وقد يكون قليلاً وقد يكون معدوماً، حظُّك من المال هو مادَّة امتحانك مع الله، أنت ممتحن بوفرة المال، فلان ممتحن بقلَّة المال، فلان وسيم الطَلعة ممتحن بوسامته، فلان دميمٌ ممتحنٌ بدمامته، فلان ذكيٌ جداً ممتحنٌ بذكائه، فلان محدود التفكير ممتحنٌ بمحدوديَّة التفكير، فلان قوي ممتحنٌ بقوَّته، فلان الضعيف ممتحنٌ بضعفه، فلان صحيح ممتحنٌ بصحَّته، فلان غير صحيح ممتحنٌ بمرضه، فلان له زوجةٌ وأولاد ممتحنٌ بأسرته، فلان حُرِمَ إلى حين من الزوجة والأولاد ممتحنٌ بالحِرمان، فالحظوظ في الدنيا موزَّعةٌ توزيع ابتلاء.

 

الغنى غنى العمل الصالح  والفقر فقر العمل الصالح لأن الموت ينهي كل شيء:


أنت ممتحن مرَّتين: ممتحن بما في يديك وممتحن بما ليس في يديك، لكن هذه الحظوظ توزَّع في الآخرة توزيع جزاء، كنت أوضِّح هذا، أنه لو أن إنسانين عاشا ثمانين عاماً بالتمام والكمال، واحد كان غنياً وواحد كان فقيراً، وأن الأول رسب في الامتحان فتاهَ بماله على عباد الله، وأنفق ماله على شهواته وانحطاطه وملذَّاته الرخيصة، وأن الفقير امتحن بالفقر فنجح، فكان عفيفاً صابراً متجمِّلاً، لم يحمله الفقر على أن يأكل مالاً حراماً، ولا عن أن يكفر بالله عزَّ وجل، وماتا، والموت أنهى غنى الغني وفقر الفقير.

وإذا شئتم أنهى الموت قوَّة القوي وضعف الضعيف، وصحَّة الصحيح ومرض المريض، ووسامة الوسيم ودمامة الدميم، أنهى الموت كل شيء، بقي العمل، هذان الشخصان سيعيشان حياةً إلى ما لانهاية، أبداً، فالذي نجح في امتحان الفقر سيكون غنياً إلى الأبد، والذي رسب في امتحان الغنى سيكون فقيراً إلى الأبد، إذاً الدنيا لا عبرة لها، هذا ما قاله سيدنا علي كرَّم الله وجهه: "الغنى والفقر بعد العرض على الله"، الغنى غنى العمل الصالح، والفقر فقر العمل الصالح، عندما سقى سيدنا موسى للمرأتين قال:

﴿ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)﴾

[  سورة القصص  ]

أنا مفتقر لهذا العمل. 

 

الموت ينهي كل شيء:


إخواننا الكرام؛ لو واحد عنده تجارة رابحة، يبيع في اليوم بمليون ليرة، وربحه بالمئة خمس وثلاثون، كل يوم ثلاثمئة وخمسون ألفاً، ومضى عليه يومٌ لم يزدد علماً، ولم يزدد قرباً، ولم يدعُ إلى الله، ولم يصبر على ما ابتلاه الله فهو خاسر رغم الدخل الكبير، لأن الله عزَّ وجل يقول:

﴿ وَالْعَصْرِ(1)إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2)﴾

[ سورة العصر  ]

كلام خالق الكون، لو عندك شركة متعدِّدة الجنسيَّات، لها في كل العالم فروع، بعض الشركات في العالم فائضها مليار دولار، سمعت أن بعض الشركات رقم فلكي ربحت هذا العام ألف مليار دولار، ربنا عزَّ وجل يقول: ﴿وَالْعَصْرِ(1)إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2)﴾ لأن الموت يُنهي هذه الثروة، وأنتم ترون بأعينكم أحياناً يحضر الإنسان تعزية في بيت ثمنه خمسون مليوناً، وتزييناته بخمسة ملايين، وفرشه بثلاثين مليوناً، وصاحبه قاعد في مقبرة باب الصغير، الموت ينهي كل شيء، ينهي الغنى، ينهي الفقر، ينهي المرض، ينهي الصحَّة، إذاً ليست هذه نعمة، هذا ما قاله الله عزَّ وجل:

﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)﴾

[  سورة الفجر  ]

هو يقول:

﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)﴾

[ سورة الفجر  ]

ليس عطائي إكراماً ولا منعي حرماناً، عطائي ابتلاء وحرماني دواء، وانتهى الأمر.

 

بطولة الإنسان أن يكون على منهج الله وفي طاعة الله والإقبال عليه:


بطولتك أن تكون على منهج الله، في طاعة الله، في الإقبال عليه، في الصبر على قضاء الله، في التقرُّب إلى الله، في الدعوة إلى الله، في طلب العلم، في تعليم العلم، هذه بطولتك، هذا الذي يبقى.

أحدهم قال: إذا أردت أن تعرف ما إذا كنت من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة فانظر ما الذي يفرحك، أن تأخذ أم أن تعطي؟ هناك إنسان عندما يقبض يَشْرَئب، وإذا كان عليه دفع يماطل، يتضايق كثيراً من الدفع، المؤمن يسعد إذا أعطى، لأن العطاء هو خلود في الجنَّة، من قدَّم ماله أمامه سرَّه اللحاق به. 

 

المؤمن أكبر من أن يحزن على فقد الدنيا:


﴿ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنْ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)﴾

[ سورة الشورى ]

 ممكن تخسر كل شيء وأنت الرابح، ممكن تفقد مالك كله، بيتك، تجارتك، ممكن تفقد كل شيء وأنت الرابح الأول، سيدنا عمر كان إذا أصابته مصيبةٌ قال: "الحمد لله ثلاثاً، الحمد لله إذ لم تكن في ديني" الدين سليم ليس هناك مشكلة، مادام ما خرقت الاستقامة، ما ارتكبت معصية، ما أكلت مالاً حراماً، وما تركت الصلاة، ما تركت مجلس علم، الدنيا إن أقبلت أقبلت، إن أدبرت أدبرت، اللهمَّ صلِّ عليه قال: عن صهيب:

(( عَجِبْتُ لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ إِنْ أَصَابَهُ مَا يُحِبُّ حَمِدَ اللَّهَ وَكَانَ لَهُ خَيْرٌ وَإِنْ أَصَابَهُ مَا يَكْرَهُ فَصَبَرَ كَانَ لَهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ أَمْرُهُ كُلُّهُ لَهُ خَيْرٌ إِلا الْمُؤْمِنُ. ))

[  أحمد: صحيح ]

المؤمن أكبر من الدنيا، أكبر من أن يفرح بها، وأكبر من أن يحزن على فقدها، قرأت عن سيدنا الصديق، والله هذه الكلمة قرأتها أكثر من أربعين عاماً كأنها حُفرت في نفسي ما ندم على شيءٍ فاته من الدنيا قط. 


الدنيا أحقر من أن يجعلها الله ثواباً للمؤمنين أو عقاباً للكافرين:

 

الدنيا لا قيمة لها، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ. ))

[ صحيح الترمذي  ]

هي أحقر من أن يجعلها ثواباً للمؤمنين، أو عقاباً للكافرين، والدليل:

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾

[ سورة الأنعام ]

﴿أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ الأموال، مع البيوت، مع البساتين، مع النساء، ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ .

﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)﴾

[  سورة آل عمران  ]

﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)﴾

[  سورة البقرة  ]

فقط. 

 

الدنيا ليست مقياساً لأنها تعطى للمؤمن والكافر:


ربنا عزَّ وجل قال: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ وكذلك الكفَّار ﴿فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ الدنيا عرضٌ حاضر يأكل منه البَرُّ والفاجر، والآخرة وعدٌ صادق يحكم فيه ملكٌ عادل، الله أعطى الملك لمن لا يحب وأعطاه لمن يحب، أعطاه لمن لا يحب، أعطاه لفرعون، وأعطاه لمن يحب لسيدنا سليمان..

﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)﴾

[ سورة ص ]

أعطى المال لمن لا يحب، أعطاه لقارون، أعطاه من يحب ابن عوف، قال: "ماذا أفعل؟ والله لأدخلَّن الجنَّة خبباً -أي هرولةً- ماذا أفعل إذا كنت أنفق مئةً في الصباح فيؤتيني الله ألفاً في المساء؟" ليس له ذنب، الدنيا ليست مقياساً، تُعْطَى للكافر وتعطى للمؤمن، ويُحرم منها الكافر ويحرم منها المؤمن، إذاً ليست مقياساً.

 

رأسمال الإنسان نفسه:


﴿وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ دقِّقوا في هذا القول: ﴿إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ﴾ لسيدنا علي كلمة دقيقة جداً، يقول لسيدنا الحسن: "يا بني ما خيرٌ بعده النار بخير -الحياة إذا انتهت إلى النار ما خيرٌ فيها إطلاقاً- ما خيرٌ بعده النار بخير -أموالها، على نسائها، على مكانتها، على وجاهتها، إذا انتهت إلى النار فليست خيراً- وما شر بعده الجنَّة بشر -مرض، على فقر، على قهر، إذا انتهى بك الأمر إلى الجنَّة فأنت الرابح الأول- وكل نعيمٍ دون الجنَّة محقور، وكل بلاءٍ دون النار عافية" ، "فلينظر ناظرٌ بعقله أن الله أكرم محمَّداً أم أهانه حين زوى عنه الدنيا؟ فإن قال: أهانه فقد كذب، وإن قال: أكرمه فلقد أهان غيره حيث أعطاه الدنيا".

ماذا أعطي النبي من الدنيا؟ لم يُعطِ منها شيئاً، غرفة صغيرة جداً، ما ترك شيئاً "ما لي وللدنيا؟" .

 

من عرّف نفسه بالله وحملها على طاعته ربح الدنيا والآخرة معاً:


إذاً: ﴿إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ﴾ رأسمالك نفسك، إن عرَّفتها بالله وحملتها على طاعته فأنت الرابح الأول، ولو كنت فقيراً، ولو كنت ضعيفاً مستضعفاً، ولو كنت تعاني من مشكلات الحياة الدنيا، ﴿إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ﴾ لك زوجة، لك أولاد، لك بنات، أهملتهم، ممكن أن ترقى إلى الله بزوجتك، عرِّفها بالله، احملها على طاعته ترق بها، زادُك إلى الله أولادك تنفق عليهم، تركتهم هملاً لم تربهم، لو أنك ربيتهم، وعرَّفتهم بكتاب الله وسنة رسوله، ونشَّأتهم على حبّ النبي عليه الصلاة والسلام وآل بيته، حتى صاروا أعلاماً من بعدك فأنت الرابح الأول. 

 

أبواب الخير والعمل الصالح مفتوحة أمام كل إنسان:


الله عزَّ وجل أعطاك فرصاً، هذه الفرص لم تستفد منها، أعطاك زوجة، أعطاك أولاداً، أعطاك بنات، إذا جاء للإنسان بنتان فربَّاهما تربيةً صالحة أنا كفيله في الجنَّة، واحد عنده واحدة فقال له: وواحدة؟ قال له: واحدة، فأنا كفيله في الجنَّة.

كل بيت فيه بنت، هذه البنت يمكن أن تكون سبب الجنَّة لأمها وأبيها، ولكن ربِّها تربية عالية، ربِّها على كتاب الله، وسنة رسوله، على الصلاة، على الحجاب، على الحياء، أن تُبعد عنها المغذيات الثقافيَّة الفاسدة، هذه تفسدها، إذا اطلعت على عمل فني ففيه المتدينة محتقرة والفاجرة هي المحترمة، فتشتهي أن تكون مثل الفاجرة، إذا غذيتها تغذية ثقافية فاسدة لا تغدو كما تريد، أما كل بيت فيه بنت فالبنت وحدها يمكن أن تدخل أبويها الجنَّة، واحدة؟ قال: واحدة، حتى يزوجهما أو يموت عنهما فأنا كفيله في الجنَّة، فلذلك الله عزَّ وجل أعطاك أبواباً للخير؛ زوجتك باب، أولادك الذكور باب، لأنه: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ، صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ .))

[  صحيح الجامع  ]

عملك باب للخير، مهنتك باب للخير، أولادك باب للخير، زوجتك باب للخير، كل حركاتك جعلها الله مهيَّأة لأن تكون أعمالاً صالحة، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ﴾

 

الابن استمرار لأبيه إن رباه تربية صالحة:


الآية التي تقابلها:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)﴾

[  سورة التحريم ]

انظر هذه آية ثانية، خسروا أنفسهم وأهليهم..

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)﴾

[  سورة الطور ]

فإذا ربَّى الإنسان ولده تربية صالحة لا يموت، لم يمت لأن هذا الولد استمرار، صار خليفته، هذا ولد صالح يدعو له فليس هناك موت بالنسبة له، يقول لك: غابت عينه فقط، وهذا صحيح، أما هو فلم يمت، ترك أثراً مستمراً، هذه تأكيد على كلمة أهليهم، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ .

 

في الآخرة لا يوجد مسّ بل عذاب مقيم:


﴿وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ﴾ عذاب مقيم، والإله يقول: عذاب مقيم، عذاب من الإله، قال الله:

﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)﴾

[  سورة البقرة  ]

(( سأل شخص رسول الله اللهمَّ صلِّ عليه فقال له: "عظني ولا تطل"، قال له: عن سفيان بن عبدالله الثقفي: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، قُلْ لي في الإسْلامِ قَوْلًا لا أسْأَلُ عنْه أحَدًا بَعْدَكَ، وفي حَديثِ أبِي أُسامَةَ غَيْرَكَ، قالَ: قُلْ: آمَنْتُ باللَّهِ، ثم اسْتَقِمْ. ))

[ صحيح مسلم ]

قال: "أريد أخفَّ من ذلك " -هذه ثقيلة عليَّ- قال له: إذاً فاستعدَّ للبلاء، إذا لا تحب أن تستقيم فتحمَّل، وكل إنسان يعصي الله يتحمَّل، أحياناً آلام الدنيا لا تحتمل، يقول لك: جاءتني كريزة رمل فلم أنم منها طوال الليل، صحت واسترحت، آلام الضرس لا تحتمل، آلام الأمعاء لا تحتمل، الشقيقة لا تحتمل، الله عزَّ وجل يمس الإنسان بالعذاب، معنى المس معنى دقيق جداً، إذا أمسك إنسان مكواة ووضع اللعاب على إصبعه، أقل مساحة ممكنة، وأقل وقت ممكن، ومخفّف هو اللعاب، يقول لك: مثل النار، هذا المس، الله في الدنيا يمسُّنا مساً، ولكن في الآخرة لا يوجد مس، عذاب مقيم أي دائم، والفرق كبير جداً، لذلك قال تعالى:

﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)﴾

[ سورة السجدة ]

 

الولي من دلّ الآخرين على الخير:


﴿ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)﴾

[ سورة الشورى ]

الولي هو الذي يدُل على الخير، إذا الله عزَّ وجل أودع فيك العقل، وسخَّر لك الكون، وفطرك فطرة عالية، وأنزل لك كتاباً، وبعث الأنبياء، وسخَّر العلماء، وعلَّمك بالأحداث، وعلَّمك بالتربية النفسيَّة، وكل شيء الله سخَّره للهدى ولم تهتدِ بهدى الله، هل من المعقول جهة ثانية تهديك؟ لذلك: ﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ عندما يقع الإنسان، إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان الله عليك فمن معك؟ ما معك أحد، الدنيا فيها وحشة، الإنسان لا يعتز بشبابه، يوجد خريف عمر، أحياناً هناك عمر ثمين، وأحياناً هناك أرذل العمر، والإنسان أحياناً يرخي الله عزَّ وجل له الحبل، ولكن عندما يستحق العقاب تجده صار يعاني ما يعاني. 

 

كل إنسان بإمكانه أن يتوب إلى الله تعالى من  قبل أن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا رجعة فيه:


أيها الأخوة؛ مطلع الآيات يقول الله عزَّ وجل: ﴿وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ﴾ هذا موقف الظالمين يوم القيامة، الله عزَّ وجل يخاطبنا ونحن في الدنيا، يقول: أنتم بإمكانكم أن تتوبوا.

﴿ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)﴾

[ سورة الشورى ]

أيها الناس، ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ﴾ الآن نحن في بحبوحة، هذا قول الظالمين يوم القيامة، ﴿هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ﴾ أما نحن فالمرد موجود، والصلحة بلمحة. 

 

العاقل من تاب إلى ربه قبل فوات الأوان:


إذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله، تماماً كما كان يفعل بعض الصالحين، يشتري قبراً في حياته ويضطجع فيه يوم الخميس ويتلو قوله تعالى:

﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)﴾

[ سورة المؤمنون  ]

يقول لنفسه: قومي قد أرجعناكِ، الآن يمكن أن نرجعك، وربنا يقول: ﴿اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ﴾ أيها الناس، الأحياء طبعاً ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ﴾ هؤلاء قالوا: ﴿هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ﴾ الجواب: لا، أما الآن فالمرد موجود، نحن في الدنيا الآن، والقلب ينبض، نحن الآن في بحبوحة وبإمكاننا أن نتوب، ﴿اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ﴾ ..

وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله نفصِّل في هذه الآية الدقيقة، وأدق ما فيها كلمة: ﴿نكير﴾:

﴿ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)﴾

[ سورة الشورى ]

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور