وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 05 - سورة الشورى - تفسير الآيات 16-18 نجاح الدعوة إلى الله باتحاد المسلمين
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

اتحاد أهداف ووسائل المجتمع سبب قوته:


أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس الخامس من سورة الشورى، مع الآية السادسة عشرة وهي قوله تعالى:

﴿ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ(16)﴾

[ سورة الشورى ]

 ولكن نعود قليلاً إلى الآيات السابقة، كي نتابع المعنى المتصل بين آيات الدرس السابق وآيات الدرس الحالي، فربنا سبحانه وتعالى حينما قال: 

﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)﴾

[ سورة الشورى ]

أي تفرَّقوا بسبب البَغي، الحسد وطلب المكاسب الدنيويَّة، إذاً الحق يجمع والباطل يفرِّق، الآخرة تجمع والدنيا تفرِّق، القيم تجمع والحاجات تفرِّق، فإذا أردنا أن نجتمع فلنطلب الدار الآخرة، إذا أردنا أن نجتمع فليكن الحقُّ إمامنا، أما إذا أردنا الدنيا نتنافس، نختلف، يطعن بعضنا ببعض، نتراشق التهَم، إذا أردنا أن نجتمع ينبغي أن تتحد أهدافنا ووسائلنا، أما إذا تفرَّقنا، كل إنسان طلب مصالح شخصيَّة، ولو كان الإطار حقاً، والغلاف حقاً، هذا مما يؤدِّي إلى تفتيت الأمَّة.

 

إيثار الدنيا على الآخرة سبب تفتت وتفرق المسلمين:


الآية الكريمة: ﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ أي ﴿بغياً﴾ سبب تفرُّقهم، وخصوماتهم، وسبب تفتتهم، وسبب كونهم شيعاً وأحزاباً ومللاً وطوائف، هذا الوضع المأساوي سببه إيثار الدنيا على الآخرة، والحسد، وطلب الدنيا بوجاهتها، أو بمالها، أو بمكاسبها، أو بالأتباع. 

 

معاني قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾:


﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ ذكرت لكم في الدرس الماضي أن الله سبحانه وتعالى اقتضت رحمته أن يؤجِّل للناس أجلاً، أي يعطيهم فرصة، كما لو أن الطالب نال صفراً في علامة المُذاكرة، لو أنهينا له عامه الدراسي، واعتبرناه راسباً من أول شهر فهذه ليست رحمة، لكن لو نال الصفر في المذاكرة الأولى فمعه لآخر شهر حزيران، هناك مذاكرات، وفحوص، ومعدَّلات، ونشاطات، فهذا مما يؤكِّد رحمة الله عزَّ وجل، ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ .

وهناك معنى آخر في هذه الآية: أنه ليس القصد أن يحاسبهم، القصد أن يرحمهم، لذلك يعطيهم هذه الفُرَص الجديدة، عندما يكون هدف الإنسان أن يرحم الآخرين فكلَّما استنفذوا الفرص يعطيهم فرصاً جديدة، فربنا عزَّ وجل أعطانا فرصة مديدة.

﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)﴾

[ سورة فاطر ]

أعطانا فرصة مديدة كي نتعرَّض لرحمة الله عزَّ وجل، ولكي نصل إليها، ولكي نستحق سلامة الدنيا والسعادة في الآخرة.

 

الخصومات بين الدعاة إلى الله عز وجل تنعكس على مجموع الدعوة:


لكن النقطة الدقيقة جداً في هذه الآية أن مجموعة الأشخاص الذين يراقبون الخصومات، هذه الدعوة بأكملها قد تسقط، إذا أنت راقبت عدة دعاة يتراشقون التهَم، ويجرح بعضهم بعضاً، ويبخس بعضهم مقام بعض، قد تقول في ساعة غيظ: ما هذه الدعوة؟ خصومات الدعاة تنعكس على مجموع الدعوة، لذلك كما قلت في الدرس الماضي: سمَّى ربنا عزَّ وجل هذه الخصومات كفراً، قال:

﴿ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)﴾

[ سورة آل عمران ]

فليس من صالح الدعوة إلى الله، ولا من صالح مجموع المسلمين، ولا من صالح مستقبل هذا الدين أن تنشر معارك جانبيَّة، وخصومات، وعصبيَّات، وانحيازات بين الدعاة إلى الله عزَّ وجل، إنهم إن فعلوا ذلك سقطوا جميعاً، وسقطت معهم الدعوة.

 

من رجّح مصلحته على مصلحة المسلمين ضعُف إخلاصه:


ذكرت لكم في الدرس الماضي كيف أن بعض الذين حاربوا المستعمرين في شرق آسيا، وكيف أنهم كانوا كباراً في عيون الجميع، فلمَّا تخاصموا فيما بينهم، وتناحروا، تعجَّبنا من هذا الوضع، وسكتت ألسنتنا عن أن نثني عليهم، فالخصومات بين الجماعات الدينيَّة خطيرة جداً، تعود بالخطرِ على كل الدعوة إلى الله، فلذلك هذا التفرُّق الذي كان بسبب البغي، والحسد، وطلب الرئاسة، وطلب المَجد، وطلب السيطرة، وطلب الدنيا، والمال، والأتباع، هذه كلّها مكاسب دنيويَّة.

والإنسان أيها الأخوة بقدر إخلاصه -دقِّقوا في هذه الكلمة- يُرَجِّح مصالح المسلمين العامَّة على مصلحته الخاصَّة، كلَّما ضَعُفَ إخلاصه رجَّح مصلحته الخاصَّة على مصالح المسلمين، والداعية الذي يرجِّح مصلحة جماعته على مصالح جميع المسلمين هذا ضعفٌ في إخلاصه، لذلك نحن الآن بحاجة إلى أن نتعاون، أن نتكاتف، أن يعذر بعضنا بعضاً، أن نتعاون فيما اتفقنا، أن يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا، نحتاج أن نحترم جميع الدعاة، وجميع العلماء من دون أن ننتقص منهم، من دون أن نجعل من مجالسنا نهشاً لأعراضهم ومكانتهم، ليس هذا في صالح المؤمنين إطلاقاً.

 

دعوة الله تعالى النبي الكريم بأن يكون قدوة للناس:


ثمَّ يقول الله عزَّ وجل: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ﴾ أي أهل مكَّة الذين جاءهم هذا الكتاب ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ من بعد هذه الخصومات ﴿لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ﴾ لذلك يا محمَّد ﴿فادع﴾ إلى الله على بصيرة، ادع إلى الله واعمل صالحاً، ادع إلى الله وكن قدوة للناس.

 

الثبات أساس وصول الإنسان إلى أهدافه النبيلة:


﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)﴾

[ سورة الشورى ]

بعضهم قال: هذه الاستقامة في السياق تعني متابعة الدعوة، المتابعة، الإصرار، تحمُّل المتاعب، الثبات، والحقيقة لا يوجد إنسان وصل إلى أهدافه النبيلة إلا بالثبات، والله عزَّ وجل يقول:

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ(2)﴾

[ سورة العنكبوت ]

الله عزَّ وجل يضع عقبات ليمتحن المؤمنين، منهم من يتجاوز هذه العقبات، ومنهم من يسقط، هذه العقبات يضعها الله سبحانه وتعالى ليمتحن المؤمنين؛ يمتحن صبر المؤمنين، وصدقهم، وثباتهم، وإصرارهم على طلب الآخرة.


  أعظم عمل على الإطلاق الدعوة إلى الله بصدق وإخلاص:


﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ﴾ أنا والله أقول هذا الكلام وأتهيِّب أن يُفهم على غير ما أردت، ما من نشاطٍ إنساني يتذبذب بين أن يكون أخطر عملٍ على الإطلاق، وبين أن يكون أتفه عملٍ كالدعوة إلى الله، إذا رافقها صدق، وإخلاص، وتطبيق، والتزام فهي أخطر عمل على الإطلاق، أي إذا دعوت إلى الله وأنت صادق ومخلص ما من إنسانٍ يرقى إليك لقوله تعالى:

﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ(33)﴾

[ سورة فصلت  ]

لا يوجد إنسان أعظم من ذلك، لكنه دعا إلى الله وعمل صالحاً، دعا إلى الله وكان قدوةً، دعا إلى الله وكان أسوةً، دعا إلى الله وكان مثلاً أعلى، دعا إلى الله والتزم الأمر والنهي، دعا إلى الله وكان سبَّاقاً إلى ما يدعو إليه.

 وكنت أقول لكم دائماً هذا الدعاء الذي يقصم الظهر: "اللهمَّ إني أعوذ بك أن يكون أحدٌ أسعد بما علمَّتني مني"، إنسان تدعوه إلى الله، تبيِّن له آية، فتشرحها، تحلِّلها، تبيِّنها، يصغي، يصدِّق، يطبِّق، يتألَّق، يرقى، وأنت قاعد في مكانك، أشقى إنسان عالمٌ دخل الناس بعلمه الجنَّة، ودخل هو بعلمه النار، هذا أشقى إنسان، لذلك من أراد أن يصرف وجوه الناس إليه فليتجهَّز إلى النار، من أراد بالعلم أن يماري العلماء، أو يجادل السفهاء، أو يصرف وجوه الناس إليه فليتجهَّز إلى النار.

 

المؤمن الحق يدعو إلى الله تعالى بالعقل والشرع:


إذاً فلذلك يا محمَّد لهذا التمزُّق، والتشرذُم، والتبعثُر، لهذه الدعوة الساقطة في نظر المُنقطعين عن الله عزَّ وجل، لأن أصحابها تراشقوا التهم، وتنافسوا الدنيا، وتدافعوا إليها، وطعن بعضهم ببعض، لهذا ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ أي أنت دائماً بين أن تتبع العقل المتوافق مع الشرع، وبين أن تتبع الهوى المتوافق مع الشهوة، فإما أنت رحماني أو شيطاني، إما ربَّاني أو شهواني، إما أن تتحرَّك بما يمليه عليك العقل والشرع، أو بما يمليه عليك الهوى والشهوات.

 

الكتب السماويَّة كلها من عند الله عزَّ وجل:


﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)﴾

[ سورة الشورى ]

 أما كلمة ﴿مِنْ كِتَابٍ﴾ فهذه كلمة في هذه الآية تؤلِّف القلوب، أي كتابٍ نكرة، أي كل الكتب السماويَّة كما أنزلت حق، وكلُّها تلتقي مع بعضها بعضاً، كلّها من مشكاةٍ واحدة، ولهدفٍ نبيلٍ واحد، كلها من عند الله عزَّ وجل: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ﴾ أي الإنجيل كما أنزله الله على العين والرأس، والتوراة كما أنزلها الله على العين والرأس، والقرآن كما أنزله الله على العين والرأس.

 

النبي عليه الصلاة والسلام أُمر أن يعدل بين الأديان:


﴿وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ﴾ .

﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)﴾

[ سورة آل عمران ]

يمكن أن نأخذ القواسم المشتركة في الأديان كلها، إذا آمنا بإلهٍ واحد، وآمنا بأن الخلق عباده، وأن على كل من عرف الله أن يستقيم على أمره، وأن يحسن إلى عباده، هذا قاسم مشترك بين كل الأديان، فالنبي عليه الصلاة والسلام أُمِرَ أن يعدل بين الأديان.

 

من أيقن أن الله واحد وكتابه واحد ورسوله واحد أسرع إلى طاعة الخالق:


لذلك لو أن أهل الكتاب أيقنوا أن هذا القرآن من عند الله، وأن هذا الإنسان رسول الله ينبغي أن يؤمنوا به، وأن يتابعوه، وأن يعاونوه.

﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)﴾

[ سورة الشورى ]

هذا الشعور أن هذا الإله الذي أكرم الصحابة الكرام هو نفسه ربُنا، الإله واحد، الذي أنزل هذا القرآن موجود معنا أينما كنَّا، أي لم يختلف شيء، الزمان تغيَّر، المكان تغيَّر، لكن الله هو هو، كتابه هو هو، المبادئ هي هي، القيَم هي هي، فنحن إذا آمنا بأن الله سبحانه وتعالى واحد، وكتابه واحد، ورسوله واحد، وعباده كلُّهم عنده سواء يتفاضلون بطاعتهم له انتهى الأمر.

 

الخصومات بين جماعة الأديان تغضب الله عز وجل:


هذه الفكرة التي تقول إننا نحن بآخر الزمان من الصعب أن تصير، فرص التفوُّق موجودة في كل زمان، الفُرَص واحدة.

قلت قبل قليل: الإنسان عنده مملكتان بيته وعمله، يتمكَّن أن يضبط جوارحه هذه بيده، يتمكَّن أن يضبط لسانه، يضبط بصره، يضبط سمعه، يضبط دخله، يضبط إنفاقه، يضبط بيته، يضبط عمله، هذا الذي في قدرته، والإله موجود، سميع وبصير، ﴿اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾ أعجب ما يعجب الإنسان هذه الخصومات بين جماعات الأديان، لأنه على باطل، لأنه عندما يتحرَّك الدين، ويتغيَّر، ويدخل فيه ما ليس منه، طبعاً يصطدم مع الدين الآخر، من هنا تأتي المشكلات، أما لو عادوا جميعاً إلى أصل دينهم، وإلى أصل توراتهم، وإلى أصل إنجيلهم، وعدنا إلى روح قرآننا، وعرفنا ربنا سبحانه وتعالى التقينا، الله عزَّ وجل لا يرضيه هذه الخصومات، وهذه الحروب، وتلك الأحقاد.

 

التغيير والتحريف أساس اصطدام الكتب السماوية مع القرآن الكريم:


البشريَّة تئن الآن إن كان في آسيا، وإن كان في أوروبا كما تسمعون، بأي مكان  الأحقاد الدينيَّة، والخصومات، والحروب الطاحنة هل هذا يرضي الله عزَّ وجل؟ لا يرضي الله، إذاً: ﴿وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ﴾ جاءت كلمة ﴿كتاب﴾ نكرة لتؤكِّد أن كل الكتب السماويَّة من عند الله، وأنها كلَّها في الأصل حقّ من عند الله، لكن ما طرأ على بعضها من تغيير، وتبديل، وتزوير، وتحريف، طبعاً عندئذٍ اصطدمت مع القرآن الكريم.


  الله سبحانه وتعالى لا يتقبَّل العمل إلا إذا كان خالصاً وصواباً:


ثم يقول الله عزَّ وجل: ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ كل واحد له عمله، وهذه كلمة دقيقة جداً، أنت تعرف عملك، هناك عمل مبني على الاحتيال، وعمل مبني على الغِش، وعمل مبني على إيذاء الآخرين، يوجد إنسان يصلح، إنسان يُفسد، إنسان يقدِّم، إنسان يأخذ، إنسان يُحسن، إنسان يعتدي، فكل واحد له عمل، وأسعد إنسان من كان عمله وفق الكتاب والسنَّة، لذلك يقول بعض العلماء: "الله سبحانه وتعالى لا يتقبَّل العمل إلا إذا كان خالصاً، وكان صواباً، صواباً وفق الكتاب والسنة، وخالصاً ما ابتغي به وجه الله" .

كل واحد منَّا يحاسب نفسه حساباً دقيقاً ونحن في رمضان، عملي مطابق للكتاب والسنة؟! فيه عدوان؟ فيه بغي؟ فيه أكل أموال الناس بالباطل؟ بكسب المال، ورد: "يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة" .

 

من وصل إلى أن يكون كسبه حلالاً وصل لكل شيء وأصبح مستجاب الدعوة:


ما رأيت كلمةً جامعةً مانعةً موجزةً مفعمة بالمعاني التفصيليَّة، كيف يكون طعامك طيِّباً؟ إذا كان ثمنه حلالاً، وكيف يكون الثمن حلالاً؟ إذا كان الدخل حلالاً، وكيف يكون الدخل حلالاً؟ إذا كانت حرفتك تنضبط بها تماماً بما أمر الله، إذا كان هناك غش فمعنى هذا أن جزءاً من مالك حرام، بعت هذه الحاجة على أنها مستوردة، هي وطنيَّة، طبعاً أخذت سعراً غالياً، صار جزء من مالك حراماً، اشتريت به طعاماً صار الطعام غير طيِّب، عندما كان الطعام غير طيب لست مستجاب الدعوة، لذلك مليار ومئتا مليون إنسان يدعون الله عزَّ وجل وأمرهم ليس بيدهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه:

(( يا أيُّها النَّاسُ إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يقبلُ إلَّا طيِّبًا، وإنَّ اللَّهَ أمرَ المؤمنينَ بما أمرَ بِه المرسلينَ، فقالَ: يَا أيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وقالَ: يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ قالَ وذَكرَ الرَّجلَ يُطيلُ السَّفرَ أشعثَ أغبرَ يمدُّ يدَه إلى السَّماءِ يا ربِّ! يا ربِّ! ومطعمُه حرامٌ، ومشربُه حرامٌ، وملبسُه حرامٌ، وغذِّيَ بالحرامِ فأنَّى يستجابُ لذلِك؟ ))

[ صحيح الترمذي :خلاصة حكم المحدث: حسن  ]

أي أنت حينما تدع طعامك طيباً، أطب مطعمك أي ثمنه مال حلال، أي دخلك حلال، أي في عملك، في كسب رزقك لا يوجد كذب، ولا غش، ولا تدليس، ولا إيهام، ولا احتكار، ولا بضاعة محرَّمة، ولا تعامل محرَّم، شيء ليس سهلاً، إذا وصل الإنسان إلى أن يكون كسبه حلالاً وصل لكل شيء، يصبح مستجاب الدعوة، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، فكان السلف الصالح حريصًا حرصاً بالغاً على أن يطعم أولاده حلالاً.

 

من انضبط بمنهج الله عز وجل صار طريقه إلى الله سالكاً:


كل إنسان منَّا أيها الأخوة الكرام اعتقد اعتقاداً جازماً وأنا معك إلى أقصى مدى، لن يقلَّ رزقك إذا استقمت على أمر الله، بعض المطاعم يوجد فيها خمور، يقول صاحبها: ماذا أفعل ؟ نحن أخذنا المطعم خمس نجوم، إذا أردنا إلغاء الخمر يصير أربع نجوم، لا حول ولا قوة إلا بالله. يا سيدي ألغ الخمر واطمس كل نجوم المطعم، واكسب رضاء الله عزَّ وجل، فعندها يكون في دخل الإنسان مشكلة، أو يتعامل ببضاعة محرَّمة يا إخوان، عددت لكم إياهم؛ الغش، الكذب، التدليس، الإيهام، الابتزاز، الاستغلال، فالإنسان يعرف، من خصائص النفس قال:

﴿ بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14)وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ(15)﴾

[ سورة القيامة ]

المحامِي يعرف إذا أوهم الموكِّل أن القضيَّة رابحة مئة بالمئة، وهو يعرف أنها ستمتد معه خمس سنوات، يمكن أن يأخذ منه خلال خمس سنوات مبالغ طائلة، وبعد هذا يفاجئه مرة واحدة أن القاضي لم يكن نظيفًا، الإنسان يعرف أنه يغشُّ الناس، لا حاجة لمن يوجِّهه، هذه من خصائص النفس البشريَّة، هذه الفطرة، الفطرة تعرف: ﴿بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14)وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ والطبيب نفس الشيء، والمحامِي نفس الشيء، والمدرِّس، يجد طالباً لا أمل منه إطلاقاً فيمنيِّه بالنجاح ليعطيه دروساً خاصَّة، هذا الدخل صار حراماً، الدخل حرام، ثمن الطعام حرام، الطعام غير طيِّب، أنت عند الله مرفوض، ما هذا؟ أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، فعندما ينضبط الإنسان انضباطاً حقيقياً في عمله صار دخله حلالاً، صار طعامه طيِّباً، صار مستجاب الدعوة، صار الطريق إلى الله سالكًا.

 

قليلٌ من الرزق الحلال خيرٌ من رزقٍ كثير فيه شبهة:


فيا إخواننا الكرام؛ لا تتوهَّموا الدين بالصلاة فقط، صلينا، بينما المحل فيه عشرات المواد المحرَّمة، أخي إذا لم يكن في المحلّ دخَّان يقِل البيع، إذا لم يكن هناك طاولات زهر لا نبيع، إذا ما ابتسمنا بوجه المرأة، وضاحكناها، ومزحنا معها، وأثنينا على جمالها لا تشتري من عندنا، من قال لك هذا الكلام؟ إذا كان الدخل متلبساً بالمعاصي، متلبساً بحرمة، متلبساً بمخالفات، متلبساً بإيهام، متلبساً بابتزاز، بغش، بتدليس، صار الدخل غير حلال، صار ثمن الطعام غير حلال، صار الطعام غير طيِّب، صار الدعاء غير مستجاب.

فيا إخواننا الكرام؛ إذا عاهد أحدنا نفسه أن يجعل دخله حلالاً فقط وصل إلى كل شيء، دخله حلال، سبحان الله! الحلال فيه بركة، ولو كان الدخل محدوداً فالله عزَّ وجل يبارك في هذا الدخل، وقد يعجب الإنسان كيف يعيش بهذا الدخل؟ يعيش فيه، إذا أعفاه الله عزَّ وجل من مصاريف الأطبَّاء، والصيادلة، والأزمات، والطوارئ، والمصائب، إذا أعفاه منها، وصار عنده قناعة، والمؤمن يأكل بمعي واحد، إذا أكل باعتدال، وإذا كان الشيء اشتراه من منبعه في وقته المناسب بأسعار معتدلة، وكانت الزوجة عندها إدارة وتدبير يكفي هذا الرزق الحلال، لذلك: قليلٌ من الرزق الحلال خيرٌ من كثير من رزقٍ فيه شبهة.

 

على الإنسان ألا يبني عمله على معصية:


إذاً: ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ لا تبن عملك على معصية، لا تقل: لا أقدر، هذه مصلحتي، نشأت فيها هكذا، لك عمل، عملك أخطر شيء، هذا العمل الذي معك في القبر، وكل إنسان يأتيه شبح مصيبة، أو شبح موت بشكل عجيب بثوانٍ معدودة يستعرض كل عمله، ويعلم أنه على حق أو على باطل، فالإنسان قبل أن تأتيه الأزمة، قبل أن يقع في ظرف صعب، بطريق مسدود، قبل أن يجد أنه لا مجال ليغيِّر، وأنت الآن في بحبوحة راجع نفسك، يا ترى عملنا فيه شبهة؟ فيه بضاعة محرَّمة؟ فيه تعامل محرَّم؟ فيه علاقة محرَّمة؟ فيه معصية ترتكب في المحل التجاري؟ هل هناك مجال أن لإنسان يشعر أن دخله غير حلال؟ السلف الصالح بارك الله لهم في أعمارهم، وفي أهلهم، وفي أولادهم، وفي تجارتهم، وفي صناعتهم، وفي زراعتهم، يوجد بركة؛ بركة التوفيق، بركة الحفظ، بركة الرعاية..

 

لكل إنسان عمله وحسابه:


إذاً كلمة: ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا﴾ أنت لك عمل تجاري، ولك عمل وسط بيتك، يا ترى أنت أب مثالي أم غير مثالي؟ أنتِ أيتها المرأة أم مثاليَّة أم غير مثاليَّة؟ تقومين على رعاية أبنائكِ؟ أيما امرأة قعدت على بيت أولادها فهي معي في الجنة، المشكلة أن الإنسان عندما يطلب الدنيا فالدنيا تتصادم، لو أن الزوج أراد من الزواج المتعة، والزوجة كذلك يتصادمان أحياناً، لكن لو أرادت من هذا الزواج أن ترضي الله بخدمة زوجها، ورعاية أولادها، وأراد الزوج من خلال زواجه أن يأخذ بيد امرأته إلى الله ورسوله، وأن يدل أولاده على الله الأهداف النبيلة تتلاقى، وتتعاون، وتتكامل، وتتناسق، ويكون بينهما تنسيق.

فكل واحد له عمل، ولا أحد بإمكانه أن يحمل وزر إنسان آخر، هذا معنى قول الله عزَّ وجل:

﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)﴾

[  سورة الأنعام ]

 

أخطر شيء بحياة الإنسان زواجه وعمله:


﴿لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا﴾ أخ كريم والله أعجبني، يعمل في مطعم، اللحم نوع، الإعلان عنه بنوع آخر أعلى بكثير، لم يتحمَّل فتركه، لأنه عن طريقه يتم البيع، يجب أن تقول لهم إن هذا اللحم نوعه كذا، وهو ليس نوعه كذا، أرخص بكثير، هذا ليس عملك، لا عملي، عندما تبني رزقك على الحرام هذا كذب، هذا بسعر وهذا بسعر، والزبون لن يعرف ولكن يسألك: ما نوعه؟ بلدي، ضع لنا، وهو ليس بلدياً، الأخ تحسَّس، والبيع يتم على يده كل يوم، لو أن الإنسان يوهم الناس بنوع ويعطيهم نوعاً آخر صار الدخل حراماً.

أقول لكم دائماً: زواجك وعملك أخطر شيء بحياتك، لأنهما ألصق شيءٍ فيك، ألصق شيء فيك زواجك وعملك، فإذا اختار الإنسان الزوجة المؤمنة، أو إن لم تكن كذلك حملها على الإيمان، وأصلحها، واعتنى بها، وتعامل معها بالنفس الطويل حتى ارتقى بها إلى الله، واختار عمله بحيث لا يكون فيه شبهة، والله وصل إلى كل شيء، الزواج والعمل، هذه المعاني قلتها لكم استنباطاً من قول الله: ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ كل واحد له عمل.

 

المذاهب الأرضيَّة مبنيَّة على فلسفة المعاصي والموبقات:


﴿لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا﴾ الحجَّة هنا معناها الاحتجاج، أحياناً الإنسان يتشبث بالباطل، يرفض المُناقشة الحُرَّة، يرفض الأدلَّة القرآنيَّة، تأتيه بالقرآن لا يقبله، يقول لك: هذه الآية ليس معناها هكذا، تأتيه بالحديث الصحيح لا يقبله، تأتيه بأقوال العلماء لا يقبلها، هو يقبل دينًا وفق شهوته، وفق هواه، فإذا انقطع التحاجج أو امتنع، أو لم يحدث تحاجج فلا مانع، ﴿لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ أي لا احتجاج بيننا وبينكم، ﴿اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ وعنده حينما نرجع إليه ينبئنا بما عملنا، أنت على حق وأنت على باطل، أنت صادق وأنت كاذب، أنت محسن وأنت مسيء، أما الإنسان بالدنيا فيستخدم ذكاءه لتغطية عمله، يقنعك أنه على الحق، الحقيقة هو يفلسف المعصية.

 

كل إنسان أعطاه الله عقلاً كي يرقى به إليه:


هناك الكثير من المذاهب الأرضيَّة مبنيَّة على فلسفة المعاصي والموبقات، أن الإنسان عندما أعطاه الله عقلاً كي يرقى به إلى الله، كي يتعرَّف إلى الله، فلمَّا أراد الدنيا وجد معه جهازاً عجيباً، ممكن تستخدم جهازاً تصير أكبر مصمِّم مثلاً، بهذا الجهاز استخدمه لتزوير العملة فدخلت بسببه السجن، وهو نفسه ممكن أن ترقى فيه إلى أعلى مستوى اقتصادي، أنت استخدمته استخداماً آخر في غير ما صُنِعَ له.

المركبة ممكن تنقلك إلى هدفك، ممكن تكون عكس ذلك، فلذلك: ﴿لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ إذا انقطع التحاجج بين الناس ليست مشكلة، هناك آخرة، وهناك إله يعلم وسوف ينبِّئ كل إنسان بما عمل.

 

كل إنسان مآبه إلى الله ليحاسبه على عمله في الدنيا:


﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)﴾

[ سورة الشورى ]

العلماء قالوا: هذه الآية فيها عشر قضايا، ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ وهي من الآيات النادرة فيها عشر قضايا.

أحياناً الإنسان عندما يناقش أهل الدنيا، وقد يكون مؤمناً، عالي الإيمان، أحياناً يعجَز عن مناقشتهم لا لأنه ضعيف الحجَّة، بل لأنه ليس بينه وبين الطرف الآخر لُغة مشتركة، أنت مؤمن بالآخرة والآخرة خارج حسابه، طبعاً لا يتناقشون، إذا آمن الإنسان بالآخرة بحياة أبديَّة، والدنيا مزرعة الآخرة، فهذا له منطلقات وله أهداف، لو تناقش مع إنسان كافر بالآخرة لا يلتقون، هذا المال عنده كل شيء، الشهوات كل شيء، المكاسب كل شيء، مادام لا يوجد حساب ولا يوجد الآخرة، إذاً يُعدّ ذكياً إذا حصَّل أكبر مبلغ ممكن في أقل جهد ممكن، معنى هذا إذا شخص هرَّب مادَّة مخدِّرة يكون ذكياً جداً لأنه حصل على أموال طائلة بجهد بسيط، لكن الذي يؤمن بالله واليوم الآخر لا يستطيع أن يفعل هذا، عنده مبادئ، عنده أهداف، إذاً أحياناً ينقطع الاحتجاج بين الناس، لا لأنهما على باطل؛ لا، قد يكون أحدهما على حق، إلا أنه حينما لا يكون هناك لغة مشتركة، ولا مبادئ مشتركة، ولا قيَم مشتركة، الاحتجاج ينقطع، وإذا انقطع الاحتجاج بين الناس هناك آخرة، كلنا إلى الله آيبون، راجعون، والله سبحانه وتعالى ينبِّئ كلاً منا بعمله وبمستواه.

 

المؤمن منضبط ومطبق لكل ناحية من نواحي الحياة:


الآن:

﴿ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ(16)﴾

[ سورة الشورى ]

أي الله عزَّ وجل أنزل هذا الكتاب على عبده، فعبده النبي عليه الصلاة والسلام دعا إلى الله، والناس استفادوا، واستجابوا، واطمأنوا، وسعدوا، وتألَّقوا، على الرغم من كل هذا الإنجاز العظيم للدين، انظر كيف أن المؤمن منضبط أشدّ الانضباط.

امرأةٌ علمت أن زوجها تزوَّج امرأةً ثانية، لكنها مؤمنة فرضيت، المرأة الثانية أيضاً مؤمنة، توفَّى الله هذا الزوج، ما كان من الأولى إلا أن أرسلت للثانية نصيبها من الإرث، فقالت لها الثانية: لقد طلَّقني قبل أن يموت، ليس هذا من حقي، شيء لا يصدَّق أن إنسانًا يقف عند الحدود بهذه الدقَّة؟! هذا المؤمن، هذا مطبق بكل نواحي الحياة؛ في البيع والشراء، في التجارة، في التعامل.

 

من استجاب لله أصبح إنساناً كاملاً:


إذاً: ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ﴾ عندما استجاب الإنسان لله صار إنسانًا كاملاً، تثق بأمانته، تثق صدقه، صادق، تثق إخلاصه، مخلص، تثق بعفافه، تثق بإنصافه، منصف، تثق بإحسانه، محسن، تثق بإنكاره لذاته، هذه الشخصيَّة الفذَّة التي صنعها الدين، بعد هذا الإنجاز الضخم تحاجج في هذا الدين، وتحاول أن تثبت العكس، وأن هذا الدين عبارة عن خرافة، وأنه شعور بالضعف عند بعض الناس؟ كلام غير معقول، ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ﴾ فالناس استجابوا، وطبَّقوا، وسعدوا، وتألَّقوا، وارتقوا، انظر إلى مجتمع المؤمنين ليس فيه كذب، ولا تدليس، ولا غش، ولا خداع، ولا أعمال منحطَّة، ولا قذارة، ولا عدوان على الأعراض، فيه عفَّة بالغة، هذا المجتمع المؤمن الراقي أليس هذا دليلاً عظيماً على أن الدين حق؟

إذا أنت لم تر الجامعة ولكنك رأيت خريجي الجامعة، وجدت علماً ما بعده علم، وأخلاقًا انضباطيَّة، وروحاً موضوعيَّة، واندفاعاً إلى خدمة الناس، وإنصافًا، واعتدالاً في الأجور، ما هذه الجامعة يا أخي؟ هذا دليل الجامعة التي خرَّجت هؤلاء، فلو لم ترَ الجامعة أنت ولم تدخل إليها لكنك أمام نماذج من خريجيها.

 

الإيمان يربي أشخاصاً صادقين مخلصين وأمناء:


هذا الدين يقدِّم نماذج، والله أخ بعث إلي برسالة مرَّة قال لي: عشرون مليون ليرة في ذمتي، لا يملك أصحابها أية وثيقة ولا علم أنها عندي، توفي الأب فجأةً، وما أعلم أهله بذلك، بادر إلى نقد هذا المبلغ للورثة، وإذا لم يفعل ذلك لا أحد يداعيه إطلاقاً، أي قضيَّة بينه وبين صاحب المال وتوفي فجأةً، فإيمانه دفعه إلى أن يؤدِّي هذا المال للورثة، الإيمان يصنع المعجزات يا إخوان.

تصور مجتمعاً ليس فيه كذب أبداً، يا لطيف! شيء عجيب، لا يوجد فيه انحراف، ولا خيانة، ولا عدوان، فيه إنصاف، فيه رحمة، لكنَّا في حياة غير هذه الحياة، نحن أحياناً مجتمع صغير تجد فيه قيَماً فيرتاح الإنسان، يسعد، يطمئن، الآن إذا ذهب أخ مثلاً إلى أخيه وله مصلحة، كله طمأنينة أنه سينصحه، ولا يغشَّه، ولا يزيد في السعر عليه، ولن يكذب عليه، سرّ الطمأنينة أنه مؤمن يخشى الله، أما إذا دخلت إلى إنسان لا يعرف الله تخاف منه، تقيده بعقد، تخاف أن يضع قطعة مستعملة مكان قطعة جديدة، تخاف أن يكذب بالسعر، تخاف أن يغافلك بقضيَّة، تخاف أن يأخذ البنزين، تخاف يبدِّل قطع بالسيارة، لا ترتاح له أبداً، أما المؤمن فترتاح له، هذه من ثمار الإيمان، الإيمان يربي أشخاصاً صادقين، أشخاصاً مخلصين، أشخاصاً أمناء، أشخاصاً منصفين، أشخاصاً متواضعين.

 

الشقي من وضع نفسه بخندق ضد الدين:


بعد أن استُجيب لله، وتألَّق الناس، والآثار واضحة جداً، يأتي بعض الناس ليدحضوا أصل الدين، أن هذه غيبيات، يقول لك: أفكار ليست يقينيَّة، هذا اتجاه غير صحيح، قال: ﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ أي حجَّتهم مردودة بألف دليلٍ ودليل، بالدليل النَقلي، والدليل العقلي، والدليل الواقعي، والدليل الفطري، الفطرة تؤيِّد، والعقل يؤيد، والواقع يؤيد، والنقل يؤيِّد، ﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ بعد ذلك الإنسان أيها الأخوة الكرام يكون غلطان أشد الغلط، وشقياً أشد الشقاء لو وضع نفسه بخندق ضد الدين، دين الله عزَّ وجل، الإله معه، الخالق معه، فعل هذا فرعون كان مصيره الغرق، فعل هذا قارون انتهى، فعل هذا النمرود انتهى، هذا هو التاريخ، الذين عارضوا الدين بقوا في مزبلة التاريخ، فأنت بطولتك أن تكون في خندق المؤمنين، داعماً لهم، مُعيناً إيَّاهم، مصدِّقاً لهم، أخطر شيء عندما يأخذ الإنسان موقفًا معادياً للدين، أو معادياً لمن سمح الله لهم أن يكونوا دعاةً في هذا الدين، طبعاً هم ليسوا معصومين، لكن نحن يجب علينا ألا نشرِّحهم، يجب أن نعينهم، نشجعهم، نغض البصر عن بعض الهفوات حتى يتقدَّم الحق. 

 

العمل الصالح من لوازم الإيمان:


يا إخوان؛ توجد نقطة دقيقة جداً: هذا الباطل يتمدَّد بحكم طبيعة الحياة، الحياة حركة، وكل إنسان يحب أن ينمي اتجاهه، فإذا تنامى الباطل والحق لم يتنامَ، يتحاصر الحق، إذاً التواصي بالحق سبب لبقاء الحق، القضية قضية وجود نكون أو لا نكون، إذا كان الحق منحسراً ومنكمشاً، والمسلم متقوقع، وقال: ليس لي دخل، هم أحرار، لك ابنة أخ انصحها، لك ابن أخ انصحه، لك أخ انصحه، هذه الآية التي سمعتها انقلها لأخيك، انقلها لابنك، انقلها لجارك، لزميلك في العمل، لا تكن منكمشًا، لأن العمل الصالح من لوازم الإيمان، إذاً يجب أن ينمو الحق لكي يحافظ على وجوده،﴿وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ .

 

للميزان معنيان:


الآن: 

﴿ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)﴾

[ سورة الشورى ]

 بعضهم قال: الميزان هو العدل، أي يوجد بالقرآن الكريم مبادئ للعدل، مبادئ كثيرة، يوجد تشريع الزواج، تشريع الطلاق، تشريع التعامل في البيع والشراء، تشريعات كثيرة في القرآن، هذه التشريعات هي في الأصل مبادئ للعدل، ومبادئ العدل هي الميزان، هذا تفسير. 

هناك تفسير آخر: الميزان هو العقل، ممكن لنا أن نزين به الأمور، ربنا عزَّ وجل جعل الميزان مع العقل متكاملين، وجعل الكون مع العقل متكاملين، في آية أخرى:

﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)﴾

[ سورة الرحمن  ]

وهذه الآية الثانية، اثنتان لا يوجد غيرهما، ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ﴾ .

 

من لوازم القرآن أن الله تعالى أعطانا قوَّة إدراكيَّة لندرك ما فيه من مبادئ:


ما قيمة الكون من دون عقل؟ العقل قوة إدراكيَّة، ما قيمة العقل من دون كون؟ يتكاملان، ما قيمة هذا الكتاب من دون قوة إدراكيَّة عند الإنسان؟ الله قال:

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)﴾

[ سورة الجمعة ]

إذا كان المخلوق ليس عنده قوَّة إدراكيَّة هل ينفعه هذا الكتاب؟ لا ينفعه، إذاً من لوازم هذا الكتاب يكون الله عزَّ وجل قد أعطانا قوَّة إدراكيَّة لندرك ما فيه من مبادئ، من تصوُّرات، من قواعد، من أوامر، من نواه، من حكم. 

إذاً الميزان هنا إما أنه مبادئ العدل التي جاء بها القرآن، والتي تحكم بين الناس بالعدل، وإما أن هذا العقل الذي لولاه لما كان لكلام الله من معنى، بالعقل ندرك كلام الله، فالعقل وكلام الله متكاملان، كما أن الكون والعقل متكاملان لا نفع لأحدهما من دون الآخر.

 

كل إنسان متحرك وأجله ثابت سيصل إلى النهاية لا محالة:


﴿ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)﴾

[ سورة الشورى ]

الساعة كما قال بعض المفسِّرين يوم القيامة، يوم البعث، لماذا هي قريب؟ إن الإنسان عندما يتحرَّك فمعنى هذا أنه وصل، إذا دخل أول جامعة أخذ ليسانس، وهو في البداية، ما دام دخل فقد مشي، أربع سنوات تمضي كلمح البصر، مادام القطار انطلق وصل، أخي لم يصل، ما دام انطلق وصل وهذا معنى: "كل متوقَّعِ آت وكل آتِ قريب". 

﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ فنحن كم رمضان أكرمنا الله به؟ فمن رمضان لرمضان لرمضان، كل مرَّة تراويح ودروس، بعد هذا يأتي الأجل، هذا له آخر رمضان، هذه آخر جمعة صلّاها، هذا آخر عمل عمله، هذه آخر بناية عمَّرها، يوجد أجل، مادام الأجل ثابتًا وأنت متحرِّك معنى هذا أنك وصلت ولو لم تصل، هذا معنى قول الله عزَّ وجل:

﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)﴾

[  سورة النحل ]

معنى هذا أنه لما يأتِ، كأنه آت، مادمت تمشي باتجاهه معنى ذلك أنك وصلت.


  الموت لا ينتظر فعلى الإنسان أن يهيئ نفسه من أول لحظة:


إذاً عندما يضع الإنسان ساعة الفراق نصب عينيه يكون أسعد إنسان، مهيئ نفسه، شركة الطيران -هذه نادرة جداً- يقول لك: الإقلاع في ساعة نخبرك عنها فجأةً بالهاتف، إنها بين الثانية عشرة ظهراً والثانية عشرة ثاني يوم الظهر- أربع وعشرون ساعة- أنت لا تملك سوى دقيقة فقط، تنطلق من بيتك فتركب السيارة لتكون في المطار، بأية لحظة يخبِّرونك ضمن الأربع والعشرين ساعة، أليس من العقل أن تهيِّئ نفسك من أول ساعة؟ هذه الأربع والعشرون ساعة في أية لحظة يخبرونك، وليس لديك وقت، ولا ينتظرونك، معنى هذا الحكمة تقول: يجب أن تهيئ نفسك من أول لحظة، بأية لحظة اتصلوا بك وطلبوك أنت جاهز، والموت كذلك، الموت لا ينتظر، هل أنت مصفي حساباتك؟ علاقاتك؟ يوجد علاقات شركة، علاقات ذمم، هل هناك شيء غير واضح؟ هل عملت وصية؟ الأمور كلها واضحة؟ هناك شيء ليس لك وكاتبه باسمك؟ هذا كله يجب أن ينتبه له الإنسان، ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ .

 

من ازداد علماً ازداد خوفاً:


الذين يكفرون بها.

﴿ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)﴾

[ سورة الشورى ]

استخفافاً، متى يا سيدنا؟ أكثر الناس يسألون عنها استخفافاً، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا﴾ لو تقرأ تاريخ الصحابة تجد العجب العُجاب، إنسان يخاف هذا الخوف كسيدنا عمر "ليت أم عمر لم تلد عمر، ليتها كانت عقيماً"، "ليتني ألقى الله لا لي ولا علي" ، معنى هذا أن الإنسان كلَّما كبر عقله يكبر خوفه.

أنا مرَّة دخلت إلى معمل فرأيت صاحب المعمل مهتماً جداً، سألته: خير؟ قال لي: الجسر منكسر من النصف، والله ما رأيت شيئاً، وبعدها رأيت فعلاً أنه يوجد شق صغير، الماء المالح بأساسات المعمل فتَّتت التربة من تحت الاستناد فانزاحت العضاضة وانكسر الجسر، قال لي: تحتاج إلى أربعمئة ألف أو خمسمئة ألف تدعيم. قلت: لو رآها دهَّان لقال لك:  تحتاج إلى معجون، هناك فرق كبير بين دكتور مهندس يقول له: تحتاج إلى خمسمئة ألف تدعيم، وبين معجون، فرق كبير جداً، فكلَّما ازداد علم الإنسان يزداد خوفه.

أحياناً تكون هناك أمراض خطيرة ولكن ليس لها أعراض، يمكن أن تظهر بالتحليل فتجد لون الطبيب يتغير، لكن المريض يقول: لا شيء عندي، هذا الجاهل يقول ذلك، أما العالِم فيعرف ماذا هناك، فكأن الخوف يتناسب مع العلم، كلَّما ازداد علمك يزداد خوفك، وكلَّما قلّ العلم يقول لك: ما الذي حدث ؟ كلمات الاستخفاف واللامبالاة دليل الجهل، هناك قدوم على الله عزَّ وجل.

 

على الإنسان أن يراقب الله دائماً ويهيئ جواباً لكل سؤال:


والله كل كلمة، وهذا إيماني، كل كلمة، وكل ابتسامة، وكل مبلغ تقبضه من أين قبضته؟ وكل مبلغ تدفعه لمن دفعته؟ لماذا دفعته؟ ما هي النيَّة؟ إذا عرف الإنسان أنه يوجد سؤال دقيق، وأن هناك حساباً، والنيات مكشوفة عند الله عزَّ وجل، ولا يغادر كتابك:

﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)﴾

[  سورة الكهف  ]

إذا أيقنت أنه هناك وقفة لابدَّ منها، وهناك حساب دقيق، وليس معك حجَّة، لذلك فالنبي قال: عن أبي مسعود عقبة بن عمرو: 

(( آخرُ  ما أدركَ النَّاسُ مِن كلامِ النُّبَوَّةِ الأُولَى، إذا لَم تَسْتَحِ فاصنعْ ما شئتَ. ))

[ صحيح الجامع : حكم المحدث: صحيح ]

من معاني هذا الحديث أن الحساب مع الله، إذا كان معك حجَّة لله، معك مبرِّر فليس هناك مانع، فأنت دائماً راقب الله، وهيئ جواباً لله.


  السعيد من لام نفسه وحاسبها حساباً عسيراً:


كل واحد منا بأي حرفة، اترك الناس قد يكون الشخص ضعيفاً أمامك، لا يعرف، قد يكون جاهلاً، فإذا كنت على جانب من العلم والطرف الثاني جاهل، تقول له: أريد ثمانية عشر تحليلاً، يقول لك: حاضر دكتور، لا يتكلم ولا كلمة لأنه واثق منك، لكن الله يعرف إذا كنت تريد التحاليل كلها أم نصفها لا تريدها، فأنت مكشوف كشفاً كاملاً عند الله عزَّ وجل، قبل أن تتكلَّم أو تطلب، أو ترفع السعر، أو تنزل السعر، أو تحلف يميناً كذباً، تدلِّس، تغش، قف هل معك لله جواباً؟ هيِّئ لله جواب وانتهى الأمر، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا﴾ إذاً لم ينخلع قلب الإنسان خوفاً من الآخرة لن يكون مؤمناً، "التقيت بأربعين صحابياً ما منهم واحد إلا وهو يظن نفسه منافقاً " شدة الخوف من الله، لا يرضى عن نفسه إلا إبليس، أما المؤمن فقلق، عنده قلق مستمر، هذا قلق مقدَّس وليس قلق العقاب، هناك قلق العقاب، القلق المقدَّس يا ترى الله راضٍ عني؟ يا ترى عملي مقبول عنده؟ يا ترى نيتي طيِّبة؟ يا ترى هل لي مقصد دنيوي ؟ دائماً يحاسب نفسه، هذا الحساب المستمر يرقى به، والله أقسم بالنفس اللوَّامة فقال:

﴿ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ(1)وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ(2)﴾

[ سورة القيامة  ]

وكلَّما لمت نفسك، وشددت عليها، وحاسبتها حساباً عسيراً، واتهمتها، وحاولت أن تقوِّمها فأنت مع السعداء، الذي لا يؤمن بها يستعجل بها استخفافاً.

 

من لم يُدخل الآخرة في حساباته اليومية خسر الدنيا والآخرة معاً:


قال:

﴿ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)﴾

[ سورة الشورى ]

 أي إذا لم يدخَّل الإنسان الآخرة في حساباته اليوميَّة. كل واحد منَّا يدخل بحساباته أشياء كثيرة، يدخل في حساباته أن هذه المادَّة يمكن أن يسمح باستيرادها، يقول لك: أخذت على الخفيف، أنا صاح، تجد التاجر كل قضاياه واضحة في ذهنه، لماذا الأمور الأخرى ليست واضحة الوضوح نفسه؟ لماذا لا تدخل الآخرة بحساباتك اليوميَّة؟ كيف سأواجه ربي وهذه الحاجة ليست لي اغتصبتها اغتصاباً؟ كيف أواجه ربي وأنا أدلِّس في البيع والشراء؟ أبيع مواد غذائيَّة وفيها مواد مسحوب خيرها؟ حليب ليس فيه دسم أبداً وأبيعه كامل الدسم، والأطفال كلهم صغار لا يعرفون، كيف سأنام مساءً؟

 أنا والله أعجب، والله أيها الأخوة أعجب ممن ينام الليل ومتلبِّس بحقوق العباد، أو له انحرافات، أو آكل حقوقاً ليست له، كيف تنام؟ والديَّان لا يغفل ولا ينام، فأبداً إذا كان للعلم مؤشِّر، المؤشِّر الخوف معه تماماً، كلَّما ازداد علمك يزداد خوفك من الله.

 

العلم مفتاح كل شيء في حياة الإنسان:


رويت لكم سابقاً أنَّ أحدهم قال لي: أنا لا أخاف من الله - طالب أرعن- قلت له: معك حق يا بني، استغرب كيف هذا؟ قلت له: طبعاً أحياناً يأخذ الفلاح معه ابنه على الحصيدة، ابنه عمره سنتان، يضعه بين القمح يمر ثعباناً كبيراً فيمسكه، لا يخاف الطفل الصغير، لأنه لا إدراك عنده، أما لو رآه رجلاً يقفز من خوفه، أما إذا رآه طفل صغير فلا يخاف منه، بل يلمسه، فالخوف يتنامى مع الإدراك.

الطبيب يعرف الجراثيم، أحياناً يعرف مضاعفات شيء غير مغسول، فتجده على الفور يغسل، ويعتني، لأنه يرى حالات مرضيَّة، وإنتانات، وعدوى، وأمراضاً، فأبداً يتنامى الخوف مع العلم، فالعلم هو مفتاح كل شيء.

﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)﴾

[  سورة طه  ]

إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، إذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، إذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلَّك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً.

 

على الإنسان ألا يتخذ أي موقف من المؤمن الورع:


هذه الآية دقيقة الذي يستخف بها غير مؤمن، والمؤمن مشفقٌ منها، ﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾ على الإنسان ألا يكون في خندق معادٍ للدين، هذه نصيحة كبرى، طبعاً كلنا مؤمنون والحمد لله، لكن أحياناً يكون له شريك أشد ورعاً منه، هو يأخذ الأمور بالحل الأبسط، فإذا كان الشخص أورع منك فلا تعاده، إذا لم يحب الاختلاط فلا تعاده، لا تأخذ موقفاً ضد المؤمن الورع.

 وفي درسٍ آخر إن شاء الله تعالى ندخل في قوله تعالى:

﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ(19)﴾

[ سورة الشورى ]

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور