وضع داكن
16-04-2024
Logo
الدرس : 02 - سورة الشورى - تفسير الآيات 8- 10 ، رحمة الله ثمنها طاعته و تنفيذ أوامره
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

الله عز وجل لو شاء لجعل الناس كلّهم في طاعته:


أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني من سورة الشورى، ومع الآية الثامنة وهي قوله تعالى:

﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)﴾

[ سورة الشورى ]

 هذه الآية أيها الأخوة في القرآن الكريم آياتٌ كثيرة مشابهةٌ لها.

﴿ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)﴾

[ سورة الأنعام ]

﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)﴾

[ سورة يونس  ]

آياتٌ كثيرة تتمحور حول هذا المحور، أن الله عزَّ وجل لو شاء لجعل الناس أمةً واحدة، أو لجعل الناس كلهم في طاعة الله، أو لجعلهم غير مختلفين.

 

الإنسان حمل الأمانة وأمانته نفسه التي بين جنبيه:


الحقيقة هذه الآية يفهمها بعض الناس فهماً ما أراده الله عزَّ وجل، ليس المعنى أن الله عزَّ وجل شاء أن يضلنا، أو شاء ألا يجعلنا أمةً واحدة، المعنى أن الله سبحانه وتعالى شاء لنا أن نكون مخلوقاتٍ من نوعٍ خاص، لما قال الله عزَّ وجل:

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾

[ سورة الأحزاب ]

الإنسان حمل الأمانة، فلما حمل الأمانة سخر الله له ما في السماوات وما في الأرض تسخير تعريفٍ وتكريم، ومنحه حرية الاختيار، وفطره فطرةً عاليةً، وأعطاه عقلاً، وفوق كل هذا أنزل على أنبيائه شرعاً ليكون ميزاناً دقيقاً على ميزاني العقل والفطرة، فهوية الإنسان أنه مخيَّر، جنسه مخلوقٌ مكلف، ومع التكليف تخيير، الإنسان حمل الأمانة، وأمانته نفسه التي بين جنبيه.

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)﴾

[ سورة الشمس  ]

 

كل إنسان مُنح حرية الاختيار:


شاءت مشيئة الله أن نكون أصحاب مشيئةٍ حرة، وهذا تؤكِّده آياتٌ كثيرة في مقدمتها:

﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)﴾

[ سورة الأنعام  ]

﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)﴾

[ سورة البقرة ]

﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)﴾

[ سورة فصلت ]

﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)﴾

[ سورة الكهف ]

آيات كثيرة جداً تؤكِّد أن الإنسان مُنِح حرية الاختيار، وما دام قد مُنِح حرية الاختيار فلابد من أن يختلف زيد عن عُبيد، وفلان عن عِلان، هذا اختار الهدى وهذا اختار الضلال، هذا اختار الإحسان وذاك اختار الإساءة، هذا اختار الإخلاص وذاك اختار الخيانة، هذا اختار ما يمليه عليه عقله وهذا اختار أن تسيِّره غريزته.

 

المخلوقات غير مكلفة يُسيّرها رب العالمين:


لذلك لو أن الله عزَّ وجل لم يشأ أن تكونوا مخيرين، لو أن الله سبحانه وتعالى لم يشأ أن يحمِّلكم الأمانة، لو أن الله سبحانه وتعالى لم يشأ أن تكونوا مكلَّفين، لو أن الله أجبركم وألغى اختياركم، وألغى تكليفكم، وألغى حمل الأمانة لجعلكم أمةً واحدة كبقية المخلوقات، انظر إلى مخلوقات الله عزَّ وجل ليس فيها اختلاف، ليس فيها مشكلات، يوجد انسجام، لأن المخلوقات غير مكلفة، ما دامت غير مكلفة إذاً هي مسيَّرة، والذي يسيّرها رب العالمين.

إذاً لا تجد اختلافاً إلا في عالم المكلَّفين، لا تجد إحساناً أو إساءةً، استقامةً أو انحرافاً، صلاحاً أو طلاحاً، خيراً أو شراً، إخلاصاً أو خيانةً، إلا في عالم المكلَّفين، أما عالم المسيَّرين كبقية المخلوقات فلا يختلفون أبداً، بل إن المخلوقات تتحرك وفق خطةٍ بالغة الدقة محكمةٍ لا خلل فيها إطلاقاً.

 

الاختلاف في عالم المكلفين لا في عالم المسيّرين:


هذا الذي يقول: لو أن الله عزَّ وجل جعلنا أمةً واحدة، أي ممكن أن يكون هناك امتحان حقيقي نزيه، وأسئلة دقيقة جداً، وأساتذة أقوياء مهرة متفوقون، والطلاب تفاوتوا في اجتهادهم، وفي حضورهم، وفي دوامهم، هل يعقل أن تأتي العلامات كلها متساوية؟ مستحيل، يوجد علامات متفوقة، يوجد علامات وسط، يوجد علامات ضعيفة، يوجد رسوب، يوجد نجاح، يوجد ممتاز، يوجد جيد جداً، يوجد جيد، يوجد مقبول، يوجد ضعيف، يوجد راسب، هذا شأن الاختيار، لكن لو أن إدارة الجامعة ألغت الامتحان إلغاءً كلياً، وأعطت علامات موحدة بلا امتحان، هذا الامتحان ليس له قيمة، هذه الشهادة لا قيمة لها إطلاقاً، لا قيمة لها لا عند رئاسة الجامعة، ولا عند الطلاب، أو عند أولياء الطلاب، إذا ألغي الامتحان النجاح ليس له قيمة، والشهادات لا معنى لها، هذا مما نفهمه أحياناً من قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ .

 

إذا أُلغي الاختيار في حياة الإنسان فالإنسان إذا عبد الله يعبده طوعاً:


أن يكون الناس نسخةً واحدة، شخصيةً واحدة، سلوكاً واحداً هذا ممكن، ولكن إذا ألغي اختيارهم، وإذا ألغي تكليفهم، وإذا ألغيت الأمانة، وإذا ألغيت هذه الميزة الكبيرة التي أعطاها الله الإنسان، الإنسان إذا عَبَد الله يعبده طوعاً، يعبده مبادرةً، يعبده من دون أن يكون مكرهاً، ولا مضطراً، ولا مجبراً، إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلَّف يسيراً ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً.

أي الإنسان مسيَّر ومخير، مخير فيما كُلِّف، أنت كلفت بالصلاة، لك أن تصلي ولك ألا تصلي، كُلِّفت بغض البصر لك أن تغض البصر ولك ألا تغضه، كلِّفت أن تكون صادقاً لك أن تصدق ولك أن تكذب، لا قيمة للصدق إلا إذا كان عن اختيار، ولا حساب على الكذب إلا إذا كان عن اختيار، لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، لو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، لو تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة، أي هذا المعنى الذي يحلّ كلّ المشكلات التي قد يظنها المؤمن مشكلة.

 

الإنسان مسيَّر ومخير:


هل الإنسان مسير أم مخير؟ الإنسان مسيَّر ومخير، فيما مُكلف به مخيَّر، وفيما ليس مكلفاً به مسيَّر، أنت ابن من؟ ابن فلان وابن فلانة، جيء بك إلى الدنيا في الأربعينات، وولدت في بلد معيَّن، بإمكانات معينة، بقدرات معينة، ببيئة معينة، بخصائص معينة، من أم وأب معينين، تلقَّيت العلم من جهة معينة، هذه كلها ليست في اختيارك، لكن حينما قال لك الله:

﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾

[ سورة طه  ]

أنت الآن مخير بها، قال:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)﴾

[ سورة الحجرات  ]

أنت مخير، قال:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)﴾

[ سورة التوبة  ]

أنت مخير. 

 

الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليكون سيِّد المخلوقات:


لك أن تجلس مع الكاذبين، مع أهل الدنيا، مع أهل الأهواء، مع أهل البِدَع، ولك أن تجلس مع المؤمنين في بيوت الله، أنت مخيَّر، فلو أن الله عزَّ وجل ألغى الاختيار لجعلكم أمةً واحدة، ألم يعد هناك اختيار، ألغى اختياركم، ألغى التكليف، ألغى حمل الأمانة، جعلكم مخلوقات كبقية المخلوقات، ليس لها هذه الدرجات العالية لأن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليكون سيِّد المخلوقات.

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)﴾

[ سورة البينة  ]

من دون استثناء: ﴿أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ .

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)﴾

[ سورة البينة  ]

بالمقابل: ﴿أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ وهذا ما يؤكده الإمام عليٌ كرَّم الله وجهه: "رُكِّبَ الملك من عقلٍ بلا شهوة - ليس لديه غرائز- وركِّب الحيوان من شهوةٍ بلا عقل، ورُكِّب الإنسان من كليهما، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة" أنت مخلوق لتكون فوق الملائكة، وإذا سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان.

 

العاقل لا يملك إلا الساعة التي هو فيها:


لا يوجد أيها الأخوة حلّ وسط، فالإنسان إما أن يتجاوز في مقامه الملائكة المقرَّبين أو أن يسقط إلى أسفل السافلين، إلى أسفل من مرتبة الحيوان، والأمر بيدكم، والاختيار موضوع فينا، والآية الكريمة: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ ليس لك إلا هذا اليوم، الغد لا تملكه أبداً، من منا يملك غداً؟ أبداً، ولا ساعة، من عَدَّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت، الإنسان يكون ملء السمع والبصر فيصبح خبراً، أليس كذلك؟ إذاً لك الساعة التي أنت فيها، ما مضى فات، الماضي ما دام ليس في إمكانك أن تعيده ولا أن تسترجعه، الزمن السابق ليس في الإمكان أن تسترجعه، والمستقبل لا تملكه، إذاً لا تملك إلا الساعة التي أنت فيها، لذلك: "بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً؟ أو غنى مطغياً؟ أو مرضا مفسداً؟ أو هرما مفنداً؟ أو موتاً مجهزاً؟ أو الدجال فشر غائب ينتظر؟ أو الساعة فالساعة أدهى وأمر" هذا معنى قوله تعالى: 

﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)﴾

[ سورة الشورى  ]

لأنكم مختلفون إذاً أنتم مُخيَّرون، لأنكم مخيَّرون إذاً أنتم مخلوقات من الدرجة الأولى.

 

تكريم الله الإنسان بتسخير الكون له:


﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾

[ سورة الأحزاب ]

أنت حملت الأمانة وقلت: يا ربي أنا لها، لذلك كرَّمك الله بأن سخر لك ما في السماوات والأرض، كل ما في الكون مسخرٌ لهذا الإنسان، لكن الشيء المؤسف أن كل من في السماوات والأرض يسبح الله عزَّ وجل بنصِّ القرآن الكريم، كل من في السماوات والأرض من دون استثناء يسبِّح الله عزَّ وجل.

﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)﴾

[ سورة الإسراء ]

كيف بكم أيها الأخوة إذا رأيتم أن الجمادات تسبَّح، وأن الحيوانات تسبح، وأن أحقر المخلوقات تسبح، وهذا الإنسان المخلوق الأول والمكرم الذي رفعه الله إلى أعلى عليين، وسخَّر له ما في السماوات والأرض غافلٌ عن ربِّه، غارقٌ في دُنياه، غارقٌ في شهواته وملذَّاته، فلذلك كما قال بعض العلماء: في الدنيا جنَّةٌ من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، هي جنة معرفة الله والقرب منه.

 

رحمة الله واسعة تسع كل المخلوقات وما على الإنسان إلا أن يختار وأن يدفع ثمنها:


ولكن: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ ألا تتضح من هذه الآية أن الإنسان مخير؟ ﴿من يشاء﴾ ، ﴿وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ ولك أن تعيد فاعل يشاء على الإنسان ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ ولكن الله شاءت مشيئته أن يعطيكم حرية الاختيار، وأن يكرِّمكم، وأن يجعلكم مخلوقاتٍ مميَّزة، أما أنتم فلو شئتم لدخلتم في رحمة الله، رحمة الله واسعة تسع كل المخلوقات، ورحمة الله ينالُها الإنسان بالدرجة الأولى لأنه مهيأٌ لها، ما عليه إلا أن يختارها وأن يدفع ثمنها، أما أن يدفع ثمنها، النبي عليه الصلاة والسلام من أدعيته الشريفة: "اللَّهُمَّ إنَّا نَسألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَالسَّلامَةَ مِنْ كُلّ إثْمٍ، وَالغَنِيمَةَ مِنْ كُلّ بِرٍّ، وَالفَوْزَ بالجَنَّةَ وَالنَّجاةَ منَ النَّارِ" .

 

رحمة الله ثمنها طاعته وتنفيذ أوامره:


يجب أن تدفع ثمن الرحمة، قال تعالى:

﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)﴾

[  سورة الأعراف  ]

رحمة الله هي عطاؤه، فسِّرها بما شئت، فسِّرها إن شئت تجلياً من الله على قلبك تسعد به، فسِّرها إن شئت توفيقاً، فسِّرها إن شئت حياةً طيبة، فسِّرها إن شئت قربى من الله عزَّ وجل، فسِّرها إن شئت غنًى تغتني به، فسِّرها إن شئت سلامةً في الدنيا وجنة في الآخرة، كل هذه المعاني التي تخطر في بالك يمكن أن تفسَّر بها رحمة الله، ورحمة الله لها ثمنٌ باهظ، أقول: باهظ لضعف العزَّائم، أما الثمن فليس باهظاً، طاعة الله عزَّ وجل، ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته، وطاعة الله عزَّ وجل في قدرة كل واحدٍ منا، ولا يلتفت أحدكم إلى ما يقوله بعض الناس: يا أخي الفساد عَمّ، وأين أذهب بعيوني في الطريق؟ لا، انظر إلى قوله تعالى:

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)﴾

[ سورة البقرة ]

فما دمت مكلَّفًا بهذه الأوامر فهي في وسعك قطعاً، بإمكانك أن تصلي، وبإمكانك أن تصوم، وبإمكانك أن تغض البصر، وبإمكانك أن تضبط اللسان، وبإمكانك أن تعطي مما أعطاك الله، وبإمكانك أن تدفع زكاة مالك، وبإمكانك أن تحضر مجالس العلم، هذا كلُّه في إمكانك، لذلك لن تحاسب إلا على قدرةٍ أعطاك الله إيَّاها، من هنا تأتي المسؤولية.

 

الخلق سواسية عند الله ليس بينه وبينهم قرابة إلا طاعتهم له:


إذاً: ﴿وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ رحمة الله لا تنالها إلا إذا أردتها، ولا تنالها إلا إذا دفعت ثمنها، تنالها بطاعته، سيدنا عمر قال لسيدنا سعد، وكان سعد من أقرب الصحابة لرسول الله، كان إذا دخل عليه يقول: عن جابر بن عبد الله:

(( أقبل سعدٌ فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: هذا خالي فليُرِنِي امرؤٌ خالَهُ. ))

[  سنن الترمذي : خلاصة حكم المحدث : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث مجالد | أحاديث مشابهة ]

ما فدَّى أحداً إلا سعد بن أبي وقاص قال:  عن علي بن أبي طالب:

((  يا سعدُ! ارْمِ، فداك أبي وأمي. ))

[  صحيح الجامع :  خلاصة حكم المحدث : صحيح  ]

ومع ذلك قال له سيدنا عمر بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام: "يا سعد لا يغرَّنك أنه قد قيل خال رسول الله، فالخلق كلهم عند الله سواسية، ليس بينه وبينهم قرابة إلا طاعتهم له" .

والله أيها الأخوة؛ بإمكان الواحد منكم أن يصل إلى أعلى عليين في طاعة الله، وطاعة الله بإمكانه، بإمكانك أن تصلي الفجر في جماعة، بإمكانك أن تذكر الله صباحاً، بإمكانك أن تفكِّر في ملكوت السماوات والأرض، بإمكانك أن تستغفر الله طوال اليوم، أن تدعوه في كل شأن، أن تؤدِّي الصلوات في أوقاتها وبإتقانٍ شديد، بإمكانك أن تنفق من مالك، بإمكانك أن تطلب العلم الشرعي، بإمكانك أن تحضر مجالس العلم، كل هذا في إمكانك.

 

الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر:


لذلك: ﴿وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ إن أردت رحمة الله فإليك طريقها، وإن أردت الدنيا فإليك طريقها، لكنك إذا آثرت الآخرة على الدنيا – دققوا- ربحتهما معاً، وإن آثرت الدنيا على الآخرة خسرتهما معاً، فقراء اليهود خسروا الدنيا والآخرة.

يقولون: إن أحد العلماء الكبار في العصور القديمة كان له شأن كبير جداً، وله أتباع كُثُر، وكان بهي الطلعة، كان عظيم القدر، كثير الهيبة، فمرةً كان مع إخوانه في موكب، فنظر إليه رجل ذمي، معذب، فقير، مهان، يعاني من متاعب الحياة كلِّها، هذا الإنسان الذمي نظر في قول رسول الله صلى الله عليها وسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه:

(( الدُّنيا سجنُ المؤمنِ وجنَّةُ الكافرِ. ))

[  الزرقاني : مختصر المقاصد : خلاصة حكم المحدث : صحيح  ]

فخطر في باله أن يسأل هذا العالم الجليل قال له: يا سيدي يقول نبيكم: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكفار فأي سجنٍ أنت فيه وأية جنةٍ أنا فيها؟! فقال هذا العالم الجليل: "لو نظرت إلى ما أنت فيه، إلى ما ينتظر الكافر من عذاب لكنت في جنة، ولو نظرت ما أنا فيه إلى ما وعدني الله به من مثوبة فأنا في سجن" .

فهذه الدنيا بكل ما فيها من مُتَع، من مكانة، من وجاهة، من شأن رفيع، من مال وفير، من طعام طيِّب، من نساء، من قصور، كل ما فيها لا تعدل عند الله جناح بعوضة. 

(( قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ. قالَ أبو هُرَيْرَةَ: اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ : {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17].  ))

[ متفق عليه ]

 

العاقل من يُعِدُّ لساعة الموت عدَّتها:


والله ليس بيننا وبين الجنة إلا أن نطيع الله عزَّ وجل، والدنيا لا قيمة لها، هي فانية، يأتي الموت ينهي غنى الغني، ألا ترون أن أغنياء كثيرين حينما ماتوا ورّوا تحت أطباق الثرى شأنهم كشأن أفقر إنسان، هل هناك كفن حرير وكفن خام؟ كله خام، هل يوجد قبر درجة أولى أو قبر خمس نجوم ؟ كله قبر، الموت ينهي غني الغني وفقر الفقير، ينهي قوة القوي وضعف الضعيف، ينهي وسامة الوسيم ودمامة الدميم، ينهي صحة الصحيح ومرض المريض، الموت يسوِّي بين البشر، فلذلك العاقل من يُعِدُّ لهذه الساعة عدَّتها، يعدُّ لها العمل الصالح، يُعد لها طلب العلم، يُعد لها خدمة الخلق، يُعد لها الأعمال الطيبة التي ترضي الله عزَّ وجل.

 

أعظم تكريم للإنسان أن يُعرّف نفسه بربها:


إذاً: ﴿وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ﴾ الذين اختاروا طريق الكفر، أي ظلموا أنفسهم، هم ما أرادوا أن يظلموا لكنهم ظلموا أنفسهم، أرأيتَ لو أن إنساناً خَيَّرته بين شيءٍ نفيسٍ جداً وبين عذابٍ شديد فاختار العذاب، ظلم من؟ ظلم نفسه، يجب أن نعلم علم اليقين أن أشدّ أنواع الظلم أن يظلم الإنسان نفسه بإبقائها جاهلةً، بعيدةً، مسيئة، أي ليس هناك تكريم أعظم من أن تعرِّف نفسك بربها، ومن أن تحملها على طاعته، ومن أن توقفها عند أمر الله، أن تجعلها وقَّافةً عند أمر الله، أن تأمرها بالحلال وأن تنهاها عن الحرام، هذا أكبر تكريم، وكل واحد منا بإمكانه أن يكون مكرَّماً أشد تكريم، والتكريم الحقيقي ما كان عند الله عزَّ وجل فقد ورد: "ابتغوا الرفعة عند الله" ، والرفعة عند الله تحتاج إلى طاعةٍ لله، وإلى إخلاصٍ له، وإلى إنابةٍ إليه، وإلى تطبيقٍ لأمره، وإلى خدمة لعباداته، وإلى إخلاصٍ لهم.

 

من انقاد وراء شهواته خسر الدنيا والآخرة:


﴿وَالظَّالِمُونَ﴾ الذين اختاروا الشهوة، اختاروا أن ينقادوا وراء غرائزهم، اختاروا حظوظ الدنيا ولم يختاروا ما عند الله في الآخرة، هؤلاء ظلموا أنفسهم، ﴿مَا لَهُمْ﴾ عندما يأتي العذاب ويستحق العقاب ﴿مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾

﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)﴾

[  سورة الأنعام ]

الإنسان في الحياة له أصدقاء، له أتباع، له أقرباء، له جماعة، يحس أن حوله أُناسًا كثيرين، ولكن يوم القيامة: ﴿جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ .

 

عدم معرفة الناس بعضهم بعضاً يوم القيامة إلا في أربعة مواضع:


تروي بعض الآثار عن النبي عليه الصلاة والسلام أن السيدة عائشة سألته: أيعرف بعضنا بعضاً يوم القيامة؟ نحن في الدنيا لنا أهل، لنا أقرباء، لنا أم، لنا أب، أخوات، أصدقاء، جيران، في العمل يوجد شخص أعلى منك، أدنى منك، صاحب، صديق، جار، زميل، هذه العلاقات الاجتماعية في الآخرة هل يا ترى نتعرف إلى بعضنا بعضاً؟ قالت: يا رسول الله أيعرف بعضنا بعضاً يوم القيامة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نعم يا أم المؤمنين إلا في أربعة مواضع- ذكر أربعة مواضع- عند الصراط، وعند الميزان، وإذا الصحف نشرت - وهناك موضع رابع لا أذكره الآن- وفيما سوى ذلك يعرف بعضنا بعضاً، هذه أمه، هذا أبوه، هذا أخوه، فلان ابن عمه، ابن خالته، فقد تقع عين الأم على ابنها تقول: يا ولدي جعلت لك صدري سقاءً، وبطني وعاءً، وحجري وطاءً، فهل من حسنةٍ يعود عليّ خيرها اليوم؟ أي أعطني حسنة رضي الله عنك، فيقول: يا أماه ليتني أستطيع ذلك، إنما أشكو مما أنت منه تشكين.

﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ(101)﴾

[ سورة المؤمنون ]

تأتي ربك وحدك، ليس معك إلا عملك الصالح وطاعتك له: "يا قييس إن لك قريناً يدفن معك وأنت ميت، وتدفن معه وهو حيّ، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، ألا وهو عملك" اجهد أن يكون عملك صالحاً، اجهد أن تطيع الله عزَّ وجل، هذا الذي ينفعك عند قبرك.

 

لا يليق بالإنسان أن يتخذ ولياً إلا الله:


أول ليلة يوضع الإنسان في قبره، يقول الله عزَّ وجل: "عبدي رجعوا وتركوك" الإنسان عندما يشيع جنازة، بالمقبرة يعزي أقارب الميت بقوله: عظم الله أجركم، يذهبون إلى البيت انتهى الأمر، هذا الذي في قبره ليس له إلا الله، وما دام ليس له إلا الله فعليه أن يتعرَّف إلى الله في حياته. اعرف ربك في الرخاء يعرفك في الشدة.

﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)﴾

[ سورة الشورى  ]

أي الإنسان لا يليق به أن يتخذ ولياً إلا الله، لا يليق به أن يهب عمره لغير الله، ولا أن يهب شبابه لغير الله، ولا أن يهب وقته لغير الله، ولا أن يهب فكره لغير الله، ولا أن يهب طلاقة لسانه لغير الله، ولا أن يهب ماله لغير الله، هو أهل التقوى وأهل المغفرة، أي أنت لا يليق فيك أن تُجَيَّر لغير الله، أن تكون محسوبًا على غير الله عزَّ وجل. 

سألوا عالمًا جليلاً من قطر عربي تجرى له عملية جراحية: أنت لماذا لك هذه المكانة العالية؟ فأجاب بتواضع جَم قال: لأنني محسوبٌ على الله، لم يقل: لأني محسوب على جهة أرضية، وعلى الجماعة الفلانية، قال: لأنني محسوبٌ على الله، فأنت يجب عليك أن تكون محسوباً على الله لا على عبدٍ من عباد الله، إما أن تكون عبداً لله، وإما أن تكون عبداً لعبدٍ لئيم، كن عبد الله، لا تأخذك في الله لومة لائم.

 

الجاهل من يتخذ ولياً من دون الله:


﴿وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ ألا ترون معي أيها الأخوة أن هذه الآية تَشِفُّ عن أن الإنسان مخيَّر؟ ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ* أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ﴾ أي ممكن طالب جامعي يظن أنه يتعلم من شخص جاهل لا يقرأ ولا يكتب؟ مستحيل، نقول له: هذا هو الأستاذ وليس هذا.

ممكن تدخل إلى دائرة حكومية فيها ألف موظف وفيها مدير عام، وقضيتك متعلقة بالمدير العام تترجى حاجباً ليوقع لك معاملتك؟ تكون لا تعرف شيئًا، الإنسان عندما يتخذ من دون الله ولياً فهو جاهل إذاً، تعلِّق آمالاً على غير لله؟ ترجو غير الله؟ تخاف من غير الله؟ ترجو العطاء من غير الله؟ تخاف نقمة غير الله ؟ معنى ذلك أنك جاهل، معنى ذلك أنك مشرك، ما وحَّدْت الله عزَّ وجل، المؤمن لا يرجو إلا الله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، ولا يغضب إلا لله، ولا يرضى إلا لله، هكذا.

 

أشدّ الناس ظلماً وغباء من اتخذ من دون الله أولياء:


﴿أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ﴾ أي هو الولي وحده ولا ولي سواه، لذلك أشد الناس جهلاً، أشدهم جهلاً:

﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)﴾

[  سورة لقمان ]

أشد الناس جهلاً، وأشدهم ظلماً، وأشدهم غباءً، وأشدهم شقاءً من اتخذ من دون الله أولياء، الله هو الولي، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. 

 

آيات التوحيد آيات كثيرة تبعث في نفس الإنسان الطمأنينة والراحة:


لذلك آيات التوحيد كثيرة:

﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾

[ سورة هود ]

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)﴾

[ سورة الفتح ]

آياتٌ كثيرة.

﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)﴾

[  سورة الكهف ]

﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)﴾

[ سورة الزخرف  ]

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)﴾

[   سورة الحديد  ]

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾

[ سورة هود ]

﴿ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)﴾

[  سورة الزمر ]

المقاليد أي المفاتيح، لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، كلما قرأت آيات القرآن الكريم الدالَّة على التوحيد ترتاح نفسك، أمرك متعلِّق بواحد، الإنسان يرتاح.

 

العذاب الأليم عاقبة من يدعو مع الله إلهاً آخر:


ما الذي يمزِّق النفس؟ أن تتوزع بين أولياء كثيرين. 

﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)﴾

[ سورة الشعراء ]

أحد أكبر أسباب العذاب أن تدعُو مع الله إلهاً آخر.

﴿ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)﴾

[ سورة الشورى  ]

المقصود هنا بإحياء الموتى الإنسان حينما يكون جاهلاً بعيداً منقطعاً كأنه ميت، والدليل: 

﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)﴾

[  سورة النحل  ]

"يا بني مات خزَّان المال وهم في أوج حياتهم، والعلماء باقون بعد موتهم" فالموت هنا نوعان، موت حقيقي، وموت مجازي، الموت الحقيقي أن يفقد حركة القلب، أن يقف قلبه ويتعطَّل دماغه، هذا هو الموت الحقيقي، لكن الموت النفسي أن يعيش كما تعيش البهائم؛ يأكل، ويشرب، وينغمس في الملَذَّات من دون أن يبحث عن ربه، ولا عن منهج ربه، ولا أن يعرف لماذا خلقه الله عزَّ وجل؟

ليس من مات فاستراح بميتٍ            إنما الميت ميت الأحياء

[ أبو العتاهية ]

* * *

"يا بني مات خزَّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة " .

على كل شيء قدير، لا تخف من أحد، لا تخشَ أحداً، لا تخشَ إلا الله، لا تخشَ مرضاً عضالاً، الله قادر يشفيه شفاء ذاتياً، لا تخشَ إنسانًا قوياً هو بقبضة الله عزَّ وجل ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي تعلقت قدرته بكل ممكن.

 

من عامل الناس كما يعامل الله عز وجل كأنما عبدهم من دون الله:


إذاً: ﴿أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ﴾ قد يقول أحدهم: أيعقل أن يتخذ الإنسان من دون الله ولياً؟ الله هو الخالق؟ الجواب: إنك تعامل هؤلاء الذين اتخذتهم أولياء كما تعامل الله عزَّ وجل، أي ترضيهم بسخط الله، تعصي الله من أجلهم، تعتمد عليهم كلياً، تعلِّق عليهم كل الآمال، أنت لم تقل: هؤلاء آلهة، هذا الكلام غير معقول أن تقوله، لكنك حينما عاملتهم كما تعامل الله عزَّ وجل، حينما عبدتهم من دون الله، حينما مَحَضتهم كل إخلاصك وكل ثقتك من دون أن يكونوا أهلاً لذلك فقد اتخذتهم أولياء من دون الله. 

 

كل شيء يملكه الإنسان هو لله عز وجل:


الله هو الولي، أي لا ينبغي لك أن تتخذ ولياً إلا الله، لا ينبغي لك أن تعتمد إلا على الله، أن تثق إلا بالله، أن تمحض غير الله ودَّك،  أي شبابك، عمرك، ذكاؤك، عقلك، لسانك، قلمك، علمك، وقتك، مالك، صحَّتك، كل شيء تملكه لله عزَّ وجل.

﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)﴾

[ سورة الأنعام ]

﴿وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى﴾ تأكَّدوا أن الإنسان قبل أن يعرف الله ميِّت، وأنه إذا عرف الله حيّ، وطالبوني بالدليل:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾

[  سورة الأنفال ]

أي كنتم أمواتًا قبل أن تعرفوه فأحياكم بمعرفته. 

 

عدم استواء المؤمن مع الكافر في الدنيا والآخرة:


الإنسان يكون تائهاً، شارداً، ضالاً، فاسقًا، فاجراً، لا يعرف شيئاً، الحلال كالحرام، الحق كالباطل، المذهب الوضعي كالمذهب الإلهي، ضائع في الحياة، يسير بطريق مسدود، يسعى بلا هدف، فمن هذا شأنه هل هو إنسان؟ الإنسان يعرف ربه، يعرف هدفه، يعرف طبيعة الحياة، يعرف أثمن ما في الحياة، يعرف رسالته بالحياة، يقرأ القرآن، يتفقه في كتاب الله، يقرأ حديث رسول الله، الصحابة قدوته، الآخرة مَحَطُّ آماله، الانضباط سمة من سمات حياته، هذا كهذا؟ دققوا في هذه الآيات:

﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾

[ سورة السجدة  ]

﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)﴾

[ سورة القلم  ]

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

[ سورة الجاثية ]

إذاً: ﴿فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَ﴾ إذا قلنا: ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ، هذه الآية وحدها لو تفهَّمناها لا تترك ألماً بالإنسان ولا حزناً، على كل شيء قدير، إذا قرأها المريض يُلقى في قلبه شعاع الأمل، على كل شيء قدير، وهناك أمراض عُضالة أجمع الأطباء على أنها مميتة، وجاءت يد الله الرحيمة فتدخَّلت فشفت هذا المريض شفاءً ذاتياً، شيء عظيم جداً أن تثق بالله، من الفقر يجعلك غنياً، من الضعف يجعلك قوياً، من المرض يجعلك صحيحاً، من قلَّة الشأن يجعلك ذا شأن كبير.

﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ(2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ(3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4)﴾

[ سورة الشرح ]

 

من وضع ثقته بالله حُلّت جميع مشكلاته:


مثلاً - وقد ذكرتها اليوم بعقد قران- هل هناك مصيبة بالأرض تفوق أن يكون الإنسان في بطن حوت وفي أعماق البحر وفي الليل؟ ظلمة الليل، الليل وحده موحش، والليل بالبحر أوحش، وظلمة أعماق البحر، وظلمة بطن الحوت، سيدنا يونس:

﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾

[  سورة الأنبياء ]

القصة انتهت، بدأ القانون: ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ هذه الميزة ليست لسيدنا يونس وحده لكل مؤمن هكذا الله قال، مهما رأيت الخطب مُدْلَهِمَّاً.

ورب نازلةٍ يضيق بها الفتــى        ذرعـــــاً وعند الله منها المخرج

نزلت فلما استحكمت حلقاتهـا        فرجت وكان يظن أنها لا تفــرج

[ الشافعي ]

* * *

 

الإنسان قبل أن يعرف الله ميِّت فإذا عرفه دّبَّت الحياة في قلبه:


الإنسان إذا وضع ثقته بالله لا توجد عنده مشكلة إطلاقاً، لا يوجد عنده هم إطلاقاً، لا يوجد عنده حزن، الله على كل شيء قدير، ويحيي الموتى، والإنسان قبل أن يعرف الله ميِّت، فإذا عرفه دّبَّت الحياة في قلبه، المؤمن حيّ، عنده أحاسيس، عنده قيَم، عنده مشاعر، عنده منهج، عنده هدف، عنده وسائل تخدم هذا الهدف.

وفي درس آخر إن شاء الله تعالى ننتقل إلى قوله تعالى:

﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(10)﴾

[  سورة الشورى  ]

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور