- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (006)سورة الأنعام
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس السابع والستين من دروس سورة الأنعام ، ومع الآية التي بدأنا بها في الدرس الماضي ، وهي الآية الواحدة والخمسون بعد المئة ، وهي قوله تعالى :
﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(151)﴾
تذكير :
أيها الإخوة الكرام ، في الدرس الماضي بينت لكم كلمة :
﴿تَعَالَوْا﴾
أيها الإخوة ، وكان الحديث أيضاً عن الشرك بالله ، هذا في الدرس الماضي ، وننتقل اليوم إلى موضوع: ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾
مقدمة في بر الوالدين :
أيها الإخوة ، بادئ ذي بدء كان من الممكن أن نأتي جميعاً إلى الدنيا دفعة واحدة ، وأن نغادرها دفعة واحدة ، لأن كل ما سوى الله ممكن ، ممكن أن نكون ، وممكن ألا نكون ، وإذا كنا يمكن أن نكون على ما نحن عليه ، ويمكن أن نكون على خلاف ما نحن عليه ، يعني يمكن أن لا يكون هناك آباء وأمهات إطلاقاً ، البشر جميعاً يُخلقون دفعة واحدة على وجه الأرض ، معنى ذلك أن الدرس ألغي ، و ألغي معنى قوله تعالى :
﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ
لأنه أحبنا خلقنا ، ولأنه خلقنا أحبنا ، هذا الحب جُسِّد ، وتُرجِم بمحبة الآباء والأمهات لأولادهم، ولا يزال قلب الأب وقلب الأم آية دالة على عظمة الله ، تتمنى أن تمرض لتصح ، تتمنى أن تجوع هي لتأكل ، تتمنى أن تخاف هي لتطمئن ، تتمنى أن تقدم لك كل شيء ، ومن دون أن تطمع منك بشيء .
حقائق مهمة في نظام الأُبُوَّة :
الحقيقة الأولى : الأبوة آية من آيات الله :
الحقيقة الأولى: كيف أن الكون آية من آية الله الدالة على عظمته ، كيف أن الشمس والقمر آيتان ، والليل والنهار آيتان ، قلب الأم ، وقلب الأب آية ، وفي الأعم الأغلب أن الإنسان لا يعرف قيمة الأب إلا إذا أصبح أباً ، ولا تعرف المرأة قيمة الأم إلا إذا أصبحت أماً ، كيف أن المحبة والحرص والعطف والحنان من أجل أن يسعد ابنها .
أيها الإخوة ، إن صح أن الكون يدل عليه يصح أيضاً أن قلب الأم ، وقلب الأب يدل على الله، هذا الملمح في قوله تعالى :
﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ(1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ(2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ(3) ﴾
نظام الأبوة يدلك على الله ﴿ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴾
﴿ وَ الَّذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً(74) ﴾
فقلب الأب وقلب الأم إلا حالات قليلة جداً وشاذة ، وهي في آخر الزمان تتفاقم ، هناك آباء ليسوا كما ينبغي ، لكن في الأعم الأغلب أي أب في كل القارات ، وفي كل العصور الأب أب ، والابن ابن .
إذاً : أول نقطة أن الله سبحانه وتعالى حينما خلقنا أحبنا ، أو أحبنا فخلقنا والدليل :
﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾
﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي
إذا ألقيت عليك محبة مني ، هذا الذي أُلقيت محبتك في قلبه يقدم حياته من أجلك.
إذاً : إن رأيت أمك وأباك يرحمانك ، ويعطفان عليك فاعلم علم اليقين أن هذه رحمة الله .
الحقيقة الثانية : محبة الأباء للأبناء طبع :
النقطة الدقيقة الثانية : أنك لن تجد في القرآن كله آية إلا آية واحدة متعلقة بالمواريث ، لكن بشكل عام لن تجد في القرآن الكريم كله آية توصي الآباء بأبنائهم ، لماذا ؟ قال لأن محبة الآباء لأبنائهم ، ومحبة الأمهات لأبنائهم طَبعٌ مركبٌ في أصل خلقهم ، وهل سمعت في الأرض أن رئيس وزراء يصدر مرسوماً تشريعياً يحض المواطنين على تناول طعام الإفطار؟ هذا كلام لا معنى له إطلاقاً ، لأن الحاجة إلى الطعام طبع في الإنسان ، لا تحتاج لا إلى قانون ، ولا إلى مرسوم ، ولا إلى أمر ، ولا إلى التفتيش ، كل واحد منا يستيقظ ، ويقول : أين الطعام ؟ ولأن محبة الآباء ومحبة الأمهات لأبنائهم طبع مركب في أصل وجودهم ، الدليل : اذهب إلى مستشفى الأطفال ، المثقفة تبكي ، والجاهلة تبكي ، والبدوية تبكي ، والمتفلتة من منهج الله تبكي ، والملتزمة تبكي ، والمحجبة تبكي ، إن كان ابنها مريضاً ، كل أمهات الأرض عدا قلة قليلة جداً شاذة لا علاقة لها بهذا الحكم .
إذاً : محبة الآباء والأمهات إلى أولادهم طبع في أصل تركيبهم ، لكن بر الأبناء لآبائهم تكليف ، هكذا شاءت حكمة الله تكليف ، لما يتزوج الابن مصلحته مع زوجته وأولاده ، فإذا بر أباه فمن باب التكليف ، مصلحته ليست مع أمه ، مصلحته مع زوجته الشابة ، أمه في سن الثمانين ، أمه عبء عليه بالميزان المادي ، لذلك في العالم الغربي الآباء والأمهات في مأوى العجزة ، لكن في العالم الإسلامي لأن برّ الأبناء بآبائهم وأمهاتهم تكليف ديني تجد أن المتقدم في السن في بلاد المسلمين في حالة نتميز بها عن كل أنحاء العالم ، بل إنه في البلاد الإسلامية عار وأيّ عار أن يدفع الابن أباه إلى مأوى العجزة ، الأب في هذه السن لا يتمنى أن يأكل ، ولا أن يشرب ، يتمنى أن يكون بين أولاده ، يتمنى أن يراهم ، عنده حاجة ، لذلك حينما قال الله عزوجل :
﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾
يجب أن يكون إحسانك لهم لصيقاً ، لا عن طرق سائق أو عن طريق موظف في المكتب ، خذ أبي نزهة ، فأنا مشغول ، خذ أمي نزهة ، أنا مشغول ، لا ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾
مشاعر الأب هي مشاعر الحب ، مشاعر العطف سعادته أن يكون عند ابنه ، لا أن يكون في مأوى العجزة ، يعني لو أن الخدمة في مأوى العجزة بالتعبير الفندقي خمس نجوم ، وخدمة الابن لأبيه الفقير نجمة واحدة ، أو نجمة مطموسة لتمنى أن يكون مع أولاده ، ومع أحفاده ، من أن يكون في مأوى العجزة .
لذلك امرأة غنية جداً لها أولاد شباب ، تخاصموا على من تكون عنده ، وأصغوا إلى صوت زوجاتهم، وكل زوجة تأففت ، لذلك وضعوها في مأوى العجزة من فئة الخمس نجوم ، فلما علمت إلى أين آلت أتت بكاتب العدل ، وكتبت كل ما تملك من أموال منقولة وغير منقولة بمئات الملايين إلى الجمعيات الخيرية عقاباً لهم على موقفهم .
فلذلك أيها الإخوة ، محبة الآباء والأمهات لأبنائهم طبع ، وأي أب ، وأيّة أم على اختلاف المشارب والاتجاهات ، والالتزام ، وعدم الالتزام ، والثقافة وعدم الثقافة واحدة ، لأنها طبع ، كيف أن كل إنسان يشعر بالجوع ويأكل ، أي إنسان ، أخي هذا مثقف لا يأكل ، لا ، يأكل هذا جاهل يأكل كثيراً، لا ، كل إنسان يأكل ، مثقف أو غير مثقف ، ملتزم أو غير ملتزم ، الله عزوجل أودع في إنسان حاجة إلى الطعام ، لذلك كذلك أودع في قلب الآباء والأمهات محبة لأولادهم ، ولو فكرت الآن تجد رجلاً مصروفه بضعة آلاف هو وزوجته ، لكن كل سعيه يدير معملاً ، يدير مؤسسة ، يتحمل المشاق ، الظروف الصعبة ، البيع الضعيف ، الضرائب الكثيرة ، صعوبة التخليص ، كل هذه المتاعب من أجل أولاده ، هو عندهم يخدمهم دون أن يشعروا .
لذلك أيها الإخوة ، محبة الآباء للأبناء طبع مركب في أصل وجودهم ، بينما خدمة الأبناء لآبائهم وأمهاتهم تكليف ، مصلحته مع زوجته ، لذلك من علامات قيام الساعة الإنسان يعق أباه ويبر صديقه ، يعق أمه ويسيخ أمام زوجته ، هذه حالة واضحة ، أكثر الأمهات تشتكي أحياناً من جفاء ابنها ، مصلحة ابنها مع زوجته لا مع أمه .
لذلك الملخص أن محبة الآباء لأبنائهم ، ومحبة الأمهات لأبنائهم طبع مركب في أصل وجودهم ، بينما بر الأبناء لآبائهم وأمهاتهم تكليف .
لا بد من ملاحظة : يعني تكاد تكون رحمة الأب بابنه أجرها قليل ، لأنها طبع ، ليست كسبية، أما إذا اهتم بأخلاقه وبدينه هذا هو العمل الصالح ، أما أن يهتم بطعامه ، وشرابه ، ومدرسته ، وتحصيله، أيّ أبٍ في الدنيا يهتم بذلك ، ويكاد يكون الأجر قليل جداً ، لأنه شيء مركب في أصل تكوينه ، وأنت تشعر أنك عملت عملاً عظيمًا ، فهل إذا صليت تبكي بكاء شديداً لأنك تناولت طعام الغذاء؟! مستحيل ! لأن تناول الطعام طبع ، أما حينما تؤثر أباك على شيء أنت في أمسّ الحاجة إليه ، وتقدمه له تبكي في الصلاة ، لأن هذا تكليف ، وأنت قمت بالتكليف ، وأديت الأمانة .
الحقيقة الثالثة : نظام الأبوة طريق إلى معرفة الله :
أيها الإخوة ، إذاً : أراد الله أن يكون وجودنا في الدنيا عن طريق آبائنا وأمهاتنا ، وهناك نقطة دقيقة جداً : أنت من نظام الأبوة تعرف الله ، ممكن مخلوق يتمنى سعادتك ، يتمنى سلامتك يتمنى أن تكون صحيحاً ، يتمنى أن تكون غنياً ، يتمنى أن تكون متفاهماً مع زوجتك ، يتمنى أن يكون لك أولاد أبرار ، هذا حال الأب والأم ، إن دخلت البنت على أبيها ضاحكة فكأنه في جنة ، وإن دخلت البنت على أبيها باكية من زوجها فكأنه في جحيم ، هذا شعور الأب والأم كذلك لا تقرّ عين الأب وعين الأم إلا إذا كان الابن والبنت سعداء ، ولا يريد الأب من أبنائه شيئاً ، أحياناً يكون الأب مكتفيًا ، وضعه المادي جيد ، ليس بحاجة إلى أولاده ، لكن عنده حاجة إلى سلامتهم وسعادتهم .
الحقيقة الرابعة : علاقتك الابن مع الوالدين إحسان محض :
شيء آخر ، نحن عندنا في اللغة حرف عطف ، حرف العطف يقضي المشاركة ، يعن ليس من المقبول في اللغة أن تقول :
اشتريت أرضاً مساحتها ألف دنم وملعقة، لا تناسب بينهما ، تقول : اشتريت أرضاً وبيتاً ، أرضاً ودكاناً ، أرضاً ومزرعة ، بيتاً ومركبة ، لا بد في العطف من التناسب ، الآن فإذا قال الله عزوجل :
﴿ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
إنّ أعلى عمل تقوم به أن تعبد الله ، بل إن سر وجودك في الأرض أن تعبد الله ، بل إن علة وجودك في الأرض أن تعبد الله .
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)﴾
فإذاً بالإحسان إلى الوالدين يرتفع إلى مستوى عبادة الله ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾
الحقيقة الخامسة : بطولة الأب في محبة أبنائه له :
لكن أقول لكم حقيقة لعلها من أدق حقائق هذا اللقاء وهذا الدرس : كل أب محترم في بيئتنا ، وفي ثقافتنا ، وفي ثقافة المؤمنين ، الأب محترم ، محسن أو مسيء ، منصف أو ظالم ، الأب محترم ، كل أب محترم ، لكن الأب الذي يحبه الله هو الأب المحبوب ، فرق كبير بين أن يحترمك ابنك ، وبين أن يحبك ، إن أحبك فأنت محسن إليه .
(( رحم الله والدا أعان ولده على بره ))
بطولتك كأب لا أن يقدم لك ابنك آيات التبجيل والاحترام ، والخضوع ، ويقبّل يدك صباحاً ومساء ، يا أبي ارضَ عني، بطولتك كأب أن يذوب قلب ابنك محبة لك ، وأن يتمنى بقاءك ، أن يتمنى حياتك ، لا أن يستعجل موتك ، لا إن إذا جاء الطبيب ، وقال له : قضية عرضية يتألم أشد الألم ، يريدها قاضية ، لذلك الأب البخيل يكره الأبناء بقاءه ، ويتمنون موته ، وكذا الأب القاسي ، علامتك أبوتك أنك إذا دخلت إلى البيت كان البيت عيداً ، وإذا خرجت من البيت كان مأساة ، أما الأب الظالم إذا خرج من البيت صار البيت عيداً ، وإذا دخل إلى البيت ارتبك البيت ، وكلٌّ آوى إلى غرفته ، وابتعد عن أبيه، فبطولتك لا أن تُحترم ، كلّ أب محترم ، بطولتك أن تُحب .
أعظم عمل أن يكون ابنك استمراراً لك ، لذلك قال الله تعالى :
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ
كل أعمال ذريتك في صحيفتك يوم القيامة ، لذلك كل واحد منكم متاح له أن يصل إلى الجنة عن طريق تربية أولاده ، كل واحد منكم بإمكانه أن يصل إلى الجنة فقط عن طريق تربية أولاده .
الحقيقة السادسة : على الأبناء الإحسان إلى الوالدين لا عبادتهما :
لكن حينما قال الله عزوجل : ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾
(( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ))
وأحد أكبر الصحابة الكرام سيدنا سعد ابن أبي وقاص ، تقول له أمه : يا سعد ، إما أن تكفر بمحمد ، وإما أن أدع الطعام حتى أموت ، قال : يا أمي ، لو أن لك مئة نفس فخرجت واحدةً واحدةً ما كفرت بمحمد ، فكلي إن شئتِ أو لا تأكلي ، فأكلت بعد ذلك ، ليس هناك مساومات في الدين، (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق )
﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا
حتى لو أمرك بمعصية ، حتى لو أمرك بالشرك ينبغي أن تكون متلطفاً معه برفضك ، يعني أنت مكلف أن تبر أمك وأباك ، مؤمنَين ، غير مؤمنَين ، منصفَين ، غير منصفَين ، قاسيَين رحيمَين ، أدِّ الذي عليك واطلب من الله الذي لك .
أيها الإخوة ، إذاً العبادة شيء والإحسان شيء آخر ، أمرك أن تطلق زوجتك وزوجتك مؤمنة ، محجبة ، صادقة ، تحبك ، وتؤدي واجبها تجاهك ، أريد أن أطلقها لا أقدر لأن أبي أمرني ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق )
فلذلك أوامر الأمهات أحياناً والآباء في القسوة على الزوجات كثيرة جداً فإن كانت زوجتك صالحة فعاملها بأرقى معاملة ولو أن الأب أو الأم غضبت عليك ، لا غضب لها في هذا المعنى ، لكن ليس من الحكمة أن تبالغ في مدح زوجتك أمام أمك أو أمام أبيك لئلا تُتهم أنك مستسلم لها ، ليس من الحكمة ، كيفها يا بني ؟ والله ماشي الحال نصيب هذا ، هذه منتهى الحكمة ، أما أن تبالغ في مدحها ليلاً نهاراً ، يظنان أنك همت بها ، وليس عيباً أن تهيم بزوجتك ولكن قلب الأم أحياناً لا تحتمل ، أنت لها في الأصل ، فإذا بامرأة تأخذ قلبك منها .
إذاً العبادة شيء ، والإحسان شيء آخر ، من تكريم الأب في القرآن الكريم أنه لا يجوز أن يُقتل الابن أمام أبيه ، ولو كان مجرماً ، الدليل أن سيدنا نوح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام حينما أغرق الله ابنه قال :
﴿ قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ
لأن قلب الأب لا يتحمل ، لا قلب الأب ، ولا قلب الأم.
لذلك مرة بجنّين دخل جندي إسرائيلي إلى بيت ليقتل الابن الشاب، ولما علم الأب أنه لا بد من قتله رجا الجندي أن يقتله خارج البيت وأبى الجندي إلا أن يقتله أمام أبيه وهو يتناول طعام الإفطار، وأطلق عليه رصاصة أرداه قتيلاً، أمام أمه وأبيه وأخته، أخته ملتزمة ومحامية، ماذا فعلت؟ في اليوم التالي ارتدت ثياباً يصعب أن توصف، فاضحة ثياب ضيقة وشعر وقصير وطويل وضيق وعطور ومكياج، وأمسكت بمحفظة وانتقلت من جنين إلى تل أبيب إلى حيفا ودخلت إلى مطعم وفجرت مَن في المطعم وكان في المطعم قائد البحرية وأولاده وأحفاده لأن الأخت لم تحتمل أن يقتل أخوها أمامها، هناك قواعد لذلك ﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾
أيها الإخوة ، ليس من البر أن يقول لك أبوك : طلق زوجتك ، أو لو أمرك بمعصية ، البر شيء ، والعبادة شيء آخر ، العبادة لله ، والبر للوالدين ، البر أن تطعم أباك وأمك ، أن تهيئ لهما الظروف، في الشتاء يحتاجون إلى معاطف ، إلى تدفئة ، إلى طعام ، أما أن يقلبا حياتك جحيماً غير مقبول منهما ذلك ، أن يقلبا حياتك جحيماً من أجل نزوة عندهما فهذا شيء غير مقبول أبداً ، لأن أكثر الأبناء والله أيها الإخوة ، وأنا لا أنطلق من فراغ ، أنطلق من قصص واقعية ، هو متفاهم مع زوجته 100 % ، إلا أن تدخل الأب والأم أحال البيت جحيماً لا يطاق ، إذاً : ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق )
﴿ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا
الحقيقة السابعة : الإحسان إلى الوالدين عند حاجتهما لذلك في الكبر :
يعني من السهل جداً أن تبر أباك الشاب ، القوي ، الغني ، ليس بحاجة إليك ، بحاجة إلى مودتك ، إلى سلام ، إلى زيارة فقط ، لكن لا سمح الله ولا قدر أب مُقعد في البيت ، وهو عندك في البيت ، وله طلبات كثيرة ، والإنسان مع تقدمه في السن قد يصاب بحالات من التخلف الفكري الخرف ، لكن أنا أسأل الله لي ولكم أننا إذا كنا في طاعة الله ألا نخرف ، لأنه من تعلم القرآن متعه الله بعقله حتى يموت ، لذلك البطولة لا أن تبر أباك وهو صحيح ، قوي شاب ، غني ، البطولة أن تبر أباك وهو عندك في البيت ، واسأل أيّ أب الآن : كم ولدًا عندك ؟ يقول لك : عندي خمسة أولاد ، لكن اسأله وهو في الخامسة والثمانين أين هو ساكن ؟ عند ابني ، كان أولاده عنده فأصبح عندهم ﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ ﴾
﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا ﴾
أنا أذكر أن أخًا ظهر في إصبع رجل أبيه سواد ، فعرضوه على الطبيب فقال : لا بد من قطع إصبعه فوراً ، له خمسة أولاد ، الأربعة أولاد قالوا : قضاء وقدر ، ماذا نفعل ؟ حسبنا الله ونعم الوكيل ، إلا أن أحد أولاده لم يرضَ أن تقطع إصبع أبيه وتألم ، ورجا الطبيب حتى علا صوته ، الطبيب احترمه ، قال له : والله هناك حل ، لكن هذا نجاحه بالمئة عشرة ، قال له : ما الحل ؟ قال له : لستة أشهر صباحاً ، وظهراً ، ومساء يحتاج إلى أدوية وتطهير بالماء ، ومواد معينة ، قال له: أنا أقوم بذلك ، والابن موظف ، فكان يستيقظ باكراً جداً ، ويذهب إلى أبيه الساعة السابعة ، ويؤدي الواجب بتنظيف إصبع رجل أبيه ، والظهر يأتي ، والمساء يأتي ، وبعد ستة أشهر شفي الأب ، ولم يحتج إلى قطع إصبعه ، والابن والله شيء لا يصدق ، مع أن دخله محدود ، ووضعه صعب فتح الله عليه ، شيء لا يصدق ، وأنا لا أعرف واحدًا بار بوالديه إلا الله أغناه ، أغناه وأكرمه .
والذي عقّ أباه عقه أولاده ، والذي بر أباه بره أولاده ، والقضية دين ، فكما تعامل أباك في الأعم الأغلب يعاملك أبناؤك .
إذاً : ﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ﴾
(( من مشى قبل أبيه ، لا تمشِ أمامه ، ولا تجلس قبله ، ولا تستسب له ، لا تسبب أن يُسبّ الأب من أجلك .
فَلا تَمْشِ أمامَهُ ، ولا تَسْتَسِبَّ لَهُ ، وَلا تَجْلِسْ قَبْلَه ))
إذاً : ﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾
أيها الإخوة ، الآية الكريمة :
﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾
﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾
والفرق بين إكرامك لأبيك أو أمك ، وبين إكرام الأب لابنه فرق كبير ، أنت تكرمهما ، وتتمنى في حال المرض العضال أن يخفف الله عنهما ، أليس كذلك ؟ ولو في قلبك تكرمهما ، لكن في أعماقك تتمنى أن يخفف الله عنهما ، وهناك أبناء غير مهذبين يسمعون هذه الكلمة لآبائهم ، لكن أباك وأمك حينما كانا يكرمانك يتمنيان حياتك ، وفرق كبير بين هذا وذاك .
وقد ورد أن صحابياً جليلاً كان يجلس أمام النبي عليه الصلاة والسلام وعنده ابن جميل الصورة، كان يضعه على كتفيه ، ابنه على كتفيه أمام النبي الكريم ، النبي إنسان عظيم ، أُعجب بهذه المحبة ، فسأله مداعباً : أتحبه ؟ الصحابي الكريم بأعلى درجات الأدب قال : يا رسول الله ، أحبك الله كما أحبه ، أحبه حباً شديداً ، بعد يومين غاب الصحابي عن مجلس رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فتفقده ، وسأل عنه ، فقيل له : لقد مات ابنه ، فاستدعاه ، وعزاه ، وقال له : قال يا فلان، أيهما أحب إليك أن تمتَّع به عمرك ؟ يعني أن يكبر ، وهو ظلك ، ورفيق حياتك ، ومتفوق في الدراسة ، وبار بك ، ومحسن ، وفهيم ، ونجيب ومعك دائماً إلى أن تغادر الدنيا ؟ أيهما أحب إليك أن تمتع به عمرك ، أو أن يسبقك إلى الجنة ؟ فأي أبوابها فتحها لك ؟ قال : بل الثانية ، قال: هي لك، أرأيت إلى حكمة النبي عليه الصلاة والسلام كيف عالج هذه الحالة ؟
(( كانَ نبيُّ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ إذا جلَسَ يجلِسُ إليهِ نفرٌ من أصحابِهِ ، وفيهم رجلٌ لَهُ ابنٌ صغيرٌ يأتيهِ من خلفِ ظَهْرِهِ ، فيُقعدُهُ بينَ يديهِ ، فَهَلَكَ فامتنعَ الرَّجلُ أن يحضُرَ الحلقةَ لذِكْرِ ابنِهِ ، فحزنَ علَيهِ ، ففقدَهُ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فقالَ : مالي لا أرى فلانًا ؟ قالوا : يا رسولَ اللَّهِ ، بُنَيُّهُ الَّذي رأيتَهُ هلَكَ ، فلقيَهُ النَّبيُّ فسألَهُ عن بُنَيِّهِ ، فأخبرَهُ أنَّهُ هلَكَ ، فعزَّاهُ علَيهِ ، ثمَّ قالَ : يا فلانُ ، أيُّما كانَ أحبُّ إليكَ أن تُمتَّعَ بِهِ عمُرَكَ ، أو لا تأتي غدًا إلى بابٍ من أبوابِ الجنَّةِ إلَّا وجدتَهُ قَد سبقَكَ إليهِ يفتَحُهُ لَكَ ، قالَ : يا نبيَّ اللَّهِ ، بل يَسبقُني إلى بابِ الجنَّةِ فيَفتحُها لي لَهوَ أحبُّ إليَّ ، قالَ : فذاكَ لَكَ. ))
طلبٌ وأمنية :
إذاً : ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾
إذاً بر الآباء والأمهات عمل عظيم ، بل من أرقى الطاعات لله عزوجل ، والقصص الكثيرة التي تروى عن أناس نجحوا نجاحاً باهراً في الدنيا بفضل دعاء والديهم لهم ، والأب لا يملك إلا أن يدعو لك بالتوفيق ، والنصر ، والتأييد ، والقصص مرة ثانية التي تتحدث عن بر الأبناء ، وعن توفيق الله لهم ، وعن حفظهم له لا تعد ولا تحصى.
يعني حينما يتوهم الابن أن بر أبيه بمعصية الله فهو مخطئ ، وأن الأب حينما يتوهم أن خدمة ابنه بمعصية الله مخطئ ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق )
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين