- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (006)سورة الأنعام
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الإخوة الأكارم، مع الدرس الثامن والخمسين من دروس سورة الأنعام، ومع الآية الخامسة والثلاثين بعد المئة، وهي قوله تعالى :
﴿ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(135)﴾
معنى : اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ :
أيها الإخوة، الله عزوجل يأمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول لقومه: (قُلْ يَا قَوْمِ)
الرجل والمرأة متكاملان في المجتمع :
لكن بعض المسلمين الذين هم ضعاف الإيمان، ومعلوماتهم محدودة ينجرفون مع الطرف الآخر ليتهموا الإسلام بأنه مجتمع ذكوري، وإذا ذُكر الإسلام لا يقفز إلى أذهان هؤلاء إلا أن المرأة ناقصة عقل ودين، وإلا أن شهادة المرأة بنصف شهادة الرجل .
وقد سُئلت مرة هذا السؤال من امرأة تحتل منصباً رفيعاً على الهاتف، قلت لها: مليار و300 مليون مسلم يدخلون في ثاني أكبر عبادة في الإسلام بشهادة امرأة واحدة، ما قولكم؟ فإذا رأت امرأة الهلال، وكان الاتفاق بين المسلمين أن يصوموا جميعاً برؤية واحد منهم كفت امرأة واحدة بشهادتها أن تُدخِل جميع المسلمين في ثاني أكبر عبادة في الإسلام .
وقد تلد المرأة من رجل ولداً ويموت، إذا بكى قبل أن يموت هناك مسألة، وإذا مات ولم يبكِ مسألة ثانية، وقد يكون الفرق بمئات الملايين ، لو أن الرجل غني كبير ، من الذي يحسم هذا الأمر ؟ القابلة ، بشهادة امرأة واحدة تتجه مئات الملايين من جهة إلى جهة إذا قالت إنه بكى قبل أن يموت أو لم يبكِ ، هناك حالات رائعة جداً ، لكن ضعاف المؤمنين وضعاف الثقافة الإسلامية الفقهية ينجرفون مع من يتهم الإسلام أنه مجتمع ذكوري .
ألم يستشر النبي عليه الصلاة والسلام أم سلمة في صلح الحديبية ؟ ألم يستجب لمشورتها ؟ وتنجح مشورتها، ألم يقل الله عز وجل :
﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ۚ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ۖ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ
يعني تأمرها وتأمرك.
لذلك إن أردت أن تعرف عظمة هذا الدين اجهد في معرفته، اجلس في مجالس العلم، اقرأ الكتب الصحيحة .
لذلك القوم هم الجماعة، وعادة تطلق هذه الكلمة على الرجال، لأنهم مكلفون بالمهمات العويصة الصعبة ، لأنه :
﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ
الرجل والمرأة شتى في الخصائص الفكرية ، والنفسية ، والاجتماعية ، والجسمية :
بمعنى أن خصائص الرجل الفكرية، والنفسية، والاجتماعية، والجسمية، كمال مطلق للمهمة التي أُنيطت به، وأن خصائص المرأة الفكرية، والنفسية، والاجتماعية، والجسمية كمال مطلق للمهمة التي أنيطت بها، المرأة والرجل متكاملان، وليسا متشابهين .
(( عن عروة بن الزبير قال : قالت عائشة : تبارك الذي وسع سمعه كل شيء ، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ، ويخفى علي بعضه ، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي تقول : يا رسول الله ، أكل شبابي ، ونثرت له بطني ، حتى إذا كبرت سني ، وانقطع ولدي ظاهر مني ، اللهم إني أشكو إليك ، فما برحت حتى نزل جبرائيل بهؤلاء الآيات : قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله
هناك أدوار متكاملة بين المرأة والرجل ، لذلك :
﴿قُلْ يَا قَوْمِ﴾
﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى ﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ
معنى كلمة القوم ودلالتها ولوازمها :
فالقوم جماعة الذكور، والنساء جماعة الإناث، قال بعضهم: سمي القوم قوماً لأنهم مكلفون بمهمات صعبة، عليهم الجهاد، عليهم الكسب، عليهم العمل، القوامة، الإشراف، أما المرأة دينها أربعة فصول، إذا صلت خمسها، وصامت شهرها وحفظت نفسها ، وأطاعت زوجها دخلت جنة ربها.
الرجل أمامه مهمات صعبة، كسب الرزق من أصعب الأشياء ولا سيما في هذه الأيام، فالرجل له مهمات، وعليه الجهاد، وعلى المرأة عمل يرتقي إلى مستوى الجهاد
إذاً القِوامة :
﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ
معنى قوامون؛ يعني بينه وبين زوجته درجة واحدة، بالتعبير العسكري عميد ولواء فقط، ليس لواء ومجند، درجة واحدة ، والدليل :
﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا ۚ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ
﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾
للإنسان مكان :
﴿قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾
بمقياس أن هذه البلدة فيها إيمان في أعلى مستوى .
إذاً :
﴿ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ ﴾
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً(70) ﴾
إذاً أنت لك مكان، لك مكان في المسجد، لك مكان في البيت، لك مكان في العمل، لك مكان في المركبة العامة، لك مكان .
كل إنسان مسؤول أمام الله بحسب مكانه :
﴿قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾
﴿اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾
إذاً قد يترنم أحيانًا الإنسان بكلمة: أنا مسؤول كبير، ولو دقق في معناها لارتعدت فرائصه من الخوف، مسؤول كبير، سوف تُسأل عن كل شيء من دون استثناء .
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93) ﴾
سيدنا عمر قال : << والله لو تعثّرت بغلة في العراق لحاسبني الله عنها >>
سيدنا عمر بن عبد العزيز دخلت عليه زوجته فاطمة بنت عبد الملك، رأته يبكي، قالت له :
لذلك بطولتك أنا أعني ما أقول، افعل ما تشاء، لكن بطولتك تقتضي أن تُهيِّئ جواباً للواحد القهار يوم القيامة، عن كل عمل تعمله، عن كل عطاء، عن كل منع، عن كل صلة، عن كل قطيعة، عن كل غضب، عن كل رضا .
مرة استنصحني موظف بالتموين كبير قال لي: ماذا افعل؟ أنا فاجأته بنصيحة غير متوقعة مني إطلاقاً، قلت له: بالغ في كتابة الضبوط، وزجّ الناس في السجون ، قال : هكذا تقول أنت ؟! قلت : نعم ، لكنك إذا كنت بطلاً هيئ لله عزوجل يوم القيامة جواباً عن كل ضبط تكتبه، البطولة أن تهيّئ الجواب .
يقول لي أحياناً أحد الإخوة: لي الحق أن أهب أحد أولادي؟ أقول له : لك الحق ، هذا من حق الأب، لكن أحياناً يهب الأب ابناً من زوجة جديدة يتملّق لها، لفارق السن الكبير بينه وبينها، يتملّق لها بأن يكتب لأحد أولاها من زوج آخر بيت، وقد يحرم زوجته القديمة التي عاشت معه السراء والضراء، ولا يعطيها، هنا تُحاسب، أما الذي عنده بنت فاتها قطار الزواج ، وأخذ لها بيت بحياته ، والبيت تتميز به عن كل أخواتها، كل أخواتها متزوجات ولهن أزواج أغنياء، هذه فاتها قطار الزواج، لئلا تكون خادمة عند أخيها، لئلا تُظلم عند أخيها الأب هيّأ لها بيتاً تسكنه عزيزة كريمة، معه جواب لله عزوجل .
لذلك :
﴿يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾
(( البر لا يبلى ، والذنب لا ينسى ، والديان لا يموت ، اعمل كما شئت ، كما تدين تدان ))
أيها الإخوة ، شيء آخر ﴿اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ﴾
﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(134) ﴾
تسخير الإمكانات للخلق بإخلاص من غير غش وخداع :
أنت اعمل على مكانتك الله أقامك طبيب، إياك أن تضع المال قبلة لك، إياك أن توهم المرضى بأن مرضهم كبير، ويحتاج إلى تحليلات كثيرة، أنت محامٍ إياك أن توهم موكلك أن القضية تحتاج إلى سنوات وسنوات، وقد تخسر هذا البيت، لكنني إذا أكرمتني أعطيتني ما أريد آخذه لك من خصمك، والأمر ليس كذلك، إذا كنت مدرساً إياك أن تجري امتحاناً صعباً جداً، وتعطي الطلاب أصفاراً كي يلجؤوا إليك بدرس خاص ، كل إنسان عنده إمكانات ، إمكانيات علمية ، مالية ، إدارية أحياناً.
﴿قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾
أن الطفل حينما يولد كل من حوله يضحك، وهو يبكي وحده، فإذا وافته المنية كل من حوله يبكي، فإذا كان بطلاً يضحك وحده .
﴿ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
البطولة من يضحك آخراً، قال تعالى :
﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ(34)﴾
أما في الدنيا :
﴿ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ(109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ(110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ(111) ﴾
ظهور الفائز والخاسر يوم القيامة :
أيها الإخوة :
﴿قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾
(( إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء ، ودار ترح لا دار فرح فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشدة ، ألا وإن الله تعالى خلق الدنيا دار بلوى ، والآخرة دار عقبى فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة ، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضا ، فيأخذ ويبتلي ليجزي ))
الآن :
﴿قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا
للإنسان مكانة في الدنيا :
عند الدولة ثلاثون درجة، عشر مراتب، وكل مرتبة ثلاث درجات، المليون موظف يجب أن تكون في أحد هذه المراتب، كل واحد له مرتبة، لكن الله عزوجل إذا كان في الأرض ستة آلاف مليون إنسان فعنده ستة آلاف مليون مرتبة ﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾
يعني عملك يُقيَّم بأدق التفاصيل ، الله عزوجل يقدر عملك، يقدر حجم عملك، يقدر مقدار التضحية من أجل أنك فعلت هذا، يقدر مقدار التعب والجهد، يقدر مقدار إغراء الصوارف، يقدر مقدار العقبات الكأداء التي أمامك .
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
لذلك كل إنسان له عند الله مرتبة ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾
﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ
يعني في أي مكان كنت، وفي أي مكانة كنت، وفي أي مكان كنت، الإنسان في قبضة الله ، بثانية يلغى كل شيء .
بالمناسبة، نحن كلنا سوف نموت، لكن حياتك، ومكانتك، وطلاقة لسانك، وهيمنتك، وحجمك المالي، ومعارفك، وشبكة علاقتك، وقوة شخصيتك منوطة بقطر شريانك الأبهر ميلي وربع، كل قيمتك منوطة بسيولة دمك، فإذا تجمد الدم في بعض شرايين المخ فقدت الذاكرة كلها، كل مكانتك منوطة بنمو خلاياك، فإذا تفلّت النمو بأي مكان انتهى الإنسان، لا تقل أنا ، قل الله .
﴿قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ﴾
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1) ﴾
الآن لو أردت أن تستخدم كلمة: ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ
يعني الذي حصّله الإنسان في عمر مديد يمكن أن يخسره في ثانية واحدة، يكون شخصاً مهماً فإذا به خبر، على أربعة أيام بعد هذا يُعتّم عليه، لم يعد هناك ولا خبر، أين الصولة، والدولة، والقوة، والسلطة، والطغيان، والقهر، والقتل، والهدم، إلى أين ؟
﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا (28) ﴾
الظالم غير مفلح أبدا :
أيها الإخوة الكرام:
أولاً: إنه لا يفلح الذين ظلموا أنفسهم فلم يعرفوها بربها، ولم يحملوها على طاعته، ولم يتقربوا إلى الله عزوجل بالعمل الصالح، هؤلاء ظلموا أنفسهم، وأشد أنواع الظلم أن يظلم الإنسان نفسه .
يعني للتقريب : لو أعطينا إنسانا شيكا بمليون دولار، 52 مليون ليرة، والشيك موضوع على ظهره، يظهر ورقة بيضاء، فأنت اضطررت أن تجري عملية حسابية بسيطة، رقمين برقمين، ضربتهم على هذه الورقة البيضاء، فلما انتهت مزقته، وألقيته في المهملات، وهذا الشيك لا يُعوّض، ومليون دولار، أنت انتفعت بالشك، استخدمته كورقة ، لكن بين أن تستخدمه كورقة وأن تستخدمه كقيمة نقدية مليون دولار كم تشعر بالخسارة ؟ كم تشعر بالندم ؟
هذا الذي يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً، هذا الذي يتاجر في الدين، هذا الذي يستخدم الدين للدنيا،
(( يا ابن عمر " دينك " دينك " إنما هو لحمك ودمك ، فانظر عمن تأخذ ، خذ الدين عن الذين استقاموا ، ولا تأخذ عن الذين مالوا ))
لا تتبع الرخص والفتاوى الشاذة :
إخواننا الكرام، أنا ألاحظ ملاحظة عجيبة أن معظم الناس يتكئون على فتوى، يعني هناك فتوى من أحد كبار علماء مصر بالسماح بإيداع المال بالبنوك بفائدة وسماها عائدة، ومرة أنا سُئلت هذا السؤال على الهواء في إذاعة بدولة مجاورة: ما قولك في هذه الفتوى ؟ قلت: لا تجد عالماً من علماء المسلمين يفتي بهذه الفتوى، فلذلك العبرة لا أن تتكئ على فتوى، لو أنك التقيت مع سيد الخلق، وحبيب الحق، وسألته سؤالاً وكنت طليق اللسان، أوتيت حجة وبرهاناً أوتيت لحناً في القول ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( وَلَعَلّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَإنّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمَا عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقّ أَخِيهِ شَيْئا فَإنّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النّارِ ))
يعني لا تنجو من عذاب الله لو انتزعت فتوى من فم سيد الخلق ، إذاً لا ينجينا إلا أن نطيع الله عزوجل .
اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ تهديد ووعيد :
أيها الإخوة: ﴿اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾
فيا أيها الإخوة، هذا الذي يتجبر، ويكيل بمكاييل عديدة جداً ، ويبني مجده على أنقاض الآخرين ، يبني غناه على فقرهم، يبني عزه على ذلهم، يبني حياته على موتهم هذا قال الله عنهم:
(( الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَومَ القِيَامَةِ. ))
والله سمعت قصة، وليس من عادتي أن أروي مناماً إطلاقاً، ديننا دين حقائق، دين نصوص ، دين أدلة ، لكن المنام سأرويه تجاوزاً ، لأنه يُستأنس به، يعني امرأة عندها أولاد، وتربي أولاداً من زوجها من زوجة مطلقة، إذا سقتهم الحليب تسقي أولادها كأس حليب كامل الدسم، وتسقي أولاد زوجها نصف كأس حليب ممزوج بالماء، لها قريب يحبها حباً جماً، توفيت، يراها في المنام أنها تحترق، أقسم بالله رآها أكثر من 8 سنوات وهي تحترق، إلى أن قالت له مرة، وكانت بحالة طيبة، يا بني لقد فُرِّج عني بسبب، قالت له، الحليب فقط، فسأل، دقق، بحث إلى أن وصل إلى هذه القصة.
من السهل أن تطعمي ابنك حليباً كامل الدسم، وابن زوجك نصف كأس حليب ممزوج بالماء!
صحابي خاض مع النبي معارك ، وتوفاه الله ، فجاء ليصلي عليه النبي قال :
(( أعليه دين قالوا : نعم ، قال : صلوا على صاحبكم ))
كم من إنسان بهذه البلدة مغتصب مالاً، ولا يدفع الدين، أعتقد أنه ما مِن تاجر إلا عنده مبلغ فلكي ديوناً ميتة، اشتريت بضاعة ، وبعتها وربحت ، يماطل ، بعد هذا يمل صاحب الدين، لذلك قالوا :
الدين هالك إلا ما رده الله ، وكم إنسان يأكل أموال الناس بالباطل؟ كم إنسان يعتدي على أعراض الآخرين ؟ كم إنسان يوقع بين الناس كي يقوى عليهم ، فالله عزوجل كبير، والله أيها الإخوة، حينما تعرف عدل الله عزوجل يمكن أن ترتعد مفاصلك .
هناك قاضٍ في العهد الأموي طُرق بابه، وجاء خادمه يقول: إن في الباب رجلاً قدم لك هذا الطبق طبقاً من الرطب، والقاضي معروف بالمدينة أنه يحب الرطب في بواكيره، والفاكهة بأولها غالية جداً، عشرة أضعاف ثمنها أحياناً، فقال: من قدمه ؟ قال: رجل في الباب، قال: صفه لي وصفه قال له : كيت وكيت، فعرفه أنه أحد المتخاصمين عنده، قال له: رد الطبق، بعد أيام قابل الخليفة، وطلب إعفاءه من هذا المنصب، قال له: لمَ ؟ قال له: والله طرق بابي إنسان، وقدم لي طبقاً من الرطب، فلما علمت أن الذي قدمه أحد المتخاصمين عندي رددته، لكني في اليوم التالي تمنيت أن يكون الحق مع الذي قدم هذا الطبق، إذاً أنا لست عادلاً ، أعفِني من هذا المنصب .
هكذا الحساب يوم القيامة ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾
أعرابي لا يقرأ ولا يكتب جاء النبي الكريم ، قال له : عظني ولا تطل ، يريد كلمة مختصرة ، فتلا عليه قوله تعالى :
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ(8) ﴾
قال: كُفيت.
أنت حينما تشعر أن الله سيحاسبك عن كل شيء، وأكبر وهم أيها الإخوة أن الإنسان يتوهم بجهله بأصول الدين أنه إذا ذهب إلى بيت الله الحرام يعود من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وإذا صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ويغيب عنه كثيراً أن هذه الذنوب التي تُغفَر في الحج وفي العمرة، وفي الصيام والقيام، وبعد التوبة ما كان بينك وبين الله فقط، أما ما كان بينك وبين العباد لا تُغفر إلا بالأداء أو المسامحة، لذلك قال تعالى :
﴿ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ
(مِنْ)
(( يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين ))
تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ
بقي شيء واحد أيها الإخوة في هذه الآية، وهو أنه حينما قال الله عزوجل :
﴿قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ﴾
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ
فالخير يعبر عنه بـ له، والشهر يعبر عنه بـ عليه ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾
﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا
ليس علينا، لذلك الذي عرف الله، وعرف الطريق إليه، وتقرّب إليه بالأعمال الصالحة له عاقبة الدار ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾
استخدم عقلك قبل فوات الأوان :
فالبطولة ما سيكون، لذلك ما هو العقل؟ أن تصل إلى الشيء قبل أن تصل إليه، والمثل الذي أرويه كثيراً :
أن إنساناً سافر إلى حمص، وجد لوحة صغيرة لا تزيد عن هذه الورقة: الطريق إلى حمص في الشتاء مغلق في النبك بسبب تراكم الثلوج، هذه الورقة تجعله يعود إلى بيته، أما الدابة إذا مشت على هذا الطريق فلا تقف إلا عند الثلج، ما الذي حكم الإنسان العاقل؟ عقله والنص، ما الذي حكم الدابة ؟ الواقع .
فالإنسان دائماً يندم عند الموت :
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24) ﴾
الموت معروف، والقرآن بين يديك، والأحاديث كثيرة، لمَ لم تستخدم عقلك لمعرفة الحق من الباطل، لذلك الإنسان يوم القيامة يرى مكانه في النار، فيصيح صيحة لو سمعها أهل الأرض لصعقوا من شدة الندم، وفي بعض الآثار بالجامع الصغير :
(( إن العار ليلزم المرء يوم القيامة حتى يقول يا رب لإرسالك بي إلى النار أهون عليّ مما ألقى ، وإنه ليعلم ما فيها من شدة العذاب. ))
فلِئَلّا نندم أتمنى على كل أخ كريم إن رأى أن الله يتابعه فليفرح .
الخيارات بين أيدينا :
والخيارات بين أيدينا، طريق الحق واضح والباطل واضح، الخير واضح والشر واضح، وكان قبل خمسين سنة هناك أبيض وأسود ورمادي بينهما، الآن اختفى الرمادي، هناك أبيض وأسود، مؤمن أو كافر، فتاة محجبة حافظة لكتاب الله، أو متفلتة، محسن أو مسيء، منصف أو ظالم، رحيم أو قاسي، مخلص أو خائن، الآن هناك حالات والدليل :
﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ
والحمد لله رب العالمين