وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 54 - سورة الأنعام - تفسير الآيات 127 ـ 129، سماع الحق بشارة من الله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

 أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس الرابع والخمسين من دروس سورة الأنعام ، ومع الآية الثلاثين بعد المئة ، وهي قوله تعالى :

﴿  يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ(130) ﴾

[ سورة الأنعام ]


عرض الأمانة على المخلوقات جميعا


 أيها الإخوة، المخلوقات جميعاً؛ الكون بجماداته، بكواكبه، بمجراته، بالأرض، بالسماء، بالنبات، بالحيوان، نفوس، وقد عُرضت عليها الأمانة في عالم الذر .

﴿  إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً(72)  ﴾

[  سورة الأحزاب  ]

 فبني الإنس وبني الجن هما النوعان من المخلوقات اللذان قبِلا حمل الأمانة، أي أن تكون نفس الإنس –الإنسان- أمانة بين يديه، فإذا عرّفها بربها وحملها على طاعته، سلم وسعد في الدنيا والآخرة، وحقق الهدف من وجوده، والغاية من وجوده، أما بقية المخلوقات: ﴿فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾ فالمخلوقات ليست مُكلفة، وليست مُعرّضة لعذاب أو لنعيم كنعيم الإنسان، اختارت السلامة، لذلك رُكّب الحيوان من شهوة بلا عقل، رُكّب المَلك من عقل بلا شهوة، كلاهما غير مُكلّف، لكن الإنسان رُكّب من عقل وشهوة، فإذا سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة، وإن سمت شهوته كما ترون على عقله أصبح دون الحيوان: 

﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ۖ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) ﴾

[  سورة النحل ]

﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ (22)﴾

[  سورة فاطر  ]

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) ﴾

[  سورة الجمعة  ]

﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(176) ﴾

[  سورة الأعراف  ]

﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلً ا (44) ﴾

[  سورة الفرقان ]

﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (4) ﴾

[  سورة المنافقون  ]


الخطاب التكليفي موجَّه إلى من قَبِل الأمانة


 إذاً الخطاب التكليفي لمن قبِل حمل الأمانة، المخلوقات كلها مُسيرة من قبل الله مباشرة، لذلك لا فساد في الكون إلا أن يأتي من الكائنات التي قبِلت حمل الأمانة، ما معنى قبلت حمل الأمانة؟ يعني أُودعت فيها الشهوات، أُعطيت أداة التمييز، وهي العقل، أعطيت الفطرة، أعطيت المنهج، أعطيت الشهوة، أعطيت الاختيار، أعطيت التشريع، فالإنس والجن الذين قبِلوا حمل الأمانة هم معنيون بهذا الدرس.


يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ


﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ كأن الله يريد أن يقول: ليس هناك عقاب إلا بعد التبليغ، ليس هناك عقاب، ولا مُساءلة، ولا محاسبة إلا بعد التبليغ. 

﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ من جنسكم، النبي بشر، وكل الشهوات التي أودعها الله في البشر أودعها فيه، ولولا أن النبي بشر تجري عليه كل خصائص البشر لمَا كان سيد البشر، لأنه انتصر على بشريته فكان قدوة لجميع البشر .

﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ لو أن الرسول من الملائكة لا يصدقه أحد، أنت ملَك ونحن بشر، يأتي رسول من بني البشر، يشتهي كما نشتهي، يتألم كما نألم، يخاف كما نخاف .

 وفي الحديث عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : 

((  لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ ، وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ، وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ  ))

[  رواه في مسنده والترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه عن أنس ]

 لأنه بشر، وجرت عليه كل خصائص البشر كان سيد البشر .

﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ اختلف العلماء في أن للجن رسلاً أم ليس لهم؟ الأرجح أن رسل الإنس هم رسل الجن، فالله عز وجل يقول :

﴿  وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ(29)  ﴾

[  سورة الأحقاف  ]

 يعني العلماء على خلاف فيما بينهم، والراجح أن الرسل اختص بهم الإنس لا الجن، أما يُبلغون دعوتهم عن طريق نفر من الجن يستمعون كلام الرسل، كما ورد في الآية الكريمة .

﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ﴾

 قال تعالى :

﴿ مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (15) ﴾

[  سورة الإسراء ]

 لكن لا بد من تطمين الإخوة الكرام إلى أن الهداية تولاها الله عز وجل ، فقال :

﴿  إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12)  ﴾

[  سورة الليل  ]

﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ ۚ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)﴾

[  سورة النحل ]

 أي على الله بيان سبيل القصد، القصد هو الجنة، وسبيلها على الله أن يبينه للناس، فالهداية على الله، لذلك ودققوا في هذه الآية، وهذه الآية تحل مشكلات كثيرة :

﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ ۖ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ (23) ﴾

[  سورة الأنفال  ]


بشارة عظيمة : من أسْمعه الله الحق كان فيه خير


 أيّ إنسان سمع الحق علم الله فيه خيرًا، وهذه بشارة، لكن هناك من يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً.

 مرةً ضربت هذا المثل: ثمة إنسان على طاولته ورقة صغيرة بيضاء مستطيلة، ظنها ورقة عادية، فاضطُر أن يجمع رقمين طويلين فاستخدمها كمسودة، جمع الرقمين، وأخذ الجواب، ثم مزقها إرباً إِرباً، وألقاها في المهملات، ثم تبين له أن هذه ليست الورقة ليست ورقة إنما هي صكٌّ بمئة مليون دولار، هو انتفع بها، لكن نسبة الانتفاع بها ضئيلة، لأنه استخدمها ورقة مسودة، أما قيمتها فمبلغ فلكي .

 هذا الذي يتاجر بالدين، هذا الذي يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً، هذا الذي يظهر تدينه لمآرب مادية.

 كنت أقول دائماً: ما من عمل يتذبذب بين أن يكون عملاً عظيماً يرقى إلى صنعة الأنبياء، وبين أن يكون عملاً رخيصاً تافهاً لا يستأهل إلا ابتسامة ساخرة كالدعوة إلى الله، يكون عملاً عظيماً يرقى إلى صنعة الأنبياء إذا بذلت من أجله الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، ويكون عملاً تافهاً لا يستأهل إلا ابتسامة احتقار حينما ترتزق به .

أيها الإخوة: 

﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ فالله عز وجل تولى الهداية، يعني وصدقوا أن لو عند الإنسان واحدٌ من مليار من خير لا بد من أن يُسمعه الله الخير .

 حدثني أخ كان بأمريكا، ودخل إلى مسجد بغرب أمريكا، قال لي: رأيتُ شخصًا من هيأته من أعرق الأسر الأمريكية، كان لواء في الجيش، ينظف المسجد، سأله صديق ضابط كبير في الجيش الأمريكي، لكنه كان على حاملة طائرات، ورست في بعض الموانئ العربية الإسلامية، والتقى بإنسان مثقف ثقافة عالية فأقنعه بالإسلام، وأسلم، والآن هو في خدمة هذا المسجد ﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ﴾ اطمئِن، أولاً ما دمت قد سمعت الحق فهذه بشارة أن الله علم فيك خيراً، إلا إذا تاجر الإنسان بالدين، جاء لمهمة أخرى غير التعلم، هذه متاجرة بالدين .


أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ ءَايَاتِي


﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ﴾ التقصي: التتبع ﴿ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِي ﴾


آيات الله الكونية والتكوينية والقرآنية 


 الآيات أيها الإخوة العلامات الدالة على الله .

 بشكل مبسط جداً: أحياناً ترى لوحة على جانب الطريق تدل على منعطف خطر، هذه علامة أن هناك منعطفًا خطرًا، علامة أخرى تدل على تقاطع خطر، علامة ثانية على اتجاه موحد، علامة ثالثة أن ثمة طريقًا فرعيًّا، هذه كلها إشارات .

 الآية العلامة الدالة على شيء، الله عز وجل آياته منوعة، عنده آيات كونية: خَلْقه، وعنده آيات تكوينية: أفعاله، وعنده آيات قرآنية: أوامره، آيات تكليفية، آيات كونية، آيات تكوينية، فالرسل: ﴿يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِي﴾ .

﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) ﴾

[  سورة البقرة  ]

﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (164) ﴾

[ سورة آل عمران  ]

 فالكتاب القرآن، والحكمة هي السنة، والآيات الأولى الكونية : 

﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ الترتيب مختلف من آية وثانية. 

اقتراح سيدنا إبراهيم:﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾

الترتيب الإلهي:﴿ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ يعني التزكية تأتي بعد التفكر في خلق السماوات والأرض ، ويأتي بعدها المنهج .

 إذاً: ﴿يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِي﴾ بعد هذا صلى الله عليه وسلم :

((  ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار  ))

[ رواه ابن حبان والطبراني ورجال عن تميم الداري  ]

 سافرت إلى بلد في أقصى الشرق  وفي جنوبي أقصى الشرق، وفي أقصى مدينة في الشرق، وفي أقرب مدينة إلى القطب، في أستراليا فيها إذاعات وقرآن، ودروس دين، كأنك في الشام (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار) الآن بالإنترنت تأتي رسائل من كندا، من أستراليا، من إفريقيا، من جنوب إفريقيا ، يعني خمس قارات تطّلع على القرآن والسنة والتفسير، والعالم كان خمس قارات متباعدة متقاطعة، فأصبح قارة واحدة، ثم أصبح بلدًا واحدًا، ثم أصبح مدينة واحدة، ثم أصبح بيتًا واحدًا، ثم غرفة واحدة، الآن العالم كله في سطح مكتب واحد، فما يجري في أقصى الدنيا ينتقل إليك خبره مع صورته خلال ثوان (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار) ولعل الحكمة في أن النبي خاتم الأنبياء لأن الله علم سيكون هناك تواصل، اتصالات، ثورة الاتصالات، من كان يصدق أن تكتب رسالة على جهاز الفاكس فتصبح في أقصى مكان في العالم في ثوان كما هي ؟ هكذا .

إذاً : 

﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِي﴾ منكم، من جنسكم ، لتقوم الحجة عليكم .


وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا


﴿يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ أكبر ركنين من أركان الإيمانِ: الإيمانُ بالله واليوم الآخر، وما من ركنين تلازما في القرآن كركن الإيمان بالله واليوم الآخر، والحقيقية كلاهما شرط لازم غير كافٍ .

 إنّ العالم الغربي يقول: الله، على عُملتهم ثقتنا بالله، لكنهم لم يؤمنوا باليوم الآخر، لذلك بنوا مجدهم على أنقاض الشعوب، بنوا غناهم على إفقارها، بنوا أمنهم على هدر أمنها، والدليل أنهم يقولون: فوضى بناءة، قتل يومي، وإفقار يومي، والفوضى بنّاءة ، لذلك هؤلاء الذين شردوا عن الله شرود البعير هم الذين لم يعبؤوا بهذه الرسالات .

 ضربت مثلاً، وأتمنى أن يكون واضحاً لكم: لو أن إنسانين أرادا أن يشتريا سيارتين، الأول اشترى، والثاني تريّث، ثم سَرَتْ إشاعة في البلد أن هناك قرارًا بتخفيض الرسوم إلى النصف، الذي اشترى يكذّب هذا الخبر دون أن يتحقق، ودون أن يسأل، لكن تكذيب الخبر يريحه، والذي لم يشترِ يصدق الخبر دون أن يتحقق، ودون أن يسأل، لأن تصديق الخبر يريحه .

 معنى ذلك أن الإنسان أحياناً يصدق شيئاً، ويكذّب شيئاً، ولا علاقة له بواقعية الشيء، ومصداقية الشيء، إلا أن هذا الخبر يريحه إذا صدقه، وذاك يريحه إذا كذبه .

 لو تابعنا المثل: إنسان يبيع ويشتري، ويغش المسلمين في البيع والشراء، حضر درس علم لداعية علْمه وسط، حدثهم عن الشفاعة بالمعنى الساذج، أيْ: اعمل ما شئت والنبي عليه الصلاة والسلام سيشفع لنا يوم القيامة، هذه فكرة مريحة جداً، لكن غاب عن هذا الذي علمهم قول النبي صلى الله عليه وسلم:

((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل

﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِين ﴾

  قَالَ : 

((  يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا  ))

[ متفق عليه ]

((  وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ  ))

[ مسلم ]

 وغاب عن هذا الذي يعلم الناس مفهوم الشفاعة الساذج أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول يوم القيامة يتبرأ من مثلهم .

 عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : 

 عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : 

((  إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ ، مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا ، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ ، وَيَعْرِفُونِي ، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ ، فَأَقُولُ : إِنَّهُمْ مِنِّي ، فَيُقَالُ : إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ ، فَأَقُولُ : سُحْقًا ، سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي  ))

[ متفق عليه ]

 لكن مفهوم الشفاعة الساذج مريح جداً للناس فيتمسكون به، كان يأكل أحدُهم الربا لمّا قرأ قوله تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) ﴾

[  سورة آل عمران  ]

 يستنبط استنباطًا شيطانيًّا؛ أن التحريم لا ينطبق على النسب القليلة في الربا، ينطبق فقط على النسب العالية، وغاب عنه قوله تعالى : 

﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)﴾

[  سورة البقرة  ]

 إذاً: الإنسان يميل ليصدّق شيئًا يريحه، يميل ليكذب شيئًا يزعجه، أما الذي يريد أن يبني مجده على أنقاض الشعوب، وغنى شعبه على إفقار الشعوب، وأمنه على تخويف الشعوب، هل يكفيه مفهوم الشفاعة الساذج؟ هذا يحتاج إلى الإلحاد، الإلحاد أنه ليس هناك إله، وليس هناك يوم آخر، هذه خرافات، وهذه شعور ضعف أمام الطبيعية القاسية ...إلخ، هذا الإلحاد يحتاج إلى إيديولوجيا، إلى فكر، تأتي نظرية داروين لتقدم هذه الإيديولوجيا للملحدين، مع أن هذه النظرية سقطت لا من علماء مسلمين، بل من علماء أجانب، لأنه ليس فيها فقرة واحدة أثبتها العلم، يقول داروين نفسه: إن لم تثبت نظريتي المستحاثات فهي باطلة، المستحاثات التي كُشفت بعد 500 مليون عام آثار الحيوانات فيها كالحيوانات الحالية الآن، الأسماك، والطيور، والزاوحف نفسها، أين الحيوان الانتقالي من مرحلة إلى مرحلة؟ ليس موجود، وما وجدوه أبداً، تذرّع بقضية الطّفرة وأثبت العلم خطأها، تذرّع بالانتخاب الطبيعي، أثبت العلم خطأه، هذه النظرية لا يمكن أن تقف على قدمين، ساقطة تالفة، وفي كل مناهج دول العالم موجودة، لماذا ؟ لا لأنها مغلوطة، بل لأنها مريحة، لا إله، ولا آخرة، فافعل ما تشاء . 

 تماماً كما لو أنبأ إنسانٌ طالباً أن المدرس يعطي الأسئلة قبل يومين مقابل هدية، هذه فكرة للكسول مريحة جداً، فترك الدراسة كلياً، واعتمد على هذه الفكرة، قبل يومين طرق باب المدرس فصفعه صفعتين أنسته حليب أمه، وطرده . 

 فالإنسان يميل إلى تصديق أشياء مريحة، لكن البطولة أن تكون حارساً على عقلك، ألا تسمح بالنظريات المريحة أن تسري إليك .

 أيها الإخوة:


وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِين


﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴾

شهادة أعضاء الإنسان على أعماله يوم القيامة

 المشكلة أن الإنسان في الدنيا له أبعاض، يده بعضه، رجله بعضه، جلده بعضه، سمعه بعضه، بصره بعضه، الإرادة في الدنيا مسيطرة على أبعاض الإنسان، طبعاً هناك جزء في الإنسان لا إرادي، ضربات القلب لا إرادية، الجملة نظيرة الوديّة لا إرادية . 

 الإنسان أياماً لو سئل سؤالاً محرجاً يحمر وجهه، ليس بإرادته أن يجعل وجهه مُحمرّاً، أحيانا يتعرّق عرقاً بارداً، وحتى الذين اخترعوا جهاز كشف الكذب مبني على التعرق، فإذا كذب الإنسان واضطرب يتعرق، فيوجد تعرق، ورفع نبض القلب، ويوجد مظاهر كثيرة جداً ليس له عليها سيطرة، فهو في الدنيا في بعض المجالات كالتنفس، والقلب والهضم وما إلى ذلك أعمال لا إرادية، لكن فيما سوى ذلك الله عز وجل نصّب الإنسان مسيطراً على أبعاضه، يريد أن يمشي فيمشي، تطاوعه رجله، يريد أن يبطش يَبطش، تطاوعه يده، يريد أن يكذب يكذب، يطاوعه لسانه، يريد أن ينظرَ ينظر، تطاوعه عينه، لكن عند الموت وبعد الموت تنتهي سيطرته على أعضائه، فتأتي أعضاؤه وتشهد لله عز وجل عن كل أعماله .

﴿ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)﴾

[  سورة فصلت  ]

 فأنت في الدنيا سمح الله لك أن تكون مهيمناً على أعضائك وأبعاضك، لكن بعد يوم القيامة هذه السلطة تُسحب منك، وكل أعضائك التي شهدت المعاصي والآثام تشهد ضدك: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ .


وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا


 الشيء الذي يغر في الحقيقة يغري، المعصية محببة، لكن المعصية متعتها آنية، يأتي بعدها الندم والكآبة، كل الشهوات المحرمة بعدها يوجد كآبة، لأن فطرة الإنسان متوافقة مع المنهج، لو أن إنسانًا لا يعرف شيئاً عن الدين، إذا زنا يشعر بكآبة، هذه كآبة الفطرة، فالشهوات محببة، والتناقض بين الطبع والشهوة ثمنه الجنة، والإنسان يميل بطبعه إلى أن ينظر، وقد أُمِر بغض البصر، يميل إلى أن يخوض في فضائح الناس، وقد أُمِر بالصمت، يميل إلى النوم، وقد أُمِر بالاستيقاظ، يميل إلى أخذ المال، وقد أُمِر بإنفاق المال، يميل إلى الراحة، وقد أُمِر بالصلاة، الصلاة فيها مشقة، لذلك التناقض بين الطبع وبين التكليف ثمنه الجنة، هؤلاء غرّتهم الحياة الدنيا، ولأن الدنيا تغر، وتضر، وتمر .


قصة وعبرة


 يعني مناسبة لطيفة لرواية قصة طريفة : 

 لي صديق توفي ـ رحمه الله ـ كان شاباً صغيراً في محل بسوق الحميدية، فكان يجمع قمامة المحل ويضعها في علبة فخمة، ويلفّها بورق فخم وشريط أحمر مع وردة، يضعها على الرصيف، يأتي إنسان فيظن أن فيها ماساً، أو فيها شيء، يأخذها ويسرع، فيتبعه، بعد 200 متر يفك الشريط الأحمر، وفي 100 متر ثانية يفك الورق، وفي 100 متر الثالثة يفتح العلبة فيجد فيها قمامة المحل، يتلفظ بكلمات قاسية جداً .

 هكذا الدنيا تغر، وتضر، وتمر .

 سأقول لكم كلمة دقيقة: لو أخذنا بعض الشهوات؛ المرأة أو المال، المال :

 المال في أول الحياة شيء كبير، في منتصف الحياة المال شيء، وليس كل شيء، أما على فراش الموت فالمال ليس بشيء، فالبطولة أن تعرفه على حقيقته قبل الموت، ألا تكون عبداً للمال، بل أن يكون المال عبداً لك، ألا تكون له، بل أن يكون لك، ألا يسخر منك، بل أن تُسخِّره أنت في سبيل النجاح والفلاح .

 لذلك أيها الإخوة ﴿ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾ الدنيا تغر، قال الله عز وجل :

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(5)  ﴾

[  سورة فاطر  ]

 اشترى إنسان بيتين في أعلى طابق، وما كان هناك مصعد، والبيتان على المفتاح، لم تعجبه كسوتهما، أعادهما على الهيكل، قلع الأبواب، كسر البلاط، ألغى كل شيء، وكساهما على ذوقه لسنتين أو ثلاثة، ويومياً يصعد الطوابق الـ12، ويصل إلى هناك، وبعد أن تمت الكسوة على شكل متميز جداً وافته المنية، الدنيا تغرّ، وتضرّ، وتمرّ .

 أيها الإخوة ... 

﴿ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾ يُغرّ بمالها، يُغرّ بنسائها، يُغرّ بمناصبها، يُغرّ أحياناً بتحفها .

 أعرف رجلا ما ترك تحفة، له أسفار كثيرة، كل تحفة مليون ليرة، مليونين، فازات عالية جداً، بيته واسع، يشتريها، وكان مغرماً بها، أما حينما يأتي ملك الموت يتخلى عنه هذا الشيء . 

اعتقد أيها الأخ الكريم وأنا معكم أنّ كل شيء أحببته في الدنيا إما أن تفارقه، وإما أن يفارقك .

﴿ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ ۖ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) ﴾

[  سورة الأنعام  ]

 ماذا يقابل دار السلام؟ دار التعب والشقاء، تصور إنساناً ما عنده مشكلة، لكن ألا يتقدم في السن؟ 

 قال لي مرة أستاذ لي جزاه الله خيراً ورحمه الله، قال لي: سبحان الله! أنا قبل خمسين سنة أنشط من الآن، طبعاً هل هناك إنسان يبقى على حاله؟ هناك التهاب مفاصل، هناك انزلاق غضروفي، هناك ارتباك بعمل القلب، هناك عدم ضبط النظم، هناك شعور بالتعب، هناك أمراض لا تعد ولا تحصى، فالجسم في تراجع، والإنسان يكون بمنصب رفيع، فيتقاعد، يُهمّش، يتمنى أولاده أن يجلسوا مع أصدقائهم من دون أبيهم، يتهربون منه أحياناً، هذا شيء يقع، فالإنسان يُهمّش، وبعد أن يُهمّش يصيبه خرفٌ أحياناً، لذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : 

((  بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا ، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا ؟ أَوْ غِنًى مُطْغِيًا ؟ أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا ؟ أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا ؟ أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا ؟ أَوْ الدَّجَّالَ ؟ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ ، أَوْ السَّاعَةَ ، فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ  ))

[ رَوَاهُ التَّرْمِذِيُّ عن أبي هريرة ]

 هل تستطيع أن تستيقظ كل يوم كاليوم السابق؟ مستحيل، في يوم فيه مفاجأة، هذه اسمها بوابة الخروج، وكلنا سوف نخرج من الدنيا، هذا مصير كل إنسان .

 فلذلك أيها الإخوة، الإنسان العاقل يعد لهذه الساعة التي لا بد منها .

﴿ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴾

﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ﴾ أبعاضك في الدنيا تحت إمرتك، لكن بعد الموت تشهد ضدك، ما من حركة، ولا سكنة، ولا ابتسامة إلا وأنت محاسب عليها، وما يعفو الله أكثر، أنت تحت المراقبة، لو قلنا لإنسان: هاتفك مراقب، يختار كلمات دقيقة جداً، يبتعد عن كلمة تثير الشبهة، لا يقول لك: روشيش رشاش، هناك فرق، ينتقي كلمات دقيقة جداً، لو قلنا له: حركتك مراقبة، إذا رأى سفارة على اليمين يمشي على اليسار، يخاف، فإذا كان الإنسان مراقباً من إنسان لا ينام الليل، فكيف إذا كنت مراقبا من الواحد الديان ؟ الله عز قال : 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) ﴾

[ سورة النساء ]

﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(14) ﴾

[  سورة الفجر  ]

﴿وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ﴾ .


ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ


﴿  ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ(131) ﴾

[  سورة الأنعام  ]

 لو كانوا يقظين لا يحتاجون إلى رسل، ما معنى إرسال الرسل ؟ الناس في غفلة، يعني الطالب المجتهد لا يحتاج إلى أستاذ خاص أبداً .

 قال لي مرة إنسان: هناك آية تحيرني، أن الله عز وجل فضل بني إسرائيل على العالمين، هم في رأيه مجرمون، وهم كذلك، قلت له: إذا كان أب عنده ولدان، ولد متفوق جداً، وولد مقصّر جداً، الله يفضل المقصر بأستاذ خاص على المجتهد، فهل هذا التفضيل بأستاذ خاص يعني أنه أفضل منه؟ أبداً، لتقصيره خصه بمدرس خاص، فأحياناً التفضيل لا يقتضي الأفضلية إطلاقاً .

 أيها الإخوة ، 

﴿وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ﴾ ﴿ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾ مستحيل وألف ألف مستحيل أن يأخذ الله القرى وهي غافلة، يأخذها بعد أن ينذرها ، لذلك الآية الكريمة:

﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) ﴾

[  سورة الإسراء  ]

 وفي رواية: (أَمَّرْنَا مُتْرَفِيهَا) ، وفي رواية: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) أمرناهم بالطاعة، بلغناهم : 

﴿فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً﴾ يعني كطرفة، يبدو أن سيدنا عمر ضبط إنساناً سارقاً، أقسم بالله هذا الإنسان أنها أول مرة، قال له : كذبت، إن الله لا يفضح من أول مرة، فكانت المرة الثامنة .

 إخواننا الكرام، هناك فكرة دقيقة جداً، الكفر هو الغطاء، فحينما يكفر الإنسان يعني هو مؤمن، كيف؟ مؤمن وكذب على الناس، مؤمن بفطرته، وغطى إيمانه بادّعاء الكفر، هذا الكلام يؤكده قوله تعالى في الكفار الذين يقولون يوم القيامة : 

﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) ﴾

[  سورة الأنعام  ]

 قال تعالى :

﴿ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ۚ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)﴾

[  سورة الأنعام  ]

 بأعماق الإنسان هناك إيمان، وحينما يكفر الإنسان يغطي شيئا آمن به، فالذي آمن بالشيء وأعلنه هو المؤمن، والذي آمن بالشيء وغطاه هو الكافر، غطى إيمانه بغطاء من الإنكار، والدليل : 


انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِم


﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ ﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ الدليل :

 طائرة تحمل خبراء من بلد تداعى من الداخل وانتهى، وكان يرفع شعار لا إله، إلحاد كامل، ركاب الطائرة مهندسون كبار ملحدون جميعاً، خبراء من هذا البلد، دخلت الطائرة في سحابة مكهربة، فكانت على وشك السقوط، يقسم لي بالله إنسان كان طالباً من دمشق راكباً في الطائرة قال لي: كل هؤلاء المهندسين الملحدين صرخوا يا الله . 

أحيانا ينتفع الإنسان بالكفر، كيف؟ لو أن حمَّالاً يستخدم حماره بالعِتالة، مات الحمار انقطع دخله كلياً، هو خبيث وشيطان، دفنه في مكان، وعمّر أربعة جدران وقبة خضراء، وسماه وليّاً، والناس تقاطروا عليه، وتدافعوا، وجاؤوا بالهدايا والخرفان والدجاج والسمن، واشترى بيتاً، وعاش ببحبوحة مخيفة، هل مِن قوة في الأرض تقنعه أن هنا حماراً مدفوناً؟ هو دفنه بيده، هو قناعته أن المدفون حمار أشد من قناعة الذي يناقشه، ولكنه منتفع .

أحيانا ينتفع الإنسان بالكفر، ينتفع انتفاعاً كبيراً جداً، لكن هذا المنتفع لا يُناقَش، الغبي لا يُناقَش، والمنتفع لا يناقش، والقوي لا يناقش، وقد يجتمعون بواحد ، لذلك: ﴿ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ قال : 

﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ فطرتك تنطق بوجود الله، والدليل : الكآبة التي لا يحتملها الكافر .

 حدثني أخ أوقف سيارته ثمنها 11 مليونا على جسر، وألقى بنفسه، نزل ميتاً، ما الكآبة التي يحس بها؟ والذي يركب مركبة بـ 11 مليون، غني جداً، يجب أن يكون معه 200 مليون حتى يتناسب ثمنها مع ثمن السيارة، ألقى بنفسه من الكآبة .

 حينما تستقيم على أمر الله تبحث عن راحتك، تبحث عن توازن، تبحث عن أمن، تبحث عن استقرار، تبحث عن سكينة الله، تبحث عن رحمة الله . 

﴿ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ ﴿ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ﴾

 لذلك أيها الإخوة، حقائق الإيمان مركوزة في أعماق أعماقنا، والكافر يغطيها، الكافر يغطي إيمانه بإنكار قواعد الإيمان، والدليل الآيتين . وفي درس قادم إن شاء الله نتابع هذه الآيات .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور