وضع داكن
28-03-2024
Logo
تربية الأولاد إصدار 1994 - الدرس : 14 - التربية الإجتماعية -1- الأخوة - الرحمة - التقوى
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

  الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيُّها الأخوة الكرام مع الدرس الرابع عشر من دروس تربية الأولاد في الإسلام، وننتقل اليوم إلى موضوعٍ جديد هو مسؤوليّة المربّين، أو مسؤوليّة الآباء في تربية أولادهم التربية الاجتماعيّة.

العناية الفائقة بغرس أصول التربية الاجتماعية عند أولادنا:

 كلُّكم يعلم أنّ الإنسان كائنٌ اجتماعيّ، وأراده الله أن يكون اجتماعيّاً من خلال أنّه جعله مفتقراً في معظم حاجاته إلى أخيه الإنسان، سمح له أن يتقن شيئاً يرتزق منه، وهو بحاجةٍ إلى خدمات أخيه الإنسان لذلك لا يعقل أن يعيش الإنسان وحده، أراده الله سبحانه وتعالى أن يكون اجتماعياً، ولكن حينما يجتمع الإنسان بأخيه الإنسان يمتحن، فإمّا أن يرقى وإمّا أن يسقط، إمّا أن يستحقّ الجنّة لأنّه طبّق منهج الله عزَّ وجلَّ في تعامله مع الآخرين، وإما أن يستحق النار لأنه خالف منهج الله عز وجل.
 قد ذكرت لكم كثيراً أنّ العبادات نوعين ؛ عباداتٍ تعامُليّة، وعباداتٍ شعائريّة، العبادات الشعائريّة كالصلاة والصيام والحجّ، بينما العبادات التعامُليّة العلاقة بينك وبين أخيك الإنسان، هل أقمتها وفق منهج الله ؟ هل أقمتها وفق ما يرضي الله ؟ هل ائتمرت بما أمر الله سبحانه ؟ هل انتهيت عما نهى الله، في زواجك، في عملك، في كسب المال، في إنفاق المال، في أفراحك، في أحزانك، في كلّ نشاطات حياتك ؟
 أيُّها الأخوة الكرام، لا بدّ من أن يوجّه الأب أو المربّي عنايةً فائقةً لغرس أصول التربية الاجتماعيّة عند ابنه أو عند تلميذه، والحقيقة ما دام الإنسان في مجتمع فهو في حاجةٍ ماسةٍ إلى مجموعة خصائص، وإلا يشقى ويُشقي.
 الخاصّة الأولى أنّ الله سبحانه وتعالى أنزل كتاباً على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيه منهج، فيه دستور، افعل ولا تفعل، المنهج كُلّي والسنّة تفصيليّة، أنت إن طبّقت منهج الله لن تؤذي أحداً بل سوف تنفع النّاس جميعاً، لن تكون مبغوضاً، لن تكون عدوّاً لأحد، وسيحبُّك الناس جميعاً، لأنّ منهج الله من عند خالق الكون، من عند الخبير، من عند الذي يعلم كلّ شيء، فمادام الإنسان وفق منهج الله فهو في بحبوحةٍ وفي أمنٍ وسلام، أمّا إذا خرج، أي لو مركبة تسير على طريق معبّد، ما دام الذي يقودها يطبّق تعليمات الصانع فهو على الطريق، تتحرّك المركبة بسلامةٍ ويسر وراحة، وتنطلق تطوي الأرض طيّاً، أمّا إذا غفل عن القيادة أو كان مخموراً أو أساء استخدام الأدوات الموجودة في هذه المركبة، هوى في الوادي، طبعاً هذا الذي حدث من خطأ ارتكبه.

اتسام حياة المؤمن بالسلام و حياة غير المؤمن بالهلاك:

 أنت ما دمت في مجتمع، وما دمت تطبّق منهج الله في هذا المجتمع لن تجد إلا السلام، فقد قال ربُّنا عزَّ وجلَّ:

﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) ﴾

( سورة المائدة: آية " 16 " )

  الله عزَّ وجلَّ يهدي الإنسان طريق السلام مع نفسه، طريق السلام مع أسرته، مع مجتمعه، مع أخوانه، مع من فوقه، مع من دونه، مع من في مستواه، لذلك تتسم حياة المؤمن بالسلام، وتتسم حياة غير المؤمن بالمفاجآت، بالمطبّات، بالهلاك أحياناً.
 أولاً، ما لم يطبّق الإنسان وهو في جماعة منهج الله لن يَسعد ولن يُسِعد، هذا ما عبّر عنه ربُّنا جلّ جلاله بكلمة التقوى فقد قال تعالى:

 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) ﴾

 

( سورة الحجرات: آية " 13 " )

 أي أن تتقي أن تعصي الله، تتقي أن تخرج عن منهجه، فربّنا عزَّ وجلَّ يقول:

 

﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) ﴾

 

( سورة الطلاق: آية " 2 " )

  هذه الآية يمكن أن يكتب عنها مجلّدات، مثلاً من اتّقى الله في تربية أولاده جعل الله له مخرجاً من عقوق الأولاد، من اتّقى الله في اختيار زوجته جعل الله له مخرجاً من الشقاء الزوجيّ، من اتقى الله في كسب المال جعل الله له مخرجاً من ضياع المال، من اتقى الله فآمن به جعل الله له مخرجاً من الشقاء الدنيويّ والأُخرويّ.

 

منهج خالق الكون أن تتقي الله في تعاملك مع أخيك:

 

 إذاً حينما تتقي الله في تعاملك مع أخيك فهذا المنهج منهج خالق الكون، فتقف عند حدّك تأخذ مالك وتدع ما ليس لك، فمشكلات النّاس كلِّهم من أين تأتي ؟ لأنّهم يريدون أن يأخذوا ما ليس لهم، وأن يمتنعوا عن إعطاء كلِّ ذي حقٍ حقّه، يمكن أن ترجع مشكلات المجتمع كلّها إلى هذا، إلى أنّ الإنسان يأخذ ما ليس له، يتجاوز الحدّ ويطغى.
 إذاً قبل كلّ شيء يجب أن ترسّخ في ابنك أو في تلميذك أن يكون وقّافاً عند كلام الله، وقّافاً عند منهج الله، هذا حرام لا أقوله، هذا حلال أسمح لنفسي به، أما أن تقوم حياة اجتماعيّة بلا منهج، بلا دستور، بلا قانون، قضيّة كيفيّة، عشوائيّة، فلا بدّ من الخصومات، والعداوات، والمضايقات، ويلجأُ الناس إلى المحاكم، وترى عند كلّ قاضٍ آلاف الدعاوى ترحّل من عامٍ إلى عامٍ إلى عام إلى أن يموت أحد المتقاضيين، أساسها أن كلا الطرفين خرج عن منهج الله.
 أخواننا الكرام، يمكن أن نتأكّد أنّه ما من مشكلةٍ على وجه الأرض إلا ووراءها معصية، وما من معصيةٍ إلا ووراءها جهل، فأكبر عدوٍ لنا هو الجهل، وهو العدو الأوّل رقم واحد، لأنّ الجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوُّه أن يفعله فيه، فقبل كلّ شيء: إن أكرمكم عند الله أتقاكم.
 ما عبد الله بأفضل من اتّباع ما افترض الله عزَّ وجلَّ، أعظم عبادة أن تقيم منهج الله عزَّ وجلَّ، إنَّ الله لا يقبل نافلةً ما لم تؤدَّ الفريضة.
 إذاً عرّف بعض العلماء التقوى فقال: أن يراك الله حيث أمرك، وأن يفقدك حيث نهاك.
 أن يراك حيث أمرك، في ساعة الظهيرة يوم الجمعة أين تكون أنت ؟ في النزهة أم في المسجد ؟ في المسجد، وأنت في الطريق أمامك امرأةٌ سافرةٌ، ماذا تفعل ؟ تغضُّ البصر، أثناء محاسبة البائع ماذا ينبغي أن تفعل ؟ أن تعطيه حقّه ولو نسي بعض المال، أن يراك حيث أمرك وأن يفقدك حيث نهاك، هذا بعض تعريفات التقوى.
 قال بعضهم: التقوى اتّقاء عذاب الله سبحانه وتعالى بصالح العمل، والخشية من الله في السّر والعلانية.

بعض تعريفات التقوى:

  أخواننا الكرام، الآيات التي تحدّثت عن التقوى تربو عن ثلاثمئة آية، التقوى أن تتقي غضبه، أن تتقي عذابه، أن تتقي أن تعصيه، أن تتقي أن تخرج عن منهجه، أن تتقي أن تتجاوز حدوده، فأنت من أجل أن تسعد في الدنيا وفي الآخرة عليك بتقوى الله، ومن أجل أن تنشّئ ابنك تنشئةً صالحةً عليك أن تغرس في نفسه تقوى الله، يا بنيّ قف عند حدود الله، هذا منهج، هذا قانون، هذا من عند خالق الكون، افعل ولا تفعل، فأعظم شيء تصل إليه أن تصل إلى أمر الله ونهيِه، وأن تحمل نفسك على تطبيق أمر الله وترك نهيِه.
 سيّدنا عمر بن الخطّاب عملاق الإسلام له تعريفات رائعة، فمرّة عرّف التقوى عن طريق سؤال وجواب، سأل سيدنا أُبيّ بن كعب سيّدنا عمر عن التقوى، فقال له: أما سلكت طريقاً ذا شوكٍ ؟ قال: بلى، قال: فما عملت ؟ قال: شمّرت واجتهدت، قال: فتلك هي التقوى.
 إذا كان أحد الأشخاص يمشي في طريق كلّه حفر وأشواك وأكمات وعثرات، وأفاعٍ مثلاً فكيف يمشي ؟ هل يغمض عينه أم يفتح عينيه، ويصبح كلُّه أعين، وكلُّه آذان، كلُّه حيطة، وكلُّه حذر، فشمّر واجتهد.
 أنت راقب سائق سيّارة في الضباب وبالليل، تجده يقترب للأمام نحو الزجاج ولا يستند من قلقه، ويتفحّص الطريق شبراً شِبراً، ويتأهّب لأيّة مفاجأة، هذه هي التقوى، أن تسير وكلُّك أعين، وكلُّك آذان، وكلُّك توقُّع.
 قال بعضهم: التقوى حساسيةٌ في الضمير، حساسيةٌ في الشعور، خشيةٌ مستمرّة وحذرٌ بيّن، توقٍ لأشواك الطريق، طريق الحياة.
 أيُّها الأخوة، النبيُّ عليه الصلاة والسلام يقول:

 

(( التقوى ها هنا. وأشار إلى صدره الشريف ))

 

[ رواه مسلم عن أبي هريرة ]

  معنى التقوى: أنّها رغبة قويّة في ذات الإنسان أن يطيع الله، مادام قال: ها هنا وهنا القلب، والذي يرغب هو القلب، رغبةً قويّةً في تنفيذ أمر الله عزَّ وجلَّ، وثانياً نورٌ يقذفه الله في قلب الإنسان يريه الحقَّ حقّاً والباطل باطلاً.
نماذج من المتقين:

 

 اسمعوا أيُّها الأخوة إلى نماذج من المتّقين. قال يروي الغزالي في إحيائه أنّه كان عند يونسَ بن عبيد حُللٌ مختلفة، أي ثياب، يبيع الثياب، مختلفة الأثمان منها نوعٌ قيمته بأربعمئة درهم ونوعٌ قيمته بمئتين، فذهب إلى الصلاة وخلَّف ابن أخيه في الدكّان، جاء أعرابيّ وطلب حُلَلاً بأربعمئة، فعرض عليه ابن أخيه حُلًّة بمئتين فاستحسنها الأعرابي ورضيها واشتراها بأربعمئة درهم، فمشى بها وهي على يديه، يونس صاحب الدكّان خرج من المسجد فإذا بأعرابيٍ يحمل حُلّةً من دكّانه، فعرف أنّها حُلّته فقال للأعرابيِّ: بكم اشتريت هذه الحُلَّة ؟ قال: بأربعمئة. قال: هذه الحُلَّة لا تساوي أكثر من مئتين فارجع حتّى ترُدّها، قال: هذه تساوي في بلدنا خمسمئة درهم، وأنا ارتضيتها، قال له يونس: انصرف معي، فإنّ النّصح في الدين خيرٌ من الدنيا وما فيها، ثمّ ردّه إلى الدكّان، وردّ عليه مئتي درهم وخاصم ابن أخيه في ذلك وقاتله، قال: أما استحييت، أما اتقيت الله ؟ تربح مثل الثمن وتدع النُصح للمسلمين، فقال: والله ما أخذها إلا وهو راضٍ بها، قال: هلا ارتضيت له أنت ما ترضاه لنفسك ؟ هذه هي التقوى، هكذا البائع المسلم لا يغش أو يدلّس أو يكذب، طاعة الله أغلى عليه من الدنيا وما فيها من ثروة الأرض، من أكبر غلّةٍ في الدنيا، طاعة الله، يجب أن نربّي أبناءنا هكذا.
 قصّةً تعرفونها جميعاً أقولها كثيراً، قال عبد الله بن دينار: خرجت مع عمر بن الخطّاب إلى مكّة، فعرّجنا في بعض الطريق، أي استرحنا، فانحدر بنا راعٍ من الجبل فقال له: يا راعي بعني شاةً من هذا الغنم، قال: إنّي مملوك، قال له اختباراً: قل لسيّدك أكلها الذئبُ، فقال الراعي: فأين الله ؟
 هذه ليس لها حلٌ، الآن مستعد أن يحلف يميناً كذباً غموساً حتّى يأخذ الدكّان، اختلف الوضع، فقد قال تعالى:

﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (59) ﴾

( سورة مريم: آية " 59 " )

  قد لقي المسلمون ذلك، كان السلف الصالح يقول: ألف غلبة ولا قلبة، أما الآن يقولون: ألف قلبة ولا غلبة، كان السلف الصالح يقول: المنيّة ولا الدنيّة، الآن يقولون: الدنيّة ولا المنيّة.
 شاعر دخل السجن في عهد عمر لأنّه قال لرجل:

 

دع المكارم لا ترحل لبغيتها                  واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي

***

  هذا شعار كلّ إنسان في آخر الزمان.
 البنت التي أرادت أن تنصح أمُّها عندما أقدمت على خلط الحليب بالماء في عهد عمر، وقالت الأم: إنّ عمر لا يرانا يا بنيّتي. فقالت: إنّ ربّ عمر يرانا، هذه التقوى.

غرس تقوى الله في نفوس أبنائنا:

 أيُّها الأخوة، المربي أهمّ وظيفة له، المربّي أو الأب إذا أراد أن ينشّئ أولاده تنشئةً اجتماعيّةً عليه أن يغرس فيهم تقوى الله، أي الخوف من الله.
 قد يسأل سائل: كيف نخاف من الله ؟ الجواب: يجب أن تؤمن أنّه يعلم وسيُحاسب، أن تؤمن باسم الله العليم، واسم الله القدير، والله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) ﴾

( سورة الطلاق: آية " 12 " )

  أي إذا أيقنت أنّ الله يعلم وسيحاسب وهو قدير لا بدّ من أن تستقيم على أمره، لأنّك إن أيقنت أنّ إنساناً من بني جلدتك، من بني البشر، يحاسب ويقدر أن يوقع بك الأذى لا يمكن أن تعصيه أبداً، فكيف بخالق الكون ؟
 طبعاً البحث طويلٌ، موضوع التقوى هو الدين كلُّه في الحقيقة، ولكن كلما غرست في نفس ابنك أنّه لا بد من أن يأتمر بأمر الله وإلا سيكون الثمن باهظاً، لا بد من أن ينتهي عن ما نهى الله عنه وإلا الثمن باهظ، إذا غرست في قلب ابنك أو تلميذك الخوف من الله انتهى كلّ شيء، فطبّق منهج الله فسعد وأسعد.

 

الأخوة الإيمانيّة تعني أن يشعر المسلم أنّه أخٌ لكلِّ مسلم:

 

 

 العامل الثاني في التربية الاجتماعيّة موضوع الأخوة الإيمانيّة، فالعجب العجاب أنّ الإسلام ممتدّ الرقعة يشغل الآن معظم بعض القارّات، والعدد يزيد على خُمسِ سكّان العالم، لكن معنى الأخوة الإسلاميّة غير واضحٍ، أي أن توجد الخصومات والعداوات، حتّى بين من يعملون في الحقل الدينيّ، إلا أنّ الأخوة الإيمانيّة تعني، أن يشعر المسلم أنّه أخٌ لكلِّ مسلم، أخ بكلِّ ما في هذه الكلمة من معنى، إذا شعرت أنّك أَخٌ لأخيك لن تأكل ماله، لن تنال من عرضه، لن تحقره، لن تسلمه، لن تغتابه، لن تؤذيه أبداً، أشعِره أنّه أخ أقرب لك، إذا وجدت أسرةً متماسكةً جداً فكيف يكون شعور الأخ تجاه أخيه ؟ يتمنّى له كلّ خير، أولاً قال تعالى:

﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) ﴾

( سورة الحجرات: آية " 10 " )

  هذا التركيب اسمي أم فعلي ؟ أجيبوني، اسمي، ما معنى التركيب الاسمي ؟ إذا قلت: دخل أخٌ إلى الحرم، هذا التركيب فعلي، إذا قلت: فلان طويل، هذا التركيب اسمي فماذا يعني التركيب الاسمي ؟ يعني: الثبات والاستمرار، وماذا يعني التركيب الفعلي ؟ يعني: الحدوث والانقطاع.

 

العلاقة بين المؤمنين علاقة ثابتة ودائمة وأبديّة:

 

 ربّنا عزَّ وجلَّ وصف العلاقة بين المؤمنين بجملةٍ اسميّة، أي أن هذه العلاقة ثابتة ودائمة وأبديّة قال تعالى:

﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (10) ﴾

(سورة الحجرات: آية " 10 ")

  ما لم تشعر بهذه الأخوة فلست مؤمناً، وينبغي أن لا تنتمي إلى بعض المؤمنين، ولا إلى جماعةٍ، بل إلى مجموع المؤمنين، كُّل من عرف الله عزَّ وجلَّ وطبّق منهجه وسعى للدار الآخرة فهو أخوك حقّاً، لذلك قال الله عزَّ وجلَّ:

 

﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) ﴾

 

( سورة الشعراء: آية " 215 " )

  والآية الثانية:

 

﴿ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) ﴾

 

( سورة الحجر: آية " 88 " )

  الفرق بينهما الخصوص والعموم، أي تعليم، بالتبعيّة نحن نتعلّم، يجب أن تشعر بالأخوة تجاه كلّ مؤمنٍ على وجه الأرض كي تكون مؤمناً، وإلا فلست بمؤمن قال تعالى:

 

﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ أخواناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) ﴾

 

( سورة آل عمران: آية " 103 " )

نصوص من السُّنة الشريفة عن الأخوة في الله:

 والله أيُّها الأخوة هذا الحديث الذي سأتلوه على مسامعكم لا أشبع منه:

(( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرام، دمُه وماله وعرضه، التقوى ها هنا. وأشار إلى صدره الشريف ))

[ رواه مسلم عن أبي هريرة ]

  معنى العرض: موطن المدح والذمّ في الإنسان، أي أربى الربا أن تستطيل في عرض أخيك المسلم، تتكلّم عنه كلاماً غير صحيحٍ فقد بهتّه بقولك، ولو كان صحيحاً فقد اغتبته:

 

(( لا يؤمن أحدكم حتّى يُحبَّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ))

 

[ متفق عليه عن أنس]

  نصوص سهل علينا جداً أن نقرأها، وسهل أن نستمع إلى شرحها، لكنّ البطولة أن تعيشها، أن تحبّ لأخيك ما تحبّ لنفسك، لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه.

 

(( مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ))

 

[ أخرجه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير، واللفظ لمسلم ]

 وروى مسلمٌ في صحيحه أنّ الله تعالى يقول يوم القيامة:

(( أين المتحابّون في جلالي ؟ اليوم أُظِلُّهم في ظِلّي يوم لا ظِلّ إلا ظلّي ))

[ رواه أحمد عن أبي هريرة ]

أجمل ما في الحياة أن تنعم بأخ لك في الله يبادلك الود والوفاء والإخلاص:

 أيُّها الأخوة الكرام، والله أنا العبد الفقير حينما أرى الأخوة الكرام متعاونين، ومتحابّين، ومتماسكين، ويدافع بعضهم عن بعض، ويعاون بعضهم بعضاً، والله أشعر أنّ الله يحبُّنا جميعاً، وحينما أرى من بعضهم الحسد، والغيرة، والعداوة، والبغضاء، والطعن، والازدراء والله أشعر أنّ كلّ عملنا يحبطه الله عزَّ وجلَّ، وأنّ يدَ الله مع الجماعة، ومن شذّ شذَّ في النار، عليكم بالجماعة، عليكم بالأخوة الصادقة.
 والله لا أُبالغ إنّ أسعد ما في الحياة أن تنعم بأخٍ في الله يبادلك الود والوفاء والإخلاص والتعاون، وأنت قويٌ بأخيك والحياة بلا أُخوّة والله موحشة، الحياة لا تعاش بلا أخ في الله، كما أنّها لا تعاش بلا قيم فأجمل شيء في هذه الحياة أن ترى أخاً إلى جانبك، معك في السرّاء والضرّاء، واثقاً منك، يدافع عنك، يعينك.
 نماذج من مجتمع الصحابة الكرام، روى الحاكم في المستدرك أنّ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بعث بثمانين ألف درهم إلى عائشة رضي الله عنها وكانت صائمة وعليها ثوبٌ خَلِق، فوزّعت هذا المال من ساعتها على الفقراء والمساكين ولم تبقِ منه شيئاً، فقالت لها خادمتها: يا أُمّ المؤمنين ما استطعت أن تشتري لنا لحماً بدرهمٍ تفطرين عليه ؟ ‍قالت: يا بنيّتي لو ذكّرتني لفعلت.
 ثمانون ألف درهم أنفقتها على الفقراء والمساكين ونسيت نفسها، الآن معظم الناس يعيشون لذاتهم، كلّ نشاطه من أجل مصالحه الشخصيّة، لكن والله لا نسعد إلا إذا أسعدنا الآخرين، والله قد حدّثني طبيب قال لي كلمة أثّرت في نفسي: والله حينما أُجري عمليّة، أقسم بالله، وتنجح هذه العمليّة نجاحاً باهراً، وأرى البسمة والسعادة على فمّ أو على وجه المريض وأهله وأولاده من حوله، والله أشعر أنّي ملكت الدنيا.
 والله المؤمن الصادق إذا أدخل السرور على قلب أخيه المؤمن، حلّ له مشكلته، أو أعانه في موضوع معيّن، أزاح عنه كآبة، نفّس عنه كُربة، يشعر بحاله قد صار في السماء، فقد قال لي أخ صديق: أنا كنت أقود سيّارتي قادماً بها من الزبداني إلى دمشق في أحد أيّام الصيف، في الساعة الثانية عشرة ليلاً كان في دمّر، فرأى امرأة تحمل صغيراً وإلى جانبها رجل وكأنّهما في قلقٍ وحيرة، فأوقف سيّارته وقال لهم: أية خدمة ؟ كانت حرارة الطفل 41 درجة مئويّة، وهذا الزوج والزوجة غريبان عن البلد أثناء أحداث لبنان، فأخذهما إلى طبيب، ثمّ إلى مستشفى من أجل الحقن، وقال لي: وما انتهيت من عملي إلا في الساعة الرابعة من فجر ذلك اليوم أي أربع ساعات، ويقسم هذا الأخ الكريم أنّه بقي أسبوعين مغموساً في سعادةٍ لا توصف.

 

نماذج من المجتمع الإسلامي عن الأخوة في الله:

 

 

 قال النبيّ الكريم:

(( الخلق كلّهم عيال الله وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله ))

[رواه أبو يعلى عن ابن مسعود]

 إنّك لا تعرف لو أنت قدّمت وعاونت أخوانك أو عاونت البشر جميعاً، أو عاونت حتّى المخلوقات العجماويّة، كم تسعد ؟ السيّدة عائشة أعطت ثمانين ألف درهمٍ ووزّعتها على الفقراء والمساكين، ونسيت نفسها وهي صائمة.
 روى الطبرانيُّ في الكبير أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أخذ أربعمئة دينار فجعلها في صُرّةٍ وقال لغلامه: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجرّاح، ثمّ تشاغل في البيت ساعةً حتّى تنظر ماذا يصنع ؟ فذهب بها الغلام إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال أبو عبيدة: وصل الله عمر ورحمه، ثمّ قال: تعالي يا جارية اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، حتّى وزّعها كلها، ورجع الغلام إلى عمر فأخبره فوجده قد أعدّ مثلها لمعاذ بن جبل، فقال: اذهب بها إلى معاذ وتشاغل في البيت ساعة حتّى تنظر ماذا يصنع ؟ فذهب بها إليه فقال الغلام: يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله، تعالي يا جارية اذهبي إلى بيت فلان بكذا، وإلى بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ وقالت له: نحن والله مساكين فأعطنا، فلم يبق في الخرقة إلا ديناران فرمى بهما إليها، ورجع الغلام إلى عمر فأخبره، فسُرّ بذلك فقال: إنّهم إخوةٌ بعضهم من بعض.
 أخ من أخواننا الكرام له باع طويل في الأعمال الصالحة حدّثني قبل يومين قال لي: قبل اثنين وعشرين عاماً كنت ذاهباً إلى بيتي الساعة الثانية عشرة ليلاً رأيت سيّارة كبيرة فيها حاجات منزل، شيء يلفت النظر، فالإنسان ينتقل في النهار وينقل حاجاته في النهار، فلماذا في الليل في الساعة الثانية عشرة ؟ قال: تقدّمت من سائق السيّارة فعرفته، فسألته: ما القصّة ؟ قال: والله رجل أُخلي من بيته ونفّذ الحكم فيه، وليس له بيت، فهذه أغراضه نقلناها إلى بيتِ أهل زوجته والبيت صغير جدّاً لا يتّسع لها، يقول هذا الأخ الكريم وأقسم بالله لي: أنّه في هذه الليلة ما ذاق طعم النوم، إنسان حكم عليه بالإخلاء، وحاجاته كثيرة وليس لها مكان، أين ينام ؟ أين تنام زوجته ؟ أين ينام أولاده ؟ قال لي: في الليل فكّرت إن فلاناً غني وفلاناً وفُلاناً، فكتب ثمانية أسماء، وفي اليوم التالي ذهب إليهم واحداً تلو الآخر وأخذ من كل واحدٍ منهم خمسة آلاف، والقصّة قديمة جداً، فأصبح المجموع أربعين ألفاً، وقد جمعهم في نصف ساعة، ذهب إلى دكّانه وكان عنده شخص يأتيه أحياناً فقال له: هل حولك بيتٌ في المهاجرين ؟ لأنّ الشخص مُخلى في المهاجرين، فقال له: نعم فقد حضرنا أمس بازار بيتٍ ودفع ثمناً له تسعة وثلاثين ألفاً ولم يرض صاحبه فهو يريد أربعين ألفاً، ولكن البيت ممتازٌ، فقال له: قم وخذني إليه الآن، ذهب إليه فقال له صاحب البيت: أقلّ من أربعين ألفاً بليرة لن أبيعه، فقال له: هذه أربعون ألفاً واكتب عقد البيع القطعي، كتب العقد وأُخذ المفتاح، وذهب للذي أُخلي من بيته، وقال له: اذهب إلى هذا البيت وهذا مفتاحه وهذا عقد شرائه، طبعاً الذي باع البيت عندما علم بالقصّة دفع خمسة آلاف، أرجعها من ثمن البيت، قال لي: في أقلّ من أربع وعشرين ساعة، حوالي اثنتي عشرة ساعةً كانت قد حُلّت القضيّة.

 

فتح أصحاب النبي الكريم العالم بالرحمة التي في قلوبهم:

 

 

 عندما يرى ربّنا عزَّ وجلَّ أنّ الإنسان يحبّ أخوانه ويحبّ أن يخدم الناس فالله يعينه، الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، إذا كان في قلب الإنسان رحمة وأراد أن ينفع الناس، الله يمكّنه من نفعهم، يعطيك، لأنّه إذا أراد ربُّك إظهار فضله عليك، خلق الفضل ونسبه إليك، طبعاً سيّدنا عثمان بن عفّان الذي قال عنه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم.
 سيّدنا عثمان بن عفّان في عهد عمر أصاب الناس قحطٌ وشدّة، وكانت قافلة من الشام مكوّنة من ألف جمل عليها من أصناف الطعام واللباس، وحينما وصلت تراكض التجّار عليه يطلبون أن يبيعهم هذه القافلة فقال لهم: كم تعطونني ربحاً ؟ قالوا: خمسة في المئة، هذا عقد مرابحة، قال: إني وجدت من يعطيني أكثر، فقالوا: ما نعلم في التجّار من يدفع أكثر من هذا الربح ؟ قال لهم عثمان: إنّي وجدّت من يعطيني على الدرهم سبعمئة، إنّي وجدت الله عزَّ وجلَّ يقول:

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) ﴾

( سورة البقرة: آية: "261 " )

  أُشهدكم يا معشر التجّار أنّ القافلة، وما فيها من بُرٍ ودقيقٍ وزيتٍ وسمنٍ قد وهبتها لفقراء المدينة وأنّها صدقةٌ على المسلمين.
 ماذا يعني ألف جمل ؟ أي ألف شاحنة، فهل ألف شاحنة عدد قليل ؟ أحياناً تكون مسافراً تجد مجموعة شاحنات حوالي الخمسين كلّهم، وتمشي بجوارهم ولا ينتهون، فما قولك بألف جمل، وسيّدنا عثمان كان من كبار أغنياء الصحابة، بماذا فتح أصحاب النبيّ العالم ؟ بهذه الرحمة التي في قلوبهم، ولو تراحمنا لرحمنا الله عزَّ وجلَّ.

 

الدين المعاملة:

 

 توجد قصص مؤلمة جداً، كلّها قسوة، وتوجد قصص تنعشنا فيها رحمة، وهذه البلدة بلدةٌ طيّبة لا تخلو من أهل الخير.

(( لقد أتى علينا زمانٌ وما أحدٌ أحقُّ بديناره ودرهمه من أخيه المسلم ))

[البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما]

  أعرف بعض الأخوة الكرام لهم أخ فقير طالب علم، لم يجد عملاً، قاموا بزيارته، وطلبوا منه أن يشربوا، ذهب لإحضار الماء إليهم فوضعوا في جيبه بعضاً من المال ودون أن يشعر، ولا يدري من أين هذا المال ومن أين جاءه ؟ لم يقطعوه أبداً.
 هل لنا أعمالٌ كهذه، هل كان أخوك بحاجة فعاونته وأمددته بالمال، الحقيقة الدين هكذا، الدين المعاملة.
 يوجد عندنا شيء آخر، فأوّل شيء: يجب أن تغرس تقوى الله في نفس ابنك أو تلميذك، والشيء الثاني: يجب أن تغرس فيه الأخوة الصادقة مع أخوانه المؤمنين، فأنت عضو في جماعة، أنتم أُسرة واحدة ويؤكّد هذا أنّ فاطمة الزهراء رضي الله عنها طلبت من النبيّ خادماً لها فمن هو النبي ؟ سيِّدُ هذه الأمّة وأعلى إنسان فيها، أقوى إنسان، أي أنّه بإمكانه أن يعطيها أكبر بيتٍ وجيشاً من الخدم، فماذا قال لها ؟ قال: والله يا بنيّتي لا أؤثرك على فقراء المسلمين.
 معنى ذلك أنّ النبيّ عدّ المسلمين أُسرة واحدة، ولم يعطِ فاطمة شيئاً يزيد على فقراء المسلمين، قال: والله يا بنيّتي لا أؤثرك على فقراء المسلمين، لهذا قال النبيّ عليه الصلاة والسلام:

 

(( والله ما آمن، والله ما آمن، والله ما آمن من بات شبعان وجاره جائع إلى جانبه وهو يعلم.))

 

[رواه الطبراني عن ابن عباس]

حجم رحمتك بحجم اتصالك بالله:

 في الحقيقة قد يسأل سائل: الأخذ فيه لذّة، والعطاء فيه لذّة، فافحص نفسك إذا كنت تسعد بالعطاء فأنت من أهل الآخرة، وإذا كنت تسعد بالأخذ فقط فأنت من أهل الدنيا، والمؤمن الصادق يسعد بالعطاء.
 الشيء الثالث في التربية الاجتماعيّة: أن نغرس في نفوس أبنائنا أو طلاّبنا الرحمة، وكما أقول لكم دائماً إذا وجد للرحمة مؤشّر، وللإيمان مؤشّر، هذان المؤشّران يتحرّكان معاً، فمؤشّر الرحمة يتحرّك مع مؤشّر الإيمان، فأنت ترحم الناس بقدر ما في قلبك من الإيمان، وكلّما ضعف الإيمان ضعفت الرحمة، فإذا أردت أن تعرف مستوى إيمانك فانظر إلى الرحمة التي في قلبك.
 سأستدرك عليكم هذه الحقيقة، فالرحمة ليست لأولادك فهذا شيء بديهي وفطرت عليه وقد أودعه الله فيك كي تستمرّ الحياة، فأي أم فاسقة أو فاجرة أو مستقيمة أو مؤمنة، متعلّمة أو جاهلة، مثقّفة أو غير مثقّفة، الأم أم، لكن الذي أتحدّث عنه لا أن ترحم أبناءك، بل أن ترحم الناس جميعاً، الرحمة العامّة، طبعاً هذه الرحمة تقتبس من الله في أثناء الاتصال به، فأنت رحيم بقدر اتصالك بالله عزَّ وجلَّ، أي أنّ حجم رحمتك بحجم اتصالك بالله:

((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء))

[رواه الترمذيّ وأبو داوود أحمد عن عمرو بن العاص ]

 الحديث الآخر المخيف يقول عليه الصلاة والسلام أيضاً في ما رواه الإمام الترمذيّ وأبو داوود، فكلّما كانت القسوة موجّهة إلى إنسان ضعيف فالجرم أكبر، أي أنّ المرأة ضعيفة أحياناً فممكن أن تضربها ضرباً مبرحاً، أو أن تطردها من البيت ليلاً ولا أحد معها، فمعنى ذلك أنّ الإيمان معدومٌ، صفرٌ، المؤمن رقيق القلب، لا يحتمل أن يرى مشقّةً على إنسان، والحديث الثالث الدقيق رواه الإمام الطبراني:

 

(( لن تؤمنوا حتّى تراحموا. قالوا: يا رسول الله كُلُّنا رحيم. قال: ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكنّها رحمةُ العامّة ))

 

[رواه الطبراني عن أبي موسى ]

من لا يَرْحم لا يُرحم:

 

 أنت رحمتك ليست لابنك، بل للصانع الذي يعمل عندك في المحل، هل ترحمه وتريحه قليلاً من مشقّة العمل، هل تعطيه شيئاً من حقوقه ؟ هل تسمح له بأن يدرس ؟ أم تقول: إذا تعلّم الصانع يهرب من عمله، خيراً إن شاء الله، لماذا تريد أن يكون ابنك طبيباً وتعطيه دروساً خاصّة بثلاثين ألف ليرة، لا شيء عليك فهذا ابنك، إذا كان عندك إمكانيّة ترحم ابنك فقط وتقسو على الناس، إذاً أنت لست مؤمناً على الإطلاق ضع عباداتك بالحاوية وارتح، فما معنى مؤمن ؟ معناها أن يكون عندك رحمةٌ على الناّس كرحمتك على أولادك، هل عندك استعداد أن تعامل زوجة ابنك كابنتك في البيت ؟ إذا فعلت فأنت مؤمن، هل ترحمها وتقدّر ظروفها، تتغافل عن أخطائها، وتحسن الظّن بها، أم يكون حساباً عسيراً لزوجة الابن وتسامحاً لابنتك، فهذا الكلام ليس معقولاً، معنى ذلك لا توجد رحمةٌ إطلاقاً.
 أخواننا الكرام حتّى لا يضيّع أحد وقته فليمتحن نفسه بالرحمة، فإذا لم توجد الرحمة فالطريق إلى الله مسدودة، إن لم ينفطر قلبك لرؤية منظر البؤس والشقاء والحرمان وأنت تعيش في بحبوحة فو الله ليس لك عند الله شيء، إلى أن تعطي، إلى أن ترحم، إلى أن تقدّم من ذات نفسك، لو أنّ المسلمين الذين كانوا في عهد النبيّ فعلوا كما يفعل النّاس اليوم، تجد شابّاً يتلوّى على غرفة ليتزوّج فيها، وتجد بالمقابل سبعمئة ألف بيتٍ مغلقاً، تجد قصراً أو فيلا في منطقة اصطياف كلّفت ثلاثين مليوناً من أجل أسبوعين فقط، وثلاثين ألف شابٍّ يتمنّون غرفة خارج دمشق ولا يجدون.
إذا لم نتراحم فالمشكلة ستصبح كبيرة جدّاً، الأغنياء أوصيائي والفقراء عيالي، فمن حرم مالي عيالي أذقته عذابي ولا أُبالي.
 إذا لم نتراحم ونُؤمّن أولادنا وشبابنا، وزوّجناهم، وأمّنا الأعمال لهم وتساهلنا قليلاً، فقد ذكرت لكم مرّةً عن بنتٍ وقفت أمام أبيها وهو في النزع الأخير وقالت له: حرََمك الله الجنّة كما حرمتني من نعمة الأولاد، لم يكن يوافق على أي زوج يتقدم لها، فهو يريد زوجاً يفتخر به، فلم يجد ذلك الزوج فبقيت ابنته عانساً، فالأب يجب أن يرحم ابنته، وأن يرحم أولاده، يرحم من يعمل لديه في المعمل، أو إذا عنده موظّفون في المحل التجاري، فهذا إنسان له مشاعر ويحتاج إلى أشياء أساسيّة، تقول: يكفيه ما أعطيه من المال، فهل يكفيك أنت هذا الراتب ؟ قال لي أحدهم: والله أنا أشتري لصاحب العمل باليوم ما يساوي معاشات سنة، يعطيه معاشاً ثلاثة آلاف في الشهر، وأنا موكّل بشراء الحاجات له، فأنا أشتري له في يومٍ واحدٍ ما آخذه منه في عامٍ، فإذا الإنسان لم يرحم فالله لا يرحمه، كن منصفاً ورحيماً فالمكسب أن تكسب أخاك، فأخوك هو المكسب.

المغفرة ليست على حجم العمل بل على حجم النوايا:

 

 هل تصدّقون أنّ امرأةً بغيّاً قد غفر الله لها لأنّها سقت كلباً، رحمت كلباً يأكل الثرى من العطش، قالت: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل ما بلغني، نزلت البئر وملأت خُفّها ماءً وسقت الكلب، فغفر الله لها، قد تقولون: هل يعقل ذلك ؟ المغفرة ليست على حجم العمل بل على حجم النوايا، فلقد رقّ قلبها لهذا الكلب فسقته، فكانت توبتها بهذا، وعند الله الصلحة بلمحة.
 بالمقابل امرأةٌ حبست هرّةً حتّى ماتت، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، هذه المرأة استحقّت النار.

(( دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ ))

[ مُتَّفَقٌ عَلَيْه عن ابن عمر رضي الله عنهما ]

   رأى عمر رجلاً يسحب شاةً برجلها ليذبحها، فقال له سيّدنا عمر: ويلك، قُدها إلى الموت قوداً جميلاً، أحياناً تجد بعض القصّابين قاسياً جدّاً يسحب الشاة من رجلها ورأسها على الأرض ليذبحها، ويقول: سنذبحها وإن تألمت.
 عندما رأى النبيّ عليه الصلاة والسلام رجلاً يذبح شاةً أمام أُختها وبّخه، وقال:
 هلاّ حجبتها عن أُختها أتريد أن تميتها مرّتين.
 من نماذج الرحمة التي في قلب المسلمين، كلّكم تعرفون سيّدنا صلاح الدين، جاءته امرأةٌ من العدو فقدت وليدها، فوقف ولم يجلس حتّى عاد وليدها فهي أم وإن كانت عدوة.
 أيُّها الأخوة الكرام، من أمثلة الرحمة التي كانت في قلوب المسلمين ولعهم بالأوقاف الخيريّة، فمثلاً ماذا تعني كلمة المرجة ؟ كانت هذه الأرض مرجاً من الحشائش وكان المرج وقفاً لكلّ دابّةٍ مريضة تأكل وتشرب وتستريح، كذلك كان يوجد وقفٌ للكلاب الضّالة توضع في أماكن مخصوصة للرعاية استنقاذاً لها من عذاب الجوع حتى تستريح بالموت، وقف الأعراس، كان بعض رجال الخير يقفون ثياباً فخمة وحلياً للفقيرات حين الزواج، فترتدي أفخر الثياب وأجمل الحلي، وهذه تنتقل من فتاة إلى فتاة، وقف العصرونيّة كان كلّ غلام أو خادم سيده قاسٍ جدّاً، وكُسِر معه إناء فيأخذ قطعةً من الإناء المكسور للوقف فيعطوه إناءً جديداً وبذلك قد حُلّت مشكلة، فأحياناً كسر آنية يسبب مشكلةً كبيرة جدّاً.
 توجد أوقاف كثيرة منها: إطعام الجياع، وسقاية الظمآن، وكسوة العاري، إيواء الغريب، ومعالجة المريض، وتعليم الجاهل، ودفن الميّت، وكفالة اليتيم، وإغاثة الملهوف، ومواساة العاجز، والآن في الحقيقة عندنا مشاريع طيّبة جداً، فأنا في رمضان الماضي قد زرت ميتمين، والله شيء يدعو للفخر، وشيء جميل جدّاً، بناء حديث وأسرّة، وقاعات للطعام، وللتدريس، فيتلقّى هذا اليتيم أعلى درجةٍ من العناية , ويوجد أهل خير كثيرون، وهذا دليل الرّحمة فإذا نحن تراحمنا فالله يرحمنا جميعاً , وإذا لم نتراحم نستحقُّ سخط الله جميعاً.

 

أساس التربية الاجتماعية التقوى والأخوة الإيمانية والرحمة:

 

 

 أيُّها الأخوة درس اليوم التربية الاجتماعيّة أساسها التقوى، وأساسها الأخوة الإيمانيّة، وأساسها كذلك الرحمة، فإذا توافرت التقوى أي طاعة الله، وأن يقف الإنسان عند أمر الله ونهيه، وأن يشعر بأُخوّته للمؤمنين، وأن يكون قلبه رحيماً، فشيء طبيعيّ جدّاً أن ترى الحياة الاجتماعيّة قطعةً من الجنّة، لذلك فقد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم:

(( إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأمركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلائكم، وأمركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها ))

[ الترمذي عن أبي هريرة ]

  لا تقل: إنّ كلّ الناس قد فسدوا، فمن قال هلك النّاس فهو أهلكهم، لا فالبُنية بخير، والله يوجد أُخوة كرام وطيّبون ينفقون أموالهم بالليل والنهار ـ وأعرف ذلك ـ ومتواضعون، ولا يحبّون أن يعلم بهم أحد، هذه بلدةٌ طيّبة، يقول عليه الصلاة والسلام:

 

(( رأيت عمود الإسلام قد سلّ من تحت وسادتي، فأتبعته بصري فإذا هو بالشام ))

 

[ الطبراني والحاكم عن ابن عمرو ]

(( الشام صفوة الله من بلاده، إليها يجتبي صفوته من عباده فمن خرج من الشام إلى غيرها فبسخطة، ومن دخلها من غيرها فبرحمة ))

[الجامع الصغير عن أبي أمامة رضي الله عنه بإسناد ضعيف]

(( فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى بأرض يقال لها: الغوطة، فيها مدينة يقال لها: دمشق، خير منازل المسلمين يومئذ ))

[ رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد عن أبي الدرداء]

  طوبى لمن له فيها مربط شاة، فنحن بخير والحمد لله، لكن يجب أن ننمّي هذا الخير، ننمّي العلاقات، ننمّي الأخوة، أن نزيد اتصالنا بالله عزَّ وجلَّ حتّى تزداد الرحمة في قلوبنا، حتّى نتراحم، هذا الذي أرجو الله سبحانه وتعالى أن يكون واضحاً عندكم.
 لا زلنا في موضوع التربية الاجتماعيّة، وهناك موضوع الإيثار نبحثه في الدرس القادم إن شاء الله تعالى، وموضوع العفو، وموضوع الجرأة، وهذه كلُّها تحت موضوعٍ واحد، غرس الأسس النفسيّة للطفل حتّى يكون أهلاً لأن يعيش الحياة الاجتماعيّة، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علّمنا، وأن يُلهمنا تعليم النّاس الخير.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور