وضع داكن
18-04-2024
Logo
الدرس : 46 - سورة الأنعام - تفسير الآيات 116 ـ 118 ، دع الخلق لخالقهم ـ الفرق بين موت الدابة وبين ذبحها
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس السادس والأربعين من دروس سورة الأنعام، ومع الآية السادسة عشرة بعد المئة، وهي قوله تعالى :

﴿  وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴾

[ سورة الأنعام ]


ضابط معرفة الحق : نعرف الرجال بالحق


 الانطباع الأول قبل التدقيق في كلمات الآية أن الحق لا يُقاس بعدد المتّبعين له، قد يكونون أقلّيّة، وأن الحق لا يتأثر لا باتساع رقعته، ولا بضعف رقعته، وقد يكون الواحد الذي عرف الحق، واستقام على أمر الله جماعة، وقد تكون الملايين المملينة فرداً، فالمقياس هو الحق .

 سيدنا علي كرم الله وجهه يقول : << نحن نعرف الرجال بالحق، ولا نعرف الحق بالرجال >> .

 الأصل هو الحق، لكن ثمّة ظاهرة استشرت أنّ الإنسان حينما يتوهم أن هذا القول قاله فلان إذاً هو صحيح، ليس على وجه الأرض إنسان يُعد كلامه دليلاً، ما على وجه الأرض إنسان إلا ويحتاج فيما يدّعيه إلى دليل، ولولا الدليل لقال من شاء ما شاء، ديننا دين علم ودين دليل، لكن واحداً هو سيد الخلق وحبيب الحق كلامه هو الدليل، لأنه :

﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4) ﴾

[  سورة النجم  ]

 لأن الله عصمه من أن يخطئ في أقواله، وأفعاله، وإقراره، لأنه مُشرِّع والدليل :

﴿ مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)﴾

[  سورة الحشر  ]

 لأن الله عصمه، وجعله مُشرِّعاً، فكلام النبي صلى الله عليه وسلم هو الدليل، لكن غير النبي لا يمكن أن يكون كلامه دليلاً، إلا أن يأتي بالدليل ، ولأن : 

((  هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم  ))

[  أخرجه الحاكم في المستدرك عن أنس ]

 ولأن ملايين القضايا في حياة الإنسان لا تعد مصيرية، بيتٌ نُصحت به فلم يكن جيداً، أو تجارة نُصحت بها فلم تنتفع بها، لا مشكلة، لكن الدين مصيري، الدين أي الأبد، الدين أي نعيم مقيم، أو عذاب لا ينتهِي، لذلك ثمة فرق في حياتك بين ما هو عارض وهو مصيري . 


وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه


 إذاً الآية الكريمة : 

﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ لا تعبأ بالأكثرية، لا تعبأ بما يسميه العلماء بالخطَّ العريضَ في المجتمع، لا تكن مقلداً، لا تكن إمّعة، تقول: أنا مع الناس، إن أحسنوا أحسنت، وإن أساؤوا أسأت، لا تكن كذلك، ولكن كن حراً، تحرك وفق قناعاتك، اعتمد الدليل، لا تقبل شيئاً من دون دليل، ولا ترفض شيئاً من دون دليل، ولولا الدليل لقال من شاء ما شاء، إنْ كنت ناقلاً فالصحة، وإن كنت مبتدعاً فالدليل، هذا الانطباع الأول . 

﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ من هم؟ البشر، بنو الإنسان، المكلفون، الذين كلفهم الله عبادته، المخيرون، الذين أُودعت فيهم الشهوات، الذين سُخّرت لهم ما في الأرض والسماوات، الذين أُعطوا العقل، أُعطوا الفطرة، أُعطوا الشهوة ، هؤلاء المكلفون، هم المعنيون بقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أيها الإخوة، لماذا؟ يعني لو تصورنا أنبوبًا طويلا، وله مضخة، لو أن ثقباً في هذا الأنبوب قريب من المضخة، واستخدمت المضخة، فالماء يستسهل الثقب القريب، ويخرج منه، ولا يصل إلى آخره ، وهذا شيء طبيعي . 


لوازم الاستقامة على أمر الله


 إن سبيل الله يحتاج إلى فهم، يحتاج إلى ترجيح العقل، يحتاج إلى ضبط الشهوة، يحتاج إلى صبر، يحتاج إلى نفس طويل، يحتاج إلى أن تنقل اهتماماتك لِما بعد الموت يحتاج إلى إيمان، يحتاج إلى إرادة، لكن طريق الشيطان طريق سهل جداً، يكفي أن تطلق بصرك، وأن تسترخي، وأن تأكل ما تشاء، وألا تدقق في الحسابات، أي شيء دخل إلى جيبك فهو لك، يكفي أن تصل إلى مبلغ ضخم بالكذب والاحتيال، يكفي أن تمارس كل الشهوات من دون قيد أو شرط، هذا طريق النار، لذلك سبيل الله يحتاج إلى فهم عميق، وإلى إيمان دقيق وإلى إرادة، وإلى ترجيح العقل على الشهوة، وإلى ترجيح الهدف البعيد على الهدف القريب. 


وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه


﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ طريق الشهوة قريب، وسريع، لذلك الذي أهلك الناس أنهم الآن يعيشون لحظتهم، وفي الإنسان شهوات، وهذه الشهوات يمكن أن تمتعه دون أن ينظر إلى العواقب .

 إخواننا الكرام، فكرة دقيقة جداً ذكرتها عشرات المرات، لكن هنا لا بد من ذكرها : 

 أنت ذاهب إلى حمص في أيام الشتاء، في أيام البرد، إذا بلوحة لا تزيد على ثلاثين سنتيمتراً، وعرضها عشرة سنتيمترات، كُتب عليها: " الطريق إلى حمض مغلقة في النبك بسبب تراكم الثلوج " لو قرأ اللوحة ألف إنسان يقصد حمصَ بالذات، ماذا يفعل؟ يرجع، لو أن دابة تمشي أين تقف؟ عند الثلج، ما الذي حكم العاقل؟ النص، ما الذي حكم الدابة ؟ الواقع .

 أقرب مثل لنا: المدخن متى يدع الدخان؟ حينما يُصاب بورم خبيث في رئتيه، فقط، أو حينما تأتيه جلطة، أو خثرة، أو احتشاء، الآن يوقف الدخان، ما الذي حكمه؟ الواقع، أما العاقل فيكفي أن يقرأ مضار التدخين، أو حكم الشرع في التدخين، حتى يقلع عنه قبل أن يصاب بأمراض خبيثة .

 احفظ هذه القاعدة: إن كان النص هو الذي يحكمك فأنت عاقل، وإن كان الواقع فأنت دون المستوى المطلوب، والذي يوقع الناس في شر أعمالهم أنّ الواقع حكمهم، ولم يحكمهم النص

على مستوى الصحة، لا تبتعد كثيراً، يأكل الرجل ما يشتهي بلا مراعاة لسنه، ولا للدسم ، ولا لنوع الطعام، ولا يمارس الرياضة، يعيش هكذا، فجأة يصاب بخثرة في الدماغ، تأتيه رسالة من أبعد بلد أن خفف وزنك، هذا الذي يتحرك بلا قيد، ولا شرط، ولا قاعدة، ولا هدف، هذا إنسان يحكمه الواقع،  عطل عقله، لذلك الآية الكريمة : 

﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ من المكلفين ﴿يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ لأن الطريق الجنة محفوف بالمكاره ، وطريق النار محفوف بالشهوات. 

 والمثل: أنبوب طويل فيه مضخة، وفيه ثقب إلى جانب المضخة، هذا الثقب ثقب الشهوات، فإذا استخدمت المضخة فالماء يختصر الطريق، ويخرج من الثقب لأنه أهون طريق، أما إذا كان هذا الثقب مغلقًا، واستخدمت المضخة يصل الماء إلى نهاية الأنبوب ، 

﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ لماذا ؟ قال ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾


إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ


 وقد تحدثت كثيراً على أن هناك وهماً هو أقلّ من الشك، 30 %، والشك 50 %، والظن 90% ، أو 80 %، لكن القطع 100 %، فالعلم مقولة مقطوع بصحتها 100 %، تُطابِقُ الواقع، عليها دليل، فإن لم يكن مقطوعاً بصحتها فهي وهم، وشك، وظن ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾ وإن لم تطابق الواقع فهي الجهل، وإن لم يكن معها دليل فهو التقليد، والعلم ليس شكاً، ولا وهماً، ولا ظناً، ولا تقليداً، ولا يناقض الواقع ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾ الآن هذا الظن أي ظن ؟ 

﴿  إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ(20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(21)  ﴾

[  سورة الحاقة  ]


طبيعة الظن ومتعلّقاته


 هذا الظن المتعلق بالهوى، يعني هوى الإنسان وشهوته أمْلت عليه أن تمتّعْ بالحياة، ودعك من التوبة الآن، معك وقت طويل تتوب فيه، إذاً: يزيّن الشيطان للإنسان المعصية، فيستخدم الظن المتعلق بشهوته، والظن هنا يبرز إيجابيات المتعة، ويخفي عنك الأخطار الوبيلة من اتباع الشهوة، وهذا كان الحديث عنه في درس سبق .

﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا شَيَٰطِينَ ٱلْإِنسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍۢ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(112) ﴾

[  سورة الأنعام ]

 يظهِر الإيجابيات الحسية، ويعتم على الأخطار المهلكة، لكنك لو دققت في الآية لوجدت شيئاً آخر، هذا الشيء الآخر مأخوذ من آية أخرى . 


معنى قوله : أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ


 حينما تسمع قوله تعالى : 

﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ﴾ ليس معنى ذلك أنه بقي الأقلية، هذا معنى جديد، والطرف الآخر أيضاً كثيرون، فكلمة: ﴿أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ لا تعني أن ما يقابلها قلة، والدليل:

﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُۥ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ ۗ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكْرِمٍ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ(18)﴾  

[  سورة الحج ]

 كلمة: ﴿كَثِيرٌ﴾ لا تعني أن الطرف الآخر قليل، هذا من باب التفاؤل، كثير وكثير، لذلك هناك كلمات تُكتب على مداخل بعض البلاد، هذا الكلام: أنه يا من دخلت هذه البلدة مثلك كثير، فإن كنت صالحاً فمثلك كثير، وإن كنت فاسداً فمثلك كثير .

 يعني مرة صلى أخ كريم من الخليج في جامع في دمشق أُلقي فيه درساً، لفت نظري أن هذا الإنسان صالح، سأل عن دروس العلم في الشام، عن المساجد، عن العلماء، عن المكتبات، قلت: سبحان الله ‍‍‍‍‍‍! يأتي إنسان إلى الشام متوهماً أن فيها فاحشة في بعض الأحياء، ويأتي إنسان آخر ليطلب العلم في الشام، يا من دخلت دمشق مثلك كثير، والذي يأتي للمتعة كثيرون، والذين يأتون لطلب العلم أيضاً كثيرون، هذا يرفع معنوياتنا : 

﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ لا يعني هذا أن الباقين قلة، قد يكونون كثرة، ثم يقول الله عز وجل : 

﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾ (إِنْ) هنا نافية .

﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ(10) ﴾

[  سورة إبراهيم  ]

 يعني ما ﴿أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾ ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ لذلك قد يكون اتباع الظن في شؤون الدنيا مقبولاً، لأن الدنيا تنتهي، لكن اتباع الظن في شؤون الآخرة هو اتباع مُدمّر مُهلك.

 يعني مثلاً تنجح من الصف السابع إلى الثامن، أول، ثاني خامس، آخر، نجحت، إلا أن الشهادة الثانوية مجموع العلامات تحدد لك مصيرك، فهناك علامات تكون بها طبيبًا، وعلامات تكون بها صيدليًّا، وعلامات تكون بها مهندسًا، فهناك صف واحد في التعليم الثانوي مصيري، يحدد لك مصيرك في الحياة، بكلية عليها إقبال شديد، أو كلية حاملو الشهادات منها ليس لهم عمل. 

﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴾ أي يكذبون، يكذبون على أنفسهم .

﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّآ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ(23) ٱنظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ ۚ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ(24)  ﴾

[ سورة الأنعام ]

 الإنسان في الدنيا يكابر، ويماحك، ويداهن، ويحابي، ويكذب، لكنه يوم القيامة يكتشف الحقيقة، وهل من إنسان بلغ كفره كفر فرعون؟ الذي قال :

﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَٰٓأَيُّهَا ٱلْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى يَٰهَٰمَٰنُ عَلَى ٱلطِّينِ فَٱجْعَل لِّى صَرْحًا لَّعَلِّىٓ أَطَّلِعُ إِلَىٰٓ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّى لَأَظُنُّهُۥ مِنَ ٱلْكَٰذِبِينَ(38) ﴾

[  سورة القصص ]

 هذا كفر، بل هو أشد أنواع الكفر، لكن بعد قليل قال كفراً أشد، قال :

﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى(24)  ﴾

[  سورة النازعات  ]

 هو نفسه حينما أدركه الغرق قال :

﴿ وَجَٰوَزْنَا بِبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُۥ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱلَّذِىٓ ءَامَنَتْ بِهِۦ بَنُوٓاْ إِسْرَٰٓءِيلَ وَأَنَا۠ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ(90) ﴾

[  سورة يونس  ]

 إذاً كُشف عنه الغطاء فكان بصره حديداً: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾

 

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين


﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(117) ﴾

[  سورة الأنعام ]

 إخواننا الكرام، هناك حقيقة دقيقة: الناس الذين حولك لا يعرفون عنك إلا ثلث مكنوناتك: 


طبيعة مكنونات الإنسان وأثرها في تقييم الناس


 يعني أنت أولاً ذكر، ولست أنثى، هذا معروف، أنت تحمل شهادة عليا، مثلاً أنت مهندس، لك مكتب، ولك وظيفة، طويل القامة، أبيض اللون، هذا يعرفه الناس عنك، لكن هناك ثلثا مكنوناتك لا يعرفها أحد، أما التي معك في البيت فربما عرفتْ الثلث الثاني، والذي معك في العمل ربما عرف الثلث الثاني، لكن يبقى ثلث من شخصيتك لا يعلمه إلا الله، مهما كنت ذكياً، ومهما كنت باحثاً اجتماعياً، ومهما كنت محللاً نفسياً، ومهما كنت ذا نظر ثاقب لا تعرف مِن الذي أمامك إلا الثلث، وزوجته وأقرباؤه الذين معه يوماً بيوم، جيرانه، من سافر معه، من شاركه في الدرهم والدينار يعرفون الثلث الثاني، أما الثلث الثالث فلا يعلمه إلا الله، لذلك لا تتسرع وتحكم، دع تقييم العباد لله عز وجل، تقييم العباد ليس من شأنك، من شأن الله وحده، والإنسان أحياناً كلما ازداد ذكاؤه أتقن التمثيل، فقد يخدع معظم الناس لبعض الوقت، وقد يخدع بعض الناس لكل الوقت، أما أن يستطيع الإنسان أن يخدع كل الناس لكل الوقت فهذا مستحيل، أما أن يخدع خالقه، أو أن يخدع نفسه التي بين جنبيه ولا لثانية واحدة .

﴿ يَوْمَئِذٍۢ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ (18) ﴾

[  سورة الحاقة  ]

﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ(15) ﴾

[  سورة القيامة  ]

 إذاً: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾

﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِنۢ بَعْدِ نُوحٍۢ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ خَبِيرًۢا بَصِيرًا (17) ﴾

[  سورة الإسراء ]

 استرح وأرح، لا تقيّم أحداً، لا تكفّر بالتعيين، مسموح لك أن تكفر من دون تعيين، كيف؟ من قال: إن الله لا يعلم فقد كفر، من أنكر فرضية الصلاة فقد كفر، لكن النبي علمنا صلى الله عليه وسلم أن صحابته الكرام في مرات عديدة لعنوا شارب الخمر، هكذا مطلقاً، لكن مرة جِيء للنبي صلى الله عليه وسلم بشارب خمر، فلعنه الصحابة، فغضب النبي عليه الصلاة والسلام، فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ 

((  أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا ، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا ، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : اللَّهُمَّ الْعَنْهُ ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَلْعَنُوهُ ، فَوَ اللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ  ))

[ البخاري ]

 فأنت لست مُكلّفاً أن تقيّم الناس، هذا ليس من شأنك، ولا من اختصاصك، ولا من إمكانك، ولا يتعلق به علمك، أنت ترى الظاهر، أنت تحكم بعلانية الناس، أما سرائرهم فينبغي أن تكِلَها إلى الله عز وجل، أنت لك الظاهر. 

أضرب هذا المثل دائماً: ثمة إنسان من أهل الغنى، وله آلاف الدُّنمات، جاء من يهمس في أذنه أنك إذا تبرعت من آلاف الدنمات بدنم واحد ليُنشأ عليه بيت من بيوت الله اضطُرت البلدية أن تنظم أرضك، وأن تجعلها مقاسم، فإذا كانت مقاسم تضاعف سعرها، وقد يكون صاحب الأراضي هذا لا يصلي إطلاقاً، ولم يُدخل الدين في حساباته إطلاقاً، ولم يعرف الله إطلاقاً، ولم يبتغِ الجنة إطلاقاً، لكنها فكرة تجارية، أنه إذا تبرع بدنم لمسجد تضطر البلدية أن تنظم أرضه إلى مقاسم، وإذا نُظمت إلى مقاسم تضاعف ثمنها، أما الناس فيقولون: ما شاء الله ! بارك الله به! إنسان محسن كبير، ماذا يعرفون ؟ لذلك لست مؤهلاً أن تحكم على أحد إلا بحالة مستحيلة، أن يكون لك علم كعلم الله .

 يعني هناك بعض الأمثلة مأخوذة من السيرة: رجل مع رسول الله في القتال، النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه: إنه من أهل النار، هذا من إعلام الله له، وقد أصيب بجراح، فجاء بسيفه، ووضعه على الأرض ، وانحنى عليه حتى قتل نفسه، أنت لا تعلم هذا الذي يفعل لماذا يفعل ، لذلك :

 عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : 

((  إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ  ))

[  متفق عليه  ]

 أنا لا أجيب عن أي سؤال متعلق بتقييم شخص، أقول دائماً: تقييم الأشخاص من شأن الله وحده، وإياك أيها الإنسان، ثم إياك، ثم إياك أن تتورط في تقييم الأشخاص، لكن أن ترى إنسانًا شارب خمر أمامك، وتقول: هذا وليّ، لا، هذا أيضاً لعب بدين الله، هذا عاصٍ، لكنه قد يتوب، ويسبقك، وهذا ممكن، فلا تتكبر على عاصٍ، لعل الله يغفر له، أو لعل الله يحمله على التوبة، أو يسوق له شدة يحمله على التوبة، فيسبق الذي عيّره بهذه المعصية

 لذلك ما قرأت كلمة لنبي كريم تعرّض لإغراء النساء كسيدنا يوسف، قال :

﴿  قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ(33) ﴾

[  سورة يوسف  ]

 أرأيت إلى هذا التواضع، أرأيت إلى هذا الافتقار إلى الله عز وجل؟ ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ إذاً : 

﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾


دع الخلق لخالقهم


 أرح واسترح، لا تقيّم الأشخاص أبداً، لكن إن رأيت إنسانًا يعصي الله أيضاً فينبغي ألّا تنزلق إلى كلام العوام: لعله وليّ، لا نعرف ، هذا كذب، ولعب بدين الله، ويسبب إرباكاً في تقييم النفس، هذه معصية، والمعصية معصية، والطاعة طاعة، لكن نحن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر، وأنت لست مكلفاً إطلاقاً أن تسبر أغوار نفسه، ولا أن تحلل، من أنت؟ هل أنت وصي عليه ؟ أنت لست وصيًّا عليه، ولست وصياً عن أحد، أنت عليك من نفسك، وعليك أن تطيع الله عز وجل، وأن تتعرف إليه، ودع الخلق لخالقهم . 


إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ 


﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ﴾ هو أعلم منك، ومن كل الناس، ومن الخلق أجمعين، ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ لذلك هذه الخلافات بين الأمم، والشعوب، والحضارات، تارةً يقال: صراع الحضارات، وتارة يقال: حوار الحضارات، وتارة: 

وكل يدعي وصلاً بليلى  وليلى لا تقر لهم بذاكا

* * * 

 وهذا الحوار، وتلك الخصومات، وقد ورد في بعض الآيات الكريمة :

﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّٰبِـِٔينَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلْمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ شَهِيدٌ(17) ﴾

[  سورة السجدة  ]


تربص الطرف الآخر بالمسلمين


 ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ الآن هناك مشكلة، ولا بد من تمهيد لها، وهو: أن الطرف الآخر المعاندين، الكفار، المشركين، الملحدين، الطرف الآخر يتربص بالمؤمنين، كلما نطق مؤمن بكلمة يتصيدون ثغرة في كلامه، ويكبرونها، ويقيمون الدنيا، ولا يقعدونها، تحدثت مرة:

قلت امرئ في بلدة جريمة لا تغتفر  وقتل شعب مسلم مسألة فيها نظر 

* * *

 يعني هناك تصيد، وهناك قنص، وهناك رغبة في أن يبحث الطرف الآخر متوهماً عن ثغرة في الدين فيقيمون الدنيا، ولا يقعدونها، والأمثلة الآن لا تعد ولا تحصَى .

 إذا قال المسلم: لا إله إلا الله لا ينجو من النقد، طائرة الصندوق الأسود سجل ربانها كلمة: "توكلنا على الله " ، ثم سقطت، اعتبروا كلمة " توكلنا على الله " أنه إرهابي، وأنه هو الذي أسقط الطائرة، ربّانها، طائرة مصرية عليها عدد كبير من الخبراء العسكريين، وقد ترجح الروايات أنها أُسقطت من جهة معادية، لكن كلمة توكلت على الله لربان الطائرة عدّت سبباً مبرِّراً إلى أنه هو الذي أسقطها .

 فالطرف الآخر دائماً يتهيأ لاقتناص الثغرات، فيما يقال في جانب الحق، الآن هؤلاء المشركون يقولون: كيف تأكلون ما قتلتم أنتم، ولا تأكلون ما قتل الله؟ هم عدوا الموت قتلاً من الله، وعدوا الذبح قتلاً بأيدينا، فالذي تذبحونه من البهائم من الأنعام تأكلونه حلالاً طيباً، أما إذا ماتت الدابة لا تأكلونها، ما هذا التناقض؟ والحقيقة أن هناك نقطة دقيقة جداً يُفرَّق بها بين الموت والقتل، أوضح مثل :

 المصباح الكهربائي، لو أنك قطعت عنه الكهرباء ينطفئ، لأنك قطعتَ عنه الطاقة الممدة له فانطفأ ـ هذا هو الموت ـ أما إذا كسرت هذا المصباح فالطاقة موجودة، لكنك أتلفت بنية المصباح ـ هذا هو الذبح ـ هم لم يفرقوا بين القتل والذبح، ذلك أن الموت انقطاع الإمداد الإلهي، فالجسم كامل، لو كان الإنسان مضطجعًا على ميزان، ووافته المنية وهو على الميزان لا يقلّ وزنه ولا واحد بالمليون من الغرامات. 


الحكمة من تذكية الذبيحة ومضار الصعق الكهربائي


 أيها الإخوة الكرام، النقطة الدقيقة في الموضوع تحتاج إلى تفصيل: ذلك أن في الإنسان جهازاً سأصفه لكم، ومثله في الحيوان الذي نأكل منه، إذا رأى الإنسان في بستان أفعى أو ثعبانًا تنطبع صورته على شبكية العين، إحساساً، ثم تنتقل الصورة إلى الدماغ إدراكاً، وفي الدماغ مفهومات الثعبان، حُصِّلت من دراسة أو من قصة، أو من مشاهدة، أو من تجربة، هذه المفهومات بمجموعها تنبئ أن لدغة الثعبان قاتلة، فالدماغ يدرك الخطر، الآن يلتمس هو ملك الجهاز العصبي، والجهاز العصبي أوامره كهربائية، يلتمس من ملكة النظام الهرموني، الغدة النخامية التي وزنها نصف غرام يلتمس من ملكة عن طريق وسيط اسمه تحت السرير البصري أن تواجه الخطر، فالغدة النخامية تحت يديها أجهزة أمنية، تعطي أمراً للكظر الذي فوق الكلية أن يواجه الخطر، فالكظر يعطي خمسة أوامر، أول أمر إلى القلب، فيرتفع نبض القلب إلى أن يصل أحياناً إلى 180 نبضة، والنبض الطبيعي 80، فالخائف لو قسنا نبضه لكان 160 ـ 170، ثم الأمر الثاني إلى الرئتين فيزداد وجيبهما، والخائف يلهث، ثم أمر ثالث إلى الأوعية المحيطة بالجلد، تضيق لمعتها، فيصفر لون الخائف، كي يذهب الدم الفائض إلى العضلات، والأمر الرابع هو للكبد يطرح كميات من السكر إضافية، والأمر الخامس إلى الكبد أيضاً يطرح هرمون التجلط، تزداد لزوجة الدم عند الخائف بالضبط، هكذا يواجه الكظر الخطر، بأمر من النخامية، بالتماس من الدماغ، بمعلومات من العين، هذه أول فكرة .

 الفكرة الثانية: القلب لأنه عضو نبيل، وخطير، ومصيري، لا يمكن أن يتلقى الأمر بالنبض من جهة بعيدة عنه، كما أنه لا يمكن لمستشفى تُجرى فيها عمليات جراحية أن تعتمد على الشبكة العامة، لو حدث خلل في الشبكة العامة، وانقطعت الكهرباء والمريض مفتوح قلبه، وجميع الأجهزة تعمل بالكهرباء، إذاً يموت المريض فوراً، فلابد من مولدة خاصة لغرفة العمليات .

الآن: لأن القلب عضو نبيل جداً، وخطير جداً، ومصيري جداً، لا بد من مركز كهربائي ذاتي في القلب يُمدّ القلب بالنبض الكهربائي، و لو تعطل هذا المركز فهناك مركز احتياطي ثانٍ، لو أن الثاني تعطل فهناك مركز احتياطي ثالث، لكن هذه المراكز الثلاث لا تمد القلب إلا بالنبض النظامي فقط 80 نبضة في الدقيقة، فقط، أما إذا كان الإنسان خائفاً، أو يصعد درجاً، أو يواجه عدواً، ما الذي يرفع النبض إلى 130؟ إدراك الخطر عن طريق العين، ثم التماس الدماغ من النخامية، التصرف، والنخامية تأمر الكظر، والكظر يعطي الأوامر، إذاً الأمر الاستثنائي بالنبض من أين يأتي ؟ من الرأس عن طريق الكظر، والأمر النظامي بالنبض يأتي من القلب مباشرة، هذه مقدمة .

 الآن نحن أمام دابة نريد أن نذبحها، النبي عليه الصلاة والسلام من توجيهاته النبوية أنه أمرنا ألا نقطع رأسها، بل أن نكتفي بقطع أوداجها فقط، وليس في عهد النبي، وليس في مكان في الأرض، ولا بعد مئة عام، ولا بعد 200 عام، ولا بعد 500 عام، ولا بعد 1000 عام ، ولا بعد 1300 عام، ربما بعد 1400 وقليل توصل العلم إلى فهم حكمة توجيه النبي عليه الصلاة والسلام، هذه الدابة إن قطعنا رأسها كما تفعل معظم المسالخ في العالم، يعلقونها من أرجلها، ويقطعون رأسها، بقي الأمر الذاتي للقلب 80 نبضة، الثمانون نبضة لا تخرج من الدابة إلا جزءاً يسيراً من الدم، ويبقى الدم في الدابة، أما لو بقي الرأس موصولاً لجاء الأمر الاستثنائي من الدماغ إلى الكظر، إلى القلب، وارتفع النبض إلى 180 نبضة، والـ180 نبضة كافية لإخراج الدم كله من الدابة، إذاً هو صلى الله عليه وسلم: ﴿مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ .

 هذا الحديث وحده من دلائل نبوة النبي عليه الصلاة والسلام، ذلك لأن الدم وهو في الإنسان الحي طاهر، لماذا؟ لأن ثلاثة أجهزة من أدق الأجهزة تصفّيه باستمرار، أول جهاز هو التنفس، في الدم ثاني أكسيد الكربون الناتج عن احتراق السكر، هذا الغاز ثاني أكسيد الكربون يتعلق بالكريات الحمراء فيجعلها سوداء، ويأتي الدم إلى الرئتين الكرية الحمراء تطرح ما علق عليها من غاز ثاني أكسيد الكربون، وتأخذ مكانه الأوكسجين فيغدو الدم أحمر، إذاً الرئتان تصفيان الدم، والكليتان تصفيان الدم من كل الحموض التي تؤذي الإنسان، وفي طليعتها حمض البول، ومئات ملايين الغدد العرقية أيضاً تصفي الدم، لذلك الدم وهو يجري في الجسم طاهر، لهذا قال الله تعالى :

﴿ قُل لَّآ أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍۢ يَطْعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍۢ فَإِنَّهُۥ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِۦ ۚ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍۢ وَلَا عَادٍۢ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(145) ﴾

[  سورة الأنعام  ]

 المسفوح ألغِيت تصفيته، فنحن إذا ذبحنا الدابة بصعقة بالكهرباء كما تفعل بعض المسالخ في العالم، أو إذا علقناها من أرجلها، وقطعنا رأسها فتعطل الأمر الاستثنائي برفع النبض، وبقي أمر القلب فقط ، يبقى جزء كبير من دمها فيها، والأمراض كلها في الدم، والفضلات كلها في الدم، حمض البول، ثاني أكسيد الكربون، والدم أكبر مرتع للجراثيم، لذلك الدابة التي تُصعق صعقاً، أو التي يُقطع رأسها عند الذبح كلياً، هذه دابة فيها لترات كبيرة جداً من الدم قد تصل في البقرة إلى 8 كغ تقريباً، لذلك لو أردنا أن نشتري لحماً من بلاد بعيدة وطلبنا الذبح الشرعي لطالبونا بزيادة في السعر، لأن كل دابة فيها 4 أو 5 أو 8 كغ وزن الدم، فإذا ذبحت ذبحاً شرعياً، وارتفع النبض إلى 180 نبضة لخرج الدم كله، لذلك لحم الدابة التي تُذبح وفق الطريقة الإسلامية لحم زهري، فيه طعم طيب، ليس فيه مواد مؤذية، ولا فضلات، ولا فيه حمض بول، ولا فيه جراثيم، كله هذا منتَهٍ، فلذلك الفرق كبير جداً بين الحيوان الذي يموت ودمه فيه، فلا يؤكل، وبين الحيوان الذي يذبح ذبحاً، ويذكّى، وقد خرج الدم منه. 

إذاً هذه هي الثغرة التي توهمها المشركون بقولهم: لماذا تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله؟ حينما يموت الحيوان يقطع الله عز وجل عنه الإمداد فتبقى أجهزته كما هي، ودمه فيه، إذاً لا يؤكل، بينما حينما تذكّي الحيوان، أي تذبحه ذبحاً شرعياً عندئذٍ يصبح لحمه طاهراً أزهر من حيث اللون.

 لكن مع الأسف الشديد، والحقيقة لا بد من أن أذكرها أن بلادًا كثيرة لا تؤمن بالله أبداً، قد تُشترى منها لحوم إلى بلاد إسلامية، والذين يشترون اللحوم يشترطون الذبح الإسلامي، ماذا تفعل المسالخ الكبرى في العالم؟ تتصل بمركز إسلامي، وترسل لهم مبلغًا كبيرًا فلكيًّا نظير إعطائهم وثيقة فقط، وأصحاب المراكز هؤلاء المنتفعون الذين يبتزون أموال الناس بالباطل أحياناً يوقعون هذه الوثائق، ولا يذهبون إلى المسالخ إطلاقاً، ويتم الذبح بطريقة غير شرعية، وأحياناً يعبّرون عن جهلهم وغبائهم حينما يكتبون على علب السمك أن هذا السمك ذُبح على الطريق الإسلامية، يعني أنا لا أرى أن لحماً يعلو على لحمٍ ذبح في بلاد إسلامية أبداً، هناك مشكلات كبيرة جداً، وهناك استثناءات، وقد  تكون هناك دقة في الذبح الإسلامي، لكن في الأعم الأغلب هناك انحرافات، وهناك تجاوزات ليست في صالح من يأكل هذا اللحم.

لذلك هذه الثغرة التي أثارها المشركون: لماذا تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله؟ الله أمرنا أن نذبح الدابة من خلال إرشادِ نبيه صلى الله عليه وسلم، بل أن نبقي رأسها موصولاً بجسمها كي يعمل الأمر الاستثنائي الذي يصدر من الرأس إلى الكظر إلى القلب ليرفع النبض إلى 180، كي يكون هذا النبض السريع سبباً لإخراج الدم كله من الدابة، عندئذٍ يكون اللحم أزهر اللون، طيب الطعم، بعيداً عن كل ما يؤذي الإنسان .

 الآية جاءت :

﴿ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ(118) ﴾

[  سورة الأنعام  ]


فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِين


 الآن الإمام مالك رضي الله عنه قال: إن كنت ناسياً فكل. عندنا شيئان، عندنا التسمية، وعندنا التذكية، وهناك فرق بين التسمية والتذكية، التذكية: أن تُذبح الدابة ذبحاً وفق الطريقة الإسلامية بعدم قطع رأسها، بل قطع أوداجها فقط، هذا الذبح الشرعي سمّاه الفقهاء التذكية، لحم مُذكّى، أي مذبوح وفق الشريعة الإسلامية، بينما التّسمية أن تكبّر الله أثناء ذبح الخروف ، لكن الآية هنا : 

﴿ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ﴾ وهناك تفصيل لطيف : 


حكم أكل ما لم يُذكر اسم الله عليه عمدا أو نسيانا


 قال الإمام مالك رضي الله عنه: ينبغي ألا يأكل من دابة لم يُذكر اسم الله عليها، نسياناً أو عمداً سواء، قال الإمام مالك: " ينبغي ألا تأكل نسياناً أو عمداً " ، هذا مذهب الإمام مالك .

 أما مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه " ورضي الله عن الإمام مالك إنه إذا كان الإنسان ناسياً للتسمية ينبغي أن يأكل، وإن كان عامداً ينبغي ألا يأكل " . الإمام مالك رضي الله عنه: ينبغي ألا يأكل من دابة لم يُذكر اسم الله عليها نسياناً أو عمداً، سواء. الإمام أبو حنيفة فصّل فينبغي أن تأكل، وسمٍّ أنت عليها، وإن لم تذكر عمداً ينبغي ألا تأكل.

 أما الإمام الشافعي فقال: " إن لم تذكر اسم الله عليها ناسياً أو عامداً فكُلْ، لماذا ؟ قال: لأن الذكر ورد في بعض الأحاديث : 

(( أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم. ))

[  متفق عليه  ]

 فالمؤمن يذكر الله في نفسه، بل الأبلغ من ذلك أن المؤمن لا يعقل أن يقدم على ضبع ليذبحه ويأكله، لا يقبل إلا على حيوان أحله الله لنا، إذاً يذكر أن هذا حلال، وهذا حرام، وهو مؤمن فإيمانه ذكر، فعند الإمام الشافعي لك أن تأكل إن لم يسمَّ على الدابة عمداً أو نسياناً، وعند الإمام مالك ينبغي ألا تأكل إن لم يذكر اسم الله عمداً أو ناسياً، والإمام أبو حنيفة فصّل، إن لم يُذكر اسم الله عليها عمداً ينبغي ألا تأكل، وإن لم يُذكر اسم الله عليها نسياناً فلك أن تأكل .

 لكن الكلمة الرائعة أن إيمانك هو الذكر، فإذا لم يذكر اسم الله عليها فاذكر اسم الله عليها وكُلْ، هذا موضوع غير التذكية، التذكية شيء آخر، التذكية قضية دم، يعني إما أن يبقى فيها والدابة مؤذية إذا أكلت منها، أو وفق طريقة الذبح الإسلامية.

أيها الإخوة ، بقي موضوع أن كل أمرٍ ذي بالٍ لم تسمِّ الله فهو أبتر، أنت أمام كاس ماء، إذا قلت: بسم الله، ما معنى بسم الله ؟ من جعل هذا الماء عذباً فراتاً بعد أن كان ملحاً أجاجاً؟ إذاً تحب الله هذه نعمة، كيف تشرب الماء؟ ثلاثاً، وأنت قاعد، إذاً بسم الله تذكّرك بنعم الله، وتذكّرك بأمر الله معاً، إذاً كل أمر ذي بالٍ لم يُذكر اسم الله جل جلاله قبله أو لم تسمِّ فهو أبتر .

 ثمة خبرة أنا لا أعرفها، لكن قرأت عنها، أن الحيوان الذي سمح الله لنا أن نأكله إذا أوشك أن يموت يمد رأسه، وكأنه يقول: تعالوا اذبحوني، وكلوني حلالاً، بينما الحيوان الذي حرّم الله أكله إذا أشرف على الموت لا يفعل هذا، لأن هذا الحيوان الذي خلقه الله لنا قال بعض علماء القلوب: إنه حينما يُذبَح يحقق الهدف من وجوده، كان في خدمة هذا الإنسان، لأن الله سخره للإنسان، فالذين امتنعوا عن أكل اللحوم هؤلاء جانبوا الصواب، وهناك نباتيون لا يأكلون اللحوم إطلاقاً، من باب أنه يزاود على النبي صلى الله عليه وسلم، أنا لا آكل لحماً من حيوان عُذِّب بالذبح، فهذا الحيوان خُلق ليكون طعاماً للإنسان، فإذا أدى هذه المهمة فقد سعد بتحقيق مهمته، وهذه اللقطة التي قرأت عنها أن الحيوان الذي سمح الله لنا أن نأكله إذا شارف على الموت يمد رأسه، وكأن لسان حاله يقول: تعالوا اذبحوني، وكلوني حلالاً .

﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ﴾ إذاً أصول الدين يُخاطَب بها الناس عامة :

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21) ﴾  

[ سورة البقرة   ]

أما فروع الدين فيخاطب بها المؤمنون خاصة، لأنهم على عقد إيماني مع الله، آمنوا بالله خالقاً، ومربياً، ومسيّراً، آمنوا به موجوداً وواحداً، وكاملاً، آمنوا به مشرّعاً، آمنوا بعلمه، وقدرته، ورحمته، وحكمته، وعدله، لذلك أقبلوا على تنفيذ أمره.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور