وضع داكن
16-04-2024
Logo
الدرس : 01 - سورة فصلت - تفسير الآيتان 1 - 2 الله رحمن رحيم: الله علم على الذات، الرحمن في ذاته، الرحيم بخلقه
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. 


  معاني الحروف المقطّعة:


أيها الإخوة الأكارم؛ مع الدرس الأول من سورة فصِّلت، ومع الآية الأولى:

﴿ حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)﴾

[ سورة فصلت ]

أيها الإخوة؛ ذكرت من قبل في هذه الحروف التي تُفتتح بها بعض السور أقوال العلماء، فمن أقوالهم الشائعة: الله أعلم بمراده. 

ومن أقوالهم أيضاً: إن القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هذا الكلام المُعْجز كلام الله عزَّ وجل إنما حروفه من هذه الحروف، والحروف بين أيديكم، لذلك ربنا سبحانه وتعالى جعل إعجازه دليلاً على أنه كلام الله عزَّ وجل، فكل من يزعُم أنه ليس كلام الله فليأت بسورةٍ من مثله..

﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)﴾

[ سورة البقرة  ]

والمعنى الثالث أن هذه الحروف إشاراتٌ إلى أسماء الله الحسنى. 

وبعضهم قال: هذه الحروف إشاراتٌ إلى أسماء النبي عليه الصلاة والسلام.

 

لا أحد يحيط بكلام الله فهمًا كاملاً من غير نقص:


والقرآن كما يقال: حمَّال أوجه، ولا يستطيع أحدٌ أن يَزْعم أن هذه الآية هذا معناها على سبيل الحصر، كل إنسان يُدلي بدلوه في الآيات المتشابهات، بينما الآيات المُحكمات لا يختلف فيها اثنان، ومن فضل الله عزَّ وجل أن الآيات المتعلِّقة بأصول العقيدة، وأن الآيات المتعلِّقة بأصول التكاليف هذه آياتٌ محكمات لا يختلف فيها اثنان، بينما الآيات الأخرى المتشابهات، هناك حكمٌ بالغة من كونها متشابهات، أولاً: حافز يحفز المؤمنين إلى البحث عن معناها، وثانياً: إذا كانت هذه الآيات المتشابهات تحتمل معان كثيرة فالله سبحانه وتعالى أراد كل هذه المعاني توسعةً على خلقه، ورحمةً بهم، من هنا قال بعضهم: اتفاق العلماء حجَّةٌ قاطعة، واختلافهم رحمةٌ واسعة، وما كان لهم أن يختلفوا لو أن كل آيات القرآن الكريم كانت قطعيَّة الدلالة، الآيات المتعلِّقة بأصل العقيدة قطعيَّة الدلالة لا خلاف فيها، الآيات المتعلِّقة بالتكاليف التي سوف نُحَاسب عليها يوم القيامة قطعيَّة الدلالة، لكن بعض الآيات القرآن الكريم سمَّاها متشابهات، أي أنها تشبه الحق من جهة، وتشبه الباطل من جهة، من خلال هذه الآيات المتشابهات يُمْتَحن المؤمن، ومن خلال هذه الآيات المتشابهات ينطلق المؤمن ليفهم معناها، ولعلَّ في هذا أسلوباً تربوياً حينما يجد الإنسان أنه مضطرٌّ أن يفهم هذه الآية، يَكِدُّ ذهنه، الشيء السهل يبدو قليل الأهميَّة، لكن الشيء الذي يتحدَّى فكر الإنسان وعلمه يبدو عظيم الأهميَّة، هناك حكمٌ تربويَّةٌ، وغاياتٌ مديدةٌ لا يعلمها إلا الله من وجود بعض الآيات المتشابهة التي اشتبه معناها على كثيرٍ من الناس. 

الذين قالوا: الله أعلم بمراده ما أخطؤوا الحقيقة، لأنه يستحيل على المخلوق المحدود أن يحيط بالخالق، وهذا من كلامه، أي مهما اجتهدنا في فهم كتاب الله يبقَ فهمنا نسبيَّاً، بل إن أعلى فهمٍ لكتاب الله هو فهم النبي عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك فالنبي ما أحاط بكتاب الله، لأنه لا يعلم مضمون كلام الله على سبيل الحصر إلا الله، لكن المؤمن يجتهد. 

الذين قالوا: الله أعلم بمراده ما أخطؤوا الحقيقة، لأنه يستحيل على المخلوق المحدود الحادث أن يحيط بكلام الله عزَّ وجل. 

والذين قالوا: إن القرآن الكريم المُعِجِز صِيغت آياته من هذه الحروف التي بين أيديكم، فكيف أن التراب حينما نَفَخَ الله به صار إنساناً يتكلَّم، ويتحرَّك، ويفكِّر، ويرى، ويسمع، وينطق، ويأكل، ويشرب، هذا الإنسان بخلقه المُعجز أساسه ترابٌ نُفِخَ فيه، المادَّة الأوليَّة بين أيدينا، مادة الإنسان الأوليَّة بين أيدينا ندوس عليها.

خفِّف الوطء ما أظن أديم         الأرض إلا من هذه الأجسادِ

[ أبو العلاء المعري ]

* * *

ومع ذلك خلق الحياة في الخليَّة شيءٌ فوق طاقة البشر، مكوِّنات الحليب الذي تصنعه يد القدرة الإلهيَّة من خلال البقرة بين أيدينا، هل يستطيع العلم مهما تقدَّم أن يصنع هذا السائل المُغذي من مكوِّناته الأساسيَّة؟

مكوِّنات البيضة التي تصنعها يد القدرة الإلهيَّة من خلال الدجاجة بين أيدينا فهل نستطيع أن نصنع هذه البيضة؟ وهذه من أبسط الأمثلة، فالمكوِّنات شاءت حكمة الله أن يجعلها بين أيدينا، ولكن خالق الحياة هو الله عزَّ وجل، الذي يخلق الخلية الحيَّة، والذي خلق هذه الخليَّة لتنمو وتتكاثر، ثم كل قسمٍ منها يأخذ اتجاهاً حتى يكون نواةً لجهازٍ دقيقٍ في الإنسان، هذا من فعل الله عزَّ وجل. 

فكما أن التُراب بين أيدينا، وخلق الإنسان من إعجاز الله، شيء يُثبت عظمة الله عزَّ وجل كذلك هذا القرآن الحروف بين أيدينا، ﴿حم﴾ .

 

لا تصادم بين العقل السليم والنص الصحيح:


ولكن أن نصوغ كتاباً فيه إعجازٌ تشريعي، وفيه إعجازٌ إخباري، وفيه إعجازٌ علمي، وفيه إعجازٌ تربوي، فهذا الكتاب لم تظهر حقيقةٌ علميَّة تصادمت مع هذا الكتاب، لأن خالق الكون هو الله، ومنزل هذا الكتاب هو الله، لذلك استنبط العلماء أنه لا يمكن أن يتصادم العقل الصحيح الصريح مع النقل الصحيح، النقل من عند الله، والعقل جهازٌ عظيمٌ أودعه الله فينا، أما إذا بدا لكم بعض التصادم بين العقل وبين النقل، أي بين النصِّ وبين الفكر فهذا التصادم لسببٍ أو لآخر، أحد هذه الأسباب أن النقل غير صحيح، النقل غير الصحيح قد يتصادم مع العقل الصريح، أو أن النقل الصحيح يتصادم مع العقل غير الصريح، أي العقل حينما يغلو، أو حينما يزوِّر، أو حينما يشتط قد يتصادم مع النقل الصحيح، أما نقلٌ صحيح يصطدم مع العقل الصريح فهذا من سابع المستحيلات، لأن المصدر واحد. 

وكنت أقول دائماً: إن الحق دائرة يخطُّها أربعة خطوط، أو يمر بها أربعة خطوط، خط العقل، وخط النقل، وخط الفطرة، وخط الواقع، فالحق الذي يجب أن تعتقده يجب أن يتطابق مع الفطرة تطابقاً تاماً، وأن يتطابق مع الواقع، ومع العقل، ومع النقل، اجتهد أن ترى الدليل العقلي مع الدليل الواقعي مع الدليل النقلي مع الدليل النفسي، فإذا تطابقت هذه الأدلَّة الأربع كان هو الحق، والحق من حقَّ الشيءُ أي ثبت واستقر، أي المسلم يعيش نعمة لا يعرفها إلا مَن فقدها، ما هذه النعمة التي يعيشها؟ أنه متمسِّك بمبادئ ثابتة، مُضِيُّ الأيام والليالي، مضي القرون لا يهزُّها أبداً، بينما الذين تمسَّكوا بمبادئ وضعيَّة من وضع البشر حينما فُوجئوا بعد سبعين عاماً أنها لم تكن صحيحة، وأنها سرابٌ في سراب، وأنها تداعت كما تتداعى بيوت العنكبوت، هذه مفاجأةٌ؛ ما من مفاجأةٍ أشدّ على النفس من هذه المفاجأة، أن المبدأ الذي أمضيت كل حياتك في خدمته والدعوة إليه كان مبدأً موهوماً غير صحيح، نعمة أن المؤمن عقيدته متعلِقةٌ بالثوابت، وهذا معنى قول الله عزَّ وجل:

﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)﴾

[ سورة إبراهيم ]

ثوابت المؤمن مستنبطةٌ من كلام الله، والله سبحانه وتعالى هو الأول والآخر، هو الظاهر والباطن، هو الحقيقة الأولى، والتي لا حقيقة غيرها، هذا على معنى: ﴿حم﴾ ، فإما أن تقول: الله أعلم بمراده. 

وإما أن تقول: إن القرآن الكريم المُعجز بنظمه، المعجز بتشريعه، والمعجز بحقائقه العلميَّة مصاغٌ من هذه الحروف وهي بين أيدينا. 

والمعنى الثالث: لعلَّها أسماء النبي عليه الصلاة والسلام يا حامد ويا محمود، ولعلَّها أسماء الله الحسنى إشارةٌ إليها على طريقة الترميز، وعلى كل فالقرآن حمَّال أوجه، وكل إنسانٍ له أن يجتهد مع الضوابط، ضوابط اللغة، وضوابط علم العقيدة، ومقاصد الشريعة في فهم كلام الله عزَّ وجل من دون أن يكون لأحدٍ حق احتكار المعاني.

 

الله تعالى علمٌ على الذات الكاملة:


﴿تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ربنا عزَّ وجل أسماؤه كلُّها حسنى، وصفاته كلُّها فضلى، لكن الاسم الأول الذي يلي اسم الله عزَّ وجل، وكلمة الله علمٌ على الذات الكاملة، أي أسماء الله حسنى كلُّها جًمِعَت في كلمة (الله)، فالله علمٌ على الذات الكاملة.

الاسم الذي يلي اسم الله عزَّ وجل هو الرحمن الرحيم، والرحمن الرحيم هذا الاسم أيها الإخوة على شيءٍ من التفصيل؛ الرحمن في ذاته، الرحيم في أفعاله، فذاته رحيمة وأفعاله رحيمة.

 

الله خلَق الخلْقَ ليرحمهم:


ربنا عزَّ وجل قال: هذا القرآن ﴿تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ، أي الله عزَّ وجل خلق الخلق ليرحمهم، أصل الخلق أن يُرحموا.

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾

[ سورة الذاريات  ]

العبادة تبدأ بمعرفة الله، ويتوسَّطها طاعة الله، وتنتهي برحمة الله، رحمة الله إلى أبد الآبدين، وكل من يتوهَّم أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليعذِّبهم، وقد يأتي بشواهد مفتعلة من فقر بعض الشعوب، من الزلازل، من الفيضانات، من البراكين، من الحروب الأهليَّة، كل من يتوهَّم أن الخلق مخلوقون للعذاب هذا افتراءٌ على الله، وهذا قريبٌ من الكفر، لأن الذي يقول على الله ما لا يعلم يرتكب معصيةً هي من أشدّ المعاصي، ربنا عزَّ وجل وضعها في بعض الآيات، وجعلها من أعظم المعاصي؛ أن تقول على الله ما لا تعلم، أن تظنَّ بالله غير الحق ظنَّ الجاهليَّة، أن تطعن برحمة الله، أو بحكمته، أو بعدالته.

 

ما يجري في الكون هو من مقتضى الحكمة:


كمال الخلق يدل على كمال التصرُّف، وإذا ذهبت لتعرف الله من خلال خلقه فالطريق آمنٌ وسالك، أما إذا بدأت بمعرفة الله من خلال أفعاله فلا تستطيع إثبات عدالة الله، ولا إدراك حكمته إلا إذا كان لك علمٌ كعلم الله، وهذا مستحيل، لذلك ينبغي أن تستسلم في أفعاله. 

قد يسأل سائل: ما حكمة ما يجري في العالم اليوم؟ 

قد يسأل سائل أيضاً: لماذا يبدو أن الله تخلَّى عن المسلمين؟ هناك أسئلة كثيرة جداً، إذا ذهبت لتعرف الله بدءاً من أفعاله فهذا الطريق غير آمن وغير سالك، لأنك لا تستطيع أن تدرك حكمة الله، ولا أن تدرك عدالته إلا أن يكون لك علمٌ كعلمه، لكن يكفي أن الشيء الذي يعجز عقلك عن إدراكه قد أخبرك الله سبحانه وتعالى به، قال تعالى:

﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)﴾

[  سورة الكهف  ]

قال تعالى:

﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)﴾

[ سورة النساء  ]

﴿ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)﴾

[ سورة فاطر  ]

﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)﴾

[ سورة العنكبوت ]

هذا كلامه، فإن لم تصدِّق كلامه فالمشكلة في ضعف الإيمان، عُد إلى إيمانك وجدِّده، فإذا وجدت شكًا في كلامه فالقضيَّة يجب أن تعود إلى الأصول. 

هذا الكون بسماواته وأرضه يدل على خالقٍ عظيم، يدل على مُرَبٍّ حكيم، يدل على مسيِّرٍ حكيم أيضاً، يدل على الله الموجود والكامل والواحد، يدل على أسماء الله الحسنى، هذا الكون، وهذا كلامه، وقد أخبرك بكلامه أنه لا يظلم أحداً..

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾

[ سورة الزلزلة ]

هذا الأعرابي الذي سأل النبي عليه الصلاة والسلام فقال: "عظني ولا تطل" فتلا عليه قول الله عزَّ وجل: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾ قال الأعرابيُّ: "قد كُفيت" ، هذه الآية تكفيني. 

 

الصادق تكفيه آيةٌ:


ويا أيها الإخوة؛ بالمناسبة الصادق تكفيه آيةٌ واحدة، آيةٌ واحدة تكفيه طوال العمر، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾ فقال عليه الصلاة والسلام: فقُهَ الرجل. 

إذاً آية:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)﴾

[  سورة النساء ]

تكفي، آية:

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾

[ سورة هود ]

أمرك كلُّه بيده. 

آية:

﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)﴾

[ سورة الإسراء ]

هذه تكفي، آية:

﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)﴾

[ سورة طه  ]

تكفي، آية:

﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)﴾

[ سورة البقرة ]

تكفي، آية:

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل ]

هذه الآية تكفي، آمن واعمل صالحاً والحياة الطيِّبة تنتظرك. 

آية:

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾

[  سورة طه  ]

تكفي، آية: 

﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾

[ سورة السجدة  ]

آية:

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

[ سورة الجاثية ]

آية:

﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)﴾

[  سورة هود  ]

أي كل آية من هذه الآيات جامعةٌ مانعةٌ، كافيةٌ قاطعة، فالصادق لا يحتاج إلى مزيدٍ من التفاصيل، تكفيه آية، أما الذي لا يريد الحقيقة لو حشرت له كل شيء، لو رأى الملائكة، لو فُتِحَت له أبواب السماء، لو عرج في السماء، لو عاد الموتى وكلَّموه فلا يستفيد. 

 

الصادق يتمسك بالحق:


أنا شبَّهت تشبيهاً؛ إنسان بلا بيت، أُخرج من بيته، فزوجته عند أهلها، وهو عند أهله، وأولاده بين بَين، ومدارسهم في حي، وبيت أهل زوجته في حي، وقد مُزِّقت نفسه، وزوجته أُحبط عملها، والأولاد مشرَّدون، وهو هائمٌ على وجهه، فالتقى برجل، قال له هذا الرجل: أتريد بيتاً؟ كيف حال هذا الإنسان الشارد الضائع الهائم على وجهه؟ يتمسَّك به، يُقبِّله، يقول: نعم أريد بيتاً، هذا هو الصادق في معرفة الله عزَّ وجل، الذي يريد الله عزَّ وجل يتمسَّك بأهل الحق، يتمسك بمجالس العلم، يتمسك بالقرآن الكريم، يتمسك بهذه السُنَّة، الذي كان مضطراً للبيت، وقال له رجل كلمة واحدة: أتريد بيتاً؟ تمسَّك به، وأكرمه، وسأله عن كل حاجاته كي يصل إلى هدفه، أما الذي لا يريد البيت فلا يصغي إليه، لذلك قال أحدهم: لم أجد أشدَّ صمماً من الذي يريد ألا يسمع، هذا الذي يريد ألا يسمع لو وضعت في أذنه مكبِّر صوت، وتلوت عليه الحقَّ الصُّراح لا يستجيب، لأنه في وادٍ، وكلامك في وادٍ، فالقضيَّة قضية صدق، والجنَّة لمن صدق لا لمن سبق. 

لذلك هذا القرآن الكريم ستمئة صفحة، فيه آيات كونيَّة، فيه آيات تشريعيَّة، فيه آيات إخباريَّة، فيه وعد، فيه وعيد، فيه بيان الحلال والحرام، فيه مَشاهد من يوم القيامة مؤثِّرة جداً، مشاهد من أهل الجنَّة وهم يتنعَّمون، مشاهد من أهل النار وهم يتصايحون، فيه كل شيء هذا الكتاب، وهو بين أيدينا وميسَّر، مطبوع بطبعات عديدة، بحجوم متفاوتة، بمقاييس، مطبوع طبعات موحَّدة، مطبوع طبعات مجزَّأة، ممكن أن تسمعه في أشرطة، ممكن أن تسمع تفسيره، المساجد مفتوحة لكل الناس من دون قيد أو شرط، ومع ذلك أنَّى يؤفكون؟ أنَّى ينصرفون؟ والمؤمن هذا الكتاب بين يديه، فلذلك هنيئاً لمن عرف الله في حياته، دائماً أقول هذه الكلمة.

 

بطولة الإنسان أن يؤمن في الوقت المناسب:


مشكلتنا أيها الإخوة مشكلة وقت فقط، كل الذي لم يؤمن في حياته لابدَّ من أن يؤمن عند موته، ولكن هذا الإيمان لا ينفعه، إيمانه جاء متأخِّراً، جاء بعد فوات الأوان، كل طالب قدَّم امتحاناً ولم ينجح، حينما يخرج من قاعة الامتحان يفتح الكتاب المقرَّر، ويقرأ الجواب الصحيح الذي كان ينبغي أن يكتبه، ولكن متى عرف الجواب؟ بعد أن سلَّم الورقة بيضاء، بعد فوات الأوان، فمعرفة الجواب لابدَّ منها، إما أن تعرفه قبل دخول الامتحان، وإما أن تعرفه بعد الامتحان، بعد الامتحان لا قيمة له، فنحن مشكلتنا أنه لابدَّ من أن نؤمن، ولكن متى؟ حين لا ينفع الإيمان، فالبطولة أن تؤمن الآن وأنت صحيح، وأنت معافى، وأنت غني، وهذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام:

عن عبد الله بن عباس قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لرجلٍ وهو يَعِظُه:

(( اغتنِمْ خمسًا قبل خمسٍ: شبابَك قبل هَرَمِك، وصِحَّتَك قبل سَقَمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك. ))

[ أخرجه المنذري الترغيب والترهيب إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما  ]

ونصيحة مرَّةً ثانية، إخواننا الشباب إذا آمنوا في سنِّهم المبكِّرة شكَّلوا حياتهم تشكيلاً إسلامياً فسعدوا بها إلى آخر حياتهم، سيختارون زوجة صالحة، سيؤسِّسون بيتًا إسلاميًا، سوف يختارون عملاً يرضي الله، العمل الذي يرتزقون منه سيختارونه وفق مرضاة الله، يسعدون بأعمالهم وبأزواجهم، أما إذا عرف الإنسان ربَّه في سن متأخِّرة فربما شكَّل حياته تشكيلاً غير إسلامي، بعد أن عرف الله يشقى شقاءين، يشقى على ما مضى، ويشقى وقد عرف الله وهذا حاله الذي لا يرضي الله، ولا يستطيع الفكاك منه. 

 

المصيبة من رحمة الله لأنها توقظ الغافل:


إذاً: ﴿تَنْزِيلٌ﴾ هذا الكتاب من الرحمن الرحيم، الرحمن في ذاته، الرحيم في خلقه.

قد يسأل أحدكم هذا السؤال: ما بال هذه المصائب؟ لا أستطيع أن أُفسِّر هذه المصائب التي تقع في بقاع العالم إلا على الشكل التالي: حينما صُنعت هذه السيارة إنما صُنعت لتسير، ولكن فيها مكابح، والمكابح من شأنها أن توقفها، كأن المكابح تتناقض مع الهدف من صنعها!! الجواب أن المكابح ضروريَّةٌ لسلامتها، حينما يغفل الإنسان، حينما يحيد عن سواء السبيل، حينما تطغيه شهواته، حينما يضلُّ عقله، حينما تغريه الدنيا، حينما تخدعه الدنيا، حينما يركن إلى الملذَّات الرخيصة، لو أن الله تركه على حاله لمات على الكفر، ولاستحقَّ جهنَّم إلى أبد الآبدين، فرحمة الله به أن توقظه من غفلته، من سُباته، من انحرافه، هذا الإيقاظ يتم عن طريق المصائب، فإما أن تأتي إلى الله عزَّ وجل مشتاقاً، وإما أن الله سبحانه وتعالى يجلبك إليه بأساليب عديدة بطريقةٍ أو بأخرى، وهذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام: عن أبي هريرة  استضحكَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال:

(( عجبتُ لأقوامٍ يُقادونَ إلى الجنةِ في السلاسلِ وهم كارهونَ. ))

[ السلسلة الصحيحة :  خلاصة حكم المحدث : إسناده جيد : التخريج : أخرجه ابن الأعرابي في ((معجمه)) ]

فإما أن تأتيه طائعاً، وإن لم تأته طائعاً فربَّما جئته مكرهاً بسلاسل الامتحان، التي تحمده عليها يوم القيامة. 

 

الإنسان خلقه الله ليرحمه ويسعده:


كلمة رحمن رحيم تعني أنك خُلِقت ليرحمك، وتوجد آية تؤكِّد هذه الآية:

﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)﴾

[ سورة هود ]

خلقهم ليرحمهم، خلقهم ليسعدهم، خلقهم ليعطيهم.. عن أبي ذر:

((   يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ. ))

[ صحيح مسلم ]

كلامٌ دقيقٌ واضح. 

وكنت أقول أيها الإخوة دائماً، إن الإنسان إذا أفرط في حبّ ذاته عليه أن يطيع الله، لأنك لن تنجو من عذاب الله إلا بطاعته، لن تنجو من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة إلا بالاستقامة على أمره، لن تنجو من المفاجآت غير المتوقَّعة إلا أن تكون معه، إن كنت معه كان معك، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يدعو ويقول: عن ابن عمر:

(( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ تَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ. ))

[ صحيح مسلم ]

أحياناً فجأة تجد الأمور تدهورت، تفجَّرت، يفقد الإنسان عمله أحياناً، يصاب بجسده، يصاب ببيته أحياناً، فيستعيذ النبي عليه الصلاة والسلام من فجأة نقمته، ومن تحوِّل عافيته، ومن جميع سخطه، فحتى ننجوَ من عذاب الله لابدَّ من طاعته، وهذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام في بعض أدعيته: عن البراء:

(( لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك. ))

[  متفق عليه ]

والصلحة بلمحة، والدنيا ساعة فاجعلها طاعة، والنفس طمَّاعة عوِّدها القناعة، والعودة إلى الله عزَّ وجل مسعدةٌ جداً، أي لا يعرف طعم التوبة إلى الله إلا من تاب إليه، لا يعرف طعم الإقبال عليه إلا من أقبل عليه، لا يعرف طعم السكينة إلا من خضع لأمره، إلا من اصطلح معه، إلا من ملأ قلبه حباً له. 

 

نِعَم اللهِ لا تُعدّ ولا تُحصَى:


كلمة الرحيم تعني أن أفعاله كلها رحيمة، بدءاً من الظواهر الماديَّة، أي هذا الهواء الذي نتنفسه متوازن، أنت تطرح غاز الفحم، النبات يأخذه غاز الفحم، ويطرح لك الأوكسجين، فهذا الهواء المتوازن هذه من نعم الله العظمى، ولو قلَّ الأوكسجين لضاق نفَس الإنسان، أحياناً في الطائرات يقولون لك: يوجد كمَّامة، أي إذا ضاق تنفُّسك استعمل هذه الكمامة، معنى هذا أن تشعر بالراحة في أثناء التنفس هذه من نِعم الله العظمى، أن تجد أمامك الماء العذب الفرات الزلال، هذه نعمةٌ ثانية، أن تجد طعامك وشرابك، أن تأوي إلى بيتك، أن تلتقي بأهلك، أن تجد أولادك بينك يمرحون، هذه كلُّها نعمٌ أساسها العطاء، والمؤمن نعم الدنيا متصلةٌ بنعم الآخرة، فإن صحَّ التعبير خطه البياني صاعداً صعوداً مستمرًّا ثابتاً، وما الموت إلا نقطةٌ على هذا الخط الذي في صعود مستمر، أي نعيم الدنيا متصلٌ بنعيم الآخرة، هذا إذا استقام على أمر الله، ولقول الله عزَّ وجل:

﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)﴾

[ سورة الرحمن ]

 

الرحمة أحياناً تقتضي التضييق والشدَّة:


لكن الرحمن رحيمٌ في ذاته، لكن فعله مؤدَّاه الرحمة، لكن قد يكون في ظاهره قسوة، الطبيب الأب إن رأى في صحة ابنه خللاً ألا يمنعه من بعض الطعام؟ إن استوجب عمليَّةً جراحيَّةً وكان جرَّاحاً ألا يُمْسك المبضع بيده ويفتح بطنه؟ لذلك لا يمكن أن تُفسَّر الأفعال التي يفعلها الله عزَّ وجل إلا بهذا الاسم: الرحمن الرحيم، رحمنٌ في ذاته رحيمٌ بخلقه، لكن الرحمة أحياناً تقتضي أحياناً التضييق والشدَّة "أوحى ربُّك إلى الدنيا أن تكدَّري، وتمرَّري، وتضيَّقي، وتشدَّدي على أوليائي حتى يحبوا لقائي"

أحياناً سرّ نجاحك ضيقٌ أصابك، سرّ توبتك إلى الله شدةٌ تبعتك، يقولون: ما من شِدَّةٍ إلا بعدها شَدَّة إلى الله، ما من مِحْنَةٍ إلا بعدها مِنْحَة من الله عزَّ وجل، فالشر المطلق لا وجود له في الكون، الشر المطلق يعني الشر المطلوب لذاته، لا وجود له في الكون إطلاقاً، لكن كلّ الشر الذي يبدو لنا إنه شرٌ هادف، هدفه إصلاح النفس، وحملها على طاعة الله عزَّ وجل.

 

أوامر الله ونواهيه في القرآن من رحمته بالناس:


إذاً هذا الكتاب إذا قرأناه رحمنا الله به، إذا قرأناه وتدبَّرنا آياته فالله سبحانه وتعالى يسعدنا به. 

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 

(( ما اجتمَعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللَّهِ يتلونَ كتابَ اللَّهِ، ويتدارسونَهُ فيما بينَهم إلَّا نزلَت عليهِم السَّكينةُ، وغشِيَتهُمُ الرَّحمةُ، وحفَّتهُمُ الملائكَةُ، وذكرَهُمُ اللَّهُ فيمَن عندَهُ. ))

[ رواه مسلم وأبو داود بإسناد صحيح ]

لأنها كلها مبادئ، تجد المسلم لا يعرف هذه النعم لأنها متوافرة، أي حركته وفق منهج، هذا حرام، هذا حلال، هذا يجوز، هذا لا يجوز، فقراءة القرآن أمر الله له بغض البصر هذا يجعله عفيفاً، هذا يمنعه من منزلقات خطيرة، أمر الله له بعدم أكل أموال الناس بالباطل، ليست هذه الأوامر قيداً تقيِّد حرية الإنسان، بل هي ضمان لسلامته، وهناك رأي دقيق جداً: أنه لو كان ألف مليون مسلم، إذا أمرك الله عزَّ وجل بألا تأكل أموال الناس بالباطل، أمرك أنت، وأنت واحد، لكنَّه أمر ألف مليون مسلم ألا يأكلوا مالك بالباطل، فهذا الأمر لصالحك، إذا أمرك أن تغضَّ البصر عن امرأةٍ لا تحل لك، أمر كل المؤمنين أن يغضوا بصرهم عن زوجتك، فالإنسان حينما يقرأ القرآن، وحينما يستوعب أوامره ونواهيه، وحينما ينطلق إلى تطبيقه يشعر بعزِّ الطاعة، يشعر بسعادة ما بعدها سعادة، حياته نظيفة بالمعنى الدقيق، ليس عنده باطن وظاهر، باطنه كظاهره، ظاهره كباطنه، واضح وضوح الشمس، هذا من نِعَم الله في القرآن، وهناك شيء آخر: "من تعلَّم القرآن متَّعه الله بعقله حتَّى يموت" ، يمكن ما من مرحلة صعبة في الحياة كمرحلة أرذل العمر، قال تعالى: 

﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)﴾

[ سورة النحل ]

فهذه المرحلة صعبة جداً، وإذا تعلَّم الإنسان القرآن متَّعه الله بعقله حتى يموت، أي قارئ القرآن مضمونٌ له ألا يخرف أبداً، وأن يعيش مستمتعاً بعقله طول حياته إلى أن ينتهي أجله. 

 

أفعال الله متعلقة بالحكمة المطلقة:


أيها الإخوة الكرام؛ هذه الآية ﴿تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ لا تبقي في النفس مرضاً، لا تبقي في النفس يأساً، لا تبقي في ضيقاً من الرحمن الرحيم، أي ليس في الإمكان أبدع مما كان، "ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني" ، هذا قول الإمام الغزالي، أي كل شيءٍ وقع ما دام رحمنٌ رحيم، والفعل بيده لا يوجد غيره، فإن كان هناك غيره نقول: هذا ليس فعله، لكن ما دامت كل الأفعال له، كل شيءٍ وقع إذاً أراده الله، أو أن كل شيءٍ أراده الله وقع، مادام وقع أراده الله، معنى الإرادة هنا أنه سمح بوقوعه.

﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)﴾

[ سورة التغابن ]

ما دام وقع فقد أراده الله، إرادة الله متعلِّقةٌ بالحكمة المطلقة، معنى الحكمة أن هذا الشيء الذي وقع لو لم يقع لكان عدم وقوعه نقصاً في حكمة الله، إذاً كل شيءٍ وقع أراده الله، وكل شيء أراده الله وقع، وإرادة الله متعلِّقةٌ بالحكمة المطلقة. 

الإنسان أحياناً يفعل شيئاً ليس حكيماً، يقول لك: انضغطت، لم أستطع، أو أغريت، إما بدافع الإغراء أو بدافع الضغط يرتكب عملاً غير حكيم، يفعل عملاً غير حكيم، أو بدافع الجهل، إما أنه يجهل، أو ضُغِطَ عليه، أو أُغري بشيء، فكان فعله غير حكيم، الأشياء الثلاث الله جلَّ جلاله منزَّهٌ عنها، إذاً أفعاله متعلِّقةٌ بالحكمة المطلقة، وحكمته متعلِّقةٌ بالخير المطلق، وليس النسبي، معنى المُطلق أن الخير المطلق ينتهي إلى الخير، قد يُضيِّق الأب على ابنه، بعد حين صار شخصيَّةً لامعة في المجتمع، فهذا النجاح الذي حقَّقه الابن ما كان له أن يكون لولا ضغط أبيه عليه، في أثناء الضغط الضغط مزعج، وقد لا يبدو للابن أن هذا الضغط لصالحه، لكن بعد أن يصل به هذا الضغط إلى مكانةٍ رفيعةٍ في المجتمع يحمد أباه على ذلك، لذلك هناك آية قرآنيَّة دقيقة، يقول الله عز وجل يصف أهل الجنَّة:

﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)﴾

[ سورة الزمر ]

أي نحن في الجنَّة ننعُم بها، لولا أننا كنا في الأرض، وقد عرفنا الله في الأرض، واستقمنا على أمره في الأرض، وفعلنا الخيرات لما وصلنا إلى الجنَّة، لذلك حينما يصل الإنسان إلى الدار الآخرة يُلَخِّص معاملة الله له في الدنيا كلِّها بكلمةٍ واحدة هي: الحمد لله رب العالمين..

﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)﴾

[ سورة يونس  ]

 

كلَّما ارتقى إيمان الإنسان يشكر الله عزَّ وجل على كل شيء:


كنت أقول لأحد إخواننا الكرام وهو في محنة: والله الذي لا إله إلا هو لو كُشِف لك الغطاء يوم القيامة عن حكمة هذه المصيبة لذُبت كما تذوب الشمعة حباً بالله عزَّ وجل، وهذا والله إيماني، ما من شيءٍ يقع مكروه لو كشف الله لك الحكمة لذابت نفسك حباً لله عزَّ وجل، فكلَّما ارتقى إيمان الإنسان يشكر الله عزَّ وجل على كل شيء، تجده مستسلمًا، راضٍيًا..

فليتك تحلــــو والحيــاة مـريــرةٌ         وليتك ترضى والأنام غِضابُ

وليت الذي بينـــــي وبينك عامرٌ         وبيني وبين العالمين خـــرابُ

إذا صحَّ منك الوصل فالكل هيِّنٌ         وكل ما فوق التراب تـــــراب

[ أبو فراس الحمداني ]  

   * * *

أحياناً الإنسان قد يفلِّس، يحترق محله كله، إذا احترق محله وأفلس وحمله هذا على الصلاة فالمصيبة موفية معه، أحياناً يصاب الإنسان بمصيبة كبيرة جداً، أنا أعرف رجلاً شارداً على الله شرود البعير، بعيدًا عن الدين، مستهترًا، كثير السخرية بالأفكار الدينيَّة، فوجئت أنه يلتزم التزامًا تامًا في بعض المساجد، فلمَّا استوضحت الحقيقة منه قال لي: لي ابنةٌ هي أغلى عليَّ من نفسي، أُصيبت بمرضٍ عضال، وبذلت من أجلها كل شيء حتى بعت بيتي، وخطر لي مرَّةً لعلّني إذا تُبت إلى الله أنا وزوجتي لعلَّ الله يشفيها من هذا المرض العُضال، ومن هنا انطلق، تاب إلى الله، وبدأ يصلي، وحجَّب امرأته، وسبحان الله ربنا عزَّ وجل استجاب له، وأزاح عن ابنته الحبيبة إلى قلبه هذا المرض العضال، فبعد أن امتد به العمر، والتزم المساجد، وأقبل على الله، وصار من أهل الإيمان، التقيت به مرَّةً قلت له: ألا تذكر حينما جاءت هذه المصيبة وقتها كانت مؤلمةً جداً، انظر إلى أثر هذه المصيبة؟ ردَّتك إلى الله أنت وزوجتك. 

هكذا يفعل الله عزَّ وجل، هكذا أفعال الله، يسوق الشدَّة كي يشُدُّك إليه، يسوق المِحنة كي يمنحك الهدى، فالإنسان المؤمن مستسلم، هو عليه أن يطيع الله عزَّ وجل، لكن أي شيءٍ يأتيه لأن الله عزَّ وجل رحمن رحيم، ﴿تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ .

 

الدين أوامر ونواه تضمن للإنسان سعادته في الدنيا والآخرة:


إذا قرأت القرآن فهو من عند الرحمن الرحيم، بعض الأشخاص يتوهَّمون أن الدين قيود، لا يا أخي، الدين حدود وليس قيوداً، حدودٌ لسلامتك، أي ممكن إنسان أن يرى في حقلٍ لوحة مكتوبًا عليها: احذر حقل ألغام، هل من الممكن لإنسان أن يعدَّ هذه اللوحة تقييداً لحريَّته؟ لكنَّه يشكر من أعماق قلبه من وضعها في هذا المكان، إنها ضمانٌ لسلامته، حين يضعون على التوتر الكهربائي العالي خطر الموت، يرسمون جمجمة وعظمتين، فهل هذا قيد لحريَّتك أم هو ضمانٌ لسلامتك؟ هكذا، حينما تفهم الدين أنه أوامر ونواه تضمن لك سعادتك في الدنيا والآخرة هذا الفهم هو الصحيح، أما إذا فهمت الدين أنه ثقيل، وأنه كلَّه قيود، يا أخي الإنسان يتقيَّد بالدين، أريح من دون دين، حرية حركة معه، ماذا قال الله عزَّ وجل؟ قال:

﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)﴾

[ سورة البقرة  ]

كلمة على تفيد الاستعلاء، أي وأنت مقيَّد بكل أوامر الدين الدين يرفعك إلى أعلى عليين، والكفَّار قال:

﴿ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)﴾

[  سورة يس  ]

في تفيد دخول شيء بشيء، وأنت فيما يبدو لك وللناس حر الحركة، في النهاية مقيَّدٌ بالذنوب والآثام التي ارتكبتها.

﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)﴾

[ سورة المدثر ]

 طُلَقَاء، فالذي يبدو لك أنه قيد هو سبب حريَّتك، والذي يبدو لك أنه يعطيك الحريَّة هو سبب القيود التي تُفرَض عليك، هذه من عظمة الدين، فكلمة الرحمن الرحيم تعني أن الله خلقنا ليرحمنا، خلقنا ليسعدنا، خلقنا ليهدينا، فإذا صار هناك تلكُّؤ تأتي الشدائد. 

مرَّة قال لي أخ كريم: هذه الدروس ما مضمونها؟ فقلت له: كلمتان، إما أن تأتيه ركضًا أو أن يأتي بك ركضًا، اختر واحدة منهم؟ إما أن تأتيه مسرعاً مشتاقاً، أو أن الله سبحانه وتعالى يعرف كيف يحملك على أن تأتي إليه، وعلى أن تسرع إليه، فالبطولة أن تأتيه من تلقاء ذاتك، البطولة وأنت صحيحٌ شحيح، وأنت في أوج حياتك ونجاحك، وغناك وصحَّتك وقوَّتك أن تأتي إلى بيوت الله، أن تفهم كلام الله، أن تفهم سُنَّة رسول الله، أن تلتزم بالأمر والنهي حتى يرحمك الله، وحتى يتحقَّق فيك اسم الله عزَّ وجل الرحمن الرحيم، حتى تشعر برحمة الله، هذه الرحمة قريبة من المحسنين. 

إن شاء الله في درس قادم نتابع معنى قوله تعالى:

﴿ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)﴾

[ سورة فصلت ]

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور