وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 8 - سورة الجاثية - تفسير الآيات 30 - 37 الإيمان الحقيقي يؤدي لاستقامة باهرة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان:


 أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثامن والأخير من سورة الجاثية، ومع الآية الثلاثين، وهي قوله تعالى:

﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)﴾

[ سورة الجاثية ]

أيها الإخوة الكرام؛ لما قال الله عزَّ وجل: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي أعمال الإنسان؛ دقيقها وجليلها مسجلةٌ عليه، ويوم القيامة تعرض عليه هذه الأعمال ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ والإنسان في هذه الحياة الدنيا إذا شعر أنه مراقب، أو أن اتصالاته مراقبة، أو أن حركاته مراقبة ينضبط أشد الانضباط، ينضبط مع مخلوقٍ مثله، ربما كان أقوى منه، فكيف مع رب الأرض والسماوات؟ ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ كل حركةٍ، كل سكنةٍ، كل قولٍ، كل فعلٍ، كل نظرةٍ، كل تنصتٍ، كل استماعٍ، كل مزاحٍ، كل غضبٍ، كل وصلٍ، كل فصلٍ، كل عطاءٍ، كل مَنْعٍ، كل ضحكٍ، كل عبوسٍ، كل الحركات والسكنات، والأحوال والأقوال، والاتصالات، والغضب والرضا، والكرم والبخل، كله مسجل، قيل: "أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان" .


إذا أردت أن تعلو، أن يرقى إيمانك إلى مستوى أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك:


﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)﴾

[ سورة الحديد ]

أنت أيها الأخ الكريم؛ تستحيي من إنسانٍ كبيرٍ في أسرتك، تستحيي أن يسمعك تقول كلمةً بذيئة، تستحيي أن يراك في ثيابٍ مبتذلة، تستحيي أن يراك غضوباً، فكيف بخالق الأرض والسماوات؟! 

 

لا يستقيم الإنسان إلا إذا رأى أن الله معه يراقبه:


﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ هذه الآية كان السلف الصالح إذا صلى قيام الليل، وقرأ آيةً فاهتزَّت مشاعره بها يعيدها إلى الفجر، ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ في عملك، في دكَّانك، في المخبر، في مكتب المحامي، في عيادة الطبيب، في مكتب البيع والشراء، مع خصومك، مع أحبابك، مع أقربائك، مع أعدائك، هل كنت عادلاً؟ هل أنصفت الناس من نفسك؟ هل قلت كلمة الحق ولو كانت مُرّة؟ هل وقفت الموقف الأخلاقي؟ هل حابيت أولادك؟ هل قلبت الحق إلى باطل والباطل إلى حق من أجل أقربائك؟ هل اخترت رجلاً ليس كفئاً بعملٍ محاباةً له، وتجد مَن حوله من هو أكفأ منه؟ إن فعلت هذا فقد خنت الله ورسوله، هل كبَّرت على إنسانٍ قضيته ضخمتها من أجل أن تأخذ مالاً وفيراً؟ هل هوَّنت على إنسانٍ قضية من أجل أن تأخذ منه مالاً أيضاً؟ ماذا فعلت؟ ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ .

أيها الإخوة الكرام؛ لا يستقيم الإنسان إلا إذا رأى أن الله معه يراقبه،

(( النبي عليه الصلاة والسلام رأى بعض أصحابه يضرب غلاماً، قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي بِالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، فَلَمْ أَفْهَمْ الصَّوْتَ مِنْ الْغَضَبِ، قَالَ: فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، قَالَ: فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي، فَقَالَ: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ ، قَالَ: فَقُلْتُ: لَا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا. ))

[ صحيح مسلم ]

حينما يشعر الإنسان أن المخلوقات التي هو أقوى منها حسيبها ربُّ العالمين، سيدنا عمر بن عبد العزيز دخلت عليه زوجته فاطمة بنت عبد الملك رأته يبكي، قالت: "مالك تبكي؟  قال: دعيني وشأني، فلما ألحَّت عليه قال: يا فلانة، إني وُليتُ هذا الأمر، ونظرت في الفقير الجائع، والضائع، وذي العيال الكثير والرزق القليل، والمريض، والشيخ الكبير- ذكر أصنافاً تزيد عن ثمانية عشر صنفاً، النص لا أحفظه الآن بدقته- فقال: فنظرت فرأيت أن الله سيسألني عنهم جميعاً، وأن حجيجي من دونهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهذا أبكي" .

هل سألت نفسك هذا السؤال: يا ترى أنا أعطيت من حولي حقه؟ أدَّيت الواجبات؟ ربيت أولادي التربية الصحيحة؟ ربيت بناتي التربية الصحيحة؟ اخترت لهن أزواجاً أطهاراً أم أن المال هو الذي غرك في قبول هذا الشاب؟ لمْ تسأل عن دينه، في دينه رقة لم تبالِ بها، أردت المال فقط، هذه الفتاة يوم القيامة التي تقول: "يا رب، لن أدخل النار حتى أدخل أبي قبلي، لأنه هو الذي زوجني من هذا الرجل، وهو الذي حملني على الفساد" .

 

الأبوة الكاملة سبب لدخول الجنة:


لذلك:

(( عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ فَصَبَرَ عَلَيْهِنَّ، وَأَطْعَمَهُنَّ، وَسَقَاهُنَّ، وَكَسَاهُنَّ مِنْ جِدَتِهِ كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنْ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ))

[ ابن ماجه بسند صحيح ]

أنت أب، تربية البنات والأولاد شيءٌ عظيمٌ جداً، شيءٌ كبيرٌ جداً، إذا ربَّيْتَ أولادك التربية الصحيحة، ونِمْتَ قرير العين فأولادك من دون عملٍ آخر يدخلانك الجنة.

فالأبوة أيها الإخوة؛ الكاملة سبب لدخول الجنة، الأمومة الكاملة سبب لدخول الجنة، الدعوة إلى الله الصادقة سبب لدخول الجنة، إتقان عملك ورحمة المسلمين وأن ترحم المسلمين سبب لدخول الجنة، فأبواب الجنة مفتحةٌ على مصاريعها، كل عملٍ ابتغيت به وجه الله، وأتقنته، ورحمت به المسلمين هو سببٌ لدخول الجنة، فلذلك أنت مراقب، افعل ما تشاء، قال تعالى:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)﴾

[ سورة فصلت ]

هذا اسمه أمر تهديد، اعمل وأكثر، افعل ما تشاء فكله مسجل، ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ .

 

من يخلص في عمله يجزيه الله عزَّ وجل خير الجزاء:


﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)﴾

[  سورة المائدة ]

في آية أخرى:

﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)﴾

[ سورة آل عمران ]

سُجِّلت، فقبل أن تقول كلمةً، قبل أن تغتاب إنساناً، قبل أن تفتري على إنسانٍ، قبل أن تصغِّر إنساناً، انظر أن هذا الكلام مسجل، كلّه مسجَّل، ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ هذه الآية يمكن أن تقف عندها وقفةً طويلة، أعمالك، في بيتك، وأنت في خلوَتك، وأنت مع أهلك، وأنت مع خصومك، وأنت مع زبائنك، وأنت مع المراجعين إن كنت موظفاً، وأنت مع المرضى إن كنت طبيباً، وأنت مع الموكِّلين إن كنت محامياً، وأنت مع الطلاب إن كنت مدرساً، وأنت مع أي مخلوقٍ. 

أيها الإخوة الكرام؛ لماذا ذكر عليه الصلاة والسلام:عن أبي هريرة رضي الله عنه:

(( أَنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنْ الْعَطَشِ، فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا فَغُفِرَ لَهَا. ))

[ صحيح  مسلم ]

قد يقرأ الإنسان هذا الحديث فيقع في حيرة، هل من المعقول أن تكون سقاية كلب سببًا للمغفرة؟! بعضهم قال: إن هذا الكلب في الصحراء لا صاحب له، لا تنتظر من صاحبه أن يشكرها، وهذا الكلب لا يمكن أن يقدِّم لها شيئاً مقابل هذه الخدمة، لا الكلب بإمكانه أن يجزيها على عملها ولا صاحب الكلب وليس موجوداً، ولا أحد يراها حتى تشعر أنها عملت عملاً عظيمًا أثنى الناس عليها، كل عوامل الشرك منفية بهذا العمل، ليس هناك أناس يراقبونها حتى تزهو أمامهم بهذا العمل، يقولون: المحسن الكبير، ولا يوجد صاحب لهذا الكلب يشكرها على عملها، ويعطيها مكافأة نظير إنقاذها هذا الكلب، ولا الكلب قادر على أن يعطيها شيء، لكنها سقته ابتغاء وجه الله، فاستحقت المغفرة، فإذا أخلص الإنسان في عمله يجزيه الله عزَّ وجل، يكفيك أن الله يراقبك، يكفيك أن الله مطلعٌ على سريرتك، يكفيك أنك بعين الله، يكفيك أن كل كلمةٍ تقولها الله عزَّ وجل يراقبها:

﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)﴾

[ سورة الفجر ]

هل أنت صادقٌ بها؟ هل أنت مخلصٌ لها؟ هذا المريض هل يحتاج إلى تخطيط قلب فعلاً، هو لا يعرف، أي شيء تقوله له يصدقه، تخطيط تخطيط، هل هو بحاجة إليه أم أنك تريد أن ترفع من أجرك مثلاً؟ هذه الدعوى مقطوع بنجاحها أم أن الأمل ضعيف؟ إذا كان الأمل ضعيفاً كيف تقول للموكل مضمونة مئة بالمئة، الله عز وجل بالمرصاد.

 

الدين بالمعاملة والالتزام:


 لو انضبط الناس هذا الانضباط أيها الإخوة لكنا في حال غير هذا الحال، كنا في حال من الوئام، من المحبة، من الثقة، والله الحياة بين المؤمنين سعادة كبيرة جداً، أولاً يوجد ثقة ترتاح، إذا لم يكن هناك ثقة تصبح معركة، الشراء معركة، البيع معركة، كل شيء فيه لغم، كل شيء فيه مطب لا تعرف، إن اشتريت فأنت خائف، إن بعت فأنت خائف، إن تعاقدت فأنت خائف، هذا الخوف الذي يأكل القلوب سببه عدم الثقة، وعدم الثقة من عدم الإيمان، أما لو أن كل إنسان راقب الله عزَّ وجل القصة التي أقولها آلاف المرات هذا الذي سأله ابن عمر كما تروي الكتب مختبِرًا أمانته، قال له: "بعني هذه الشاة، وخذ ثمنها، قال له: ليست لي، قال له: قل لصاحبها: ماتت، قال له: ليست لي، قال له: خذ ثمنها، قال له: والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها: ماتت أو أكلها الذئب لصدَّقني، فإني عنده صادقٌ أمين، ولكن أين الله؟!"

إنسان يَصْدق هل يتركه الله فقيرًا؟ إنسان لا بغش أبداً، لا يتكلم كلمة، لي صديق عنده قطعة تبديل لسيارة خمس سنوات ولم تبع معه، غالية جداً، فجاءه شخص يطلبها، قال لي: وأنا على السلم سألني: هل هي أصلية؟ وهي ليست أصلية، قال له: ليست أصلية، قال له: أنزلها، كلمة، لو قال له: أصلية كان البيع حراماً، أنت يجب ألا تخف في الله لومة لائم، هذا المؤمن.

تكلمت مرة عن قصة أحد إخواننا قال لي: أنا ألف محركات قبل أن أعرف الله عز وجل، أحياناً أجد المحرك أجرته خمسة آلاف ليرة، أفتحه فأجد خطاً مقطوعاً ألحمه بالكاوي بخمس دقائق، يأتي بعد أسبوع أقول لك: كان محروقاً أشغله له، أقول له: خمسة آلاف ليرة، بعد أن عرفت الله آخذ خمساً وعشرين ليرة، لأنه لا يستطيع، لم يلفه، لكن هذا لا يعلم، إذا كان هناك إيمان حقيقي نجد الاستقامة والخوف من الله شيء مبهر. 

إنسان يبيع بناية من اثنتي عشرة سنة، ولم تسجل، ويعرض عليه أصحاب البيوت كل واحد مليون ليرة، وسجل لنا، سعرها كان بثمانية وثلاثين ألفاً، وأصبح ثمنها اثني عشر مليوناً، بعدما صار في إمكانه أن يسجل لا يأخذ قرشًا زائدًا، يقول لهم: أنا أخذتُ حقي، وليس لي عندكم شيء أبداً، تفضلوا سأسجل لكم، هذا هو المؤمن، الآن تجد ألف إنسان يقول لك: ادفع مليوناً لأسجل البيت لك، أنت أخذت ثمن البيت بكامله سابقاً؟!

الدين ليس بالصلاة فقط، وليس بالصيام فقط، الدين بالمعاملة، الدين بالالتزام، بالاستقامة، لما ظهر الإسلام صارخاً في سلوكِ أصحاب رسول الله عليهم رضوان الله فتحوا العالمين، فلما انكمش الإسلام إلى عباداتٍ تؤدى أداء أجوفَ أصبحنا مقهورين، أصبح المليار والمئتا مليون لا يزنون في ميزان القوى قشةً.

 

لن تستقيم على أمر الله إلا إذا علمت أن الله يعلم وسيحاسب:


الله تعالى يقول:

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾

[  سورة النور ]

فيا إخواننا الكرام؛ من أجل أن نوفِّر الوقت، وأن نكسب الحياة،  القضية في الدين ليس لمن سبق، لا لمن له في المسجد عشر سنوات، لا، الدين لمن سبق، لا لمن سبق لمن صدق، لمن صدق في معاملة الله عزَّ وجل، وأنت كلما بالغت في استقامتك على أمر الله أراك الله من آياته الشيء الكثير، أراك الله من آياته ما يبهر وما يُدْهِش، إذاً الآية الكريمة: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ كله مسجل أبداً، والمفاجأة التي تصعق يوم القيامة يقول تعالى:

﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)﴾

[ سورة الكهف ]

هذا الإيمان، تجد أناساً يصلون، ويصومون، ويحجون، ويزكون، لكن يوجد ملكان وكل شيء مسجل بأدق التفاصيل لا يصدق هذا من ضعف إيمانه:

﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)﴾

[ سورة ق ]

كله مسجل، أي إذا علمت أن الله يعلم فلا مشكلة إطلاقاً، حُلَّت كل مشكلاتك، بل إن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض من أجل أن تعلم أن الله يعلم، والدليل:

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)﴾

[ سورة الطلاق ]

علة الخلق أن تعلم: ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ .

أيها الأخ الكريم؛ لن تستقيم على أمر الله إلا إذا علمت أن الله يعلم، وسيحاسب، وأنت في قبضته، إذا أيقنت أنه يعلم وأنت في قبضته وسيحاسب فالاستقامة حتمية، لأنك تستقيم مع إنسان حتماً إذا أيقنت أنه يعلم، وسيحاسب، وأقوى منك، تستقيم على أمره، وهو من جنسك ضعيفٌ مثلك. 

 

الناس رجلان؛ مؤمن وكافر:


الآن أيها الإخوة؛ تصور خمسة آلاف مليون من البشر لهم نِحَل، لهم ملل، لهم أجناس، لهم أَعْراق، لهم منابت، لهم ثقافات، لهم مناهج، لو أردنا أن نقسِّم البشرية إلى كم قسم ستنقسم؟ يقول لك: العنصر السامي، والعنصر الآري، والعنصر الأنجلوساكسوني، والعنصر الأبيض، والملونون، وشمال الكرة الغني، وجنوبها الفقير، وشرقها الذي يؤمن بالمجتمع، وغربها الذي يؤمن بالإنسان، كم تقسيم يوجد؟ وكل عرق أقسام لا تعد ولا تحصى، وكل قسم طوائف، وكل طائفة مذاهب، وكل مذهب شُعَب، وكل شُعَب قبائل، وكل قبيلة عشائر، وكل عشيرة أسر، كم تقسيم يوجد؟ التقسيمات التي في الأرض لا تعد ولا تحصى، كم مذهباً؟ كم اتجاهاً؟ كم مشرباً؟ كم منزعاً؟ كم نزعة؟ كم مبدأ؟ شيء لا يعد ولا يحصى، كل هؤلاء البشر على اختلاف نحلهم، ومللهم، وأجناسهم، وأعراقهم، وأنسابهم، وأصولهم، وفروعهم، وانتماءاتهم، ومذاهبهم، وعقائدهم، وأحزابهم، وطوائفهم، ومذاهبهم، وعشائرهم، وقبائلهم، وأسرهم، نوعان في النهاية، انظر إلى دقة القرآن، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31)﴾ معنى ذلك أن كل التقسيمات باطلة، الإنسان مؤمن وكافر، متصل ومنقطع، منضبط ومتفلِّت، محسن ومسيء، مُنصف وظالم، هذا الإنسان، سعيد وشقي، يؤْثر شهوته أو يؤثر مبدأه، يؤثر الدنيا أو يؤثر الآخرة، مذهبان في النهاية، لا يوجد إلا اتجاهان، إما أن يكون الإنسان مؤمناً بصرف النظر عن جنسه وعرقه، وأصله وحسبه ونسبه، وثقافته، وحرفته، وأسرته، وقبيلته، وعشيرته، وطائفته، وملَّته، ومذهبه، بصرف البصر أو يكون كافرًا، الناس رجلان؛ مؤمن وكافر، موصول ومقطوع، منضبط ومتفلِّت، محسن ومسيء، مُنصف وظالم، رحيم وقاتل، يؤْثر شهوته أو يؤثر مبدأه، يؤثر الدنيا أو يؤثر الآخرة، يهديه عقله أو تهديه غريزته، في الحياة شيء اسمه الاثنينية، إما مع هؤلاء، وإما مع هؤلاء، وملة الكفر واحدة في شتى بقاع الأرض، وفي كل الحقب والعصور والأزمان، والمؤمنون بخندقٍ واحد في كل العصور والأزمان والفصول، المؤمن مؤمن أينما كان، والكافر كافر، المحسن محسن، المسيء مسيء، الظالم ظالم، والمنصف منصف، أينما ذهبت، لذلك هذا هو التقسيم الصحيح، مؤمن وغير مؤمن، منضبط متفلت، محسن مسيء، رحيم قاسي، منصف ظالم، أبداً، فربنا عزَّ وجل كل هذه التقسيمات، وهذه الانتماءات، وهذه العنعنات، وهذه العنجهيات، وهذا التشقيق، وذاك التفريع، وفلان نسبه إلى كذا، وفلان عربي أصيل، وفلان ينتهي إلى نسب غير عربي، وفلان من الدول الغنية، من الدول الفقيرة، كل هذه التقسيمات لم يعبأ الله بها، قال في النهاية: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ لماذا كفروا؟ وما علة كفرهم؟ الآية الأولى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ إذاً أيّ شيء اسمه إيمان وحده لا قيمة له.

 

العلم وسيلة في الإسلام:


أيها الإخوة الكرام؛ العلم ليس مقصوداً لذاته في الإسلام، العلم وسيلة، وكل إنسان اكتفى بالعلم فهو جاهل، جاهل وهو عالم، لأنه اكتفى بالعلم، أي فهم الآية، حللها، تنَمَّق في شرحها، لكن لم يطبقها، لذلك الدعاء الذي يقصم الظهر: "اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحدٌ أسعد بما علمتني مني" يمكن أن تشرح لإنسان آية، وتتفنن بشرحها، وتتعمق في مدلولها، وتأتي بأمثلة، لكن المستمع عَقَل هذه الآية، وطَّبقها، وسبقك: "اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحدٌ أسعد بما علمتني مني" انتبه إلى نفسك، لا تجعل أحداً من المستمعين أسعد منك بهذا القرآن، لا تجعل الذين تدعوهم إلى الله أسعد منك بهذا الدين، لا تجعل من يستمع إليك أوعى منك، إيَّاك أن تفعل هذا، هذا الذي جاء في الأثر: أندم الناس رجلٌ دخل الناس بعلمه الجنة، ودخل هو بعلمه النار، عَنْ أبي هريرة: 

(( مَنْ تعلَّمَ العلْمَ ليُباهِيَ بِهِ العلماءَ، أوْ يُمارِيَ بِهِ السفهاءَ، أوْ يصرِفَ بِهِ وجوهَ الناسِ إليه، أدخَلَهُ اللهُ جهنَّمَ. ))

[ صحيح الجامع: خلاصة حكم المحدث : صحيح ]

الإخلاَصَ الإخلاصَ، تعامل مع الله بإخلاص، تعامل معه بصدق، لا يكن لك سر وعلانية، لا تكن ازدواجيًا، لك موقف معلن وموقف حقيقي، ورع ظاهر وعدم ورع باطن، لك خلوة لا ترضي الله وجلوة ترضي الناس، لا تكن كذلك، كن موحَّد الاتجاه، الذي في قلبك على لسانك، والذي تقوله في قلبك، وعلانيتك كسريرتك، وظاهرك كباطنك، هكذا المؤمن، وذو الوجهين ليس عند الله وجيهاً، وهذا هو النفاق.

 

اقتران الإيمان بالعمل الصالح:


 قال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ العمل الصالح اقترن مع الإيمان في أكثر من مئتي آية في القرآن الكريم، الإيمان هو العقيدة، والعمل الصالح هو السلوك، الإنسان فيه جانب معرفي، وجانب سلوكي، إن لم يكن هناك تطابق كان هناك النفاق، من أي شيء كانت عظمة الأنبياء؟ من أنهم فعلوا ما قالوا، وقالوا ما فعلوا، ليس هناك مسافة أبداً بين أقوالهم وأفعالهم، وإذا كنت كذلك فأنت من الموفَّقين، ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ كل عطاء الله عزَّ وجل الجنةُ وما فيها مِن قرب مِنَ الله، ما فيها من جناتٍ تجري من تحتها الأنهار، ما فيها من حورٍ عين، ما فيها من ألوان النعيم، وألوان القرب من الله عزَّ وجل، والدنيا وما فيها من عز، وما فيها من صحة، وما فيها من سعادة، وما فيها من سكينة، عطاء الله إجمالاً عبَّر الله عزَّ وجل عنها بكلمة رحمة.

 

من كان في رحمة الله رعاه الله ووفقه:


﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ﴾ أي أنت في رحمة الله، أي أنت في توفيق الله، أي أنت في ظلّ الله، أي أنت في رعاية الله، أي الله يدافع عنك، يرفع شأنك، يعلي قدرك، يرفع ذكرك، هذه رحمة الله عزَّ وجلّ، يُقدِّر على يديك الأعمال الكبيرة الجليلة العظيمة، هذه رحمة الله عزَّ وجل، تعيش سعيداً، تموت حميداً، إذا انقلبتَ إلى الله عزَّ وجل انقلبتَ إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض، كلمة رحمة الله عز وجل أي شيء لا يوصف:

﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)﴾

[  سورة هود ]

أي خلقك ليرحمك، ورحمته في الدنيا والآخرة، مادياً ومعنوياً، هذه رحمة الله.

 

علامة العلم أن ترى العطاء عطاء الله والهدى هدى الله:


قال تعالى: 

﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30)﴾

[ سورة الجاثية ]

أي إذا انتهت بك الدنيا إلى الجنة، واللهِ الذي لا إله إلا هو سوف ترى أن أقوى الأقوياء ليس أمامك بشيء، وأنت مؤمن عادي مغمور، لست مشهورًا، لا أحد يعرفك، إذا عرفت الله، وعرفت منهجه، واستقمت على أمره حينما تكشف الحقائق، وتنزع الأقنعة المزيَّفة، وترى أن المؤمن هو الذي أفلح، وهو الذي نجح، وهو العاقل، وهو الذكي، وهو المتفوِّق، وهو الفائز، وهو كل شيء، وأقوى الأقوياء، وأغنى الأغنياء، وأذكى الأذكياء، تراه في الحضيض يوم القيامة، فلذلك لا يحَقِّر الإنسان من شأنه يقول: من أنا؟ لا أحد يعرفني؟  سيدنا عمر رضي الله عنه في معركة نهاوند فيما أذكر جاءه رسول من هذه المعركة من أمير الجيش، قال له: كيف الأحوال عندكم؟ قال: واللهِ مات خلقٌ كثير، قال له: من هم؟ ذكر له أسماء عدد كبير من الصحابة استشهدوا في سبيل الله، قال له: ومن أيضاً؟ قال له: مات خلقٌ كثير لا تعرفهم، أي لا تعرفهم بالاسم، فبكى بكاءً شديداً، وقال هذا الخليفة العظيم: وما ضرهم أني لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم؟ هذه علامة الإخلاص، إذا لم يكن أحد يعرفك لا توجد مشكلة أبداً إذا كان الله يعرفك، إذا كان الله مطَّلعًا على عملك، مطلعًا على نواياك، مطلعًا على استقامتك، مطَّلعًا على خوفك منه، مطَّلعًا على حرصك على طاعته، فلذلك: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾ خالق الكون يقول: ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾ هذا الفوز، انظر إلى الناس، الذي اشترى أرضًا، وصار ثمنها مئة ضعف يقول لك: فوق الريح، ما معنى فوق الريح؟ ألن يموت بعد ذلك؟ الذي عنده وكالة حصرية، والبيع بغير حساب، والوكالة متينة بيده، والسوق مثل النار كما يقولون، يقولون: هذا بيته بالجنة، ألن يموت هذا؟ انظر إلى مقاييس الناس، مقاييس الناس الذي عنده بيت واسع، الذي عنده دخل كبير، المتمكن من مركزه يظنوه ذكياً وشاطراً وقوياً، الله قال: ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾ إذا أنت قرأت القرآن وقلت: صدق الله العظيم، ورؤيتك أن الغني هو الفائز، أو القوي هو الفائز، إذا أنت مؤمن إيمانًا حقيقيًا، وشعرت أنك محروم، فأنت لست مؤمناً، ما عرفت قيمة إيمانك، "من أوتي القرآن فظن أن أحداً أوتي خيراً منه فقد حقَّر ما عظمه الله" إذا هدى الله إنسانًا، وآتاه العلم والحكمة، وفهمه القرآن، وأعانه على الاستقامة على أمره، وجعل له نورًا من قلبه، وجعل حوله أهلاً صالحين، هذا عطاء لا يقَدَّر بثمن، لأن هذا العطاء سبب للجنة، فلذلك إذا قال الإنسان:

﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)﴾

[  سورة القصص ]

يكون لا يعلم شيئاً، إذا قال:

﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)﴾

[ سورة القصص ]

يكون يعلم، علامة العلم أن ترى العطاء عطاء الله، وأن ترى الهدى هدى الله، وأنت ترى الخير أن يُجري الله على يديك الخير، وأن ترى الغنى والفقر بعد العرض على الله، هذا العقل.

 

آيات الله عز وجل توصلنا إليه:


قال: 

﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)﴾

[ سورة الجاثية ]

أيّ آياتٍ يا رب؟ الكون آيات، آيات كونية، والقرآن آيات، وأفعال الله آيات، الآيات العلامات الدالة على وجود الله، ووحدانيته، وكماله، وعظمته، وعدالته، وعلمه، هذه الآيات، فالكون آيات، والقرآن آيات، والشيء الثالث أفعال الله آيات، أفعال الله وحدها يمكن أن توصلك إليه، لأن الله قال:

﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)﴾

[ سورة الأنعام ]

أفعال الله آيات، لو دققت فيما يجري في العالم، وفي المجتمعات، ومع كل إنسان، تجد محض علم، ورحمة، وعدل، وإنصاف، وإذا تأمَّلت في آيات الكون، اليوم ذكرت أنا أنه يوجد بالمحيط الأطلسي تيَّار الخليج، تيار عرضه ثمانون كيلو مترا، عمقه أربعمئة وخمسون مترًا، سرعته ثمانية كيلو مترات في الساعة، كثافته كبيرة جداً، ثلاثة عشر ألف مليون متر مكعب بالدقيقة، هذا التيَّار ساخن، يلطِّف الأجواء في المنطقة الباردة الشمالية، وقلت: هناك تيار ثانٍ بارد يحمل معه مغذِّيات عشبية يصل إلى سواحل أمريكا الجنوبية، هذا التيار الذي يحمل معه مغذيات نباتية، يجتذب ملايين مملينة من الأسماك الصغيرة، وهذه الأسماك الصغيرة تجتذب أكثر من خمسين مليون طائر اسمه غراب، اسم خاص فيه، غراب المحيط، هذه الطيور تعيش على هذه الأسماك، وهذه الأسماك تعيش على هذه الأعشاب، أما البشر فكيف يستفيدون منها؟ مخلَّفات الطيور بألوف الأطنان، بمئات ألوف الأطنان، هذه ثروة قومية للشعب في تشيلي، وفي بعض البلاد هناك، الله عزَّ وجل من حين لآخر يغَيِّر مجرى هذا التيار البارد فتموت الأسماك، تموت الطيور، لا يوجد مخلَّفات للطيور، يجوع الناس، إن الله هو الرزاق يرزق شعوبًا بالملايين، من مخلَّفات الطيور، لأنها من أرقى أنواع الأسمدة، ويرزق الطيور من هذه الأسماك، ويرزق الأسماك من هذه الأعشاب، والتيار يمشي في البحر حتى يصل إلى سواحل أمريكا الجنوبية في تشيلي، وفي بعض البلاد الجنوبية الأخرى، ثمن هذا السماد الذي يُخَلِّفُهُ الطير يُعد أكبر ثروة قومية في هذه البلاد، هذه آيات.

فالكون آيات، وكلامه آيات، وأفعاله آيات، ألا ترى في أفعاله العجب العجاب؟ ألا ترى كيف يقهر أحياناً الأقوياء؟ تجد قلعة من قلاع العالم تلاشت، أصبحت هشةً كبيت العنكبوت، أليست هذه من آياته الدالة على أفعاله وحكمته؟  

 

فهم الكافر الأمور فهماً مادياً فقط: 


﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ما الذي حملهم على الكفر؟ أنهم: ﴿أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾ لا يفهم الأمور إلا فهماً مادياً، لا يفهم الزلزال إلا أنه اضطراب في القشرة الأرضية فقط، أما أن يفهم الزلزال عقاباً إلهياً أحياناً، أن يفهم أن الحروب الأهلية تأديب إلهيّ للفسق والفجور، أن يفهم أن قحط السماء تأديبٌ للناس؟ قال الله عزَّ وجل:

﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)﴾

[  سورة الأعراف ]

﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)﴾

[  سورة الجن  ]

مؤتمر السكان الذي عُقِد في القاهرة ليعالج مشكلة الفقر في العالم الثالث، الفقر مشكلته زيادة السُكَّان، إذاً يجب أن نؤخر الزواج إلى أعلى سن، وحتى يلبي الشاب حاجته يجب أن نسمح له بالزنى، وأن تأتي القوانين مؤكِّدة لهذا السماح، وأن نسمح بالشذوذ بين الرجال وبين النساء، حتى تقلّ المواليد، حتى تكفي الموارد، حتى يعيش المجتمع في العالم الثالث في بحبوحة، هذا تخطيط الإنسان الأعمى، أما ربنا ماذا فقال:

﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً (13)﴾

[ سورة نوح ]

إذا تبتَ إلى الله توبة نصوحًا، واستغفرت من كل الذنوب، واصطلحت مع الله، واتجهت إلى الله، وطبَّقت منهج الله، لماذا الفقر؟

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾

[ سورة النساء ]

لماذا؟ هذا كلام خالق الكون، لو أن واحدًا وقف في المؤتمر، وقال: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ أراد أن يحل هذه المشكلة العويصة في العالم عن طريق كلام الله عزَّ وجل، ماذا سيلقى من ردود فعل عند المؤتمرين؟ السخرية، لأنهم لا يعرفون الله أبداً، فهم أرادوا أن يحلوا المشكلة عن طريق الشذوذ، عن طريق الزنى، وعن طريق تأجيل سنّ الزواج، وعن طريق إصدار تشريعات تكرس الإباحية والرذيلة، أتحل مشكلة بمشكلة؟ طبعاً من الجهل والغباء أن تحل مشكلة بمشكلات.

مرة ضربت مثلاً أن إنساناً ذهب إلى طبيب جراح تجميلي، في خده الأيسر ندبة، قال له: كيف نعالج هذه الندبة؟ قال له: القضية سهل جداً، ننزع لك قطعة من خدك الأيمن نضعها على خدك الأيسر، ما هذا العلاج؟ هذا شيء مضحك، نريد أن نعالج مشكلة بآلاف المشكلات، وهذا الذي جاء في المؤتمر لا تقبله الفطرة، ولو كان الذي يستمع إلى هذه المقررات علمانياً، لا يقبله، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ﴾ .

 

من يخسر نفسه يخسر كل شيء:


أحياناً يخالف الإنسان مخالفة سير، يسمى مجرماً؟ أعوذ بالله، يدفع مبلغاً من المال، وتُحجز مركبته أسبوعًا أو أسبوعين، هو غير مجرم، أما إذا قتل إنسانًا فهو عندها مجرم، كلمة مخالفة، جنحة، جريمة شيء كبير جداً، إذا لم يعرف الإنسان الله عزَّ وجل، ولا عَرَّفَ نفسه بالله، ولا حملها على طاعته، ولا حملها على حضور مجلس علم، ولا أقام الإسلام في بيته، سمَّاه الله مجرمًا، أي مجرمٌ في حق نفسه، لكن متى يكتشف الجريمة؟ عند الموت.

﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)﴾

[  سورة الفجر ]

﴿ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)﴾

[ سورة الزمر ]

﴿ يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)﴾

[ سورة الفرقان ]

﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)﴾

[ سورة المؤمنون  ]

فكل إنسان يعصي الله فهو مجرم بكل معاني هذه الكلمة، اجعل هذه الكلمة ملء فمك، قال الله عزَّ وجل:

﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)﴾

[  سورة القلم  ]

إذا لم يكن الإنسان مسلمًا فهو مجرم، لكن نحن نفهم المجرم القاتل، لا، قد يكون ناعمًا، لطيفًا، معطرًا، أنيقًا، مغتسلاً، مجرم، ما دام لا يصلي، لا يعرف الله عزَّ وجل، يطلق لشهواته العنان هذا مجرم، قال الله عزَّ وجل: ﴿أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ﴾ .

أيها الإخوة؛ مرة ثانية: إن لم يكن الإنسان مسلماً فهو حكماً مجرم، لا في حق الآخرين، لا، إنه لم يَقتل أي قتيل، ولا أساء إطلاقاً، لكنه مجرم في حق نفسه، لأنه خسر نفسه.

قد يخسر الإنسان أحياناً سيارته، يعمل حادث، يخسر بيته أحياناً، أحياناً يخسر شيئاً من ماله، يقولون: مات فلان، وانتهى، المال لم يعد له قيمة، فحينما يخسر الإنسان نفسه يخسر كل شيء، فالكافر يوم القيامة خسر نفسه، فهذا هو المجرم الذي ضيَّع سعادته الأبدية لسنواتٍ معدودة أمضاها في بعض الشهوات، ولم يكن سعيداً.

 

الكافر خاسر لعدم يقينه وعدم انضباطه وعدم طاعته لله عزَّ وجل:


﴿ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ(32)﴾

[ سورة الجاثية ]

نجد الكافر لا شيء عنده اسمه يقينيات، دائماً يقول: لا أعرف، الله أعلم، يشكك في وجود الجنة، لا يوجد عنده شيء يقيني.

﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)﴾

[ سورة الحجرات ]

﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)﴾

[ سورة يونس ]

لا يدري، فالحقيقة ليست فقط لا يدري، لا يريد أن يدري، لأن الله قال: 

﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)﴾

[  سورة العنكبوت  ]

هل مِن إنسان يطلب الحقيقة ولا يصل إليها؟ مستحيل، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ الله عزَّ وجل ينتظر منك أن تطلب الحقيقة حتى يهديك إليها، حتى يُلْقي في قلبك النور، لكن لا تريدها، ﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ ثمة شاعر كان اسمه فيلسوف الشعراء، قال:  

زعم المنجم والطبيب كلاهمـــا           لا تبعث الأموات قلت إليكمــــــا

إن صحّ قولكما فلست بخاســـر          أو صحّ قولي فالخسار عليكمــــا

[ أبو العلاء المعري ]

* * *

قضية لا تزال في الشك والظن والوهم، لكن لأنه ليس مستيقناً، لعدم يقينه، ولعدم انضباطه، ولعدم طاعته لله عزَّ وجل، يوم القيامة أعماله، انحرافاته، فساده، عدوانه، طغيانه. 

 

أعظم عمل هو العمل الذي يموت صاحبه وتبقى آثاره بعد موته:


﴿ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(33)﴾

[ سورة الجاثية ]

أحياناً تتلو على الإنسان جريمته فتجد نظره في الأرض، أحاطت به خطيئته، قيَّدته سيِّئاته، حجبته زلاته، أذلته مساوئه، ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا﴾ انظر ماذا فعلت؟ هذه الفتاة التي أفسدتها، ثلاثمئة وخمسون ألفاً من ذريتها منحرفات، أنت السبب لو تزوجتها لما كانت كذلك، أنت أنشأت هذه الدار داراً للهو، انظر ثمانون سنة تخرج منحرفين، شرّاب خمر مثلاً: ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا﴾ أنت روَّجت هذه الضلالة، كم شخص تبعك فيها؟ مئة مليون اعتنقوا هذه الضلالة، ومارسوا الانحراف، لأنك أنت أقنعتهم فيها، ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا﴾ لذلك: 

﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)﴾

[ سورة يس ]

أعظم عمل الذي يموت صاحبه، وتبقى آثاره بعد موت صاحبه، إنسان ترك علمًا نافعًا، ترك ولدًا صالحًا، أسس ميتمًا، أسس معهدًا شرعيًا، بنى مسجداً، علَّم الناس، وأسوأ شيء إنسان أسس ملهى، أسس دار قمار وبعد ذلك مات، إلى مئات السنين كل من دخل هذه الدار في صحيفته، وفي رقبته يوم القيامة، ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ هذا اليوم يوم الفصل.

﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)﴾

[  سورة الصافات ]

 

أهل الدنيا مغرورون بها:


﴿ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)﴾

[ سورة الجاثية ]

الغرور أن تظن الشيء أكبر من حجمه الحقيقي، دائماً أهل الدنيا مغرورون بها، قبل أن ينام خمس ساعات يحلم، البيت كم غرفة؟ جناح شرقي، جناح غربي، هنا غرفة نوم، هنا كذا، دائماً يحلم ببيت، بمركبة، بزوجة، بمركز، بدخل كبير، بسياحة حول العالم، ﴿ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ الإنسان في البدايات يظن المال كل شيء، بعد حين يظنه شيئاً، وليس كل شيء، لكن بعدما يواجه الحقيقة العظمى يراه لا شيء، المال، والجاه، والسلطان، والنساء، والمُتَع، والشهوات، هذه في البدايات كل شيء، بعد حين شيء، وليس كل شيء، أما عند مواجهة الحقيقة فليست بشيء، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ. طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّع». ))

[ صحيح البخاري ]

 

ملخص السورة:


﴿ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)﴾

[ سورة الجاثية ]

ملخص هذه السورة أن الله سبحانه وتعالى يُحْمَدُ على أفعاله كلها، أفعاله كلها خير..

﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)﴾

[ سورة آل عمران ]

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور