وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 28 - سورة الأنعام - تفسير الآيات 79-83 ، الحُجَّة لا تأتي إلا مع الإيمان
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثامن والعشرين من دروس سورة الأنعام .


ليست العبرة أن تُقر أنه إله واحد ولكن العبرة أن ترجو لقاءه :


 ومع الآية التاسعة والسبعين ، وهي قوله تعالى :

﴿  إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(79) ﴾

[ سورة الأنعام ]

 هذا الدين كله دين التوحيد، وقد لخّصه الله عز وجل بكلمات .

﴿  قُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰٓ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدًۢا(110) ﴾

[  سورة الكهف  ]

 هنا نقطة دقيقة جداً، لا يكفي أن تُقرّ بالتوحيد ينبغي أن تتحرك ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ نقطتين ﴿أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ﴾ ليست العبرة أن تُقِرّ أنه إلهٌ واحدٌ، ولكن العبرة أن ترجو لقاءه ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً﴾ .

 كنت أضرب مثلاً: يعني في النظام العسكري المُجنّد لا يستطيع أن يقابل قائد الفرقة، مستحيل، يوجد فوقه مراتب كثيرة جداً، والنظام العسكري يقتضي التسلسل، لكن لو أن هذا المُجند رأى ابن قائد الفرقة على وشك الغرق فألقى بنفسه وأنقذه، يستطيع أن يقابله، ويُجلِسه إلى جنبه، ويأتيه بالضيافة ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً﴾ .


الشرك الجلي والشرك الخفي :


 أكثر شكوى تأتيني أن أحواله ضعفت، صلاته ليس فيها خشوع، يعني يؤدي الأعمال الصالحة من دون أن يشعر بقرب من الله عز وجل، لكن هذه الآية هي الرد المُفحِم: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ﴾ ومعنى لقاء ربه قد يكون هذا في الدنيا، اللقاء: الاتصال، في الدنيا: الاتصال، في الآخرة: دخول الجنة ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾ .

 فهنا: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾ لا إلى زيد، ولا إلى عبيد، ولا إلى فلان، ولا إلى علان، ولا إلى الشمس، ولا إلى القمر، ولا إلى الحجر، ولا إلى المدر، ولا إلى البقر ولا إلى الأصنام. 

﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً ﴾ لا يكفي أن توجه وجهك إليه، ينبغي أن تكون مائلاً إليه، يعني العبادة: طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، ما عبد الله من أطاعه ولم يحبه، وما عبد الله من أحبه ولم يطعه.

﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ مرة ثانية أيها الإخوة، في العالم الإسلامي ليس مطروحاً الشرك الأكبر وهو الشرك الجلي، لكن الشرك الخفي موجود في العالم الإسلامي، هي شهوة خفية، الشهوة الخفية يعني أنت ألّهت شهوتك، عبدت شهوتك من دون الله، ولكن شهوة خفية وأعمال لغير الله ﴿ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ كلمة إشراك أن تعتمد على غير الله، أن تُعلّق الأمل على غير الله، أن ترجو غير الله، أن تحب غير الله، أن تخاف غير الله، أن تخلص لغير الله، أن تتجه لغير الله ، أنت حينما تعلم علم اليقين أنه لا رافع ولا خافض، ولا معطي ولا مانع، ولا معز ولا مذل إلا الله، وصلت إلى التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد . الآن : 

﴿  وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ(80) ﴾

[ سورة الأنعام ]

 قومه حاجَجُوه بالشرك أن هذه أصنام تنفع وتضر .


الحجة لا تأتي مع الشرك بل تأتي فقط مع الإيمان :


 إخواننا الكرام، مستحيل وألف ألف مستحيل أن يكون مع الشرك حجة، الحجة مع الإيمان .

﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِۦ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَٰتٍۢ مَّن نَّشَآءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(83) ﴾

[  سورة الأنعام  ]

 يعني لا يمكن أن تقوم للباطل حجة، الحجة ضعيفة، واهية، متمزقة، لا تقف على قدميها، وإذا أصغيت إلى حجج أهل الدنيا رأيت شيئاً مضحكاً، حججهم باطلة، حججهم داحضة عند الله عز وجل، يعني الحجة اليقينية القطعية المقنعة القاطعة لا يملكها إلا المؤمن قولاً واحداً .

 بشكل أو بآخر أنا أتمنى لكل واحد منا أن يكون في أعلى درجة من امتلاك الحجة، لكن أقول لكم كلمة لعلها قاسية: ما لم تُقِم الحجة على غير المؤمنين فإيمانك ليس كافياً، لأن الإيمان في الأصل ليس متداولاً بين المؤمنين، بين المؤمنين وبين غير المؤمنين .

 مرة حضرت مناقشة دكتوراه، والأطروحة ثمانمئة صفحة، الدكتور المناقِش قال له كلمة، قال له: هذا الكتاب لا يصلح إلا للمسلمين، ولكن جهةً أخرى إذا قرأته لها عليه ألف مأخذٍ ومأخذٍ، قال له: إنك لا تصب ماء في وعاء فارغ، إنك تصب ماء في وعاء ملآن .

 فأنت ما لم تفكر كيف يفكر هذا الإنسان الآخر، الآن أكثر شيء مطروح الرأي والرأي الآخر، وأنت كمؤمن يجب أن تعلم الرأي الأخر، ويجب أن تملك حجة تدحض الرأي الآخر، تدحضه بالعلم لا بالصياح لا بالشتم، لا، لا، هذا ليس من سلوك المؤمنين .


الإنسان حينما لا يعلم من هو الله لا يملك الحجة :


 حجج أهل الدنيا بالصياح والضجيج، والسّباب والشتائم، أما الحجة العلمية علمٌ لعلمٍ، حجةٌ لحجةٍ، دليلٌ لدليلٍ، لا يمكن أن تقوم حجة للباطل، الحق لا يتعدد، والمؤمن الصادق وحده يملك الحجة.

﴿ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ﴾ يعني حاوروه، أو ناقشوه، أو جادلوه، كلمة حوار كلمة مقبولة، لكن كلمة جدال غير مقبولة، يعني حاجّه هنا أتوا بحجج واهية، على الشرك، على أن هذه الأصنام تنفع وتضر ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ﴾ .

﴿  قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) ﴾

[  سورة هود  ]

 يعني إنسان معه جوهرة ثمنها مئة مليون أمام إنسان يحمل قطعة من الزجاج ثمنها قروش، فأنت تعلم ماذا تملك، والحقيقة أنت حينما لا تعلم من هو ربك، وكيف أن الله سبحانه وتعالى يدافع عنك، وكيف أن الله سبحانه وتعالى لا يتخلى عنك، أنت حينما لا تعلم من هو الله لا تملك الحجة.

يعني الآن نحن أيها الإخوة في العالم الإسلامي نعاني حالة إحباط سببها الغزو، والتهديد، والاحتلال، والاتهام، والضغوط، هذا كله واقع، لكن المؤمنين الصادقين لا يتأثرون به أبداً .

﴿  الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ(174) ﴾

[  سورة آل عمران  ]


الشرّ في النفوس فقط أما في الأفعال فكل شيء وقع أراده الله تعالى :


 إخواننا الكرام، يجب ألا ترى مع الله أحداً، على الشبكية يوجد ملايين القوى الجبّارة في الأرض، ملايين القوى الطاغية، ملايين القوى الظالمة، على الشبكية الشر ليس إلا في النفوس، أما في الأفعال فكل شيءٍ وقع أراده الله، وكل شيءٍ أراده الله وقع، وإرادة الله متعلقةٌ بالحكمة المطلقة، وحكمته المطلقة متعلقةٌ بالخير المطلق، ما دام الشيء وقع فقد أراده الله، والحقيقة الدقيقة أنه لكل واقعٍ حكمة، وليس كل مُوقِعٍ حكيماً، قد يكون المُوقِع مجرماً، ولكن لأن فعله وقع فهناك حكمة نعرفها أو لا نعرفها ، نكشفها أو لا نكشفها .

 إذاً: ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ﴾ بآلهتهم ﴿قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ﴾ يعني إنسان يأكل العسل، ويأتي إنسان آخر ما ذاق العسل، ما ذاق إلا الدبس، فإذا أقسم هذا الإنسان الآخر أنه ما رأى طعماً أطيب من الدبس هو صادق، لأنه لم يذق العسل، أنا لا أقول: المؤمن متكبر، لا أبداً، لكن المؤمن ذاق من أحوال القرب ما لم يذقه أهل الدنيا، شعر بسعادة القرب من الله ما لم يشعر بها أهل الدنيا، من هنا قال بعض العلماء : " في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، إنها جنة القرب من هنا قال بعض العلماء: "ماذا يفعل أعدائي بي؟ بستاني في صدري، إن أبعدوني فإبعادي سياحة، وإن حبسوني فحبسي خلوة، وإن قتلوني فقتلي شهادة، فماذا يفعل أعدائي بي ؟ "  

 ما لم تكن سعيداً بما وهبك الله من نعمة التوحيد، وما لم تكن مُحاجِجاً بالحجة اليقينية بما وهبك الله من الحق العتيد ففي الإيمان خلل.


موضوع الخوف :


 الآن موضوع الخوف ، قال : 

﴿وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ﴾ يعني هذه الأصنام أحجار، هذه لا تخيف، والذي يخاف منها عطّل عقله، والحقيقة أحياناً ترى إنساناً في أعلى مرتبة اجتماعية، قد يكون رئيس وزارة في العالم الغربي، يذهب إلى فلكي ليتنبّأ له، معنى ذلك أن ضعف الإنسان يحوجه إلى جهة قوية يعتمد عليها وهذا أصل التدين. قال الله تعالى :

﴿ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ ٱلْإِنسَٰنُ ضَعِيفًا (28) ﴾

[  سورة النساء  ]

 نحن جميعاً ضعفاء لكن المؤمن قوّى ضعفه بالله، نحن جميعاً فقراء لكن المؤمن قوّى فقره بالله عز وجل، استغنى بالله، نحن جميعاً جهلاء لكن المؤمن استنار بنور الله، لذلك حاشا يا رب أن نفتقر في غناك، وأن نضل في هداك، وأن نضامّ في سلطانك. 

﴿أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ﴾ لو وسّعناها، قديماً كانت الأصنام أما الآن فهناك طغاة في العالم، طغاة ترتعد فرائص الدول منهم، ليس الأشخاص بل الدول، طغاة ترتعد فرائص الدول منهم لما عندهم من أسلحة فتاكة، ولما في قلوبهم من قسوة كالحجر، لا يعبؤون إلا بالدمار، مصلحتهم قائمة على الحروب، هذه الدول القوية أخبرها الخبراء أن مصالحها لا تتحقق إلا بالحروب، فالحروب جزء من أنظمتهم، ودائما عقود الأسلحة عقود إذعان، قد يكون بمئة ضعف، بألف ضعف، فلذلك مصالحهم لا تقوم إلا على الحروب، فهذه الجهات القوية التي ترتعد منها فرائص الدول أمام المؤمن. 

﴿وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ﴾ يعني بشكل مبسط جداً: وحش مخيف جائع مفترس، يأكل الإنسان بلقيمات، لكنه مربوط بزمام بيد جهة قوية حكيمة عادلة رحيمة، أنت علاقتك مع هذه الجهة، هذه الجهة لو شاءت لأرخت الزمام ووصل إليك، ولو شاءت لشدت الزمام وأبعدته عنك، هذه القصة كلها. 

﴿وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً﴾ يعني إلا أن أعاقَب بمشيئة الله عن طريق هذا الوحش، فهذا الوحش أخافه ولا أخافه، لا أخافه لأنه لا يملك نفعاً ولا ضراً، وأخافه إن أراد الله لي التأديب فاستخدمه أداة لذلك.

 الفكرة دقيقة، أنا لا أخاف هذا الطاغية، لأنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرا، وأخافه إن شاء الله لي التأديب عن طريقه، سمح له أن يقترب مني: لا يخافن العبد إلا ذنبه، ولا يرجونّ إلا ربه. 


لا ينجي المسلم إلا أن تكون عقيدته تحقيقاً لا تقليداً :


 الآن : 

﴿وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ علم الله متعلق بعدله، مادام الله يعلم والأمر بيده وهو القوي :

﴿  اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(62) ﴾

[  سورة الزمر  ]

﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍۢ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِى ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُۥ حَثِيثًا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتٍ بِأَمْرِهِۦٓ ۗ أَلَا لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ(54) ﴾

[  سورة الأعراف  ]

 أنا لا أخاف من هؤلاء الشركاء ﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً﴾ وربي يعلم، يعني أجمل كلمة سمعتها مرة الحمد لله على وجود الله، الله يعلم، أحياناً الإنسان يُلبّس تهمة باطلة، أحياناً الذي بيده أمره لا يعلم حجم عمله، مثلاً: موظف مخلص، دؤوب، يعمل بإخلاص، بجهد كبير، فتعب كثيراً، خرج من مكتبه إلى الممشى ليستنشق هواء لدقيقة، خرج المدير العام من مكتبه، ما هذه الفوضى؟! لأنه لا يعلم، لا يعلم حقيقتك إلا الله، فأنت إذا تعلقت بغير الله تصاب بخيبة أمل كبيرة جداً، يعني هذا الذي تظنه يعلم لا يعلم، هو بشر مثلك، لا يرى إلا بعينيه ، لا يرى إلا الظاهر ﴿وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾. 

الآن مثلاً الآية الكريمة :

﴿ فَٱعْلَمْ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنۢبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتِ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَىٰكُمْ (19) ﴾

[  سورة محمد  ]

 ما قال: فقل، لو قال : فقل ، لقبلت عقيدة المؤمن تقليداً، ولو قُبلت عقيدة الإنسان تقليداً لكانت كل الفرق الضالة ناجية عند الله، لماذا ؟ لأنهم سمعوا من يقف على توجيههم منه كلاماً فصدقوه، إلا أن العقيدة لا تُقبل إلا تحقيقاً وتدقيقاً، مُدلّلة بالأدلة، مُعلّلة بالحكم ، فلو أن العقيدة تُقبل تقليداً لانتهى الأمر، لكن العقيدة لا تُقبل إلا تحقيقاً، لذلك لا ينجّي المسلم أن يكون أبوه مسلماً، وأمه مسلمة، لا ينجّي المسلم إلا أن تكون عقيدته تحقيقاً، فالآية : 

﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ لا إله إلا الله الأمر بيده، هو الرافع، هو الخافض، هو المعطي، هو المانع، هو المعز، هو المذل.


كل شيء من الله فإذا جاءك من الله ما تكره فابحث عن ذنبك :


﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾ ما علاقة القسم الثاني بالقسم الأول ؟ يعني أنت حينما يأتيك شيء تكرهه يجب أن توقن أن هذا من فعل الله، وأن هذا سمح الله به، وأن هذا أراده الله، لكن لئلا تتهم الله بالظلم ابحث عن خلل في استقامتك ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ بين جزئي الآية تكامل: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ فإذا جاءك من الله ما تكره ، مادام كل شيء من الله ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ كل شيء من الله فإذا جاءك من الله ما تكره فابحث عن ذنبك .

 هناك قاعدة في الأمن الجنائي لطيفة: في أية جريمة عندهم قاعدة ابحث عن المرأة، يعني في الأعم الأغلب وراء كل جريمة امرأة، ليست هي القاتلة، لكن هي المُسبب في القتل، أنا أقول لكم: طبقوا هذه القاعدة بشكل آخر، حينما يأتيك ما لا يرضيك ابحث عن الخطأ، ابحث عن الذنب، ابحث عن الخلل، ابحث عن الظلم.


أمثلة من الحياة العامة عن تأديب الله لعباده :


 أحد الإخوة الكرام متفوق جداً في اختصاص نادر، المعامل الضخمة فيها حواسيب صناعية، هذا الأخ متخصص بإصلاح الحواسيب الصناعية، ويتلقّى أجراً فلكياً، فمرة استُدعي لإصلاح خلل لحاسوب في معمل، وطلب مبلغاً كبيراً، فصاحب المعمل جادله كثيراً، وساومه كثيراً، حتى ضاق به ذرعاً، وقال له: أنا لست بحاجة إليك، أنت بحاجة إلي، فإن شئت هذا الأجر فأنا جاهز، وإلا فاسمح لي، فصاحب المعمل أذعن له، الأخ صادق ومؤمن، يغلب على ظني أنه صالح، ولا أزكّي على الله أحداً، في العادة يستغرق الإصلاح ربع ساعة، نصف ساعة، ساعة، أول يوم من الثامنة صباحاً حتى الثامنة مساء ما تبيّن معه شيء، ثاني يوم بأكمله، ثالث يوم بأكمله، رابع يوم، خامس يوم، سادس، سابع يوم، ثامن يوم، ما اكتشف الخلل، والأجر على الإنجاز لا على الساعات، على الإنجاز، ثمانية أيام ضاعت من وقته، ولم يكشف الخلل، قال لي: عدت إلى البيت في اليوم الثامن عالجت نفسي، يوجد خلل، دقق وبحث حتى وصل إلى هذه الكلمة: أنا لست بحاجة إليك، أنت بحاجة إلي، إن قبلت بهذا الأجر فأنا آتيك غداً وإلا فاعذرني، فيها كِبر، فيها اعتداد، أقسم بالله العظيم في اليوم التاسع خلال ربع ساعة، طبعاً استغفر، ودفع صدقة، واصطلح مع الله، أقسم بالله العظيم باليوم التاسع بربع ساعة الخلل انكشف، والمشكلة حُلّت، تأديب.

 أخ ثانٍ عنده معمل ألبسة، يعني أخ في المسجد علم أن هذا الأخ عنده معمل ألبسة، واقترب العيد، فذهب إليه، وطلب قطعتين لأولاده، طبعاً شراء، لكن هذا المعمل يبيع ثلاثمائة دزينة، أربعمائة دزينة، اعتبر صاحب المعمل أن القطعتين إهانة له، قال له: أنا لا أبيع بالمفرق، قال له: لا عليك، شكراً، فودعه، وخرج من معمله، يقسم بالله العظيم ما دخل إلى معمله إنسان مدة ثلاثة وثلاثين يوماً، الله أدبه، هذه الكلمة كبيرة، إنسان جاء ليشتري وعنده ثلاثة أولاد، لكل ولد قطعة، لا يريد ثلاثمئة دزينة يريد ثلاث قطع فقط، فأنت كبرت نفسك أن تبيعه هذه القطع الله عز وجل أدبه، يوجد ملايين من هذه القصص. فحينما تعتد بنفسك، حينما تقول: أنا، حينما تتحدث عن خبرتك، حينما تعجبك نفسك.


إذا أراد ربك إظهار فضله عليك خلق الفضل ونسبه إليك :


 إخواننا الكرام، درسان في القرآن، درس بدر، ودرس حنين، وهذان الدرسان ينبغي أن تلحظهما كل ساعة في حياتك، درس بدر :

﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍۢ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(123) ﴾

[  سورة آل عمران  ]

 معنى أذلة؛ أي مفتقرون إلى الله، اللهم إني تبرّأت من حولي وقوتي، والتجأت إلى حولك وقوتك، يا ذا القوة المتين، ادعُ بهذا الدعاء دائماً .

 لذلك درس حنين: لن نُغلب من قلة، هذا درس حنين، هكذا الصحابة قالوا، خاضوا مع النبي حروباً، بذلوا له أرواحهم، وأموالهم .

﴿ لَّقَدْ رَضِىَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَٰبَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا(18) ﴾

[  سورة الفتح  ]

 مع كل هذه الميزات لما قالوا: لن نُغلَب من قلة ، قال تعالى :

﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍۢ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْـًٔا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25) ﴾

[  سورة التوبة  ]

 هناك درسين: درس بدر ودرس حنين، تقول: الله، يتولاك، تقول: أنا، يتخلى عنك، كلام واضح، ناصح، ناصع، مبين، مع كلمة (الله) يتولاك، مع كلمة (أنا) يتخلى عنك، في حرفتك، في دراستك، يا رب، أنا متقن الحساب أما الجبر فعليك، مرة قال له: أنا متقن مادة الجبر يا رب فسقط بالجبر، أحياناً الإنسان تُغلق عليه أفكاره .

 أقول لكم مرة ثانية: القصص حول هذا الموضوع لا تعد ولا تحصى، تقول (أنا) يتخلى عنك، تقول (الله) يتولاك، أنا لا أريد مجاملات مع الله، كله بفضل الله، أريد حقيقة، هل ترى أنه فضل الله عليك؟ هل ترى أنك من دون الله لا شيء؟ هل ترى أن الله سمح لك بالصحة؟ سمح لك بالزواج؟ سمح لك بكسب المال؟ سمح لك أن تنطق بالحق؟ إذا أراد ربك إظهار فضله عليك خلق الفضل ونسبه إليك . 


السلطان في الآية التالية هو الحُجّة :


 أيها الإخوة، هناك سؤال : 

﴿  وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(81) ﴾

[ سورة الأنعام    ]

هنا السلطان الحُجَّة، أنت لا تخاف من أنك أشركت بالله صنماً أو جهة لا تملك شيئاً، ولا تخاف أنك أشركت الله عز وجل ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً﴾ وأنا تدعوني أن أخاف من صنم بلا سلطان، بلا دليل، ولا تخاف أنك أشركت بالله ما لم ينزل عليك سلطاناً.

الآن السؤال مرة ثانية: تريدني أن أخاف من صنمٍ، ليس هناك من حجة أو دليل مقنع على أنه إله، ولا تخاف أنك جعلت مع خالق السماوات والأرض شريكاً، ليس هناك سلطان على شركه مع الله عز وجل، 

﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ طبعاً إنسان يعتمد على حجر أو على صنم أم إنسان يعتمد على خالق السماوات والأرض ؟!!﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾


أي نوع من أنواع الإيمان له من الله حجة :


﴿  الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ(82) ﴾

[  سورة الأنعام  ]

 إخواننا الكرام، مرة الحسن البصري سيد التابعين كان عند والي البصرة يزيد، وهو عنده جاء توجيه من يزيد، إذا نفذه أغضب الله عز وجل، وقع هذا الوالي في قلق شديد، إن أغضب يزيد أزاحه من مكانه، وإن أغضب الله أدخله النار، قال له: ماذا أفعل؟ ـ اسمعوا هذا الجواب يا إخوان، هذا الجواب يجب أن يكون شعار كل إنسان قال له: إن الله يمنعك من يزيد، ولكن يزيد لا يمنعك من الله.

 إذا أخلصت لإنسان من دون الله، وعبدته من دون الله، لا يمنع عنك الورم الخبيث، ولا الأمراض الوبيلة، ولا حادث مروع، ولكنك إذا كنت مع الله، وأراد هذا الشريك الذي يدَّعيه الناس شريكاً لله أراد بك شراً فالله يحميك منه، إن الله يمنعك من يزيد، ولكن يزيد لا يمنعك من الله.

﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً﴾ هذا الذي اعتمد على الله، وهذا الذي اعتمد على صنم ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ جاء الجواب : 

﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ قال العلماء: الظلم هنا الشرك ، لقوله تعالى :

﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) ﴾

[ سورة لقمان  ]

﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ﴾ وحدهم، لم يقل أولئك الأمن لهم ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ .

﴿  وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(83) ﴾

[ سورة الأنعام  ]

﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا﴾ على أنك مؤمن متواضع، أي نوع من أنواع الإيمان له من الله حجة ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾ فأنت حينما تملك حجة ناصعة واضحة قطعية، فهذا دليل أنك مؤمن ولله الحمد.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور