وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 25 - سورة الأنعام - تفسيرالآية 73 ، الحق ثابت والباطل زاهق
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

 أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الخامس والعشرين من دروس سورة الأنعام . 


الحق هو الشيء الهادف والباطل هو الشيء العابث :


 ومع الآية الثالثة والسبعين ، وهي قوله تعالى :

﴿  وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) ﴾

[ سورة الأنعام ]

 أيها الإخوة ، الكلمة المفصلية في الآية كلمة ﴿بِالْحَقِّ﴾ ما الحق ؟ ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾

  أي: إن الحق لابَسَ خلق السماوات والأرض، فكل ما في السماوات والأرض خُلِق بالحق، الحق الشيء الثابت، والباطل الشيء الزائل .

﴿ وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَٰطِلُ ۚ إِنَّ ٱلْبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) ﴾

[ سورة الإسراء  ]

 الحق الشيء الهادف، والباطل الشيء العابث .

 مثل للتقريب: قد يُنشأ سيرك في بلدة ما، يقوم على أساس خيمة، ويبقى أسابيع ثم يرتحل، الهدف ليس علمياً، ولا تثقيفياً، وليس فيه هدف كبير، تكوين قادة للأمة من خلال السيرك مثلاً؟! شيء عابث، ألعاب بهلوانية، حيوانات ضخمة عملاقة، أعمال تفوق طاقة البشر والإنسان الطبيعي .


الكون العظيم خُلق كي نتعرف من خلاله إلى الله :


 لذلك حينما تُبنى الجامعة تُبنى لتبقى، يُراعى في بنائها الدوام والاستمرار، وحينما تُنشأ الجامعة تُنشأ لتُخرِّج قادة للأمة، فهناك شيء ثابت ومستمر، وهناك شيء طارئ، وهناك شيء هادف، وهناك شيء عابث. فالله سبحانه وتعالى قال: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ وهو الحق، هو أزلي أبدي .

﴿ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) ﴾

[  سورة هود  ]

 الله عز وجل أزلي أبدي ، ليس قبله شيء ولا بعده شيء، وهو فوق كل شيء، وعلم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، هو الحق.

 الآن خلق الخلق ليسعدهم، هناك هدف من خلق البشر كبير جداً، خلقهم لجنة عرضها السماوات والأرض فيها :

((  ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر  ))

[ البخاري عن أبي سعيد  ]

 كل شيء في الكون خُلِق بالحق، خُلِق ليبقى، وخُلِق ليسعد، والذي أراد البقاء والسعادة هو الله. 

إذاً الله  حقٌ أيضاً.

 أيها الإخوة، حينما أذكر أرقاماً كثيرة جداً تتحدث عن عدد المجرات، بدءاً من مليون ملْيون مجرة إلى مئتين وثلاثين ألف مليار مجرة، أحدث رقم اطّلعت عليه بموسوعة علمية مئتان وثلاثون ألف مليار، وهذه المجرات فيها مليارات الكواكب، والنجوم، والشموس، والمذنبات ، فهذا الكون العظيم خُلق كي نتعرف من خلاله إلى الله، الإنسان إذاً مخلوق خلقه الله ليسعده، لكن هذه السعادة الكبرى التي أعدها للإنسان تحتاج إلى حياة دنيا فيها يُدفَع ثمن هذه الآخرة .

 يعني أحياناً لو أنك أردت أن تصب على نبات صغير الكثير من الماء يُسحق النبات، فالماء الذي ينبغي أن يُصب على النبات ينبغي ألا يتناسب مع كرمك، بل ينبغي أن يتناسب مع قوة احتمال النبات، الإنسان يأتي في الدنيا ليختار معرفة الله وطاعته والعمل في سبيله، حتى يُهيَّأ في الآخرة لتحمل التجليات الإلهية، الإنسان هو المخلوق الأول ، والمخلوق المكرم الذي خلق لجنة عرضها السماوات والأرض 


عظمة الله في خلق السموات والأرض :


 ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ﴾ إخواننا الكرام ، بعض الأمثلة التي تؤيد كلمة الحق .

﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍۢ مِّنۢ بَعْدِهِۦٓ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)﴾

[ سورة فاطر  ]

 الزوال في الآية معناه الانحراف، فالأرض تدور حول الشمس من مئات ألوف ملايين السنين، وهذا المسار مغلق، وسرعتها ثابتة، وأدق ساعة في الأرض تُضبَط على حركة النجوم، الأرض مسارها إهليلجي، بيضوي، والشكل البيضوي له بعدان، أصغر وأكبر، والذي يحكم علاقة النجوم بعضها بعضاً قانون الجاذبية، والكتلة الأكبر تجذب الكتلة الأصغر، فالجذب يتناسب مع حجم الكتلة، ومع مربع المسافة بين الكتلتين، فالأرض حينما تمشي على مسار بيضوي مغلق حول الشمس، إن اقتربت من القطر الأصغر ازدادت قوة الجذب، فالاحتمال كبير جداً أن تنجذب الأرض إلى الشمس، فإذا دخلت في جوف الشمس والحرارة في المركز تُقدَّر بعشرين مليون درجة تبخرت الأرض في ثانية واحدة، فلئلّا تزول الأرض، بمعنى لئلا تنحرف الأرض عن مسارها فتنجذب إلى الشمس وتتبخر وتنتهي ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾ يرفع الله سرعة الأرض، من هذا الرفع تنشأ قوةٌ نابذةٌ تكافئ القوة الجاذبة فتبقى على مسارها، الحق هو الشيء الثابت ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾ لولا رفع سرعتها، ولولا أنه نشأ من رفع سرعتها قوة نابذة تكافئ القوة الجاذبة لانجذبت الأرض إلى الشمس، وانتهت الحياة تبخُّراً واحتراقاً، لكن حينما تصل الأرض إلى القطر الأطول، وسرعتها سريعة كما قلت قبل قليل، والجاذبية تضعف، والسرعة العالية ينشأ معها قوةٌ نابذةٌ، فاحتمال أن تتفلت الأرض من مسارها حول الشمس احتمالٌ كبيرٌ ما الذي يحصل؟ تُخفَّض سرعة الأرض لينشأ من خفض سرعتها قوة نابذة أقل تكافئ القوة الجاذبة الأقل فتبقى على مسارها ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾ هذا التسارع، وذاك التباطؤ بطيئان، وهذا يؤكد اسم اللطيف، لأنه لو كان التسارع سريعاً والتباطؤ سريعاً لانهدم كل ما عليها ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ﴾ .


آيات باهرات في خلق السماوات والأرض تفوق عظمة هذا الإنسان المخلوق الأول :


 والله عز وجل خلق الإنسان :

﴿  لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ﴾

 

[ سورة التين  ]

 والحديث عن دماغ الإنسان، وعن شعر الإنسان، وعن عينيه، وعن أذنيه، وعن لسانه، وعن حاسة الشم، وعن حاسة النطق، وعن جهاز الهضم، وعن جهاز الدوران، وعن جهاز التصفية، وعن العضلات، وعن العظام ، وعن الجلد، وعن الأجهزة المتنوعة فيه كجهاز المناعة المكتسب، وعن الغدد الصماء، وعن وعن إلى ما لا ينتهي .

 أحياناً يُعقَد مؤتمر يحضره آلاف الأطباء، وتُلقَى في المؤتمر مئات المحاضرات حول القلب فقط، حول الاكتشافات التي توصّل العلماء إليها في شأن القلب، وفي العينين، وفي حاسة السمع، وفي جهاز الهضم، القضية حول الإنسان قضية معجزة ، ولكن الله عز وجل يقول : 

﴿ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(57) ﴾

[  سورة غافر ]

 يعني هناك آيات باهرات في خلق السماوات والأرض تفوق عظمة هذا الإنسان المخلوق الأول، كما قال الله عز وجل: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ .

يعني كتعليق ، عندنا في الفيزياء ظاهرة اسمها الاستطراق، لو أتيت بأنابيب متعددة الأشكال والأقطار والحجوم والأنواع لكنها متصلة ببعضها البعض، وصببت فيها الماء لرأيت الماء في مستوى واحد في كل هذه الأنواع من الأواني، أنبوب رفيع، أنبوب ثخين، أنبوب متعرج، أنبوب حلزوني، أنبوب أسطواني، كل هذه الأنابيب على اختلاف أشكالها ، وأنواعها ، وسعتها ، وأقطارها تجد أن الماء في مستوى واحد، هذه الظاهرة تسمى في الفيزياء ظاهرة الاستطراق، قال بعض العلماء: هناك استطراق حراري، يعني لو أتيت بقطعة حديد حامية جداً وضعتها في الماء بعد حين الحرارة الزائدة في الحديد تنتقل إلى الماء، فالماء ترتفع حرارته، والحديد تنخفض حرارته، هذا اسمه استطراق حراري.


آيات باهرات لا على الخلق بل على الفناء :


 يعني شيء طبيعي جداً أن الإنسان حينما يعرق فالعرق جهاز تكييف عالي المستوى في الإنسان، هذا الماء يتبخر بفعل الحرارة فيمتص الحرارة التي في جلد الإنسان، إلا أن الإنسان يتميز بشيء آخر.

يعني إنسان واقف على خط الاستواء حرارته سبع وثلاثون، وإنسان واقف في القطب الشمالي أو الجنوبي حرارته سبع وثلاثون أيضاً، ثبات الحرارة في الإنسان دليل استثناء من هذا الاستطراق الحراري، ومع ذلك: ﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ .

  الله عز وجل قال :

﴿  وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) ﴾

[  سورة الذاريات  ]

 الله عز وجل يخلق :

﴿ مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍۢ ۖ سُبْحَٰنَهُۥٓ ۚ إِذَا قَضَىٰٓ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ (35) ﴾

[  سورة مريم  ]

 وعلماء التفسير قالوا : هذه كلمة ﴿كُنْ﴾ للتقريب، لأن ﴿كُنْ﴾ تحتاج إلى حركة أو حركتين في علم التجويد﴿كُنْ﴾ حركة، الحركتين الألف، أما الفتحة حركة، ﴿كُنْ﴾ وقت، لكن الشيء الثابت أنه ليس هناك وقت إطلاقاً بين الأمر والتنفيذ ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ زُل فيزول، وهناك آيات باهرات لا على الخلق بل على الفناء .

﴿  إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) ﴾

[  سورة الانفطار  ]

﴿  إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) ﴾

[  سورة التكوير  ]


كل شيء يتناقض مع وحي الله باطل والباطل زاهق :


 إذاً في خلق الكون آيات دالة على عظمة الله، وفي إعدام الكون آيات دالة على عظمة الله عز وجل. 

إذاً: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ والسماوات والأرض تعبير قرآني عن الكون، والكون ما سوى الله. 

﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقّ﴾ فالحق هو الشيء الثابت والهادف ونقيضه الباطل، وحينما يقول الله عز وجل: ﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾ زهوقاً صيغة مبالغة لاسم الفاعل، شديد الزُّهوق، يعني أكبر باطل بالأرض يزول، الجهة الشرقية التي رفعت لسبعين عاماً شعار لا إله، وامتلكت من الأسلحة الفتاكة ما لا يُوصف، وكانت من أقوى الدول في العالم، ورفعت شعار لا إله، وحملت كل من في بلادها على أن يعتقد بالإلحاد هذا الباطل الكبير كان زهوقاً وانتهى الأمر، ولو كان هناك مليون باطل جزئي، أيضاً هذه الجزئيات في الباطل إلى زهوق، فالباطل شيء زائل، والحق شيء ثابت.

 للتقريب: لو أنشأنا حائطاً وفق الشاقول لكان البناء مستمراً، لو أنشأناه بلا شاقول، مائلاً، فهذا الميل سينتهي إلى السقوط، فكل شيء يتناقض مع وحي الله باطل، والباطل زاهق ، لذلك : 

((  الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري فمن نازعني فيهما قصمته ))  

[  أخرجه أبو داود وابن ماجه وابن حبان عن أبي هريرة ومسلم وأبي سعيد  ]

 الباطل زهوق، أكبر باطل، ومليون باطل زهوق، لكن عند الله امتحانان صعبان، نحن في أصعب الامتحانات، الامتحان الأول أن يقوّي الكافر، ويقوّي الكافر، ويقوي الكافر، ويعطيه كل أبعاده ، حتى يقول ضعيف الإيمان : أين الله ؟ نحن في هذا الامتحان الأول الآن، ثم يظهر الله آياته كامتحان آخر للطرف الآخر حتى يقول الكافر: لا إله إلا الله، فالباطل زهوق ، لابد من أن يُزهق الباطل، لكن لكل شيء أوان ، " ومن تعجّل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه " .


دورة الحق والباطل أطول من عمر الإنسان :


 الآية الكريمة : 

﴿ إِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ ٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ (46) ﴾

[  سورة يونس  ]

 قد لا يمتع النبي بظهور الحق ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ ودورة الحق والباطل أطول من عمر الإنسان، الإنسان حسبه أن يكون مع الله طائعاً له، مقبلاً عليه، محسناً إلى عباده، فإذا مات على هذه الحالة فهو المنتصر ولو كان ضعيفاً، ولو مات قتلاً هو المتنصر، لأنه مات على الإيمان وله عند الله الجنان . 

﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ بالمناسبة عندنا شيء في اللغة دقيق يحتاج إلى شرح، هذا الشيء أن المِلْك ما يملكه الإنسان، وهذا الذي يملك بيتاً، البيت مِلك، والذي يملكه يقال له : مَلِك، والمُلك أن تملك من يملك، والذي يملك من يملك يقال له : مالك .

﴿  قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِى ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ۖ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ (26) ﴾

[  سورة آل عمران  ]

 المِلك أن تملك شيئاً يُمَلّك ، فأنت مَلِك لهذا الشيء الذي هو مِلك، أما المالك أن يملك من يملك .

الفرق بين كلمتي( مالك )و( ملك )في اللغة العربية :

 فإذا قال الله عز وجل :

﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ إخوتنا الكرام، نُعرِّج على دقة اللغة العربية ، يعني بين مالك وملك فرق كبير، وفي قراءة:

﴿  مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) ﴾

[  سورة الفاتحة  ]

 وفي قراءة (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) لكن المالك هو الذي يَملك مَن يَملك، والشيء الذي يُمَلّك هو مِلك، والشيء الذي يَملكُ ما يُمَلّك هو المُلكَ ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ أحياناً حركة تغير المعنى رأساً على عقب، نقول خُطبةَ بالرفع، معنى الخُطبةَ أي أن تعلو على منبر، وأن تلقي على الناس خطاباً، ارتفاع الخطيب عن مستوى الناس كي يروه جميعاً، يقال: خُطبةً، بالضم، أما أن تطرق باب أسرة لتخطب فتاتهم يقال لها: خِطبةَ ، يعني أن الخاطب يأتي منكسراً، لعله لا يُقبل أو يُقبل، هو قلق، ففرقٌ بين الخِطبةِ والخُطبةَ، الخِطبةَ أن تتطرق بيتاً لتخطب فتاتهم، أما الخُطبةَ أن تعلو منبراً لتلقي على الناس خطاباً، يعني فرق دقيق بين البُر والبَر والبِر، البُر هو القمح، والبَر هو اليابسة، والبِر هو الإحسان، يعني حركة واحدة تنقل الإنسان من الجنة إلى النار، حركة واحدة. 


اللغة العربية هي اللغة الأولى في العالم ولكن ضعف العرب انعكس على لغتهم :


 اللغة العربية دقيقة جداً، حتى أن في اللغة العربية ما يسمى معاني الحروف، فأية كلمة فيها حرف غين فيها معنى الاستتار، غاب، غرب، غرق، غيبة، وأي كلمة فيها الراء فيها معنى التتالي، جرّ، مرّ، كرّ، فرّ، وأي كلمة فيها قاف فيها معنى الاصطدام، طرق، لصق ، أمّا الغريق: أولاً يختفي عن الأنظار، وُضعت الغين، يتتالى سقوطه، وُضعت الراء يرتطم بالقاع، وُضعت القاف .

 اللغة العربية أيها الإخوة بشهادة أعداء المسلمين هي اللغة الأولى في العالم، ولكن ضعف العرب انعكس على لغتهم، فأصبحت لغة من الدرجة الثانية، بينما من حيث التصريف هي اللغة الأولى في العالم.

 ثم إن الأسرة عندنا كبيرة جداً، عندنا فعل ماض، فعل مضارع، فعل أمر، عندنا اسم فاعل، اسم مفعول، اسم مكان، اسم زمان، اسم آلة، صفة مشبهة باسم الفاعل، اسم تفضيل، عندنا فعل ثلاثي، ورباعي، وخماسي، وسداسي، وكل وزن له معنى، وعندنا صيغ مبالغة اسم الفاعل، عندنا أسرة تتألف من عشرات بل بضع عشرات الكلمات تنتمي إلى جذر واحد، كتب، الطاولة: مكتب، وهذا الذي نقرأ منه كتاب، وأن تكتب على ورقة كاتب، أما باللغة الأخرى، كتب write ، والطاولة table ، والكتاب book من ثلاثة اشتقاقات، أما في لغتنا فكل كلمة لها عدد كبير جداً من الاشتقاقات .

 على كلٍ بين كلمة مِلك وبين كلمة مُلك، وبين كلمة مالك، وبين كلمة ملك ، إذاً الله عز وجل: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾

 الآية الكريمة : 

﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ هناك نقطة دقيقة جداً جداً، الله عز وجل : مالك كل شيء في الدنيا والآخرة ، لكن في الدنيا مالك الأشياء وفق الأسباب ، في الآخرة مالكها مباشرة ، أنت في الدنيا من أجل أن تأكل تزرع، من أجل أن تشرب تحفر البئر، إن أراد الله إكرامك ألهم عبداً ليكرمك، إن أراد أن يعاقبك ألهم عبداً أن يقسو عليك، فالمالك الحقيقي هو الله في الدنيا، لكن على الشبكية ترى أشخاصاً أقوياء بعضهم رحماء، بعضهم جبابرة، بعضهم طغاة، ترى زلازل، ترى براكين، ترى حروباً أهلية، فالله عز وجل في الدنيا مالك الملك، لكن عن طريق الأسباب الله يعطي بسبب ويأخذ بسبب، أما في الآخرة ليس هناك أسباب عطاء مباشر وعقاب مباشر.


التوحيد صحة جسدية لأنه يُلغي الشدة النفسية التي يعانيها الكافر :


﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾ كل شيء أراده الله وقع ، وكل شيء وقع أراده الله ، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة ، والحكمة المطلقة متعلقة بالخير المطلق، هذا شيء مريح جداً، هذا هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد .

 يعني تصور إنساناً موظفاً في معمل، أصحاب هذا المعمل عشرة أشخاص، لو أنهم متفقون، واحد أمره أن يسافر، والثاني أمره أن يحضر، والثالث أمره أن يجري هذا الحساب، فهذا الموظف بين عشرة أوامر متناقضة يتمزق، وهذا شأن المشرك، إن أرضى الله أغضب زيداً أو عبيداً، إن أرضى زيداً أو عبيداً أغضب الله .

﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) ﴾

 

[ سورة الشعراء  ]

 لكن شأن المؤمن في الدنيا أنه يوحد الله، ويعبده، ويعتقد اعتقاداً جازماً أن الرافع وحده هو الله، وأن الخافض هو الله، وأن المُعز هو الله، وأن المذل هو الله، وأن المعطي هو الله ، وأن المانع هو الله ، لذلك لا يتذلل، ولا ينافق، ولا يستخذي ، ولا يذل نفسه .

((  اطلبوا الحوائج بعزِة الأنفس ، فإن الأمور تجري بالمقادير  ))

[  رواه ابن عساكر عن عبد الله بن يسر ، ورواه الطبراني وأبو نعيم من حديث أبي أمامة  ]

 ما هو لك لَكَ، وما ليس لك ليس لك .

((  واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا قد كتبه الله عليك جفت الأقلام ورفعت الصحف  ))

[  أخرجه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما  ]

 إخواننا الكرام، التوحيد صحة، صحة جسدية، لأنه يلغي الشدة النفسية ، علاقتي مع الله .

﴿  بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ(66) ﴾

[  سورة الزمر  ]


إذا قرأت القرآن يطمئنك الرحمن لأن القرآن هو القول الثابت :


﴿ وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) ﴾

 

[ سورة الطور  ]

﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَىٰنَا ۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ (51) ﴾

[  سورة التوبة  ]


 الآيات المُبشّرات :


﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ(31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) ﴾

[  سورة فصلت  ]

 أنت إذا قرأت القرآن يطمئنك الرحمن، والقرآن هو القول الثابت .

﴿ يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى الْآخِرَةِ   وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّٰلِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ (27) ﴾

[  سورة إبراهيم  ]


ما ينقصنا هذه الأيام هو التوحيد وأن نطبق أمر الله تعالى :


 إذا وحدت الله ورأيت أنه :

﴿ وَهُوَ ٱلَّذِى فِى ٱلسَّمَآءِ إِلَٰهٌ وَفِى ٱلْأَرْضِ إِلَٰهٌ ۚ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ(84) ﴾

[ سورة الزخرف ]

 ما الذي تنخلع له قلوب البشرية اليوم؟ أن قوةً طاغيةً قويةً جداً تريد أن تعيش وحدها ، تريد أن تبني أمجادها على أنقاض الشعوب، وأن تبني ثروتها على إفقار الشعوب، وأن تبني حياتها على موت الشعوب، وأن تبني عزتها على إذلال الشعوب، وأن أسلحتها فتاكة وشاملة وأنها لا ترحم، هذا الكلام وحده يسبب أزمة قاتلة ، قال تعالى :

﴿ هَٰٓأَنتُمْ أُوْلَآءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَٰبِ كُلِّهِۦ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلْأَنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ ۚ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ (119) ﴾

[  سورة آل عمران ]

 التوحيد يلغي الشدة النفسية، والشدة النفسية قاتلة أيها الإخوة، ما لم تتأكد، ما لم توقن أن الذي خلقك لن يسلمك إلى غيره، وأن شأنك كله معه .

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلْأَمْرُ كُلُّهُۥ فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(123)﴾

[ سورة هود ]

 ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كله يرجع إليه، فنحن ينقصنا التوحيد، وينقصنا أن نطبق أمر الله عز وجل .


ما كلفنا الله تعالى إلا أن نعد للطرف الآخر ما هو متاح بين أيدينا وعندئذٍ يتولى الله الباقي :


﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍۢ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْءٍۢ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) ﴾

[  سورة الأنفال  ]

 يلزمنا أن نؤمن الإيمان الذي يحملنا على طاعته، ويلزمنا أن نُعدّ لهم القوة المتاحة وليست القوة المكافئة، هذا هو طريق النصر الآن، أن نؤمن إيماناً يحملنا على طاعة الله، وأن نعد عدة تتناسب مع إمكاناتنا، وما كلفنا الله فوق طاقتنا، وما كلفنا إلا أن نعد للطرف الآخر ما هو متاح بين أيدينا، وعندئذٍ يتولى الله الباقي ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ زل فيزول.

﴿قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾ هناك مليار قول الآن، هناك أقوال، وهناك نظريات، وهناك تحليلات، وهناك تخيلات، وهناك تخرُّصات ،وهناك تُرّهات، العالم يضج بالمقولات، لكن القول الحق هو قول الله عز وجل، أكبر دليل على مصداقية هذا القرآن تحقُّق الوعد والوعيد، فالذي وعد الله به يتحقق رغم أنف كل البشر، والذي توعّد به يتحقق رغم أنف كل البشر .

 يعني كما تعلمون دولة عظمى تتحكم بالعالم، لما اصطدم لوحان من القاعدة الصخرية في الأرض، لوح آسيا ولوح أوقيانوسيا، اقتربا واصطدما، هذا الاصطدام شكّل قوة تفجيرية تكافئ مليون قنبلة ذرية، هذا الاصطدام ولّد ضغطاً شكّل موجاً مشى بسرعة مئة كم في الساعة، فقطع مسافة ألف وستمئة كم في ست عشرة ساعة، وسرعته عالية جداً، وصل إلى شواطئ الهند بسرعة سبعين كم، الموج قادر أن يحمل صخرة وزنها عشرين طنّاً يلقيها إلى مسافة بعيدة، وهذا الماء الهائج ما ترك شيئاً، مدن بأكملها، قرى بأكملها، الحصيلة تقريباً ثلاثمئة ألف وخمسة ملايين مشرد، أما الذين كانوا على الشواطئ فهم نخبة أغنياء العالم، بلغ عدد القتلى منهم تقريباً خمسة وعشرون ألفاً، وكانوا في منتجعات من فئة العشر نجوم، هذا الموج يعطينا فكرة عن عظمة الله عز وجل، يعني في ثوان مليون قنبلة ذرية .


الله عز وجل هو مسبب الأسباب :


 والزلازل التي ترونها في كل مكان فهي دليل قوة الله عز وجل ، فلذلك المؤمن لا يرى إلا الله. 

﴿وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ طبعاً في آية قرآنية يقول الله عز وجل :

﴿ صِرَٰطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِى لَهُۥ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۗ أَلَآ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلْأُمُورُ (53) ﴾

 

[ سورة الشورى  ]

 قد يسأل سائل: بيد من كانت ثم صارت إليه؟ الحقيقة هي بيد الله كانت، لكن بيد الله عن طريق الأسباب في الدنيا، بيد الله من دون أسباب يوم القيامة، يعني الله عز وجل يخلق طفلاً لكن عن طريق أمه وأبيه، شاب وشابة يتزوجان ينجبان طفلاً، فهذا الطفل من خلقه ؟ الله جل جلاله ، ولكن عن طريق زواج أبيه بأمه ، وهذا الماء عن طريق السحاب المسخر في السماء، وعن طريق الأمطار، وهذا النبات عن طريق البذور، فالله عز وجل مالك الملك في الدنيا عن طريق الأسباب، هو مسبب الأسباب.

﴿  وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً(83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً(84) فَأَتْبَعَ سَبَباً(85) ﴾

[  سورة الكهف  ]

﴿وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ أي يوم القيامة.

﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ عالم الغيب ما غاب عنا، علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ أما نحن فنرى من في المسجد، لكن لا نرى من في مسجد آخر، فالمسجد الآخر غيب عنا، لكنه غيب حاضر، ومن في مساجد حلب الآن غيب عنا ، ولكنه غيب حاضر ، عندنا غيب ماض .

﴿ ذَٰلِكَ مِنْ أَنۢبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَٰمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)﴾

[ سورة آل عمران ]

 عندنا غيب المستقبل، غيب المستقبل لا يعلمه إلا الله ، قولاً واحداً .

﴿ قُل لَّآ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لَٱسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ٱلسُّوٓءُ ۚ إِنْ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍۢ يُؤْمِنُونَ (188) ﴾

[ سورة الأعراف  ]


الله عز وجل حكيم :


﴿وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ الله عز وجل حكيم، ومعنى حكيم أن الذي وقع لو لم يقع لكان نقصاً في حكمة الله، والذي وقع لو لم يقع لكان الله عز وجل ملوماً يوم القيامة، مثلاً: لو أن أباً عنده ابن، والابن بالصف الخامس، قال الابن هذه الكلمة من دون أن يعني ما يقول، قال له: أريد ألا أدرس، قال له: كما تريد ، كلمة ، أجابه بكلمة واحدة، فهذا باليوم الثاني ترك الدراسة، واستيقظ ظهراً، ولعب مع أصدقائه المنقطعين عن الدراسة، وأمضى أوقاته في اللعب واللهو ، فلما كبرت سنه، أصبح بلا شهادة ، وبلا علم ، وبلا حرفة، وبلا مصلحة ، وفقير، وغير متزوج ، وأصدقاؤه أطباء، ومحامون ، ومهندسون، لهم بيوت، وزوجات ، وأولاد ، فتألم ألماً لا حدود له ، فقال لأبيه: يوم قلت لك : أريد ألا أدرس لمَ لم تضربني ضرباً مبرحاً ، أنا لا أعرف ، فيا ترى لو أن الأب منعه من هذا الطلب، وعنّفه ، وحمله على الدراسة، لمَا كان الأب ملوماً بعد أن كبر ، طبعاً هذا المثل تمهيد لآية دقيقة جداً ، قال تعالى :

﴿  وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) ﴾

 

[ سورة القصص  ]

الذي يقع الآن في العالم الإسلامي لو لم يقع لكان الله ملوماً، يعني الناس يتمنون أن يعيشوا على سجيتهم، في بحبوحة، وفي غنى، وفي طعام وشراب، يستمتعون بالشهوات ، دون أن يُحاسبوا، وبلا هذه المصائب الفقر، والقهر ، والحروب ، والتهديدات ، وضعف الدخل ، وندرة الأعمال ، والبطالة ، وهذا الفساد العريض يحتاج إلى أموال طائلة، هناك مليون سؤال ، لكن حينما يصل الإنسان إلى يوم القيامة، ويكشف الله له ما ساقه له من المتاعب ومن مصائب من أجل أن يعيده إليه لذاب محبة لله عز وجل .


كل شيء وقع أراده الله وكل شيء أراده الله وقع وإرادته متعلقة بالحكمة المطلقة :


﴿ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾

  قال تعالى :

﴿ وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَٰهُم بِعَذَابٍۢ مِّن قَبْلِهِۦ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلَآ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ ءَايَٰتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ (134)﴾

 

[ سورة طه  ]

 في آية ثانية، وفي آية: ﴿وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ .

  إذاً: معنى الحكيم الذي وقع لو لم يقع لكان الله ملوماً، إذاً كل شيء وقع أراده الله، وكل شيء أراده الله وقع، وإرادته متعلقة بالحكمة المطلقة .

 الإنسان متى لا يكون حكيماً؟ كإنسان أنا أقول لكم: لا يكون حكيماً إذا جاءه ضغط لا يستطيع إيقافه، فقام بعملٍ غير حكيم، يقول لك: هناك ضغوط علي، ضغوط لا أستطيع تحملها، ومتى يكون غير حكيم؟ إذا وقع تحت إغراء لا يحتمله، ففي الضغط والإغراء لا يكون حكيماً، أو بالجهل لا يكون حكيماً، لو أن مزارعاً وضع أربعة أمثال نسب السماد لاحترق الزرع كله، فعمله غير حكيم لأنه جاهل، ما عرف أن هذا السماد الكيماوي يحتاج إلى مقادير مدروسة ودقيقة، فالإنسان لا يكون حكيماً في ثلاث حالات، إذا كان تحت ضغط شديد، أو تحت إغراء شديد، أو بسبب جهل فاضح. 

هل يمكن أن تنطبق هذه الصفات على الذات الإلهية؟ مستحيل، إذاً كل شيء وقع أراده الله، وكل شيء أراده الله وقع، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة ، وحكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق.

﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ ما قال والشر، والشر أيها الإخوة ما له وجود، وجوده سلبي، ناتج من البعد عن الله عز وجل، يعني نحن ليس لدينا مركبة يسوقها أو يقودها إنسان مخمور، نزلت في الوادي، وأصبحت بوضع لا يُحتمل من التشوه، هذه المركبة بهذا التشوه لا تحتاج إلى معمل، المعمل يقدم لك مركبة ذات خطوط انسيابية جميلة جداً، فالمعمل يقدم الشيء الكامل، أما هذا السائق المخمور الذي نزل بمركبته في الوادي، فتشوّه منظرها هذا التشوه سلبي وليس إيجابياً، يعني لا يوجد في المعامل قوالب للحديد تصنع هذا الشكل المشوه. 


معنى الخبير يزيد على معنى العليم :


 النبي عليه الصلاة والسلام يقول : 

(( والشَّرُّ ليسَ إليكَ، والمَهْديُّ مَن هدَيتَ، أَنا بِكَ وإليكَ، لا مَنجا مِنكَ ولا مَلجَأ إلَّا إليكَ، تبارَكْتَ وتعالَيتَ ))

[ الألباني عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ]

طعام نفيس جداً بدل أن تضع الملح وضعت السكر، لا يؤكل الطعام، أو بدل أن تضع الملح وضعت مسحوق الغسيل، كمسحوق أبيض، الأكل لا يؤكل، هل نقول: هذا المسحوق، مسحوق الغسيل يُعد شراً، لا ! أُسيء استخدامه فقط، هو مادة أساسية في حياتنا، والسكر مادة أساسية، والملح مادة أساسية ، أما حينما تضع الملح في الحلويات بالمعمول بالعيد، المعمول لا يؤكل، انتهى ، فالملح ضروري، الخطأ بالاستعمال، الشر ما هو ؟ سوء تصرف بالإنسان فقط، خلق الأنثى وخلق الذكر، وأراد من الأنثى والذكر أن يتزاوجا، حتى يكونا أسرة يسعد بها وتسعد به ، تنجب له أولاداً يملؤون البيت سعادة، وهي مضمونة المستقبل عنده، وهو ضامن ولاءها وإخلاصها، فأصل التصميم ذكر وأنثى زائد زواج، فقط، أما الزنا فهذا مخالفة منهج الله عز وجل، فلما تتجه الفتاة نحو الزنا، ما دام فيها مسحة جمال فعليها طلب، فإذا انتهى جمالها أصحبت مُلقاة في الطريق كالفأرة الميتة، انظر إلى فتاة في سنها، وقد سلكت طريق الحق، لها أولاد، ولها بنات، ولها أصهار، مُعزّزة، مُكرّمة، محترمة من زوجها، وبناتها، وأصهارها، وأولادها (والشَّرُّ ليسَ إليكَ) الشر سلبي، بل إن الشر المطلق لا وجود له في الكون، إن الشر المطلق يتناقض مع وجود الله، إما أن تؤمن بشرٍّ مطلق، أو أن تؤمن بإلهٍ واحدٍ، أحدٍ، فردٍ، صمدٍ، لم يلد، ولم يولد، هذه المعاني تملأ القلب طمأنينة، والدعاء اللطيف الرائع للنبي صلى الله عليه وسلم (والشر ليس إليك) الشر من صنع أنفسنا، أوضح مثل مركبة من أغلى الأنواع يقودها إنسان مخمور، نزل بها في الوادي، لذلك العقل هو المِقود، والشهوة هي المحرك، والشرع هو الطريق، مهمة العقل أن يبقي المركبة بقوة اندفاعها على منهج الله عز وجل ، 

﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ ما غاب عنا في الماضي أو الحاضر أو المستقبل .

﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ كل شيء وقع أراده الله، الإرادة متعلقة بالحكمة المطلقة، الحكمة المطلقة متعلقة بالخير المطلق، معنى الخبير يزيد على معنى العليم، هناك معنى فرعي، مثلاً : تصنع شيء له حمالة، فالحمّالة أنيقة جداً، وموصولة وصلاً مُحكماً بهذا الشيء، لكن ما فيها دارسة دقيقة جداً تشير إلى قوة تحمل هذه الحمّالة، فإذا ملأت هذه العلبة بحاجات ثقيلة وحملتها انفصلت الحمالة عن هذه العلبة، نقول: المسكة أنيقة وجميلة، وألوانها متناسبة، وتثبيتها جيد، لكن لا يوجد فيها دراسة دقيقة حول الوزن الذي يمكن أن يوضع في العلبة وبين قوة تماسك الحمالة مع العلبة .

 أما إنسان أحياناً يمسك ابنه من يده، ويحمله، هناك دراسة دقيقة جداً، هذه العضلات بالكتف قوة متانتها يمكن أن تحمل جسم الطفل بأكمله، أحيانا يكون الأب غاضباً من ابنه يحمله بعنف، صار وزنه مضاعفاً، مهما كنت غاضباً، فما من أبٍ حمل ابنه من يده وملصت يده، تحدث معنا كثيراً في الحقائب، أما الابن فلا يحدث معه هكذا ، هناك دراسة دقيقة جداً، كلمة خبير تعني على التطبيق، العلم: مجرد علم أما مع التطبيق صار خبرة . 

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور