2005-05-27
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة المؤمنون ، مع الدرس الثاني والعشرين من دروس سورة الأنعام .
الإيمان الفطري :
مع الآية الثالثة والستين ، وهي قوله تعالى :
﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)﴾
أيها الأخوة الكرام ، أولاً : حقائق الإيمان أودعها الله في جبلة الإنسان ، من أي جنس ، من أي لون ، من أي دين ، من أي مذهب ، من أي اعتقاد ، من أية طائفة ، حينما يدلهمّ الخطب تقول : يا الله ، أي إنسان على وجه الأرض حتى لو كان ملحداً عندما يواجه خطراً ماحقاً يتوجه إلى الله عز وجل ، تكلمت بهذا الكلام لأن طائرة تقلّ خبراء من دولة تؤمن بأنه لا إله ، ودخلت هذه الطائرة في سحابة مكهربة ، وكان وقوعها وشيكاً ، فإذا بهؤلاء الخبراء وقد ملؤوا الدنيا كلاماً بأن الله غير موجود دون أن يشعروا رفعوا أيديهم واستغاثوا بالله عز وجل لينجيهم من هذه الكارثة .
لذلك مفهوم الألوهية مودع في أعماق النفس البشرية ، هذا ما يسمى الإيمان الفطري ، إلى من نتوجه إذا شحت السماء ؟ إلى من نتوجه إذا ادلهمّ الخطب ؟ إلى من يتوجه المريض إذا أصيب بمرض عضال ؟ إلى الله وحده ، وينسى كل الذين أشركهم من الله عز وجل .
أيها الأخوة ، ولكن لي تحفظ على هذا الموضوع ، وهو أنه جميل جداً أن تتوجه إلى الله في أثناء الشدة ، ولكن الأجمل من ذلك أن تتوجه إليه وأنت في رخاء ، وأنت في بحبوحة ، وأنت في صحة ، وأنت في شبابك ، ما من شيء أحب إلى الله من شاب تائب في مقتبل الحياة يغلي حيوية ونشاطاً ، ومع ذلك يضبط نفسه وفق منهج الله .
لو عدنا إلى أصل فطرتنا لأدركنا جمال الكون :
على كلٍ :
﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾
الحقيقة أن الكون فيه ظلام وفيه نور ، ولو تعمقنا في حكمة الظلام ، لولا الظلام لما انتفعنا بالنور ، جعل الله الليل سكناً ، وجعل الله النهار معاشاً ، فهذه الحركة والنشاط في النهار أساسها أن أعضاءك وحواسك وعضلاتك وأجهزتك استراحت في الليل ، كأن الله سبحانه وتعالى صمم الليل كي نأوي إلى بيوتنا ، وكي ترتاح أجسامنا ، لكن الحضارة الحديثة جعلت الليل نهاراً ، والنهار ليلاً ، وهذا المرض شاع بين المسلمين ، فلا أحد ينام إلا بعد منتصف الليل ، ولا يستيقظ على صلاة الفجر إلا وهو محطم من شدة التعب ، ولا يستطيع أن يركز إلا في ساعة متأخرة جداً من النهار ، ينام إلى الظهر كي يستطيع أن يركز ، طبيعة الحياة ، والكهرباء ، وما في البيت من ملهيات جعلت الإنسان يبحث عن اليقظة في وقت النوم ، ويبحث عن النوم في وقت اليقظة . ولو تصورنا أننا عدنا إلى أصل فطرتنا ، إلى النوم الباكر ، وإلى الاستيقاظ الباكر لأدركنا جمال الكون :
(( وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً ))
﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6)﴾
أيها الأخوة ،
﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾
هل الأرض إلا بر وبحر ، أنت إما أن تكون في البر أو في البحر ، طبعاً يقاس على البحر أن تكون في الجو ، فالإنسان إما أن يكون في البر ، أو في البحر ، أو في الجو ، الأخطار في الجهات الثلاث واحدة ، لكن الإنسان لجهله يتوهم أنه آمن في البر مع أن البر يزلزل أحياناً فلا يبقى شيء .
﴿ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا (74)﴾
ما من شيء ثابت ، إلا أن يضمن الله لك الثبات ، فالبناء الذي استغرق إنشاؤه سنوات طويلة يصبح أنقاضاً في ثوانٍ ، هذا الزلزال .
الكوارث التي تأتي لها تفسير إلهي :
باخرة من أعظم البواخر صنعت في عام 1912 اسمها التيتانيك ، هذه الباخرة صممت بحيث لا تغرق ، جدرانها كلها من طبقتين ، فلو خُرقت الطبقة الخارجية الطبقة الداخلية تحول بين الماء وبين وصوله إلى الداخل ، حتى إنهم كتبوا اجتراءً على الله : هذه الباخرة لا يستطيع القدر إغراقها ، بل إن هذه الباخرة لم تزود بقوارب النجاة لأنها لا تغرق ، وفي أول رحلة لها من أوربة إلى أمريكة ، وعلى متنها نخبة أغنياء أوربة ، وقد قدرت حلي النساء بالمليارات ، هي مدينة عائمة ، وفي طريقها إلى أمريكة ارتطمت بجبل ثلجي قسمها شطرين ، ولم ينجدها أحد ، لأن إشارات النجدة توهموها احتفالات على هذه الباخرة ، ومات عدة آلاف ، فقال بعض القساوسة وقتها : إن غرق هذه السفينة درس بليغ من السماء إلى الأرض ، وزلزال تسونامي أيضاً درس بليغ ، الكوارث التي تأتي لها تفسير إلهي .
على كلٍ أيها الأخوة ، يشير الله عز وجل في هذه الآية إلى أن الإيمان متوافق مع الفطرة ، فأنت في النهاية لا تلتجئ عند الشدة إلا إلى الله ، بل مرةً حدث في بلدنا رياح عاتية حطمت مئات البيوت الزجاجية ، فقال لي أحدهم : الناس على اختلاف مللهم ونحلهم وأديانهم وطوائفهم قالوا : إن المسيء أدبه الله عز وجل ، فهناك إيمان فطري ، وإيمان عقلي ، وإيمان نقلي ، الآية هنا تتحدث عن الإيمان الفطري :
﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾
الإنسان قد لا ينتبه أنه يتمتع بأجهزة سليمة ، وبحواس سليمة ، وبقدرة على الحركة ، يتمتع بصحته تمتعاً عالياً ، لكنه لو علم أن أي خلل في أعضائه يجعل حياته جحيماً لا يطاق ، فأنت إذا كنت معافىً فينبغي ألا تنسى أن هذا فضل من الله عظيم ،
﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾
الحقيقة أن الظلمات أنواع ؛ هناك ظلمات حسية ، وظلمات عقلية ، أحياناً تطرح شبهات ، لو أن الإنسان التجأ إلى الله عز وجل لبدد الله له هذه الشبهات ، ولا سيما في هذه الأزمان الشبهات تطرح على هذا الدين ، على هذا القرآن ، على هذا الإسلام ، على المسلمين فالله عز وجل متكفل أن يبدد لك هذه الشبهات ، لو فهمت الظلمات شبهات فالله هو الذي يبددها ، فإذا قرأت القرآن قراءة واعية متأنية ، ورافق هذه القراءة طهارة نفسية لوجدت أن كل سؤال ألقي في خاطرك حار فيه عقلك أجابك الله عليه في القرآن الكريم ، هذا معنى .
لا يحقق شيء على وجه الأرض في ملكوت الله عز وجل إلا بتوفيق الله :
أحياناً الشبهات ظلمات ، القضية غامضة ، القضية تحير ، كيف نوفق بين هذه الآية وهذه الآية ؟ كيف نوفق بين وعود الله في القرآن الكريم وواقع المسلمين ؟ كيف نوفق بين النمو الاقتصادي وتحريم الربا ـ مثلاً ـ ؟ فالطرف الآخر يطرح شبهات دائماً ، وأحياناً هناك ظلمات أخطار ، أخطار في البر ، وأخطار في البحر ، هذه ظلمة ، قد لا تجد ماء لإرواء زرعك ، وقد لا تجد مالاً لشراء البضاعة ، وقد لا تجد دواء لمرض عضال ، فكأن العلماء بيّنوا أن هذه الظلمات بعضها فكري ، بعضها من نوع الشبهات ، وبعضها حسي من نوع المصائب ، هي ظلمات ، وقد رمز الله إلى الذي يعكر صفو الإنسان ، والذي يوقعه في حيرة ، والذي يربكه بالظلمات ، والله وحده ينجيه منها . أحياناً تأتي الآية الكريمة :
﴿ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)﴾
الآن يعيش العالم الإسلامي ظلمات ليس لها من دون الله كاشفة ، ولا بد من تدخل إلهي مباشر ، لأنه كحل أرضي يبدو بعيداً جداً ، إذاً :
﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾
فأينما كنت هناك أخطار ، لذلك قال تعالى :
﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ (88)﴾
وقد قيل : إن هذه الآية من أعمّ الآيات في القرآن الكريم ، فأيّ هدف لا يحقق إلا بتوفيق الله ، إن كان الهدف شخصياً ، أو جماعياً ، عاماً ، أو خاصاً ، لا يحقق شيء على وجه الأرض في ملكوت الله عز وجل إلا بتوفيق الله ، لذلك كان من أدعية النبي عليه الصلاة والسلام :
(( اللَّهُمَّ لا سَهْلَ إِلاَّ ما جَعَلْتَهُ سَهْلاً ، وأنْتَ تَجْعَلُ الحَزْنَ إذَا شِئْتَ سَهْلاً ))
مادام الأمر بيد الله فالتعامل مع الله وفق القواعد تعامل علمي :
أنا أتكلم أو أخاطب الشباب ، أنت في مقتبل العمر ، صحتك ، دراستك ، عملك ، حرفتك ، زواجك ، مستقبلك بيد الله عز وجل ، ومادام الأمر بيد الله فالتعامل مع الله وفق القواعد ، تعامل علمي .
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (21)﴾
.
أنا أؤكد لكل شاب أنك إذا خطبت ود الله عز وجل ، وأخلصت له ، وضبطت جوارحك وفق منهجه فمستقبل زاهر ينتظرك ، بعيداً عن كل معطيات البيئة ، والعصر ، والأزمات ، والصعوبات ، والعقبات ، ليس في الكون إلا الله .
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ (84)﴾
وقال :
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (21)﴾
آية ثانية :
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾
وقال :
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)﴾
وقال :
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾
لو أن المسلمين توجهوا إلى الله مخلصين لأمدهم الله بعناية وحفظ وتأييد ونصر :
إذاً :
﴿ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾
إما أن تفهمها مشكلات لا حل لها ، أو نوازل مدمرة ، أو شبهات في قلب المؤمن يحار في حلها ، فالله عز وجل ينجيك من كل إشكال في عقيدتك ، أو في تصوراتك ، ومن كل إشكال في حياتك ، أو في بيتك ، ومن كل إشكال في مجتمعك ، لو أن المسلمين توجهوا إلى الله مخلصين لأمدهم الله بعناية وحفظ وتأييد ونصر ، لكنهم وقعوا في الشرك ، تعلقوا بمن في الأرض ولم يتجهوا إلى من في السماء ، اصطلحوا مع من في الأرض ولم يصطلحوا من في السماء ، توهموا أن في الأرض قوى سلامتهم بإرضائها ، وتدميرهم بغضبها ، ونسوا الواحد القهار .
" أنا ملك الملوك ومالك الملوك ، قلوب الملوك بيدي ، فإن العباد أطاعوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة ، وإن العباد عصوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالسخطة والنقمة ، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك ، وادعوا لهم بالصلاح ، فإن صلاحهم بصلاحكم " .
من أروع ما يفهم في هذا الموضوع من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو حديث جامع مانع موجز ، قال :
(( لا يرجو عبد إلا ربه ، ولا يخافن إلا ذنبه ))
القوى المخيفة في الأرض جبارة ، وعاتية ، وقوية ، وقاسية ، ولا ترحم ، ولكن ينبغي ألا تخاف منها لأن الله عز وجل يبين أن هؤلاء الأقوياء بيد الله عز وجل .
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾
معنى التوحيد :
اجعل هذا الحديث شعاراًَ لك :
(( لا يخافن العبد إلا ذنبه ))
إذا وقع في إشكال،
(( ولا يرجون إلا ربه ))
كلام جامع مانع فيه كل شي ، بل يمكن أن تضغط علاقتك مع الله كلها في هذا الحديث ،
(( لا يخافن العبد إلا ذنبه ، ولا يرجون إلا ربه ))
(( من كان همه الآخرة جمع الله شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت نيته الدنيا فرق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ))
" عبدي أنت تريد وأنا أريد ، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد " .
هذا هو التوحيد ، كم قوة في الأرض طاغية يد الله فوق أيديهم ؟
﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا (2)﴾
وقال :
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)﴾
وقال :
﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)﴾
هذا هو التوحيد ، ألاّ ترى مع الله أحداً ، أن ترى أن يد الله تعمل وحدها في الكون ، هؤلاء الذين يتحركون يسمون في الإعلام صُناع القرار هؤلاء ليسوا صُناع القرار ، إنما هم أدوات بيد الله عز وجل .
يتضرع الإنسان إلى الله حينما ييأس من حلٍّ أرضي :
التوحيد مريح أيها الأخوة ، ولا سيما في هذه الأزمات ، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، لا يعقل ولا يقبل أن يأمرك الله أن تعبده ثم يسلمك إلى بعض عباده الأقوياء ، قال :
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ (123)﴾
متى أمرك أن تعبده ؟ بعد أن طمأنك ،
﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ﴾
﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً﴾
تضرع حينما تيأس من حل أرضي ، ولحكمة بالغةٍ بالغة من أجل أن يلجئك إليه يغلق لك كل الأمل الأرضي قال تعالى :
﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2)﴾
أنت متى تبحث عن مخرج ؟ إذا رأيت الأبواب كلها مغلقة ، أحياناً تغلق الأبواب كلها في وجه المسلم ، لأن هناك ضعفاً بإيمانه ، وهناك شرك خفي يعاني منه ، فحتى يلجئه الله إلى السماء لا بد من أن يقطع أمله من أهل الأرض ، ولكي يقطع أمله من أهل الأرض لا بد من أن يلهم هؤلاء الذين اعتقد أن مصلحته عندهم أن يبعدوه عنهم ،
﴿ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ﴾
يمكن أن تدعو الله جهراً ويمكن أن تدعوه وأنت صامت :
أحياناً الدعاء في نفسك :
﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً (3)﴾
بالمناسبة كفكرة إيجابية ، يمكن أن تدعو الله وأنت صامت ، يمكن أن تدعوه وأنت صامت .
أقسم لي رجل ، كنت في طريقي إلى مدينة في الساحل ، فرأيت مسجداً على الساحل رائعاً صليت فيه ، ثم التقيت مع الذي أنشأه ، قال لي : أنا قبل عشرين عاماً أنهيت خدمتي الإلزامية ، وأردت أن أسافر إلى الخليج ، وأنا في الطائرة في ذهابي إلى الخليج ـ أقسم لي بالله لم يحرك شفتيه ـ لكن نادى ربه نداءً خفياً ، قال : يا رب ، إن أكرمتني فسأنشئ مسجداً في هذا المكان ، وقد أكرمه الله عز وجل ، فلما عاد كان لإنشاء هذا المسجد عقبة كبيرة ، المسجد لا ينشأ إلا في منطقة منظمة ، فحدثني عن تفاصيل هذه القصة ، نادى ربه نداءً خفياً ، أنت يمكن أن تنادي الله وأنت ساكت ، أحياناً تكون في موقف الكل ينظر إليك وأنت في أمسّ الحاجة إلى الله ، ليس ضرورياً أن تحرك شفتيك .
مرة الحسن البصري لما قام بأمانة الدعوة إلى الله ، وأمانة التبيين ، فبلغ الحجاج أنه تحدث عن بعض تصرفاته ، وكان الحجاج جباراً وطاغياً ، فقال : يا جبناء ، والله لأروينكم من دمه ، وأمر بقتله ، وجاء بالسياف ، ومد النطع ، القماش الذي يمنع وصول الدم إلى الأثاث ، وجيء بالحسن البصري ، لما دخل على السياف ورأى السياف مستعداً لقتله ، وأدوات القتل جاهزة ، حرك شفتيه ، فإذا بالحجاج يقف له ، ويقول : أهلاً بأبي سعيد ، وما زال يدنيه حتى أجلسه على سريره ، واستفتاه في موضوعات عديدة ، وضيفه ، وأكرمه ، وشيعه إلى باب القصر ، السياف والحاجب صعقا ، تبعه الحاجب قال له : يا أبا سعيد ، لقد جيء بك لغير ما فعل بك !! فماذا قلت ، وأنت داخل ؟! قال : قلت : يا رب ، يا ملاذي عند كربتي ، يا مؤنسي في وحشتي ، اجعل نقمته برداً وسلاماً ، كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم .
كلما تذللت لله رفعك وكلما تكبرت واستنكفت عن عبادته وتأبيت أن تطيعه أذلك :
هذه الفرصة الرائعة لكل واحد منا متاحة ، أن تنادي ربك نداءً خفياً ،
﴿ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ﴾
التضرع ؛ هو التذلل ، أنت كلما تضرعت إلى الله عز وجل رفعك ، وزادك عزاً ، وكلما تذللت إلى إنسان زادك ضعةً .
اجـعل لربك كـل عزك يستقر ويثـبت فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزك ميت
***
المؤمن يعتز بالله ، ويحتمي بالله ، ويعتمد على الله ، ويتوكل على الله ، ويلجأ إلى الله ، ويستعيذ بالله ،
﴿ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً ﴾
يعني تذللاً ، قضية يسمونها بالمنطق معادلة متعاكسة ، كلما تذللت لله رفعك .
﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)﴾
وكلما تكبرت ، واستنكفت عن عبادته ، وتأبيت أن تطيعه أذلك .
والله هناك قصص أيها الأخوة إنسان يصاب بذل ما بعده ذل ، تهان كرامته ، تنتهك حرماته ، يؤخذ ماله ، يشيع في الناس عنه أسوأ الأخبار .
﴿ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ (18)﴾
كأن الله سبحانه وتعالى يبين لنا أنك تكون في أعلى درجة عند الله حينما تدعوه ،
﴿ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ﴾
تدعوه متذللاً ، لذلك لعل النبي عليه الصلاة والسلام استنبط من هذه الآية أن صلاة الاستسقاء ينبغي أن تذهب إلى المصلى بثياب ليست أنيقة ، أنت ضعيف بقدر ما تستطيع بينك وبين الله تذلل ، فإذا ربنا عز وجل يرفع لك ذكرك ، ويعلي قدرك ، ويجعل لك هيبة يهابك الناس بها ، من هاب الله هابه كل شيء ، ومن لم يهب الله أهابه الله من كل شيء ،
﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾
إذا عاهدت الله عز وجل على شيء فبطولتك أن تنجز هذا العهد :
بربكم هل وقع أحدنا في مأزق ، أو في أزمة ، أو في شبح مصيبة ، أو في شبح مرض ، أو في شبح خسارة ، ودعا الله عز وجل من أعماقِ أعماق قلبه ، وعاهده أنه إذا فرج الله عنه ليكونن من الشاكرين ؟ ثم قصّر في الوفاء بوعده ، آية تحرك المشاعر :
﴿ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)﴾
أنت إذا عاهدت الله عز وجل على شيء بطولتك أن تنجز هذا العهد ، وتحقق هذا الوعد ،
﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾
﴿ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)﴾
أحياناً الإنسان في ساعة الشدة الشديدة لا يرى إلا الله ، فإذا ارتفعت حرارة ابنه ، وقال له الطبيب : التهاب سحايا خطر ، حياته في خطر ، ودعا الله عز وجل من أعماق أعماقه ، فلما شفي ابنه عزى الشفاء إلى الطبيب ، الطبيب معه بورد ، صار الطبيب معه بورد ، والدواء الذي أتى به أجنبي ، فعاليته عالية جداً ، ونسي أن الله أذن له بالشفاء ، هذا خطأ كبير :
﴿ لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)﴾
أيضاً بطولتك بعد الرخاء ، دعوت الله فاستجاب لك ، وأزاح عنك كل كرب فالبطولة أن هذا الشفاء ، وهذا النجاح ، وهذه الإزاحة ينبغي ألا تعزوها إلى مخلوق ، اعزُها إلى الخالق .
لا بدّ من الالتجاء إلى الله عز وجل لأنه من اعتز بغير الله ذلّ :
هذا يذكرني إلى أن السيدة عائشة حينما شاع عنها حديث الإفك ، وشاع عنها أنها زنت ، وهي السيدة الأولى ، وهي الطاهرة ، وهي التي كان النبي يحبها حباً جماً ، وتأخر الوحي في تبرئتها أربعين يوماً كي يعلم الناس أن الوحي ليس بيد رسول الله ، لو كان بيده لجاءت آية التبرئة بعد ساعة من الاتهام ، ولكن جاءت التبرئة بعد أربعين يوماً ، فحينما نزلت آيات التبرئة قال أبوها الصديق لها : قومي إلى رسول الله فاشكريه ، قالت : والله لا أقوم إلا لله ، بحضرة النبي ، فابتسم النبي عليه الصلاة والسلام وقال : " عرفت الحق لأهله " .
أنت حينما يزاح عنك كرب ، تزاح عنك مصيبة ، تزاح عنك ضائقة ، تشفى من مرض عضال ، انتبه إلى ما تقول ، يجب أن تعزو ذلك إلى الله ، وأن تقوم إلى الله شاكراً ، وقد شرع النبي لنا ركعتي الشكر ، أو سجود الشكر ، اسجد لله ، وقل : يا رب ، لك الشكر والحمد أن أنقذتني ، أقم علاقة مع الله ، أقم علاقة معه ، اسأله ، استغفره ، تب إليه ، قل : يا رب أَقِل عثرتي ، يا رب آمن روعتي ، يا رب اغفر زلتي ، يا رب أعني على نفسي ، لا بد من حوار بينك وبين الله ، لا بد من التجاء إلى الله عز وجل ،
﴿ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ﴾
ورد في بعض الآثار أنه :
(( ما من مخلوق يعتصم بي من دون خلقي فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجا ، وما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني أعرف له ذلك من نيته إلا جعلت الأرض تحت قدميه ، وقطعت أسباب السماء بين يديه ))
من اعتز بغير الله ذل ، من اعتز بغير الله ضل ، من اعتز بغير الله افتقر ، من اعتز بغير الله انتكس ، كان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة .
أخواننا الكرام ، فيما سمعت في بعض السنوات إمام الحرم صلى التراويح ، وفي يوم الختم في ليلة السابع والعشرين دعا دعاءً مطولاً اقترب من ساعة ، وقد خصص في هذا الدعاء دعاء على هؤلاء الذين يغتصبون في فلسطين ، ويقتلون ، ويهدمون ، ويحرقون ، ويقتلعون الأشجار ، ويردمون الآبار ، ويذلون الناس ، دعا عليهم ما يزيد على خمس عشرة دقيقة ، وبكى بكاءً شديداً ، في هذا الوقت بالذات توجهت طائرتان كبيرتان تحملان مئة وخمسة وعشرين ضابط كومندس ، وكل ضابط مكلف بالملايين ، يتقن اللغة العربية والعامية واللغة المحلية ، يتقن السلاح الأبيض ، يتقن الصراع الياباني ، يتقن استخدام أدق الأسلحة ، وهؤلاء الضباط الكبار توجهوا إلى جنوب لبنان كي يأخذوا رهائن من المساجد ليلة القدر ، فإذا بالطائرة الأولى تقع على الطائرة الثانية ، وإذا بالطائرتين تقعان على مستعمرة إسرائيلية، والثابت أنه منذ أن تأسست إسرائيل من عام 1948 حتى الآن لم تمنَ بخسارة بشرية تفوق هذه الخسارة ، مئة وخمسة وعشرون ضابطاً .
ربما كانت المصائب نعماً باطنة :
أنت حينما تدعو الله عز وجل صادقاً يستجيب لك ، حتى الصندوق الأسود حينما قرؤوا ما فيه آخر كلمة قالها الطيار الذي في الأعلى ، قال : أنا أسقط ولا أدرِي لمَ أسقط ، إذاً :
﴿ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ﴾
محور هذا الدرس أن الله سبحانه وتعالى يسوق بعض البلاء لعباده كي يلجؤوا إليه ، كي يقفوا على أبوابه ، يلجئهم إلى العبودية له ، كي يكرمهم ، كي يرحمهم ، كي ينصرهم ، كي يرفع شأنهم ، كي يعطيهم عطاء كبيراً ، كي يدخلهم الجنة ، فدققوا أن هذه المصائب ربما كانت نعماً باطنة ، ثم يقول الله عز وجل :
﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)﴾
﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ ﴾
الصواعق ، الصاعقة تدمر كل شيء ، هناك صواعق تأتي على بيت كل من في البيت يُحرق ، من مئتين إلى ثلاثمئة ألف فولت كهرباء ، يُحرق كل شيء ، طبعاً الصواعق دائمة ، أما الشيء الحديث الصواريخ ، هناك صواعق وفي صواريخ ،
﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾
الزلازل ، ثلاثمئة ألف إنسان ماتوا في زلزال شرق آسيا ، خمسة ملايين إنسان بلا مأوى ، أخبار الزلزال تعرفونها جميعاً ،
﴿ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾
صواعق وصواريخ ، وزلازل وألغام ، لكن المصيبة التي لا تحتمل ،
﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾
الإنسان حينما يدع منهج الله ، وحينما لا يعتصم بحبل الله ، يصبح الناس شيعاً وأحزاباً وفرقاً .
لا يمكن أن يرمم ضعفنا إلا بالإيمان بالله :
الله عز وجل قال ـ دققوا في هذه الآية التي هي قانون العداوة والبغضاء ـ :
﴿ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (14)﴾
العداوة لها قانون ، أنا حينما أبتعد عن الله ، وحينما يبتعد فلان عن الله أردنا الدنيا ، والمصالح متضاربة ، والشهوات تتصارع ، والأهداف المادية تتجاذب ، الآن ماذا يجري في العالم ؟ الصراع على الدنيا ، كل ما تسمعونه من كلام متعلق بالمبادئ كذب مصالح ، الإنسان يغطي أحياناً حركته وحربه بكلام كله كذب ، الصراع على الثروات .
إذاً
﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ﴾
كيف يكون الناس شيعاً ؟ إذا ابتعدوا عن الله جميعاً ، ذلك لأن المعركة بين حقين لا تكون ، لأن الحق لا يتعدد ، ومستحيل وألف ألف مستحيل أن تقع معركة بين حقين ، لأن الحق الأول ينطبق على الثاني ، الحق هو مستقيم بين نقطتين ، إن أردت أن ترسم مستقيماً آخر يأتي فوقه تماماً ، المعركة بين حقين لا تكون ، والمعركة بين حق وباطل لا تطول لماذا ؟ لأن الله مع الحق ، أما بين باطلين فلا تنتهي ، قد نمضي أعمارنا كلها في حرب مع أعدائنا ، لأننا لسنا كما ينبغي ، وهم ليسوا كما ينبغي ، عندئذٍ الأقوى ينتصر ، والذي يملك سلاح مجدي ينتصر ، مع غياب الإيمان من الذي ينتصر ؟ طائرة تستطيع أن تهاجم ثمانية أهداف في آن واحد على بعد ستة عشر كيلومتر ، الطائرة المقابلة مداها ثلاثة كيلومتر وتهاجم هدف واحد ، إذاً شيء بديهي جداً أن الذين يملكون الطائرات المتطورة جداً هم المنتصرون ، إذا حذفت الإيمان كان النصر للأقوى ، هذه حقيقة ، وإذا تصارعنا على الدنيا ،
﴿ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾
لا يمكن أن يرمم ضعفنا إلا بالإيمان بالله ، والله عز وجل ما كلفنا أن نعد العدة المكافئة لأعدائنا ، وهذا من فضل الله علينا ورحمته ، كلفنا أن نعد العدة المتاحة فقط ، وعلى الله الباقي ، الله يرمم ، الأمل كبير والكرة في ملعبنا .
نحتاج إلى أن نكون أقوياء والقوة تحتاج إلى إيمان بالله عز وجل :
قال تعالى :
﴿ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ (19)﴾
وقال :
﴿ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)﴾
وقال :
﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)﴾
وقال :
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً (55)﴾
لكننا حينما تركنا الله ، وابتعدنا عنه ضعفنا ، فأصبحنا لا نملك غير سلاح واحد ، أن نندد ، وأن نشجب ، وأن ندين ، وأن نستنكر ، وأن نشدد على كذا ، وأن نحل الجهة الفلانية المسؤولية ، وأن نحرق العلم ، عندنا غير ذلك ؟ والقوي يسخر منا ، هو يسر بهذا لأننا ضعاف ، أما حينما نكون أقوياء نقول كما قال هارون الرشيد ، قال له : مِن هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى كلب الروم ، ما ترى لا ما تسمع ، وانتهى الأمر .
الإله واحد ، إلههم إلهنا ، وربهم ربنا ، الإله واحد ، والقوانين واحدة ، نحتاج إلى أن نكون أقوياء ، والقوة تحتاج إلى إيمان بالله عز وجل .
حينما يأتي القضاء والقدر من الله مباشرة وقعه يكون أخف بكثير مما لو جاء من إنسان :
أيها الأخوة :
﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ﴾
يمكن أن تندرج الحرب الأهلية تحت هذا البند :
﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾
أيها الأخوة ، أبين لكم مرة ثانية أن بلاء الله عز وجل قد يأتي من السماء ، وقد يأتي من تحت الأرجل من الأرض ، وقد يكون حرباً أهلية ،
﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾
لكن يبدو أن الإنسان حينما يأتيه قضاء وقدر من الله مباشرة وقعه أخف بكثير مما لو جاءه من إنسان ، والدليل :
﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)﴾
آية ثانية :
﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)﴾
اللام لام التوكيد ، قد يأتي المصاب من إنسان ، فأنت بهذه الحالة تحتاج إلى توحيد أعلى ، كي توقن أن هذا الإنسان مسير ، وأن الله سمح له أن يصل إليك ، من أجل ألا تحقد حقداً لا يحتمل أن الله سمح له أن يصل إليك ، لذلك هنا ينبغي أن تصبر على قضاء الله وقدره الذي ساقه على يد فلان ، وأن تغفر لهذا الإنسان إن أمكنك أن تغفر ، أو أن تطالب بحقك إن أردت ، لكن أن تأتي المصيبة من الله مباشرة شيء ، وأن تأتي عن طريق إنسان شيء أصعب .
حينما يشيع الفساد في الأرض يجب أن نُحصن بشيئين بالاستقامة والوعي :
لذلك :
﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴾
إذاً نحن في قبضة الله ، وتحت رحمة الله ، وحينما يشيع الفساد في الأرض قد يبتلى الناس بصراعات داخلية ، وهذا خطر جداً .
بالمناسبة ، أعداء المسلمين يدفعون المبالغ الطائلة لإثارة فتنة داخلية ، ويجب أن نحصن بشيئين بالاستقامة وبالوعي ، بالاستقامة لأنها تبعد عنا كل مصاب إلهي ، وبالوعي لأنه يبعد عنا كل مكر خارجي :
﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴾
قال تعالى :
﴿ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (14)﴾
العداوة والبغضاء لها سبب ؛ البعد عن الله عز وجل ، أما إذا اعتصمنا جميعاً بحبل الله تكون المودة والرحمة بين المؤمنين .
﴿ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ (63)﴾
يمكن أن تكون المودة بين المؤمنين ، والتعاطف ، والتزاور ، والتضامن علامة الإيمان ، أما الخلافات على مستوى المدينة ، والبلدة ، والحي ، والعائلة ، والأسرة ، حتى داخل الأسرة ، الخلافات أساسها ضعف الإيمان ، ونسيان منهج الله عز وجل .
﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)﴾