وضع داكن
20-04-2024
Logo
إذاعة هوا عمان : ندوة 2 - من أسباب الهجرة ومعانيها
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

المذيع:
  بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أهلاً وسهلاً مستمعينا ومشاهدينا الكرام ، وكل عام وأنتم بخير ، وكل عام وأنتم إلى الله أقرب بمناسبة هجرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أهلاً ومرحباً بكم في هذه التغطية الخاصة في الفقرة المسائية التي أسعد وأتشرف فيها لأكون بين يدي العلماء الفضلاء الأجلاء ، للحديث عن الهجرة بمناسبة تجدد هذه الذكرى في هذا العالم لنصبح في العام ألف وأربعمئة وثلاثة وأربعين ، حياكم الله وأهلاً وسهلاً بكم .
 هذه الذكرى المباركة التي تمثل نقطة فارقة في تاريخ المسلمين ، فهي نقطة انطلاق من الضعف إلى القوة ، ومن الاستضعاف إلى الاستخلاف ، ومن الظلم والقمع إلى إقامة العدل، من الظلم الواقع على المسلمين إلى إقامة العدل من قبل المسلمين ، ليشمل العدل المسلمين وغير المسلمين ، استحق هذا الحدث التاريخي أن يكون مبتدأ تأريخ المسلمين ليكون هو التأريخ الذي يؤرخ المسلمون فيه أحداثهم ، وأيامهم ، ومجريات حياتهم ، حدث مهم وهو في غاية الأهمية ، وفي غاية الوضوح ، وفي غاية الاستقرار حقيقة ، ينبغي أن نتوقف عنده ، هذا الحدث لن يتغير عليه شيء من حيث أحداثه التي جرت لكن العبر المستفادة هي التي يجب أن تتجدد ، وينبغي أن تكون حاضرة على ارض الواقع كي يستفاد منها .
 أسعد بصحبة العلماء ، وأرحب بفضيلة الدكتور زغلول النجار ، كما أرحب بفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ، وسيكونان معنا عبر المسنجر ، كما يسعدني أن يكون معي هنا في الأستوديو فضيلة الدكتور أحمد نوفل ، حياكم الله جميعاً وأهلاً وسهلاً بكم أيها المستمعون والمشاهدون الأفاضل .
 اسمحوا لي أن أبدأ بفضيلة الأستاذ الدكتور أحمد نوفل ، نبدأ معك سيدي أكرمك الله.
الدكتور أحمد نوفل :
 باعتبار الوجود لا باعتبار المقام .
المذيع :
 أنت مقامك عال ، قبل أن أشرع بالمحاور التي وضعتها ، كلمة منك ابتداء ماذا تعني هذه المناسبة بالنسبة المسلمين أو ماذا ينبغي أن تعني لهم ؟

الهجرة حدث عظيم مفصلي ونقلة إستراتيجية :

الدكتور أحمد نوفل :
 بسم الله ، والحمد لله ، وصلاة وسلاماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مستمعينا الكرام ومشاهدينا أخوة وأخوات حياكم الله ، وسلام عليكم ورحمة الله ، أسأل الله عز وجل أن يكون هذا العام في مفتتحه من بدئه عام خير وبركة ويسر ويمن ونصر وعز وتمكين وفرج على المسلمين يا رب العالمين ، ضاقت بنا السبل حقيقة ، واختنقت الناس من شدة الضيق، ومع الوباء زاد الاختناق اختناقاً ، والهزائم ، ما أحوجنا إلى متنفس ، فيوم الهجرة إن شاء الله يوم فيه نتنفس ، ونتوقع ، ونتوسم أن يكون هذا العام عاماً فاصلاً نستقبل فيه فيما نعتقد تغييرات في النفوس والعقول والأفكار ، هذا مهم ، إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
 أخواننا ؛ نحتاج إلى مراجعة ، مراجعة الفكر ، مراجعة الثقافة ، مراجعة المفاهيم ، كله يحتاج إلى نفض ، كيف تنفض البيت ، تغير ديكور البيت ، تدهن ، نريد أن نغير ما في العقول من أفكار سلبية أحياناً ، انهزامية أحياناً ، ونمتلئ بالثقة ، باليقين ، بالتصميم على النصر إن شاء الله ، وتحرير النصر ، اقترب الوعد إن شاء الله .
 أعتقد أخواني هذا العام إما عام مرحلي فاصلي ، وإما هو العام الفاصل إن شاء الله هكذا نعتقد .
 في سيرة المصطفى الهجرة حدث عظيم مفصلي ، ونقلة إستراتيجية من مرحلة استضعاف وتعدّ وتطاول وظلم واقع على المسلمين إلى مرحلة فيها بدأ التمكين ، وفتح مكة كان من هذا اليوم بدأت خطوات الإعداد إلى أن كان يوم الفتح في ثماني سنين من العمل ، من التجهيز ، من الإعداد ، ليس مجرد مرور وقت ، لا ، إنما استثمار الوقت ، واستغلال الوقت ، وتوظيف الوقت ، في عمل مبرمج وخطط مدروسة ، ما أحوجنا أن نعرف ما سوف ننجز هذه السنة ، ماذا سننجز السنة التي بعدها ؟ ماذا أنجزنا بالتي قبلها ؟ نقارن ونشاهد أين قصرنا ، أين أخطأنا ، الزمن معنا دون مراجعات ينبغي أن يكون لنا مراجعات ، ماذا أنجزنا ونحاسب بعضنا ، هذه الأمم المتحضرة ، نحن أمة عريقة ، نحن أعظم أمة في التاريخ ، الآن نحن خارج التاريخ ، إذاً ينبغي بإذن الله أن يكون هذا العام في تصورنا ، في اعتقادنا ، في فكرنا ، عام تغيير ثقافي وموضوعي وعلمي وأخلاقي وقيمي ، نرتقي به نحو الأفضل ، وهذا لصالحنا أخواننا ، لصالح مستقبلنا وأولادنا وأجيالنا.
المذيع :
 إذاً لا بد من التخطيط والمراجعة ، هذه ممكن أن تكون عنواناً لنخرج من حالة الوهن بإذن الله ، أريد أن أنتقل بإذن الله لفضيلة الأستاذ الدكتور زغلول النجار حياكم الله فضيلة الدكتور وكل عام وأنتم بخير .
الدكتور زغلول نجار :
 وأنتم بالصحة والسلامة .
المذيع :
 حياكم الله كنا سألنا الدكتور أحمد نوفل وننقل السؤال إليك فضيلة الدكتور ، وهو ماذا ينبغي أن تعني للمسلم ذكرى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ؟

ذكرى هجرة النبي تعطينا درساً نتأمله ونحاول أن نجسده واقعاً في حياتنا :

الدكتور زغلول نجار :
 عليه الصلاة والسلام ، موقفنا معشر المسلمين في هذه الأيام من الانقسام ، والفرقة ، والتشتت ، والضعف ، والمهانة ، والذل ، والبعد عن معرفة الله سبحانه يشبه تماماً موقف المسلمين قبل الهجرة من مكة المكرمة إلى يثرب ، ولذلك الاحتفال بهذه الذكرى يدفع بروح هذه الأمة الحب في الانتصار ، الرغبة في الخروج من هذه الهزيمة ، استعادة مجد هذه الأمة من جديد ، ونحن بأيدينا من الملكات والقدرات والخبرات ما لا يتوفر لغيرنا من الأمم ، بأيدينا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهذه السيرة العطرة التي لنا في كل جزء منها درس من الدروس ، لا بد من أن نتأمله ، ونحاول أن نجسده واقعاً في حياتنا ، حتى يتم الخروج من هذه المحنة التي تعيشها الأمة من فرقة وشتات وبعد عن طريق الله سبحانه وتعالى .
 نعود مرة أخرى إلى وضع المهاجرين والأنصار في المدينة حتى نعيد بناء مجد هذه الأمة من جديد ، وما ذلك على الله بعزيز .
المذيع :
 بارك الله بكم ، وسلمتم فضيلة الدكتور زغلول ، وأنا أريد أيضاً أن أسمع الإجابة على ذات السؤال من الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، ثم بعد ذلك أنتقل إلى المحاور الأخرى ، أول شيء حياكم الله فضيلة الدكتور ، وكل عام وأنتم بخير .
الدكتور محمد راتب النابلسي :
 كل عام وأنتم بألف خير ، وبارك الله بكم ، ونفع بكم .
المذيع :
 جزاكم الله خير الجزاء ، السؤال نفسه ما الذي ينبغي أن تعنيه الهجرة للمسلم ؟

العبادة هي الأصل العقدي للهجرة :

الدكتور محمد راتب النابلسي :
 أخي الكريم ؛ أنت ترسل ابنك إلى باريس مثلاً لينال الدكتوراه من السوربون ، فإذا حيل بينه وبين الإقامة في باريس لا بد من أن يغادرها ، الله عز وجل قال :

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) ﴾

[ سورة الذاريات ]

 علة وجودنا الوحيدة في الدنيا العبادة ، والعبادة طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية . فإذا حال مكان أو زمان أو قوة بينك وبين تحقيق علة وجودك لا بد من المغادرة ، حينما يحول مكان أو زمان أو قوة غاشمة بينك وبين علة وجودك من هنا كانت الهجرة ، كان من الممكن أن تكون مكة مفعمة بالصالحين ، ليس هناك هجرة لكن لحكمة بالغة بالغة كان في مكة أعداء للنبي ألداء ، وحاولوا إطفاء نور هذه الدعوة ، فهاجر ، فأصبحت الهجرة منهجاً إسلامياً إذا حال مكان بينك وبين أن تعبد الله ، ولأن علة وجودك في الدنيا العبادة ينبغي أن تغادر ، فإذا غادرت إلى مكان ، إن أرض الله واسعة ، الآية دقيقة ، لماذا بقيت في هذا المكان وقد حرمت من تحقيق علة وجودك ؟ إذاً لا بد من أن تغادر ، علة وجودك العبادة :

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) ﴾

[ سورة الذاريات ]

 فهذا هو الأصل العقدي للهجرة ، ينبغي أن يعرف المؤمن أن علة وجوده في الدنيا الاستقامة والعمل الصالح ، بمفهوم آخر العبادة :

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) ﴾

[ سورة الذاريات ]

 فأي مكان منعك أن تعبد الله ، والعبادة علة وجودك ينبغي أن تغادره إلى مكان آخر، والنبي الكريم لحكمة بالغة بالغة كان في مكة أعداء للحق فخرج وكأن هجرته منهج للمسلمين ، طبعاً أنا أحاول أن أقاوم ، أن أصبر ، يوجد ألف محاولة فإذا تيقنت يقيناً أن المحاولات لا يمكن أن تنجح أفر بديني .
المذيع :
 جميل جداً ، بارك الله بك فضيلة الدكتور ، إذاً الإجابات جميلة ومتنوعة الحقيقة ما بين التخطيط للتمكين ، ما بين حدث يدفع نحو استعادة المجد ، وما بين المكان الذي يحول بينك وبين علة وجودك ، لا بد من أن يغادر بعد استنفاذ كافة الوسائل ، هنا أريد أن أنتقل إلى الدكتور أحمد نوفل وأسأل في الهجرة النبوية الشريفة ، بعد الهجرة وعند تأسيس الدولة أصبح هناك هوية جامعة للمسلمين وحتى لسكان المدينة ، حرص عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، أريد أن أسأل كيف كان للهجرة دورها في تكون وإيضاح هذه الهوية الجامعة ؟

الهجرة سنة الكون :

الدكتور أحمد نوفل :
 بسم الله ، أولاً أريد أن أقول إن الهجرة سنة ، الكون من الذرة إلى المجرة كله مهاجر، الذرة لا تتوقف ، إلكترون يدور بشكل لا نهائي ، والمجرات ، والنجوم ، والكواكب ، والكون كله في حركة ، الطيور تهاجر ، الأسماك تهاجر ، هذه سنة الكون ، وفي هذا بركة الأرزاق ، توزيع الأرزاق ، خلاصة الكلام ونحن أبناء المهاجر الأول آدم عليه السلام هاجر من الجنة موطنه الأصلي ، والآن نكدح في الدنيا لنعود إلى موطننا الأصلي ، نحن مهاجرون ، الدنيا كلها مخيم مهاجرين ، مخيم منى الخاص الحج ، يوم ، يومان ، أسبوع يزال ، ولا يوجد أحد ، مخيم لاجئين هذه الدنيا كلها ، مهاجرون سنعود إلى وطننا إن شاء الله تعالى ، بالنسبة لنا نفتكر كيف النبي أول ما بدأ وضع دستور المدينة ، لأن الناس لا بد من أن يكون لها مرجعية قانونية عقائدية ، طبعاً القرآن ، وهكذا جعل لنا الرسول عليه الصلاة والسلام دستوراً واضحاً ، له بنود طويلة وعريضة ، عبارة عن صفحة أو صفحتين فقط لكنها واضحة ، ويلتزمها الناس جميعاً من الرأس إلى الأساس ، كل يلتزم بهذه الوثيقة .
المذيع :
 مسلم وغير مسلم يلتزم ، تشمل الجميع .

اعتماد هجرة النبي على الأخذ بالأسباب والجهد البشري :

الدكتور أحمد نوفل :
 تمام ، والذي لا يلتزم نلزمه بها ، لا يوجد تفلت ، أول مرة تنشأ دولة بمعنى الكلمة في عالم العرب ، كانت قبائل ، الآن يوجد دولة تضم في جناحيها عدة هويات ، ويلتزم الجميع بقانون الدولة .
 ثانياً : الرسول عليه الصلاة والسلام جاء ووجد أنه لا يوجد سوق للمدينة ، المدينة تلجأ إلى سوق اليهود ، فأنشأ السوق صلى الله عليه وسلم ، طبعاً من قبل أنشأ المسجد ليكون المدرسة الروحية للمؤمنين ، وتجمع المؤمنين خمس صلوات في هذا المسجد ، إذاً أقام مؤسسة المسجد ؛ تعليم ، تربية ، تثقيف ، تهذيب ، حل مشكلات ، عقد ألوية الجهاد ، من هذا المسجد ثم السوق ، ثم بدأ يتصل بالقبائل ، مراسلات ، مجتمع مفعم بالحركة والحيوية ، ليس مجتمع ستاتيك قاعد وساكت ينتظر المقادير أن تتغير ، لا ، الله أعطاك فرصة ، أعطاك الوقت ، أعطاك الذهن والعقل ، ينبغي أن توظف كل هذه العطاءات ، لو شاء الله في الهجرة الإسراء حمل النبي كان بثوان في الملأ الأعلى ، في الهجرة لا ، تأخذ بالأسباب ، ولذلك أعدّ النبي الراحلة ، ورفيق الدرب ، وخبير الطرق ، ومن يعفي على الآثار ، وأعد المونة ، كله محسوب حسابه ، هذا عمل بشري ينبغي أن يؤخذ بإعداد العدة بالجهد البشري ، بالاحتياط البشري ، وليس بالسنن الخارقة ، كان جبريل ممكن أن يحمل النبي بلا تعب ، ولا مشركين يطاردوه ، ولا كل هذا العنت ، ولا اللجوء إلى الغار إطلاقاً ، يحمل النبي إلى المدينة بثوان ، لنا في الرسول أسوة حسنة لا بد من أن يكون مثلنا بالضبط في التخطيط والتنفيذ وفي كل شيء .
 المدينة خلال سنة واحدة كانت قد حققت النصر ، كانت بدر أول نصر ، ثم جاء على المسلمين سلسلة انتصارات باستثناء أحد ، ليست هزيمة معاذ الله وإنما لم نحقق النصر ، كان النصر في أيدينا أفلت منا ، واضح أنه يوجد ارتقاء في المدينة كل يوم ، يوجد تغير كل يوم، أناس تتكيف ، لأنها كانت في جاهلية ، بدأت الآن ثقافة المدينة تهيمن على الجميع ، وتصبغ الجميع ، نحن الآن مجتمعاتنا متنافرة ، ليست على مكانة ثقافية وفكرية واحدة ، شتيت من الثقافات تتوزع عليها شرائح المجتمع عليها ، لا بد أن نتوحد على فكر واحد ، وثقافة واحدة ، دستور واحد .
المذيع :
 وهوية جامعة ، دكتور زغلول الدكتور أحمد نوفل ذكر أن الهجرة اعتمدت على الأخذ بالأسباب والجهد البشري ، لكن بعض الأحداث في الهجرة تدل أيضاً أن الإعجاز لم يكن غائباً ، مثلاً لم ير المشركون النبي صلى الله عليه وسلم في الغار رغم أنه لو نظر الواحد إلى موضع قدميه لرأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ، أريد من الدكتور زغلول نجار أن يحدثنا عن مواطن الإعجاز في الهجرة .

مبررات هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة :

الدكتور زغلول نجار :
 أنا أبدأ قبل ذلك بمبررات هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة وهي أحب بقاع الأرض إلى الله ، لماذا وجد فيها النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ولماذا أمر بالهجرة منها وهي أحب أرض الله إلى الله ؟ لا يعرف كثير من المسلمين أن مكة المكرمة هي أول جزء من اليابسة خلقه الله عز وجل ، وأن اليابسة التي نحيا عليها اليوم نمت كلها من هذه الجزيرة الصغيرة التي مثلت الحرم المكي ، ولذلك بقيت مكة المكرمة في وسط اليابسة تماماً ، بعد مكة المكرمة عن أطراف القارات السبعة الموجودة حالياً متساو تماماً في حدود ثلاثة عشر ألف كيلو متر ، هذه الحقيقة وحدها تؤكد على حرمة الحرم المكي ، حرمة هذه البقعة ، ولذلك وقف النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة يخاطب مكة ويقول : والله إني لأعلم أنك أحبّ أرض الله إلى الله وإلي ، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت ، هذه الأرض سكنها آدم عليه السلام وأمنا حواء عليها رضوان الله فهي أصل البشرية ، وهي أصل كل اللغات ، كل لغات العالم انبثقت من اللغة العربية التي تحدث بها آدم وحواء عليهما السلام ، وطبيعة أرض مكة المكرمة لا تقوم بعدد كبير من الناس ، الأرض صماء صلبة ، التربة نادرة ، الماء نادر ، أسباب الحياة قليلة ، بالرغم أنها أحب أرض الله إلى الله ، لأنه جعلها مكاناً للانطلاق والهجرة ، فانطلقت البشرية كلها من مكة المكرمة لتعمر أطراف اليابسة ، عبر سنوات طويلة ، مكة المكرمة هي مركز اليابسة ، هي أصل اليابسة، هي أول جزء من اليابسة خلقها الله عز وجل ، هي تحت كعبة الملائكة ، كعبة البشر تحت كعبة الملائكة تماماً ، وهي بقعة مميزة في الكون كله ، لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم :

(( ما من نبي ولا من رسول إلا وقد حج البيت ))

[أبو المعالي الجويني رحمه الله في "نهاية المطلب (4/ 125):]

 ومات في مكة المكرمة عدد كبير من الأنبياء وقبورهم إما في الحرم أو ما حول الحرم ، مكة المكرمة لها ميزة تفوق كل بقاع الأرض سواء من الناحية المادية العلمية أو من الناحية النفسية الروحية المعنوية ، ولد فيها الرسول، لماذا ؟ لأن أهلها كانوا على قدر من الظلم، وعلى هذا القدر من الجور ، أي حتى يلتقي ويتوحد عند الناس معنى النبوة ومعنى الدين ، فمن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم رسالة واحدة ، وإن تعدد نزولها على عدد من الأنبياء والمرسلين .
 هاجر النبي صلى الله عليه وسلم لما بعد أهل مكة عن طريق الله ، وانحرفوا انحرافات شديدة عن منهج إسماعيل عليه السلام ، لذلك يجعل الله عز وجل لكل أمة من الأمم إذا ضيق عليها أن تكون الهجرة هي وسيلة الخروج من هذه الأزمة ، هذه النقطة لا بد من الإشارة إليها ، مكة المكرمة على محور الكون كله ، النبي صلى الله عليه وسلم يقول :

(( أتدرون ما البيت المعمور ؟ يقولون : الله ورسوله أعلم ، يقول : هو بيت في السماء السابعة ، يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك ، فإذا خرج آخرهم لا يعودون ))

 مكة المكرمة لها قيمة كبيرة ، لكن جعل ربنا تبارك وتعالى بها ميلاد المصطفى النبي صلى الله عليه وسلم لحكمة حتى يلتقي أول النبوة بختامها ، وجعل منها سنة للمسلمين إذا ضيق عليهم في المكان أو الزمان ، فأرض الله واسعة وعليهم بالهجرة ، أما الموقف أمام غار ثور فقد وقف الباحثون عن الأثر أمام الغار وقال أبو بكر للرسول وهو يبكي : لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا ، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم :

(( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟))

  وكما تفضلتم وجود نسيج العنكبوت على باب الغار ، ووجود بعض الآثار الأخرى أقنعت المتعقبين أنه لا يمكن أن يكون هناك إنسان دخل إلى جوف هذا الغار ، فغادروا بعد أن وقفوا أمام الغار ، وسيدنا أبو بكر يقول : لو مات أبو بكر أنا فرد من الناس ، ولو نال أذى النبي صلى الله عليه وسلم لضاع الدين ، هذه من المعجزات التي مرّ بها النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت الرحلة في الأصل تأكيداً على الجهد البشري في مقاومة الظلم ، وأن المعجزات فيها كانت محدودة ، ومنها موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع أم معبد ، منها موقف الرجل الذي تتبع النبي صلى الله عليه وسلم وكاد أن يصل إليهم ، النعجة الضعيفة التي لمسها النبي صلى الله عليه وسلم فدرت اللبن بشكل غير عادي ، كل هذه من كرامات النبي صلى الله عليه وسلم ، وتدخل في نطاق المعجزات الحسية إن شاء الله .
المذيع :
 جميل ، هي تأكيد على الجهد البشري لكن الإعجازات كانت فيها قليلة ومحدودة ، أريد أن أنتقل إلى فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي وأقول : حدث مثل حدث الهجرة لا يمكن أن يكون أو أن يتم دون أن يكون هناك تضحيات ، فالتضحية بالهجرة كانت واضحة سيدنا علي رضي الله عنه ضحى بنفسه فنام مكان النبي ، صهيب الرومي ضحى بكل ماله وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأريد من الدكتور محمد راتب أن يحدثنا بكلمة عن التضحية في الهجرة النبوية .

الأخذ بالأسباب والتوكل على الله :

الدكتور محمد راتب النابلسي :
 لكني أريد أن أعقب على الذي كان قبلي ، الله عز وجل أمره كن فيكون بلمح البصر، فلذلك الإسراء ألغيت فيه الأسباب كلياً بثانية كان في الملأ الأعلى ، أما الهجرة فأراد الله عز وجل أن نأخذ بالأسباب كأنها كل شيء ثم نتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، فالإسراء ملمح يؤكد قدرة الله المطلقة ، والهجرة منهج مؤصل كي تكون أمته من بعده وفق هذا المنهج ، أي أن نأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم نتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، ملمح دقيق الغرب أخذ بالأسباب أخذاً مذهلاً لكنه ألهها واعتمد عليها فوقع في الشرك ، والمسلمون مع الأسف الشديد لم يأخذوا بها كما ينبغي بدقة التعبير فوقعوا في المعصية ، أما الموقف الأصولي المنهجي القرآني النبوي فصياغته كما يلي : أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، لكن المبالغة بالأخذ بالأسباب يضعف التوكل ، والتواكل مرفوض عند الله ، الموقف دقيق جداً نلخصه بهذه العبارة ، ينبغي أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم نتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، إنسان سيذهب إلى مكان جميل بسيارته ، يراجع العجلات والزيت كل شيء يراجعه مراجعة تامة ، ثم يتوجه إلى الله يا الله أنت المسلم ، الأخذ بالأسباب يضعف التوكل ، والتواكل يلغي الأسباب ، هذان مرضان خطيران يصيبان الأمة ، أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، فالهجرة طبق هذا المنهج تطبيقاً مذهلاً، ثلاثون أو أربعون إجراء أخذ به النبي الكريم في الهجرة ليعلمنا المنهج في الحياة ، حتى الخبير لم يكن مسلماً ، هذا بعد كبير جداً ، إنسان معه اختصاص نادر جداً بالينابيع أو المياه الجوفية نستعين به ، استعان بإنسان غير مسلم ، هذا منهج نبوي دقيق جداً ، والذي يحصل الآن أحياناً يكون الحق ضعيفاً ، وأهل الحق لا يستطيعون تأدية واجباتهم ، تأتي الهجرة هي الحل الوحيد .

العبادات نوعان ؛ تعاملية وشعائرية :

 مرة ثانية : إذا حال مكان بينك وبين أن تعبد الله ، والعبادة علة وجودك في الدنيا ينبغي أن تغادر هذا المكان إلى مكان آخر تعبد الله به ، يؤكد هذا المعنى أرض الله واسعة ، ينبغي أن تكون العبادة السبب الأول لبقائنا في هذا المكان ، فإذا حال مكان بيننا وبين أن نعبد الله ، والعبادة علة وجودنا :

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) ﴾

[ سورة الذاريات ]

 عندنا عبادات شعائرية ؛ صوم ، صلاة ، حج ، زكاة ، وشهادة ، أما العبادات المهمة جداً فهي العبادات التعاملية ؛ كسب المال ، إنفاق المال ، اختيار الزوجة ، تربية الأولاد ، خروج البنات ، اختيار الحرفة ، بنود بالآلاف تبدأ من فراش الزوجية وتنتهي بالعلاقات الدولية، وكأن هذا الدرس بليغ جداً للمسلمين في مكان تستسلم لله كلياً تلغى الأسباب ، وفي مكان تأخذ بها وكأنها كل شيء ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، أما الغرب أخذ بها أخذاً مذهلاً واعتمد عليها وألهها فوقع في الشرك ، وأخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي ، كما أني لست أقول إنكم تعبدون صنماً ولا حجراً ولكن شهوة خفية وأعمال لغير الله .
المذيع :
 هذا التعقيب دكتور لكن ماذا عن التضحية في الهجرة ؟

التضحية في الهجرة :

الدكتور محمد راتب النابلسي :
 والله يا أخي إذا كان هناك شيء أغلى عليك من الله ، إذا إقامتك في بلد أغلى عليك من طاعتك لله فهذا امتحان دقيق :

﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ﴾

[ سورة المؤمنون]

 دقق :

﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) ﴾

[ سورة الملك]

 علة وجودنا في الابتلاء .
 شيء آخر : طبعاً الابتلاء ...

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) ﴾

[ سورة الذاريات ]

﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) ﴾

[ سورة الملك]

 البطولة ليس ألا تبتلى بل أن تنجح في الابتلاء ، أنا لا أصدق أن إنساناً يشم رائحة الجنة من دون ابتلاء .
 الابتلاء قدرنا ، والابتلاء علة وجودنا ، أحياناً يبتلى الإنسان بماله ، أحياناً بصحته ، بمنصبه ، الابتلاء واسع جداً ، فالبطولة ليس ألا تبتلى بل أن تنجح في الابتلاء ، فإذا نجحت حققت الهدف من وجودك ، الآية :

﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) ﴾

[ سورة الملك]

 لام التعليل .
المذيع :
 أكرمك الله دكتور ، إجابات جميلة جداً ، ولفتات ولمحات جميلة .
 أريد أن أنتقل بعد إذنكم للدكتور أحمد نوفل من جديد وأسأل : دكتور في مكة كان هناك قمع ، وكان هناك تعذيب للمسلمين ، وأنواع من التعذيب ثلاث عشرة سنة لم يسجدوا لله سجدة ، ولم يكلفوا أي تكليف ، التكاليف كلها بعد الهجرة لأنه لا يوجد حرية ، الآن عندما انتقلوا إلى المدينة وجدوا أجواء الحرية ، وصانوا هذه الحرية لأنفسهم ولغيرهم كمسلمين ، نريد كلمة عن الحرية والهجرة إن جاز التعبير ؟

الحرية روح هذا الدين :

الدكتور أحمد نوفل :
 بسم الله أولاً أن أكون مع أستاذي الكريمين وأخواي العزيزين هذه فرصة من فرص العمر ، حياهم الله ، تعليقاً على التعمية على المشركين بباب الغار ، نحن بشر يمكن أن يتكرر معنا نفس الأمر ، إذا أخذنا بالأسباب يمكن أن يتكرر معنا نفس الأمر ، يكون العدو قريباً منا جداً الله يعميه ، هذا من فضل الله ، عشنا واقعاً ، نأخذ بالأسباب والله يكمل على النقص الذي يحصل ، هذا ليس خرقاً للناموس ، هذا يحصل معنا جميعاً ، راجع شريط حياتك تجد أن هذا موجود ، نعود للسؤال عن الحرية ، الحقيقة هي روح هذا الدين ، ولذلك العبودية لله يعتقدها البعض استعباداً لكنها حرية .
المذيع :
 ليست الحرية هي موطن الاختبار الإلهي ، ربنا منحنا الحرية ليختبرنا بها .
الدكتور أحمد نوفل :
 وهذا الاختيار لولاه ما كان هناك أصلاً عبادة ولا أجر ، ولذلك الحرية قيمة في هذا الدين رئيسة ، قيمة مهمة جداً ، ينبثق منها كثير من القيم ، ولذلك ما ينقص المسلمون الآن أن يتمتعوا بالحرية ، للأسف حرية أن يعبر عن نفسه ، حرية أن يتكلم ، حرية أن يتنقل ، حرية أن يتجر ، ويجني أكثر من أعماله ، هذه الحرية هي أم الإبداع ، ومجتمعات المسلمين متخلفة لانعدام الحرية ، عنترة قيل له : كر على العدو ، قال : أنا عبد لا أحسن الصر والكر ، قال له: كر وأنت حر ، قال : الآن نعم ، ظهرت البطولات عندما أعطي الحرية ، هذا قبل الإسلام ، فكيف الإسلام أعطى الناس هذه الحرية ولم يقيدها إلا بحدود الشرع الحرام والحلال ؟ ممكن أقف لعمر أقول له : أخطأت ، بمنتهى الأدب ، وحصل ولا أحاسب لأنه بشر يمكن أن يقع منه خطأ مع حفظ الأدب ، ما المشكل ؟ وأقول : هذه خطة غير صحيحة ، يمكن أن يعدلها أي مواطن ، يمكن أي مواطن يعدل على رسول الله اقتراحاته كما في الخندق ، هذه ليست فكرة النبي ، هذه فكرة سلمان ، يا رسول الله كنا إذا حوصرنا خندقنا ، أخذنا فكرة طبقناها وعمل الناس باندفاع شديد ، أنجز الخندق في زمن قياسي لماذا ؟ الحرية ، استمات الناس في الدفاع عن الحرية لماذا؟ لأني لا أسمح لأحد أن يصادر حريتي ، نحن لا نجد هذه التضحية لماذا ؟ لأن هناك من يقول : إن فقدت حريتي لا يهمني إن ضاعت الدنيا ، أعطوا المواطن حرية وانظروا إلى الإبداع أيها العالم العربي ، ينتج عنه شيء شبيه المعجزات .
المذيع :
 أذهب إلى فضيلة الشيخ زغلول النجار وأسأله في قوله تعالى عن الهجرة :

﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) ﴾

[ سورة التوبة]

 هذا السطر من الآية الكريمة يبرز فيه معنيان جميلان ؛ معنى الصحبة ومعنى التواصي بالحق والتواصي بالصبر من خلال هذه الصحبة والتواصي باليقين :

﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) ﴾

[ سورة التوبة]

 معنى الصحبة ومعنى اليقين ماذا يقول الدكتور زغلول في هذين المعنيين الجميلين ؟

الشعور بمعية الله من أعظم المعاني التي يعيشها المسلم :

الدكتور زغلول نجار :
 بارك الله فيكم ! من أعظم المعاني التي يمكن أن يعيشها المسلم هو الشعور بمعية الله سبحانه وتعالى ، أن الله تعالى حي موجود في كل مكان وفي كل زمان ، لا تخفى عليه خافية، يسمع ويرى كل ما يعمله الإنسان ، هذا الشعور بمعية الإنسان من أعظم وسائل التربية للنفس الإنسانية ، لأن الإنسان يخجل من نفسه إذا وقع في خطأ مهما صغر ، ويعلم أن الله مطلع عليه ، والله يعرفه ، الشعور بمعية الله من أعظم وسائل التربية للنفس الإنسانية ، ولذلك اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، الحكمة الإسلامية القديمة العظيمة أن الله يرانا في كل لحظة ، وفي كل وقت ، في ظلمة الليل البهيم ، وفي وضح النهار ، الله معنا ومطلع على أعمالنا ، هذه قيمة إسلامية وقيمة تربوية كبيرة يجب على كل مسلم ومسلمة أن يضعها أمام عينيه ، نصب عينيه ، حتى إذا حدثه الشيطان بخطأ ما يرده ذلك عن الوقوع في ذلك الخطأ ، ة نقطة أساسية في حياة المسلم ، أيضاً المعية تعطي الإنسان قوة عندما لا يملك قوة ، أي إذا شعر الإنسان باستقامته على منهج الله ، أن الله تعالى معه ، لا يهزمه شيطان ، ولا إنسان كافر، ولا يمكن أن يهزمه أحد ، معية الله ممكن أن تعطي للإنسان نوعاً من القوة الذاتية التي يحتاجها خاصة في المواقع الصعبة والشديدة .
المذيع :
جميل جداً ، بارك الله بك .
 دكتور محمد راتب النابلسي في الهجرة من المواقف الواضحة جداً موقف الأنصار في استقبال أخوانهم المهاجرين ، هذا الموقف الذي تمثل باقتسام العيش ، غياب الانتماءات الضيقة ، أصبح الجميع منصهرين في دائرة الإسلام والإيمان ، الحقيقة هذا الموقف كيف يمكن أن نستفيد منه عملياً في هذه الأيام ونحن في أمة إسلامية متفرقة ولها انتماءات ضيقة كثيرة ؟

الأخوة الإيمانية أقوى علاقة بين شخصين :

الدكتور محمد راتب النابلسي :
 بسم الله الرحمن الرحيم :

﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) ﴾

[ سورة الحجرات]

 إنما أداة قصر وحصر ، إن لم تشعر بأن المؤمن أخوك حقيقة ، وقد تزيد هذه الأخوة عن أخوة النسب هناك مشكلة كبيرة ، لذلك الأخوة الإيمانية أقوى علاقة بين شخصين ، الإيمان هو الخلق ، والخلق يقرب الأخ إليك ، لذلك الأخوة الإيمانية منهج كبير جداً ، أنت حينما تنتمي إلى مجموع المسلمين لا إلى بعضهم ، أنت حينما تنتمي إلى مجموعهم في كل بلادهم انتماء عاماً لا يمكن أن يكون هناك معان طائفية ، أخوك المؤمن أخوك حقاً .

عقيدة الجبر تلغي الدين والاختيار والعمل الصالح :

 لكن يوجد نقطة مهمة لا بد أن أدلي بها في هذا اللقاء الطيب وأنا أسعد الناس بهم: لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب ، لو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب ، لو تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة ، إن الله أمر عباده تخييراً ، ونهاهم تحذيراً ، وكلف يسيراً ، ولم يكلف عسيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، فحينما يتوهم الإنسان وهماً لا أصل له في الدين أن الله كتب عليه ذلك عقيدة الجبر تلغي الدين ، تلغي الاختيار ، تلغي الجنة والنار ، تلغي العمل الصالح ، حينما تتوهم أيها الإنسان أن الله أجبرك على ذلك ، كتبه عليك ، الآية تقول :

﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾

[ سورة الكهف ]

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) ﴾

[ سورة الإنسان]

 أما المنحرفون :

﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) ﴾

[ سورة الأنعام]

 كل كلام الجبر الذي هو من عوام الناس هو نوع من أنواع الكفر ، الله كتب عليه الشقاء ، فقط ، هذه البنت ليس لها حظ أبداً ، أنت حينما تعزو الوضع الإنساني إلى أشياء غير قرآنية وقعت في خطأ كبير ، لذلك لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب ، لو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب ، لو تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة ، إن الله أمر عباده تخييراً ، ونهاهم تحذيراً ، وكلف يسيراً ولم يكلف عسيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، هذه مقولة أهل الشرك:

﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) ﴾

[ سورة الأنعام]

 هذه تعمل تحفيزاً كبيراً جداً ، أنا مسؤول عن عملي ..

﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) ﴾

[ سورة البقرة ]

 إذا توهمت لثانية واحدة أن هذا الشرع فوق طاقتك هذا نوع من الشرك الخفي ، وأخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي ، كما أني لست أقول إنكم تعبدون صنماً ولا حجراً ولكن شهوة خفية وأعمال لغير الله .
المذيع :
 جميل بارك الله بك فضيلة الدكتور ، ونفع بك ، وجزاك الله خير الجزاء ، الدكتور النابلسي عرج على قضية الحرية التي كنا نتكلم فيها ، وحقيقة من الارتباطات بمفهوم الحرية في المدينة المنورة هو وجود التعددية في شعب المدينة المنورة ، الذي سماهم النبي أهل المدينة ، في أهل المدينة كان هناك مؤمنون ، وكان هناك كافرون ، ومنافقون ، ويهود ، ومع ذلك مشت أمور الدولة بشكل صحيح ، كان هناك العقبات والمعيقات ، المنافقون كان لهم أنشطة و مؤامرات وارتباطاتهم الخارجية ، لكن النبي تغلب على كل هذه الأمور في المدينة المنورة دون أن يلجأ إلى استخدام السلطة والعنف ، ما رأي الدكتور نوفل فيما يتعلق بالحرية والتعددية واستخدام السلطة عند النبي عليه الصلاة والسلام ؟

الحرية والتعددية واستخدام السلطة عند النبي :

الدكتور أحمد نوفل :
 الحقيقة حديث الهجرة ما قلنا منه عشرة بالمئة ، بحر من الكلام نتعرض للكثير من القضايا ، على كل حال جوهر الدين هذا الاختيار ، لأن عليه الحساب والعقاب كما قال الدكتور النابلسي ، ولذلك الناس يظنون أن الدين كبت ، لا بالعكس ، الدين تحرير من الكبت ، المسلمون هاجروا إلى الحبشة تخلصاً من الكبت ، وبحثاً عن الحرية ، أرض أعبد فيها ربي بطلاقة ، بحريتي ، بكامل إرادتي ، لا يقصرني أحد على شيء ، وأيضاً لعلهم يجدون في الحبشة متنفساً للدعوة ، ودعوا مقوقسها ، هناك أقوال أنه أسلم ، ووكله النبي بخطبة أم حبيبة في الحبشة التي كانت مهاجرة نيابة عن النبي عليه الصلاة والسلام ، في المراسلات قال : لو أستطيع جئت إليك، الخلاصة ما كانت المسألة موضوع هروب فقط بل بحثاً عن الحرية ، بحثاً عن متنفس للدين ، وللدعوة وهكذا .
المذيع :
 ولما وجدوه دكتور لم يحتكروه لأنفسهم كمسلمين وحرموا غير المسلمين من الحرية ؟
الدكتور أحمد نوفل :
 استوعبوا ، ومع ذلك يا رسول الله ائمرني فلأقتل أُبي ، قال : لا ، هو يعرف أنه زعيم المنافقين ، أخشى أن تقتله فتصير فتنة ، قال : لا ، نحسن صحبته ما عاش بيننا ، حتى حديث الإفك هو الذي اخترعه .
المذيع :
 والآية :

﴿ لَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) ﴾

[ سورة التوبة]

 نزلت بعد أن صلى النبي على ابن سلول .
الدكتور أحمد نوفل :
 الحرية تراعى جداً في هذا الدين ، يعتبرها البعض أنها تخنق الناس ، بالعكس الدين يحرركم ، ولا تقبل منك عبادة إذا كانت قسرية ، بالعكس تقبل لأنك تقوم بها بحرية ، وترك لليهود لكم دينكم ولي ديني ، ما تدخلنا بشعائرهم ، لما خانوا عاقبناهم ، لما تآمروا أجليناهم ، لكن طالما عاشوا منسجمين مع دستور الدولة لم نتعرض لا لنخيلهم ، ولا لتجارتهم ، ولا لأسواقهم ، ولا لأعراضهم معاذ الله ، كامل الحرية لهم ، استخدموا الحرية في محاولة استئصال الإسلام والمسلمين بالاتفاق مع العرب المشركين ، قالوا : نحن نريد أن نستأصل شأفة الدين ، استؤصلوا هم من فضل الله ، وأعز الله دينه بالهجرة ، وكانت الهجرة يوم تمكين ، ويوم فتح باعتبار النتائج، عشر سنين من أول يوم النبي يعد العدة للعودة ، عمل شاق في المدينة ، التربية ، التهذيب ، حل المشكلات ، التفكير للأمة ، موضوع الغزوات والمراسلات ، خلية نحل تحولت المدينة ببركة هذه القيادة العبقرية الفذة للتخطيط البشري .
المذيع :
 وصلنا للنهاية لا بد أن أسمع كلمة أخيرة من كل عالم من العلماء الأفاضل دكتور زغلول وصلنا إلى النهاية كلمة أخيرة بهذه المناسبة الطيبة ؟

السعي لإعلاء شأن الأمة ورفع قيمة الحق :

الدكتور زغلول نجار :
 أدعو الله العظيم رب العرش العظيم أن يجمع كلمة المسلمين في هذه المناسبة المباركة على الحق المبين ، طالما تفرقنا وتمزقنا تبعثرت قدراتنا ، ونحن نعيش اليوم في عالم التكتلات البشرية التي يقول عنها علماء النفس إنه لم يعد هناك تجمعات صغيرة ، أي كلمة في تحريك السياسة الدولية وأهل الشر يتجمعون ويتكتلون ؟ فعلى أهل الحق أن يسعوا إلى هذا التجمع وهذا التكتل الذي يرفع من قيمة الحق ، ويعلي من شأن الأمة إن شاء الله تعالى ، وكل عام وأنتم بخير ، والأمة بخير ، والإسلام بخير .
المذيع :
 جزاكم الله خيراً، فضيلة الدكتور النابلسي كلمة أخيرة في هذه المناسبة ؟

التوحيد نهاية العلم والعبادة نهاية العمل :

الدكتور محمد راتب النابلسي :
 أنا أقول كلمة دقيقة : فحوى دعوة الأنبياء جميعاً من دون استثناء قوله تعالى :

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) ﴾

[ سورة الأنبياء ]

 العلماء قالوا : لا إله إلا هو نهاية العلم التوحيد والعبادة نهاية العمل ، النقطة الدقيقة الأخيرة طبعاً : لا يخافن العبد إلا ذنبه ، ولا يرجون إلا ربه : والحمد لله رب العالمين .
المذيع :
 بارك الله بكم فضيلة الدكتور وكل عام وأنتم بخير كلمة أخيرة فضيلة الدكتور نوفل .

الإسلام هويتنا ورايتنا وعزنا :

الدكتور أحمد نوفل :
 والله الدروس نحن لم نقل عشرة بالمئة مما تستحق المناسبة ، طبيعة الوقت ، لكن هذه المناسبة فرصة أن نتفكر ، نوظف هذا العقل ، ونفتح آفاق هذا العقل ، أخواني يجب أن نقرأ ونتعلم ، ينبغي أن نرجع إلى السيرة وننظر ماذا صنع النبي عليه الصلاة والسلام ، نختار كتب السيرة التي فيها التحليل وليس فقط السرد ، من أجل أن نفهم ما الذي صنعه المصطفى ، المؤاخاة التي أشرنا إليها إشارة ، القرآن سجلها :

﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) ﴾

[ سورة الحشر ]

 هذا المعنى الفذ الذي جعل مجتمع المدينة كتلة رصاص تستعصي على كل محاولات الاستئصال أو الكسر ، هذه المؤاخاة ما أحوجنا إليها اليوم ، هذه واحدة من المعاني التي ينبغي أن نستحضرها ، وأن نعيشها ، الإسلام هويتنا ، الإسلام رايتنا ، الإسلام عزنا ، معاني لا تنتهي ، والله أسأل الله أن ينفعنا بما نقول ، وأن يرفع الأمة من سقطتها التي هي فيها ، كل عام والأمة وأنتم أحبابنا بخير حياكم الله .

خاتمة وتوديع :

المذيع :
 بارك الله فيكم جميعاً ، لم يبق لي في نهاية هذا اللقاء الممتع جداً إلا أن أتقدم بالشكر الجزيل لفضيلة العلماء الكرام ؛ فضيلة الأستاذ الدكتور زغلول النجار ، وفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، وفضيلة الأستاذ الدكتور أحمد نوفل ، جزاكم الله جميعاً خير الجزاء، وأنتم مستمعينا ومشاهدينا نشكر لكم حسن إصغائكم وحسن متابعتكم ، وهذه تحيات محدثكم بشار شريف ، وكل عام وأنتم بخير ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

إخفاء الصور