وضع داكن
11-05-2024
Logo
قناة الحوار - مختلفة : المسلم بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

المذيع :
  السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
 روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقي في موسم الحج أناساً من منطقة بعيدة فقال : من أنتم ؟ قالوا له : نحن المتوكلون . فقال : بل أنتم المتأكلون الطالبون من الناس ما تأكلون ، لستم أنتم المتوكلين ، إنما المتوكل الذي يلقي حبة في الأرض يزرع ويتوكل على الله عز وجل ، و في القياس على ذلك من يرفض الأخذ بالأسباب ، وعوامل الوقاية من كورونا فضلاً عن اللقاحات المضادة له ويردد قوله تعالى :

﴿ قُل لَن يُصيبَنا إِلّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) ﴾

[سورة التوبة]

 فيسيئون للدين من حيث أرادوا إظهار أنفسهم ملتزمين به ، هنا تحضرني القصة التي تروى عن سيدنا عيسى عليه السلام حين كان يصلي على رأس جبل ، فأتاه إبليس فقال له : أنت الذي تزعم أن كل شيء بقضاء وقدر ؟ قال : نعم ، قال : ألق نفسك من على الجبل وقل : قدر عليّ ، فرد عليه عيسى عليه السلام : إن الله يختبر العباد ولكن ليس للعباد أن يختبروا الله عز وجل .
 السلام عليكم ورحمة الله في حلقة جديدة من لكل زمان ومكان المسلم بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله عز وجل ، يوجد معنا ضيفان كريمان فضيلة العالم الداعية المعروف فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي حياكم الله دكتورنا العزيز .
الدكتور راتب :
 بارك الله بكم ، ونفع بكم ، وأعلى قدركم .
المذيع :
 وفضيلة الشيخ حسين حلاوة الأمين العام للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث ، حياكم الله فضيلة الشيخ .
الشيخ حسين حلاوة :
 حياكم الله ، وأهلاً وسهلاً بكم وبالأخوة المشاهدين وبفضيلة العلّامة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
الدكتور راتب :
 بارك الله بكم جميعاً .
المذيع :
 أبدأ معكم فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي قبل أن ندخل في موضوع الحلقة جاءنا في الأيام الماضية خبر آلمنا وهو قضاء الله وقدره بفقدان عالم جليل ، وصاحب مكانة في العالم الإسلامي ، وإنتاجات فكرية ودعوية وتربوية ، وله تفسيره القيم صفوة التفاسير الذي نشأنا عليه جميعاً العلّامة الشيخ محمد علي الصابوني ما تقولون في وداع هذا العالم الجليل ابتداء ؟

 

بطولة الإنسان أن يعمل للآخرة :

الدكتور راتب :
 بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وعلى آله وأصحابه الطيّبين الطاهرين ، أمناء دعوته ، وقادة ألوِيَتِه ، وارضَ عنّا وعنهم يا ربّ العالمين .
 أضرب مثلاً بسيطاً ؛ شاب ذهب إلى أمريكا وهو فقير جداً فعمل في مطعم في غسيل الصحون من الظهيرة حتى المساء ، وفي الليل درس ، وفي الصباح داوم في الجامعة ، قضى سبع سنوات ، علمت حكومته بأنه اختص اختصاصاً نادراً فعينوه بمنصب رفيع جداً في بلاده ، ما هو الموت عند المؤمن ؟ حينما وضع رجله على سلم الطائرة انتهى التعب ، انتهت المشقة ، انتهت الدراسة ، انتهى العمل في المطعم ، انتهى الدوام في الجامعة ، انتهت كل المتاعب ولم يبق إلا الثمرات ، فالمؤمن يعيش في الحياة ، والحياة فيها متاعب ، فيها امتحانات، فيها ابتلاء ، فيها مشكلات كبيرة جداً ، تنتهي الحياة لم يبق إلا السعادة ، لذلك أهل الإيمان يقولون حينما توافيهم المنية : لم نر شراً قط في حياتنا ، بقي النعيم المقيم ، بقيت جنة الله التي وعد بها المؤمنين ، إذاً البطولة أن تعمل للآخرة ، الذكاء والنجاح والتفوق .

الفرق بين الفلاح والنجاح :

 بالمناسبة النجاح لم يرد في القرآن إطلاقاً ، ورد الفلاح ، النجاح أحادي ، بيل غيتس يملك ثلاثة وتسعين ملياراً ، على فراش الموت قال : هذا الرقم لا يعني عندي شيئاً ، آبل سبعمئة مليار ، هذا اسمه نجاح ، النجاح أحادي ، نجح بكسب المال ، رئيس وزارة ياباني حكم اليابان مدة سبعين سنة نجاح ، معك أموال طائلة نجاح ، منصب رفيع نجاح ، لكن الفلاح شمولي ، أن تنجح مع الله معرفة وعبادة وطاعة وتقرباً ودعوة ، أن تنجح في اختيار زوجتك ..

((عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : تُنكَح المرأة لأربع ؛ لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها ، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ ))

[ متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

 أن ينجح في تربية أولاده ، أن ينجح في اختيار حرفته ، الحرفة والزوجة ألصق شيء بحياة الإنسان ، فإذا نجح في اختيار زوجته ، وتربية أولاده ، واختار حرفة فيها عطاء للآخرين ، لا يوجد فيها منع ، ولا سلب حرياتهم ، ولا ابتزاز أموالهم ، اختار زوجة صالحة ، وحرفة مشروعة، وتعامل بها بطريقة مشروعة ، حقق نجاح الدنيا ، هذا النجاح المتعدد يسمى فلاحاً ، لذلك :

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾

[ سورة المؤمنون]

﴿ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) ﴾

[ سورة التوبة ]

 الفلاح شمولي ، أن تنجح مع الله معرفة وعبادة وطاعة وتقرباً ، أن تنجح في اختيار زوجتك ، من تزوج امرأة لمالها أفقره الله ، من تزوَّجها لجمالها أذلَّه الله ، من تزوَّجها لنسبها زاده الله دناءةً ، فعليك بذات الدين تربت يداك .
 فالنجاح أحادي والفلاح شمولي ، والفلاح يشمل معرفة الله أولاً ، واختيار زوجتك وأولادك وبناتك ثانياً ، وعملك التجاري ، هناك عمل يبنى على الفوائد .
المذيع :
 فضيلة الشيخ كيف نسقط هذا على استذكارنا للشيخ الراحل محمد علي الصابوني رحمه الله ؟

 

الله تعالى يحبنا متواصلين متعاونين :

الدكتور راتب :
 والله أنا زرته مرتين أو ثلاث مرات ، مرة التقيت معه بجدة قال لي كلمة أبكاني ، قال لي : أنا أسن منك وأنت أكبر مني ، قلت له : أنا تلميذ تلميذك ، والله أحبه محبة لا يعلمها إلا الله ، دخلت إليه مرة قبّلت يده ، هذه الصورة انتقلت في أنحاء العالم كله ، عالم جليل قبّلت يده ، قلت له : أنت أستاذ الأساتذة ، الله يحبنا متعاونين ، متواصلين ، يحبنا متباذلين ، يحبنا كمجموعة .
 بالمناسبة أقول كلمة دقيقة : الدعاة جميعاً الربانيون أقصد وأعني ما أقول هؤلاء في دائرة واحدة ، لأنهم جميعاً على حد معقول من فهم فروع الدين ، إلا أن أحدهم تفوق في الفتاوى ، نرسم إطار مثلث هذا في الإعجاز العلمي ، هذا في التفسير ، هذا في الحديث ، هذا في العمل الخيري ، المثلثات تميز كل واحد ، المثلثات متكاملة فيما بينها ، الشيء المؤلم جداً العالم الآخر يتعاونون تعاوناً مذهلاً وبينهم خمسة بالمئة قواسم مشتركة ، ونحن معنا وحي السماء نتنافس وبيننا خمسة وتسعون بالمئة قواسم مشتركة ، فالتعاون فضيلة ، والتعاون أمر إلهي :

﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) ﴾

[ سورة المائدة ]

 والتعاون قوة ، والتعاون تفوق ، ونحن الدماء في شوارعنا ..
المذيع :
 رحمه الله رحمة واسعة ، أسأل أيضاً الشيخ حسين حلاوة ماذا تقول في وداع الراحل الشيخ محمد علي الصابوني ؟

كلمة الشيخ حلاوة في وداع الراحل الشيخ محمد علي الصابوني :

الشيخ حسين حلاوة :
 أولاً : اسمح لي أن أقدم خالص العزاء لأخواننا ذوي الفقيد عليه رحمه الله ، ولأخينا فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ، ولكل طلاب العلم في المعمورة الذين فقدوا عالماً عاملاً الله حسبه ، ولا نزكي على الله أحداً ، أسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته ، ويدخله فسيح جنته مع الشهداء والصالحين ، وأسأل الله أن يجمعنا به على حوض النبي صلى الله عليه وسلم ، افتقدنا عالماً ربانياً ، عاملاً بعلمه لم يركن إلى الظالمين ، ولم يجلس هكذا ، وقد وسع الله عليه ، كان يعمل في جامعة أم القرى في مكة المكرمة حيث قبّلت رأسه ويده ، وعندما كنا في استانبول التقيت به ، وكان له ثقة بشيوخنا العلماء والحاضرين جميعاً ، نسأل الله أن يغفر له ، المصاب جلل ، فقد الأسابيع الماضية عدداً من شيوخنا ، وهذا هو رفع العلم نسأل الله العافية ، كما خبرنا النبي صلى الله عليه وسلم :

(( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبقَ عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً ، فسُئلوا ، فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا ))

[ البخاري عن ابن عمرو ]

 أسأل الله أن يعوضنا بخير ..
المذيع :
 رحم الله الشيخ ، وهذا حال الدنيا كلنا راحلون ولكل أجل كتاب ، الجميل أننا نختم على الطاعة ، ونجد من يشيعنا ويسير في جنازتنا ، ونترك أثراً طيباً كما فعل الشيخ الراحل الصابوني ، والحمد لله نحن نسعد بوجودكم ، وأسأل الله أن يبارك بعمر مشايخنا الشيخ النابلسي والشيخ حسين حلاوة ، الشيخ النابلسي طرحنا لموضوع التوكل على الله عز وجل ..

 

بطولة الإنسان أن يجمع بين تأليف القلوب وتأليف الكتب :

الدكتور راتب :
 قبل ذلك أنا زرت الشيخ الصابوني - رحمه الله - قبل سنة تقريباً في بيته ، قلت له: يمكن أن تؤلف الكتب أو أن تؤلف القلوب ، تأليف الكتاب أقل أثراً وأطول أمداً ، بينما تأليف القلوب أعمق أثراً وأقصر أمداً ، وأنت جمعت بينهما فبكى .
 مثلاً في درس الغزالي خمسمئة عمامة ، أي خمسمئة عالم ، قال أحدهم : من هو الغزالي لولا إحياؤه ؟ الكتاب يبقى ، فالبطولة أن تجمع بين تأليف القلوب باللقاء المباشر ، وتأليف الكتب باللقاء غير المباشر ، دخلنا بموضوع ثالث بالترجمة ، العلم نقل للأمم كلها باللقاء المباشر، لقاء جسدي فيزيائي له أثر ، لكن يوجد لقاء كتابي نقل للناس جميعاً ، القرطبي مات منذ ألف سنة ، كتاب التفسير بين أيدينا ، أما لو ترجمنا الترجمة انتقلت لكل الشعوب ، فلذلك المعرفة وصلت إلى أقصى الأماكن في الأرض ، كنت مرة في ملبورن آخر مدينة في الأرض ، في أستراليا ، في القطب الجنوبي ، يوجد معهد شرعي ، ودين ، ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟

((يبلغ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار))

 هذه بشارة من النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن هذا الدين هو الدين الخاتم .
المذيع :
 سؤالنا حول التوكل على الله ، والأخذ بالأسباب ، لأن البعض يردد عندما تقول له : التزم بتعليمات الوقاية من كورونا ، يقول قوله تعالى :

﴿ قُل لَن يُصيبَنا إِلّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) ﴾

[سورة التوبة]

 لا أحد سوف يعيش زيادة عن عمره ، ماذا تقول لهؤلاء ؟

 

الأخذ بالأسباب ثم التوكل على الله :

الدكتور راتب :
 هذا الكلام مرفوض كلياً ، لأن الحقيقة الدقيقة والناصعة والرائعة وهي قانون أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، أنا مقيم في الأردن لو عندي رحلة إلى العقبة أراجع المحرك ؛ الزيت والمكابح والعجلات ، كل شيء أراجعه حتى أتأكد أن كل شيء بالتمام والكمال ، بنفس الوقت أتوجه إلى الله يا رب أنت الحافظ وحدك ، أنت المسلم وحدك ، هذه ليست سهلة ، الأخذ بالأسباب يضعف التوكل ، والتواكل يلغي الأسباب ، أهل الغرب أخذوا بالأسباب أخذاً مذهلاً ، وألهوها ، وعبدوها من دون الله ، فوقعوا في الشرك الخفي ، والنص الدقيق :

(( أخوف ما أخاف على أمتي الشرك والشهوة الخفية . قلت : يا رسول الله أتشرك أمتك من بعدك ؟ قال : نعم أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً ولكن يراؤون بأعمالهم . والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائماً فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه))

[ أخرجه الإمام أحمد عن شداد بن أوس ]

 فالبطولة أن نأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، هذا الموقف الوسطي المعتدل الذي يجمع بين الأخذ بالأسباب والتوكل على رب الأرباب .
المذيع :
 هم حقيقة شيخنا لا ينكرون ذلك ، ولكن يقولون الحقيقة وهي أنهم يأخذون بالأسباب ولكن بلا مبالغات ، الشيخ حسين حلاوة لماذا هذا المسجد مغلق والمسجد الآخر مفتوح ؟ معنى ذلك أن القائمين على هذا المسجد متشددون ومبالغون ، مسألة الأخذ بالأسباب مسألة نسبية تختلف من شخص لآخر أليس كذلك شيخ حسين ؟

 

الافتقار إلى الله والتوكل عليه :

الشيخ حسين حلاوة :
 المؤمن يا سيدي لا بد أولاً أن يتوكل على الله في كل أمر ، ثم بعد ذلك كما قال الشيخ الجليل أن يأخذ بالأسباب في كل أمر ، النبي صلى الله عليه وسلم علمنا الافتقار لنتوكل عليه ثم ننطلق في أعمالنا ، علمنا كيف نفوض الأمر لأن التوكل هو تفويض الأمر ، أعلى درجة فيه درجة التفويض ، أن تفوض أمرك لله ، والذي أمرك أن تفوض أمرك إليه أمرك أن تأخذ بالأسباب ، وسيد المتوكلين على الله عز وجل ومن أسمائه المتوكل كما هو بأبي وأمي النبي صلى الله عليه وسلم ، كان بإمكانه أن يترك الأمر ، هو الذي عصمه الله وحفظه ربنا لكن انظر في رحلة الهجرة كيف يأخذ بالأسباب في كل أمر ، انظر في كل أحواله .
المذيع :
 نعم النظر في كل أحواله صلى الله عليه وسلم ، وأخذه بالأسباب ، وكان المبدأ الذي علمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم أن نعقل ونتوكل ، تطبيقات ذلك فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ، هناك من يرفض مثلاً المطالبة بحقه نتيجة خطأ أو إهمال طبي لأنه يخشى إذا اعترض على ذلك حينما قصروا بحق المريض كأنه يعترض على قضاء الله وقدره ، وكأنه لا يتوكل على الله ؟

الابتلاء علة وغاية وجودنا :

الدكتور راتب :
 الجواب الدقيق سيدنا عمر في إحدى غزواته كان منتشراً طاعون عمواس ، فقال له أبو عبيدة : يا أمير المؤمنين أتفر من قضاء الله ؟ فقال سيدنا عمر : نعم أفر من قدر الله إلى قدر الله .
 الله عز وجل أعطانا شيئاً وامتحننا بشيء ، والابتلاء علة وجودنا ، والابتلاء غاية وجودنا ..

﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)﴾

[ سورة المؤمنون ]

﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)﴾

[ سورة الملك ]

 والبطولة ليس ألا تبتلى بل أن تنجح في الابتلاء ، سيد الخلق وحبيب الحق قال :

(( لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت علي ثلاث من بين يوم وليلة ومالي طعام إلا ما واراه إبط بلال))

[أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك]

 فالابتلاء غاية وجودنا ، والبطولة ليس ألا تبتلى بل أن تنجح في الابتلاء .
 سيدي هذا الفيروس من جند الله عز وجل ، أنا أقول كلمة دقيقة : حاكم قوي أمير جماعة كم خيار معه لجماعته ؟ أربعة خيارات ؛ أن يبقيه على حاله ، أن يعاقبه ، أن يكافئه ، أن يطرده ، الله له مع العباد مليار خيار ، هذا الفيروس أوقف الحياة في الأرض كلها ، بكل أطيافها ، بكل مستوياتها من الخفير للأمير ، هذا من ابتلاء الله عز وجل :

﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)﴾

[ سورة المؤمنون ]

﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)﴾

[ سورة الملك ]

 يوجد ملمح للآية ، ليس أيكم صالح وطالح ؟ أيكم أحسن عملاً ؟ أي غير معقول أن تفكر في معصية ، أيكم أحسن عملاً ابتلاء بتفاوت مراتب الناجحين ، ليس لفرز الناجحين عن الراسبين ، الملمح دقيق جداً الابتلاء علة وجودنا ، وغاية وجودنا ، والبطولة ليس ألا تبتلى بل أن تنجح في الابتلاء ، و سيد الخلق النبي صلى الله عليه وسلم ابتلي بكل قضية من طرفيها الحادين ، ابتلي بالفقر وبالغنى ، القوة والضعف ، النصر وعدم النصر ، الناجحون وغير الناجحين ، لأنه هو قدوة لنا جميعاً وأسوة ، الحقيقة القرآن نص أما النبي صلى الله عليه وسلم فهو حركة ، أنت بحاجة إلى نص وبحاجة إلى حركة تؤكد هذا النص ، نحن معنا الكتاب والسنة وما إن تمسكتم بهما فلن تضلوا بعدي أبداً ، كتاب الله وسنة رسوله ، ما سوى ذلك أطيعوا الله استقلالاً والرسول استقلالاً ، وأولي الأمر منكم تبعاً ، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، يوجد حديث شريف صحيح ثبتت صحته يطاع ، قال تعالى :

﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) ﴾

[ سورة الحشر]

المذيع :
 الشيخ حسين حلاوة عدت إلينا ...
 إذا ممكن أن نكمل الفكرة حول هذه الموازنة بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب ؟

 

التوكل على الله هو أصل الإيمان والتوحيد :

الشيخ حسين حلاوة :
 كما ذكر شيخنا التوكل على الله هو أصل الإيمان ، أصل التوحيد ، والأخذ بالأسباب هو الطريق إلى هذا التوحيد ، إلى الإيمان ، الآيات في القرآن الكريم التي تتحدث عن التوكل ربما أكثر من خمسين آية ، بالإشارة ، يضرب الله لنا أمثلة عملية حتى ينتبه الإنسان ، حتى لا يقع في أمر الأخذ بالأسباب كلية فيضل ، ويزيغ ، ويضيع إيمانه ، ولا يقع في أمر التواكل فيترك الأمور دائماً من نفسه ، أو ظاناً من نفسه أنه متوكل على الله ، لأنه لو توكل على الله لأخذ بالأسباب ، عندما تتلاقى الأسباب مع التوكل فسوف تأتي النتيجة ..

(( عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا ))

[ أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عمر قال الترمذي : حسن صحيح ]

﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)﴾

[سورة الملك]

 أما أن يجلس الإنسان في بيته ثم ينتظر الرزق فلن يأتيه شيء ، قال تعالى :

﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)﴾

[سورة الإسراء ]

 سعى لها ، أخذ بالأسباب حتى يصل إليها ...

﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)﴾

[سورة الإسراء ]

(( عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا ))

[ أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عمر قال الترمذي : حسن صحيح ]

 لا شيء في بطنها

(( عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِمَاصًا ، وَتَرُوحُ بِطَانًا ))

[ أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عمر قال الترمذي : حسن صحيح ]

 وتعود بطاناً قد رزقها الله عز وجل وهي طير ..
المذيع :
 في هذا السياق فضيلة الشيخ كيف لنا أن نوازن بين أن الإنسان يبذل جهده كما ذكرت ، يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم يحسن التوكل على الله ، أين يضعف المؤمن في اختبار حسن توكله على ربه ؟

 

توزيع الحظوظ في الدنيا توزيع ابتلاء وفي الآخرة توزيع جزاء :

الدكتور راتب :
 الحقيقة الدقيقة أن الأخذ بالأسباب عبادة وحده بصرف النظر عن تحققها ، الله عز وجل عليم خبير ، إن من عبادي لا يصلح له إلا الغنى فإذا أفقرته أفسدت عليه دينه ، أي الله عز وجل وزع الحظوظ ، الوسامة حظ ، الذكاء حظ ، الثقافة حظ ، وزع الحظوظ توزيع ابتلاء في الدنيا ، وسوف توزع في الآخرة توزيع جزاء ، اثنان عاشا ستين عاماً بالضبط ، الأول امتحن بالإيجابيات ؛ مال وفير ، بيت واسع ، مكانة كبيرة اجتماعية ، عدة سيارات ، بيت على البحر ، بيت بالجبل ، هذا امتحن بالرخاء ، والآخر امتحن بالشدة ، دخل محدود ، بيت صغير ، السعي في كسب الرزق شاق مجهد جداً ، الآن كلاهما مات بالستين ، الذي نجح في الابتلاء له جنة عرضها السماوات والأرض ، والذي لم ينجح له عذاب أليم وشديد ، هذه الحياة مؤقتة ، الحظوظ موزعة في الدنيا توزيع ابتلاء وسوف توزع في الآخرة توزيع جزاء ، البطولة أن يكون لك عند الله شيء ..
الإنسان حينما يوضع في قبره ينادى أن عبدي رجعوا وتركوك ، وفي التراب دفنوك ، ولو بقوا معك ما نفعوك ، ولم يبق لك إلا أنا ، وأنا الحي الذي لا يموت .

المؤمن وحده من يتمتع بنعمة الأمن :

 أي مؤمن عرف الله معرفة معقولة ، وأطاعه قطعاً ، وقدم عملاً صالحاً بقدر إمكانه ، وطلب العلم هذا له شيء بعد الموت ..

(( ابن آدم اطلبني تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء ))

[ تفسير ابن كثير]

 يوجد حالة من الأمن الله عز وجل ماذا قال ؟

﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) ﴾

[ سورة الأنعام ]

 انظر إلى دقة الآية لو قال : الأمن لهم ولغيرهم ...

﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) ﴾

[ سورة الأنعام ]

 قصر وحصر ، الأمن وحده للمؤمن ، لا يتمتع بنعمة الأمن إلا المؤمن ، لأن له عند الله شيئاً ، لو أنه وافته المنية له عند الله شيء ، له جنة عرضها السماوات والأرض ، الإنسان يعيش بالمستقبل ، المؤمن مستقبله بشارة من الله عز وجل ، أما حياتنا الدنيا نحن جميعاً متشابهون ، يوجد موجة غلاء نعاني منها ، طقس متقلب نعاني منه ، كل المتاعب نعاني منها جميعاً ، إلا أن المؤمن وعده الله بالجنة ، الآية تقول :

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾

[ سورة القصص ]

 هذه هي القصة ، أنت كمؤمن تعاني ما يعانيه جميع الناس ، ولكن لك ميزة كبيرة الغلاء تعاني منه ، يوجد مشكلة اجتماعية تعاني منها ، شأنك شأن أي إنسان آخر إلا أن الله وعدك بجنة عرضها السماوات والأرض .
المذيع :
 فضيلة الشيخ حلاوة هناك من يتحدث بهذا السياق فيقول : أنا وضعي مختلف ، أنا متوكل على الله ، لكن أنا ظروفي صعبة ، أنا أخذت بالأسباب ولم تمش أموري ، ربما ربي يريد لي شيئاً لا أعرف لماذا ربي يعمل بي هذا الشيء ، تظهر هذه التعبيرات ماذا نقول لهؤلاء ؟

 

تفويض الإنسان أمره لربه في كل شيء :

الشيخ حسين حلاوة :
 هو لا يمتحن ربه سبحانه وتعالى ، هو عليه أن يسلم أمره لله ، وعليه أن يراجع نفسه لعله أخطأ في شيء ما ، ثم يأخذ بالأسباب ويترك النتائج على الله تعالى ، فإن الله يختار له أحسن شيء ، وهو لا يعرف لنفسه ما هو الخير ، الله يعلم للعبد ما هو الخير فيعطيه إياه ، الإنسان يتمنى الزنا ، والله يعلم أنه لو أغناه لضل أكثر ، ولكانت حياته أكثر شقاء ، ربما العكس لو أفقره الله وأصابه ضيق في المال أو الولد أو في الرزق أو في أي شيء قد يكون أصعب حالاً، نحن نرى أغنياء وعندهم من أموال الدنيا ما عندهم ، ولكن مع ذلك يتمنى أحدهم أن يأكل طعاماً بسيطاً ، أو يشرب شربة هنيئة ، أو ينام نوماً مريحاً ، وبالعكس ترى إنساناً فقيراً لا يملك شيئاً وتراه سعيداً في حياته ، هكذا قال الله عز وجل :

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾

[ سورة طه ]

 ليس معنى هذا الضيق في المعيشة ، لا أبداً ، عنده المال الوفير كما أشرت ، كما قال ضيفنا الكريم بارك الله فيه ، لكن الحقيقة يعيش ضنكاً في حياته ، ضنكاً مع زوجته ، ضنكاً مع أولاده ، ضنكاً في صحته ، ضنكاً في كل شيء ، لأنه قطع الحبال بالله عز وجل ، ما معنى التفويض حقيقة ؟ أي أن تفوض الله في كل أمرك ، قال تعالى :

﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) ﴾

[ سورة غافر ]

المذيع :
 هذه الجزئية بعد إذنك أذهب بها إلى الشيخ محمد راتب النابلسي ، ماذا تقول فضيلة الشيخ ؟

 

تعلق إرادة الله بالحكمة المطلقة :

الدكتور راتب :
 اسمح لي بكلمة دقيقة جداً ؛ كل شيء وقع بالقارات الخمس من آدم إلى يوم القيامة أراده الله ، لا تعني أنه أمر به ، ولا تعني أنه رضيه ، تعني سمح به ، طبيب متفوق في اختصاصه ، لم ينجب أولاداً ، لم يرد أن يتزوج امرأة ثانية لأسباب معينة ، بعد عشر سنوات أنجب طفلاً آية بالجمال ، تعلق به تعلقاً مذهلاً ، واكتشف الطبيب الأب أن ابنه مصاب بالتهاب الزائدة ، يسمح بتخديره ، وفتح بطنه ، واستئصال الزائدة ..
 كل شيء وقع بالقارات الخمس من آدم إلى يوم القيامة أراده الله ، لا تعني أنه أمر به ، ولا تعني أنه رضيه ، تعني سمح به ، كل شيء أراده الله معكوسة ، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة ، والحكمة المطلقة أي الشيء الذي وقع لو لم يقع لكان الله ملوماً ..
المذيع :
 كل شيء وقع لحكمة منه تبارك تعالى ، وهذا المعنى جميل ، الشيخ حسين حلاوة الذي أشار له الشيخ النابلسي خلطنا بين ما أمر به و سمح به سبحانه وتعالى ؟

الله تعالى لا يرضى لعباده إلا الإيمان والسعادة :

الشيخ حسين حلاوة :
 يقول الشيخ النابلسي : كل شيء بهذا الكون إنما يقع بمشيئة الله وبقدرته ، لكن لا يعني هذا أن الله يرضى هذا العمل كما قال سبحانه وتعالى :

﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)﴾

[ سورة الزمر ]

 إنما يرضى لهم الإيمان والسعادة ، ثم الذين لا يريدون لأنفسهم سعادة ولا يريدون لأنفسهم مقاماً عند الله في الاخرة يسيرون في هذا الطريق ، لذلك قال تعالى :

﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)﴾

[ سورة الإسراء ]

 هناك من يريد الدنيا ، قال تعالى :

﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) ﴾

[ سورة الشورى ]

 أي بعض مما يطلب وليس كل ما يطلب ، هكذا هي مشيئة الله عز وجل ، ومن يريد الآخرة الله مهد له الطريق ، طريق الخير ، طريق السعادة ، لكن العبد لا يريد ، كل شيء في هذا الكون واقع بمشيئة الله وبإرادته ، ولكن العبد هو الذي يختار لنفسه الطريق الذي يريد أن يسير فيه ، إذا أراد طريق الخير :

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)﴾

[ سورة الإنسان ]

 ألهمه الله ذلك ، وهذا الفرق بين الإنسان والحيوان والجماد ، الإنسان آتاه الله عقلاً ، قال تعالى :

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) ﴾

[ سورة الإنسان ]

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)﴾

[ سورة الإنسان ]

 هكذا العبد يجب أن يكون مع ربه ينظر أنا ماذا أريد ؟ إذا أردت طريق الآخرة عليّ أن أسعى ، ومن السعي أن أكون من المتوكلين على الله سبحانه وتعالى ، والآخذين بالأسباب ، لأن الله أمرني ، ثم أترك النتائج على ربي سبحانه وتعالى .
المذيع :
 أستاذ حلاوة ما هو التوكل على الله عز وجل وما هو الفرق بين التوكل وصدق التوكل ؟

 

الفرق بين التوكل وصدق التوكل :

الشيخ حسين حلاوة :
 التوكل على الله معناه الاعتماد على الله ، التوكل معناه التفويض إلى الله ..

﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) ﴾

[ سورة غافر ]

﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) ﴾

[ سورة آل عمران ]

 النبي كان راجعاً من غزوة من الغزوات ثم جاءه من يقول له : إن أبا سفيان قد جمع لكم إلى آخره .. لم يزد النبي عن قوله : حسبي الله ونعم الوكيل ، فماذا كانت النتيجة ؟ تركنا أمرنا لله عز وجل ، لكن لا يعني هذا أن النبي لم يأخذ بالأسباب ، كان دائماً يأخذ بالأسباب فجاءت الآية :

﴿ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) ﴾

[ سورة آل عمران ]

 أي سوء لم يصبه بفضل الله تعالى ، أنا أقول : يا رب أنت وكيلي ، لو كنت في قضية محكمة سوف توكل محامياً ذكياً فطناً تستريح لأنك تعرف أن قضيتك بيد أمينة ، سوف يدافع عنها المحامي دفاعاً قوياً بالقوانين ، وعنده من الأداء الذي يسمح له أن يرافع أمام أعتى قاض ، فما بالك عندما توكل أمرك إلى الله جل في علاه كيف يكون حالك ؟ تقول : فوضت أمري إليك ، وألجأت نفسي إليك ، لا منجى منك إلا إليك ، هذا هو جمال العبودية كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي ..
المذيع :
 أمة الله من بريطانيا تسأل الشيخ حسين بما أنكم تتطرقون إلى موضوع التوكل على الله أنا أقرأ كل يوم أذكار الصباح والمساء في بيتي لتحصين نفسي وأولادي ، كذلك أشغل تسجيلاً للرقية الشرعية في زاوية من البيت حتى يصل الصوت لجميع الغرف ، فهل هذا جائز ؟ وهل تستفيد عائلتي من هذه الرقية ؟

 

شروط الرقية :

الشيخ حسين حلاوة :
 الإنسان عندما يصحن نفسه بالأذكار ، ويحصن نفسه بالمحصنات النبوية ، فهو بذلك قد أخذ بالأسباب ، هذه الرقية إن كانت من كتاب الله ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم لا شك أنها سوف تستفيد ومن معها ، ولكن أريد أن أقول شيئاً في قضية الرقية : أحياناً يأتيني فلان ويقول : فلان رقاني وفلان رقاني لكن أنا مازلت أعاني من كذا ، الرقية بحد ذاتها ، بنفسها، بدون أن يفعل الإنسان شيئاً مع الرقية ، الرقية لا تكفي ، لا بد للإنسان أن يكون أهلاً لأن تتعامل معه هذه الرقية ، لا يمكن إنسان يقول : أنا رقيت فلاناً وهو فلان لا يصلي أصلاً ، ولا يواظب على أوامر الله ، وهو يقع في المحرمات ، أو يأكل أموال الناس ، إلى آخره ... هذا لا تصلح معه هذه الرقية ، والله أعلم .
المذيع :
 كنت تتحدث وانقطع الاتصال ، كنا نتكلم عن معنى دقيق الأمر الذي أمر الله به والذي سمح به ..

الدين منهج تفصيلي :

الدكتور راتب :
أعيد ..
 كل شيء وقع بالقارات الخمس من آدم إلى يوم القيامة أراده الله ، لا تعني أنه أمر به ، ولا تعني أنه رضيه ، تعني سمح به ، كل شيء أراده الله معكوسة ، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة ، والحكمة المطلقة متعلقة بالخير المطلق ، لا يوجد بالكون شر مطلق ، لأنه يتناقض مع وجود الله ، هناك شيء يقع لحكمة بالغة ، أب تزوج ، دخله المادي كبير جداً ، لم ينجب أولاداً ، لم يرد أن يأخذ امرأة ثانية ، بعد عشر سنوات أنجب طفلاً آية بالجمال ، تعلق به تعلقاً مذهلاً ، واكتشف الطبيب الأب الولهان بابنه أنه مصاب بالتهاب الزائدة ، يسمح بتخديره، وفتح بطنه ، واستأصل الزائدة ، فكل شيء أراده الله وقع ، والإرادة الإلهية متعلقة بالحكمة المطلقة، ماذا تعني الحكمة المطلقة ؟ الذي يقع لو لم يقع لكان الله ملوماً ، والذي وقع لو لم يقع لكان نقصاً في حكمة الله ، والحكمة المطلقة متعلقة بالخير المطلق ، لا يوجد في الكون شر مطلق لأنه يتناقض مع وجود الله ، في الحياة سلبية موظفة للخير ، لا يوجد شر مطلق ، يوجد شر موظف للخير ، قال تعالى :

﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)﴾

[ سورة السجدة ]

 هذا التفسير الوحيد للمصائب ، سميت مصيبة لأنها تصيب الهدف ، يوجد إنفاق مع ترف ويوجد تقتير ، التقتير علاج الإنفاق مع الترف ، يوجد كبر الموقف الحرج علاج للكبر ، مثقال ذرة من كبر تمنعه من دخول الجنة ، أنت عندك كيلو لبن تضيف ضعفين من الماء صار اللبن عيران ، أما هذا اللبن فذرة بترول تفسده ، فالحقيقة أن الدين دقيق جداً ، منهج تفصيلي من فراش الزوجية إلى العلاقات الدولية ..
المذيع :
 في هذا المنهج فضيلة الشيخ النابلسي عندما نتحدث عن مسلم يصلي خمس صلوات في المسجد ، ويصوم صيام تطوع ، زكاة ، صدقات ، أعمال خير ، لكن عندما يقع بمصيبة تجد كل شيء به اهتز ، أين الرضا بما قسمه الله ؟

 

اختلاف الإيمان الحقيقي عن الاعتقاد :

الدكتور راتب :
 لا يوجد عنده إيمان حقيقي ، عنده اعتقاد ، لا يوجد عنده إيمان حقيقي ، الاعتقاد غير الإيمان ، أنا عندي معلومات لكن ما محصت بها ، وما تأكدت من صحتها ، من دون تمحيص ، من دون تحقيق ، من دون أدلة ، هذا الإيمان لا يغني عند الشدائد ، يوجد حالات صعبة لا يكفيها الإيمان العادي ، إيمان العجائز لا يكفي ، يحتاج إلى إيمان قوي جداً كما نسمع الآن شدة تصيب المسلمين ما بعدها شدة ، والعالم المتفلت فيه رخاء ما بعده رخاء ، مشكلة كبيرة جداً لا بد أن نعرف الله ، نعرف الحكمة ...
 عندنا هدى بياني ، تأديب تربوي ، إكرام استدراجي ، قصم ، الهدى البياني محاضرة تحضرها ، خطبة تسمعها ، أما التأديب التربوي مشكلة تعالج بها ..
المذيع :
 أكرمك الله أعود للشيخ حلاوة وأسأل ما النصيحة التي نوجهها للأمة بهذا الموضوع ؟ ما الذي نحتاجه بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب ؟

نصيحة الشيخ حلاوة للأمة حول الأخذ بالأسباب والتوكل على الله :

الشيخ حسين حلاوة :
 يا سيدي أمتنا للأسف قصرت بالأخذ بالأسباب ، كما قال شيخنا الجليل الغرب أخذ بالأسباب حتى جعلها صنماً تكاد تعبد من دون الله ، أما أمتنا فقد تركت الأخذ بالأسباب في كل مناحي حياتها ، ربما أشياء قليلة ترتقي بأمتنا إلى الرقي المطلوب ، لذلك شيخنا الغزالي رحمه الله قال : لو أن الغرب شاء الله أن يأخذ منا كل شيء ، وأن يطلب منا كل أموره التي صنعها ، والتي استوردناها منه ، يقول : لم نجد أنفسنا إلا عرايا نتيه على وجوهنا لماذا ؟ لأننا تركنا الأخذ بأسباب الوجود ، أسباب الحياة في هذا الكون ، فاعتمدنا على غيرنا من البشر ، أما لو كنا نريد أن يكون لنا حق في الوجود فيجب على أمتنا أن تأخذ بأسباب الحياة بكل ما تريد ، إذا أراد المؤمن الجنة عليه أن يأخذ بأسباب التي توصله إلى رضا الله والجنة ، إذا أرادت الدول أن تأخذ بأسباب التقدم عليها أن تأخذ بأسباب الوجود ، وأسباب التقدم الإمام ابن تيمية يقول مثلاً : إن الله يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة لماذا ؟ لأنها أخذت بأسباب الوجود ، ومن أسباب الوجود العدل في الحكم ، أسباب استمرارية الحكم والعدل فيه ، ولا يقيم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة .
المذيع :
 أكرمك الله أعود أيضاً للشيخ النابلسي وأسأل فضيلته عن كلمة أخيرة ينصح بها في هذا السياق حول الموازنة بالأخذ بالأسباب والتوكل على الله عز وجل ؟

نصيحة الدكتور راتب حول الأخذ بالأسباب والتوكل على الله :

الدكتور راتب :
 أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، الأخذ بالأسباب عبادة ، أما أنا فلا أمتحن الله عز وجل ، هناك حكمة قد لا أعرفها ، فالأخذ بالأسباب عبادة وحدها ، فلذلك النبي الكريم حينما دعا ربه دعاء شديداً سيدنا الصديق قال له : إن الله ناصرك ، هل يكون سيدنا الصديق إيمانه أقوى من رسول الله ؟ مستحيل ، بم فسرت هذه ؟ كان النبي قلقاً أن يكون أخذه بالأسباب أقل مما ينبغي ، أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء .
 نقطة دقيقة جداً نحن بأمس الحاجة إليها الأخذ بالأسباب معنا إيمان ، الإيمان والأخذ بالأسباب متكاملان ، لو فرضنا أخذنا بالأسباب جميعها ولم تتحقق النتائج لحكمة بالغة أنا غفلت عنها لا بد من كسبها بعد حين .

خاتمة وتوديع :

المذيع :
 جزاكم الله خيراً ، أكرمك الله ، وجزاك عنا كل خير فضيلة الداعية المعرف محمد راتب النابلسي ، على وجودك معنا إلى هذه الساعة ، وكذلك الشكر موصول للشيخ حسين حلاوة الأمين العام للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث .
إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام الساعة الأولى من هذا البرنامج التي ناقشنا بها المسلم بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله عز وجل .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

إخفاء الصور