وضع داكن
25-04-2024
Logo
الدرس : 20 - سورة غافر - تفسير الآيات77- 85 معنى الضلال
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس العشرين والأخير من سورة غافر، ومع الآية الثامنة والسبعين، ولكن في آيات الدرس الماضي آيةٌ أرغب أن نقف عندها وقفةً متأنية، الآية هي قوله تعالى:

﴿  أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ(69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(70) إِذْ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ(71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ(72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ(73)﴾

[ سورة غافر  ]


ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ


 أيْ أين شركاؤكم الذين عبدتموهم من دون الله؟ الذين اعتمدتم عليهم؟ الذين عقدتم الآمال عليهم؟ الذين استعنتم بهم؟ الذين توهمتم أنهم أقوياء، وأنهم ينفعونكم، أو يضرونكم، أين هؤلاء الشركاء؟

﴿  ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ(73) مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)﴾

[ سورة غافر ]


قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا


معنى الضلال:

 معنى الضلال هنا أي: لم نرَهم، إذا صببت الماء في الحليب تقول: ضلّ الماء في الحليب، أي اختفى.

﴿قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا﴾ أدقُّ ما في الآية قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ﴾ .


كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ


 أحياناً الإنسان حينما يقرأ قوله تعالى:

﴿ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۖ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(8)﴾

[  سورة فاطر ]

 قد يسأل هذا السؤال: كيف يُضِل الله الإنسان؟ اللُه هادٍ، أيعقل أن يُضِل اللهُ الإنسان؟ إذا قرأت في القرآن الكريم أن الله يُضِل الإنسان، فهذا هو التفسير: أيْ أنّك إذا أشركت بالله -لا سمح الله ولا قدَّر- شركاً جلياً أو خفياً، واعتمدت على غير الله، عقدت الأمل على غير الله، وضعت أملك بغير الله، توهَّمت أن فلان ينفعك أو يضرك، إذا أشركت فالله سبحانه وتعالى يجعل هذا الشريك ضعيفاً أمامك، تستنجد به فلا يُنْجِدك، تستجير به فلا يُجيرك، تطلب منه فلا يجيبك، ماذا فعل الله عزَّ جل؟ أضلك عن هذا الشريك وأراد أن تتصل به.

 لو أن هذا الشريك أجابك، لو أنجدك، لو أغاثك، لو نفعك فعلاً أو ضرَّك لازداد اعتقادك به، لكن من شأن الله سبحانه وتعالى أنك إذا أشركت به أحداً، فهذا الشخص الذي أشركت الله به، يُريك ضعفه، يُريك لؤمه، يُريك تخلِّيه، يُريك أنه ضعيفٌ مثلك، تبحث عنه عند الضرورة فلا تجده، تجده تسأله فلا يجيبك، تتوسل إليه فلا ينجدك، قال: ﴿ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ*مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أين هم؟ ﴿قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا﴾ ما رأيناهم، ما أنجدونا، ما نفعونا، ما خلَّصونا، ضلوا عنا، قال: ﴿بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا﴾ أيْ أنّ هؤلاء الذين أشركناهم مع الله ليسوا بشيء، لا يسمعون، ولا يستجيبون، ولا يمنعوننا من عذاب الله، ولا يجلبون لنا النفع، ولا يدفعون عنا الضُر، لذلك هذا فِعْل الله عزَّ وجل، هذا هو إضلال الله للإنسان.

أيْ أنّ الإنسان إذا اعتقد الإنسان أن جهةً ما من دون الله عزَّ وجل بإمكانها أن تنفعه، أو أن تضره، أو أن تجلب له النفع، أو أن تدفع عنه الضُر، إذا أشرك الإنسان بالله عزَّ وجل، هذا الذي أشركت الله به، الله جل جلاله سوف يريك ضعفه، يريك أنه ليس بشيء، لا يسمع، ولا يرى، ولا يستجيب، ولا يقدِّم، ولا يؤخِّر، ولا ينفع، ولا يضر. 

﴿قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا﴾ أدقُّ ما في الآية: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ﴾ فهل عرفتم أيها الإخوة ماذا يعني إضلال الله للإنسان؟ لا يُضِل الله الإنسان عن ذاته بل يُضِله عن شركائه، إذا توهَّم الإنسان أن لله شريكاً، الله سبحانه وتعالى يضل الإنسان عن الشريك الذي أشركَ اللهَ به، هذا هو المعنى الذي يليق بالله عزَّ وجل، أن الله حينما يُضِل الإنسان لا يضلُّه عن ذاته العالية الكاملة، بل يضله عن شركائه، الذين تعلق بهم، أو توهم بهم القوة، أو اعتدَّ بهم، أو عقد الأمل عليهم، أو أراد أن ينفعوه، وهذا درسٌ بين أيدينا. 


الإضلال عن الشركاء تذكيرٌ بالله:


 التطبيق العملي لهذه الآية -دقق- أي إنسانٍ إذا توهَّم أن المال يفعل كل شيء، جعل المال إلهاً، فالله كيف يعالجه؟ يرسل له مشكلةً لا تحلُّ بالمال أبدا، يضله عن هذا الشريك، إذا اعتقد أن زيداً ينفعه، فربنا عزَّ وجل من رحمة الله بهذا العبد يجعل زيدًا يتخلى عنه، يتخلى زيدٌ عنه بأمر من الله عزَّ وجل كي يعرف قيمته، ويعرف أنه لا شيء.

 لكن لو ظننا العكس، أنك اعتقدت بإنسان أنه يفعل أو يضر، أو يرفع أو يخفض، أو يعطي أو يمنع، وأجرى الله لك الخير على يده، لو فعل الله ذلك لزاد اعتقادك أنه شريك، فمن رحمة الله بك أنك إذا أشركت معه أحداً يريك ضعفه، أو يريك لؤمه، أو يريك أنه لا يفعل شيئاً، إما أنه لا يستجيب لك، أو لا يسمع، أو لا يرى، أو إذا سمعك وطلبت منه لا يُنجِدُك، فحينما ربنا سبحانه وتعالى يُنزِل هذا الشريك من عينك من أجل أن تلتفت إلى الله وحده.

إذا عُزي الإضلال إلى الله عزَّ وجل، فهذا أحد معاني الإضلال: أي أن الله سبحانه وتعالى يُضِلّك عن الذين ادّعيت أنهم شركاء لله.

 لو فرضنا أنّ معلمًا، وحازمًا، ومخلصًا، وعالمًا، وأحد الطلاب أَوْهَمَ زملاءه أنه حصل على الأسئلة، فحينما يأتي المدرِّس بأسئلة بعيدة عن هذه الأسئلة، ماذا يفعل بهذه الطريقة؟ يبيِّن لهؤلاء الطلاب الذين توهموا أن زميلهم حصل على الأسئلة أنه شخص كاذب، فلو أن المدرس جاء بالأسئلة نفسها لرسَّخ إيمانهم أنه حصل على الأسئلة كما ادَّعى من قبل.

 فالموضوع هنا حينما تعتقد أن زيداً أو عُبيداً يفعل أو لا يفعل، ينفع أو يضر، بإمكانه أن يجلب لك خيراً، أو يدفع عنك شراً، إن اعتقدت ذلك فالله سبحانه وتعالى كفيلٌ أن يُضِلك عنه، فإذا أضل الله عبداً لا يضله عن ذاته بل يضله عن شركائه، والآية واضحة: ﴿ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ*مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا﴾ .


الشركاء لا شيء:


 هؤلاء لا شيء، هو شيء، فأحياناً تقول: فلان تبيّن لي أنه لا شيء، هو شيء له وزن، لكنه ادّعى، وادّعى، وادَّعى، وادّعى، فكل هذا الذي قاله كلامٌ فارغٌ لا معنى له، تقول: هو لا شيء، فمعنى: ﴿بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا﴾ الأصنام أشياء، لكن وجدوا أنها لا تنفع ولا تضر، أو الأشخاص لا ينفعون ولا يضرون. 


الآية المحكمة تُحمل عليها كل الآيات المتشابهات:


 ﴿بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ﴾ عندنا قاعدة في أصول الفقه دقيقة جداً هي: أن الآية المُحكَمة تُحمل عليها كل الآيات المتشابهات، أوضح مثل على ذلك لو قلت: إن القمح مادة خطيرة، كلمة خطيرة تفيد أنه مادة أساسية في حياة الإنسان، وتفيد أنها مادة مؤذية، متفجرة مثلاً، فما الذي يحدد لنا معنى الخطيرة هنا؟ قول آخر: القمح مادة مفيدة للإنسان، فكلمة مادة مفيدة تعبير محكم واضح، وكلمة مادة خطيرة، تعبير متشابه يفيد أنه نافع أو ضار، فما الذي يحدد معنى الخطورة في التعبير الثاني؟ المعنى الأول.

 فالقاعدة أن الآيات المتشابهات تُحمَل جميعها على الآيات المُحكمات، بل هناك رأى آخر، هو أن آيةً محكمة واحدة تُحمل عليها كل الآيات المتشابهات مهما كثرت. 

لما قال ربنا عزَّ وجل: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ﴾ إذا كان في القرآن مائة آية، مائتا آية، تفيد أن الله يضل الإنسان، كيف يضله؟ بهذه الطريقة، أيْ أنّه يضله لا عن ذاته بل عن شركائه، الإنسان كلما اعتقد أن فلاناً بإمكانه أن يفعل أو أن يترك، فربنا عزَّ وجل كشفه على حقيقته، وبين ضعفه، أو بيّن بعده، أو بيّن لؤمه، أو بيّن جهله.


 آيات اليوم:  


﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ۗ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ(78)﴾

[ سورة غافر ]


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ


1 ـ الأنبياء لمْ يُذكَروا في القرآن جميعا:

 حينما نسمع أن في القارات البعيدة شخصاً كان مصلحاً اجتماعياً، لعله كان نبياً، هذا لا يمنع، لأن الأنبياء الذين ذكرهم الله في القرآن الكريم ليسوا كل الأنبياء الذين أرسلهم الله عزَّ وجل، إذاً: ﴿مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ .

2 ـ من رحمة الله إرسال الأنبياء:

 هذا يعطينا معنى دقيقًا جداً؛ هو أن رحمة الله عزَّ وجل لا تنفكُّ لحظةً عن الخلق، ففي كل البلاد، وكل القارَّات، وكل الأقاليم، وكل الأصقاع، لا بد من إرسال الأنبياء مبشرين ومنذرين، محذّرين، مبيِّنين، مفصِّلين، إذاً: رحمة الله تتمثل في إرسال الأنبياء، هم إذاً كثيرون جداً.


وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ


1 ـ لا أَحَد من الأنبياء يأتي بمعجزة إلا بإذن الله:

 ﴿مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي أن المعجزات التي جاء بها الرسل إنْ لإثبات نبوَّتهم أو رسالتهم، أو للقضاء على معارضيهم، هذه الآيات المبيِّنة أو المُدمِّرة لخصومهم، هذه الآيات ما كان لهم أن يأتوا بها من عند أنفسهم إلا أن يأذن الله.

2 ـ الأنبياء لا يعلمون الغيب إلا بما أطلعهم الله تعالى به:

 فمثلاً الإنسان أحياناً يلتبس عليه الأمر، حينما يعلم أن الله يعلم الغيب وحده، لا يعلم الغيب إلا الله، شيء جميل وواضح، فإذا قرأ أحاديث شريفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تُبَيِّنُ أنه يعلم ما سيكون؛ أشراط الساعة مثلاً، عن آخر الزمان، فكيف نوفِّق بين قوله تعالى: لا يعلم الغيب إلا الله، وبين أن النبي عليه الصلاة والسلام جاء بأخبارٍ عن آخر الزمان، وهذا غيب، وهذا غيب المستقبل؟ فالجواب بسيط جداً: النبي عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يعلم الغيب بذاته إلا أن يعلمه الله به.

﴿  عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)﴾

[  سورة الجن  ]

 فإذا أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام بشيءٍ عن آخر الزمان، وعن أشراط الساعة، فهذا ليس من عنده، وليس بإمكاناته الذاتية، بل بإعلام الله له، وهذه الآية تؤكد ذلك:


فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ


 ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ﴾ هنا الآية تشير إلى آية الهلاك، مثلاً: قوم صالح عندما طلبوا آية؛ أن تخرج ناقة من الجبل، فخرجت، فلما لم يؤمنوا استحقوا الهلاك، فهذه آيةٌ جمعت بين التبيين وبين الهلاك.


لابد من أن تؤمن في الوقت المناسب:


 على كلٍ، أيَّةُّ آيةٍ إذا آمن الإنسانُ بها بعد فوات الأوان فهذا الإيمان لا قيمة له، وكنت أقول لكم دائماً: إن خيارك مع الإيمان خيار وقت، لا خيار قَبول أو رفض، لأنه إن لم تؤمن في الوقت المناسب فلا بد من أن تؤمن في الوقت غير المناسب، إيمانك في الوقت المناسب ينجيك، أما إيمانك بعد الوقت المناسب فلا ينجيك، فرعون آمن، لكنه آمن بعد فوات الأوان:

﴿  وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(91)﴾

[  سورة يونس  ]

 إذاً: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ﴾ النبي عليه الصلاة والسلام عندما انتصر في معركة بدر، ورأى كفَّارَ قريش، وهم صرعى في ساحة المعركة، وقد أمر أن يُلقَوا في القليب أي البئر، خاطبهم بأسمائهم واحداً وَاحداً: 

فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَنَادَاهُمْ فَقَالَ:  

((  يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا، فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَسْمَعُوا؟ وَأَنَّى يُجِيبُوا، وَقَدْ جَيَّفُوا؟ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا.  ))

[  مسلم  ]

 كلكم يعلم أن الباطل له جولة، لكن بعد ذلك يُظهر الله عزَّ وجل الحق، فهنيئاً لمن كان مع الحق، لأن العاقبة له.  

﴿  اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ(80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ(81)﴾

[ سورة غافر  ]


القرآن يذكِّر بنِعَمِ الله على العباد:


 القرآن الكريم من حين لآخر يذَكِّر الإنسان بهذه النعم التي أسبغها الله علينا، فأنت حينما تأكل هذا الطعام، الجبن، السمن، اللبن، الحليب، الزبد، هذا تأكله ممن؟ من الأنعام، فمن خلق الأنعام؟ الله سبحانه وتعالى، فهل عرفت الله؟ إنه الذي خلق الأنعام، وبالطبع الألبان، ومنتجات الألبان، وصناعات الألبان تعد الغذاء الأول في حياتنا، الإنسان لو عزف عن شرب الحليب لسوَّست أسنانه، وهشَّت عظامه، ولنقصت حاجاته الأساسية، إذًا: هذا الغذاء الذي تأكله من الأنعام فهل عرفت من خلق الأنعام؟ إنه الله.


الأنعام بعضُها للركوب وبعضها للأكل والانتفاع:


 ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا﴾ إذًا بعضها للركوب ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ وبعضها للأكل، وبعضها تركبونها وتأكلون منها. 

﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ﴾ جلدها، وبَرُهَا، صوفها، لحمها، عظمها، كل شيءٍ في الأنعام يُستفاد منه من دون استثناء، حتى إن رَوْثها أو بَعرها، هذا يباع بأغلى الأثمان، هو أعلى أنواع السماد من دون استثناء، يقول لك: اشترينا بعشرين ألفًا لتسميد الأرض سمادًا طبيعيًا، كل شيءٍ فيها يستفاد منه حتى روثها وبعرها.  

﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ﴾ وشيء آخر، هي مصممة لتركبها، مصممة لتأكل لحمها، مصممة لتستخدم جلدها، مصممة لتشرب من لبنها، وفوق كل ذلك مهيَّأة مُذلَّلة، وقد يغيب عنا أحياناً أنها مذلّلة، كيف ننتفع بها إذا كانت تصرفاتها تصرفات الضباع مثلاً، كيف ننتفع بها إذا كانت كالسباع وحشية وشراسة، كيف ننتفع بها إن لم تكن أهليَّة كما يقولون، لو أنها كانت متوحشة لما انتفعنا بها.

 ذكرت لكم غير مرة أن ربنا عزَّ وجل جعل بعض الأمراض قد تصيب البقر، وهذا المرض اسمه التوحُّش، فصاحبها إذا توحشت بقرته، وقد دفع ثمانين ألفَ ليرة ثمنًا لها، يطلق عليها الرصاص، لأنها بدأت تقتل البشر، إذاً حينما تكون البقرة مذللة، والناقة مذللة، والحصان مذللاً، والدابة مذللة، والغنمة مذللة، هذه نعمةٌ تضاف إلى النعم الأخرى، مثل بنيتها وعظمها ولحمها وحليبها وجلدها ووبرها وصوفها، وتُركَب وتُؤكَل وتُحلَب، وفوق كل ذلك هي مذللة.  

﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ*وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾


وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ


 قد يقرأ الإنسان قوله تعالى في سورة النحل:

﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(8)﴾

[  سورة النحل ]

 لو أنه ركب طائرةً من أحدث الطائرات، ورأى أنها تُقِلّ أربعمائة راكب، وتعلو أربعين ألف قدم، وتمخُر عُباب الجو، وهؤلاء الرُكاب جالسون على مقاعد مريحة وحاجاتهم بين أيديهم، وحاجاتهم الأخرى في مستودعات الطائرة، وقرأ قوله تعالى: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ لكن الله عزَّ وجل قال: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ هذه الآية غطت كل وسائل النقل الحديثة، لأن الله سبحانه وتعالى خالق الكون، وهو يعلم أن الإنسان سوف يخترع، أو سوف يصنع أدوات للمواصلات غير هذه الأدوات، فلو أن هذا القرآن كلام سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وأغفل آخر ما في الآية، لرأينا أن هناك بَوناً شاسعاً بين الخيل والبغال والحمير وبين الطائرة، والسيارة، والقطار، والسفينة قال تعالى: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ هذا كلام خالق الكون، ومهما امتد بنا الزمن، مهما تطور الإنسان فالقرآن الكريم يغطِّي كل الحوادث. 

﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾


وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ


 لكن الإنسان الآن يقول: ركوب السيارة أريح، وهي في السفر مريحة، مقاعدها وثيرة، تنطلق بسرعة عالية، فيها كل وسائل الراحة والتكييف والتدفئة...إلخ.

 أحد إخواننا الكرام كان ببلد أجنبي حدثني أنه قرأ مقالةً مفادها أن ركوب الخيل يقي من أمراض القلب، بينما اعتياد ركوب السيارة دون أن يناوب الإنسان بينها وبين الحركة والمشي، هذا من شأنه أن يصيبه بأمراض القلب، فالله عزَّ وجل صمم وسائل الركوب هذه تصميمًا يتوافق مع صحة الإنسان.


وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ


﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ﴾ أي في الكون شيء لا يدلّ على وجود الله، وعلى علم الله، وعلى قدرة الله، وعلى كمال الله، وعلى وحدانية الله؟ ﴿فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ﴾ .

﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(82)﴾

[ سورة غافر  ]


أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ


1 ـ الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق:

 قد ينوِّع ربنا عزَّ وجل الطرق إليه، وقد قالوا: الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، فخلقُ السماوات والأرض طريقٌ إلى الله، لكنه طريقٌ سريع، وطريق عريض، وطريقٌ قصير، خلقُ السماوات والأرض هذا طريق، هناك طريق آخر، وهو أن تنظر في أفعال الله.

2 ـ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ

 ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ وكلمة في الأرض هذه من إعجاز القرآن العلمي، فهل أنت أيها الإنسان تسير على الأرض أم في الأرض؟ فهل أنت تمشي في السراديب؟ في الأقبية؟ أم تمشي على سطح أرض، العلماء قالوا: إن الهواء قد عَدَّهُ القرآن جزءاً لا يتجزَّأ من الأرض، والدليل أنّ الهواء غلاف للأرض يتحرك معها، لو ثَبَتَ الهواء، وتحرَّكت الأرض ما بقي على وجه الأرض شيء، لأن سرعة الرياح المدمِّرة مائتا كيلو متراً في الساعة، هذه الرياح هي الأعاصير التي لا تُبقِي ولا تذر، هناك أعاصير إذا أتت على مدينة لا تبقي فيها شيئاً سالمًا، ولا بناء، ولا أشجارًا، ولا جدران، سرعتها أربعمائة أو خمسمائة كيلوا متراً في الساعة، لو أن الغلاف الهوائي ثبت، والأرض تدور لكان على وجه الأرض تيَّارات من الرياح سرعتها تزيد عن ألف وستمائة كيلو متراً في الساعة، عندئذ تدمَّر كل شيء، فالهواء غلافٌ للأرض يدور معها، إذا سرت أنت على وجه الأرض فهذه الآية فيها إشارة إلى أنك تسير في الأرض، لأن الهواء جزءٌ لا يتجزَّأ من الأرض.

3 ـ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ

 ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ ماذا حل بفرعون؟ وماذا حلَّ بسيدنا موسى؟ ماذا حل بأبي جهل؟ وماذا حلّ بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام؟ هؤلاء الطغاة، العُتاة، الذين أرادوا إطفاء نور الله عزَّ وجل ماذا حل بهم؟ وهؤلاء الدعاة الصادقون، الأنبياء، المؤمنون، المتقون ماذا حل بهم؟ لمن كانت العاقبة؟ أليست هذه قواعد؟ فالإنسان يدرس، ويتأمَّل، ويستنبط، ويستنتج ثم يحكم.

 لا تذهبوا بعيداً، فالشاب المؤمن المستقيم مثلاً، لو تتبعت حياته، لوجدت أن حياته حافلة بالتوفيق، وحافلة بالسكينة، وحافلة بالاستقرار، وحافلة بالسعادة، يُوفَّق في زواجه، يُوفَّق في عمله، ماله حلال، بيته متوازن، عنده سكينة نفس، كل هذه الميزات هي ثمرة من ثمرات الإيمان..

﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً﴾

4 ـ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً

 إذا زار شخصٌ آثار الفراعنة يأخذه العجب العُجاب، فحجارة الأهرام التي بُنِيت منها كلُّ حجر يزن أكثر من عشرين طنًا، هذا الحجر جيء به من جنوب مصر، وحُمِّلَ على سفن عبر نهر النيل، ونُقِل من ضفة النيل إلى أقصى القاهرة، فهذا الحجر كيف حُمِل؟ القاهرة وما حولها صحراء لا أحجار فيها، وهذه الأهرامات جُلِبت أحجارها من مكانٍ بعيد، من جنوب مصر، هذه كيف جُلِبت، وكيف بُنِيت؟ هناك صور أو بقايا من الأهرامات، الأهرامات كانت مغطاة بطبقة مزخرفة من الفسيفساء ذات الروعة والإبداع، فكيف بُنِيت الأهرام؟ هناك بعض الأهرامات تدخلها الشمس في العام يوماً واحداً، هو يوم ميلاد فرعون، فهل لدى المهندسين هذه الأيام إمكانية بأن يضعوا نافذة بحجم وبأبعاد، وبميول بحيث إن أشعة الشمس تدخلها في العام كله في يومٍ واحد؟

﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ تحت الأرض مدن بأكملها، حضاراتٌ بأكملها، كل شيءٍ يخطر في بالك تحت الأرض في مقابر فرعون؛ حاجاتهم، طعامهم إلى الآن مُقدَّد، قطع اللحم التي كانت قبل ستة آلاف عام إلى الآن موجودة في متاحف الفراعنة، خبزهم إلى الآن، أدواتهم الخاصة إلى الآن، عرباتهم في القبر، فهم يعتقدون أن هناك حياة بعد الموت حياة مادية، لذلك هؤلاء الفراعنة يهيئون في القبر كل شيء لفرعون، فهؤلاء هم الفراعنة.

 وكذلك الأنباط الذين حفروا الجبال، وأقاموا القصور في الجبال، والقاعة فيها تقترب من حجم هذا المسجد، مكعبٌ دقيقٌ دقيق منحوتٌ من الصخر، وزخارف وتيجان وأعمدة، كلها من الصخر، ليس هناك بناء، بل نقب في الصخر، الأنباط فعلوا شيئاً عظيماً، وهناك دراسات تؤكِّد أن الأقوام السابقة لهم إنجازاتٌ مذهلة، لكن عفا عليها الزمان. 

﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾

5 ـ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ

 فهذه الإنجازات الضخمة لأنها للدنيا، لم تنفعهم شيئاً حينما جاءهم الموت، والإنسان حينما يأتيه ملك الموت، إما أن ينجح وإما أن يسقط، إنجازاته الضخمة كما قال الله عزَّ وجل عنها:

﴿  وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا(23)﴾

[  سورة الفرقان  ]

 فالعمل إما أن يُقْبَل، وما أن يُرفَض، إما أن ترقى به، وإما أن تهوي به، إما أن يُسعِدك إلى أبد الآبدين، وإما أن يكون سبب شقائك إلى أبد الآبدين. 

﴿ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(83)﴾

[ سورة غافر  ]


فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ


 هذه الآية وقف عندها المفسرون وقالوا: فيها ثلاثة أوجه. 

﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون﴾  

المعنى الأول:

 المعنى الأول أن الرسل حينما جاءت بالمعجزات الدالة على رسالتهم، هم اعتدُّوا بعلمهم، يقولون لك: هذا علم مادي، وهناك علم ديني، فالعلمانيون يعتدون بعلمهم المادي، يقول لك أحدهم: أنا رجل علم، خير إن شاء الله، كأن رجل الدين إنسان غير عالم، فهذا الذي يعرف الله عزَّ وجل، ويعرف قوانينه، ويعرف كتابه، هذا من أعلى رجال العلم، فهؤلاء الكفار حينما جاءتهم رسلهم بالبَيِّنات، بالأدلة الواضحة، بالكتب المنزَّلة، بالمعجزات فرحوا بما عندهم من العلم، أي أنهم اكتفوا بعلمهم المادي كما قال الله عزَّ وجل:

﴿  يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ(7)﴾

[  سورة الروم  ]

 فالإنسان أحياناً إذا جاءه علمٌ ديني، وكان على علمٍ مادي، يعتدّ بعلمه، ويفتخر به، ويستغني عن علم الآخرين، هذا العلم المادي يعينك على كسب رزقك ليس غير، فإذا جاء الموت تبيّن لك أنك كنت مفتقرًا لمعرفة الله، وهذه ملاحظة نجدها واضحةً عند من تفوقوا في العلم المادي، يستغنون بعلمهم عن معرفة الله، يستغنون بشهاداتهم العالية، وألقابهم العلمية، وإنجازاتهم في التأليف وفي حقول العلم المادي عن معرفة الله، وعن معرفة كتابه، وعن معرفة ما ينتظرهم من عقابٍ أو من إكرامٍ لو أنهم أطاعوا الله عزَّ وجل: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون﴾ لكن علمهم المادي الذي لا يتصل بسبب مع أُخْرَاهم، هذا العلم أرداهم، وكان سبب شقائهم، هو المعنى الأول للآية. 

المعنى الثاني:

 أما المعنى الثاني، فهو أنه لما جاءتهم رسلهم بالبينات، مَن الذين فرحوا؟ هم الرُسُل، فرحوا بما عندهم من العلم، والله عزَّ وجل طمأنهم، وقال:

﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾

[ سورة الأنبياء  ]

المعنى الثالث:

 وكذلك للآية معنى ثالث: المؤمن حينما يعلم أن الله قد بشَّره بالجنة، وبشّره بالحفظ، وبشَّره بالنجاة من كل مصيبة، فإذا جاء البلاء العام هو يعلم أن الله قد بشَّره بالنجاة، يفرح بهذه البشارة من الله عزَّ وجل. 


فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ


1 ـ الإنسان الشارد عند الشدائد والمصائب يرجع إلى الله:

﴿ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ(84)﴾

[ سورة غافر ]

الإنسان يعتمد على زيد أو عُبيد، وعلى فلان أو علان، فإذا جاء بأس الله عزَّ وجل يقول: يا رب، ليس لي غيرك، فأين كانت الجماعات التي كنت تعتقد بهم، وتعتقد أنهم يخلّصونك من كل ورطةٍ؟ فهذا من شأن الإنسان، متى يوحِّد؟ عند المصيبة، لكن البطولة أن توحِّد وأنت في الرخاء، لكنه كان في الرخاء يقول: فلان وعلان، وزيد وعُبيد، وفلان نفعني، وفلان ضرَّني، ولولا الطبيب الفلاني لما كان ابني نجا من هذا المرض الخطير، ولولا هذا المحامي اللامع لخسرت القضية، ولولا هذا الغذاء لفقدت صحتي، وهو في الرخاء يعزو كل شيء لسوى الله، فإذا جاء بأس الله عزَّ وجل قالوا: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ﴾ لكن هذا التوحيد بعد فوات الأوان لا قيمة له عند الله عزَّ وجل.

 أيها الإخوة، مرةً ثانية وثالثة ورابعة: الإيمان له وقتٌ مناسب، أما إذا كان في الوقت غير المناسب فلا ينفع، والدليل: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾


فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا


 ما دمت في بحبوحة من صحتك، ما دمت في بحبوحةٍ من عمرك، ما دمت في بحبوحةٍ من شبابك، فهذا وقت الإيمان، أما على فراش الموت، حين انقضاء الأجل، أو عند نزول المصيبة، فهذا الإيمان الذي يأتي في الوقت غير المناسب، بعد فوات الأوان لا ينفع أبداً، بالعكس يكون حسرة. 

 مرة ثانية وثالثة ورابعة: لا بد من أن تؤمن، لكن بعد فوات الأوان، الآن أنت مطالب أن تؤمن قبل فوات الأوان، أن تؤمن وأنت صحيح شحيح، أن تؤمن وأنت شاب، أن تؤمن وأنت في مقتبل الحياة، أن تؤمن وكلك أملٌ بالحياة هذا الإيمان الذي ينفع، فالإيمان إذا كان في مقتبل الحياة تحركت من خلاله، واخترت بيتك وأهلك وعملك، وعلاقاتك وأصحابك وأصدقاءك، فالإيمان ماذا ينفع؟ ينفع في اتخاذ القرار، لكن إذا الإنسان آمن بعد فوات الأوان، كان الإيمان حسرة، وهؤلاء الأقوام آمنوا، لكن متى آمنوا؟ لما رأوا بأسنا.


اللحظة الصعبة:   


أُلِّف كتاب اسمه "الحياة بعد الحياة" ، كتاب نادر، طبيب وجد مريضًا غاب عن الوعي في دقائق معدودة، فلما سأله: ماذا حصل لك؟ أخبره بأشياء غريبة جداً، فأعماله كلها عُرِضت عليه منذ أن ولد وحتى تلك اللحظة بلمح البصر، شعر أنه ارتفع عن جسمه، وأصبح يراقب جسمه من علٍ، فهذا الطبيب خطر في باله أن يتقصّى الحالات المماثلة في بقية المدن والمستشفيات، فجمع حوالي سبعين أو ثمانين حالة، وسأل هؤلاء الذين ماتوا لوقتٍ قصير، ثم رُدَّت لهم الحياة، وهي حالات نادرة، فجاء بتقارير من هؤلاء السبعين، ودرسها دراسة مستفيضة، فكان العجب العجاب أن كل هذه التقارير رأى فيها خمسة عشر قاسماً مشتركاً.

 هؤلاء الذين فارقوا الحياة لفترةٍ محدودة لا تزيد عن دقيقتين أو ثلاث، مشاعرهم، أحوالهم، تصوراتهم، حركات أجسامهم، ارتفاعهم عن أجسادهم، استعراض أعمالهم السابقة كلِّها، هذا كله اشتركوا في الحديث عنه، مع أنهم لم يلتقي بعضهم مع بعض، فهم من أماكن متباعدة، من مدن متعددة، من دول متباعدة، فاستنبط هذا الكاتب أن كل إنسانٍ حينما يأتيه مَلَكُ الموت يشعر بأن عمله أصبح مِحَكّاً لمحاسبته. وكل إنسان إذا شارف على خطر معين يستعرض حياته كلها، دقيقةً دقيقة تمر أمامه كشريطٍ بلمح البصر، فهؤلاء ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ﴾ وقد حَدَّثني شاب، والده اعتنق المذهب الإلحادي وكان مهندسًا، قال: كان طوال حياته يدعو لهذا المذهب، جاءته أزمةٌ قلبيةٌ وهو على النقالة ويدخل غرفة العناية المشددة، قال له: يا بني كل شيءٍ سمعته مني هو باطلٌ، والدين هو الحق، قالها مرةً واحدة وهو داخلٌ للعناية المشددة، وفارق الحياة بعدها. 

﴿فَلَمَّا َأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ إنسان أمضى حياته في إدارة دُور للقمار، وجمَّع ثروات طائلة، حينما كان على فراش الموت شعر بالخطورة، وزاره شخص من أهل العلم بناءً على طلبه، وقال له: ماذا أفعل؟ قال له: والله لو أنفقت كل هذه الأموال وهي تزيد على ثمانمائة مليون لا تنجو من عذاب الله، فليحذر الإنسان أن يصل مع الله إلى طريق مسدود.  

﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ كان شخص من أرقى أنواع التجَّار، أوتي قدرةً في البيع  يحسده عليها كل الناس، وغنى، وسيارات، وبيوت، ومصايف، عمره ثمانية وثلاثون عاماً، جاءه مرضٌ خبيث، فكلما تذكّر هذا المرض كان يهذي ويقول: لا أحب أن أموت، فلما جاء ملك الموت ذكر لي أحدهم وقال: واللهِ صرخ صرخةً ما بقي إنسان في البناء كله وهو مؤلف من أربعة طوابق إلا وسمعها.  

﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ ساعة الموت قادمة ولا بد منها، وعندها يدرك الإنسان أنه خسر كل شيء، إنّ الإنسان إذا خسر صفقة تجارية يقول لك: الخسارة مؤلمة جداً، ويظل يتندم سنوات ويتحسر، احترق قلبي على هذه الصفقة، اشتغلت فيها سنتين ما ربحت منها شيئًا، فكيف إذا الإنسان خسر حياته الأبدية؟ قال:  

﴿  فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ(84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ(85)﴾

[ سورة غافر ]


ولات ساعة مندم:


 فإذا ارتكب أحد جريمة قتل، وحوكم، وحُكم عليه بالإعدام، وصُدِّق الحكم، وسيق لتنفيذ الحكم، فإذا أخذ يبكي أمام من حوله، فهل بكاؤه ينفعه؟ لو أراد أن يرجوهم ألّا يعدموه، أينفعه رجاؤه إياهم؟ لا إن بكى، ولا إن ضحك، ولا إن عبث، ولا إن توسَّل، ولا إن التمس، ولا إن رفض، ولا إن مدح، ولا إن ذَم، فكل ذلك لا ينفعه فلا بد من تنفيذ الحكم، هذا هو الطريق المسدود.

 فنحن كلنا الآن في بحبوحة، بإمكانك أن تتوب، بإمكانك أن تلغي هذه العلاقة المشبوهة، بإمكانك أن تلغي هذه الصفقة التي لا ترضي الله عزَّ وجل، بإمكانك أن تلغي هذا العمل الذي لا يرضي الله عزَّ وجل، بإمكانك أن تقيم الإسلام في بيتك في عملك، بإمكانك أن تعود إلى الحق.

﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾


سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ


 فلذلك كما قال سيدنا عمر بن عبد العزيز: "الليل والنهار يعملان فيك" ، كل واحد عنده صورة لنفسه قبل عشرين سنة، قبل ثلاثين سنة، يكون مثل الوردة، الآن أخاديد، وحفر بوجهه، وغضون، ضع هذه الصورة القديمة مع الصورة الحديثة، فماذا تستنبط؟ هذا فعل الزمن، الليل والنهار يعملان فيك قال: "فاعمل فيهما"، تدارك نفسك، ما دام الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، كيف؟

 فالبطولة أن نعرف الله عزَّ وجل، وأن نعرفه في الوقت المناسب، وأن نعرفه في العمر المناسب، وأن نستفيد من هذه المعرفة استقامةً على أمره، وعملاً صالحاً تقرُّباً إليه، ثم دعوةً إليه.

﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ*فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ .


خاتمة:


 هذا جَبَلة بن الأيهم ملك غسَّاني، جاء سيدنا عمر مسلماً، أسلم وهو يطوف حول الكعبة داس بدوي على إزاره، فضربه على أنفه ضربةً هَشَّمت أنفه، فرفع الأعرابي الأمر إلى سيدنا عمر الخليفة، فقال لجبلة:

أرضِ الفتى ولا بد من إرضائه. 

ما زال ظفرك عالقاً بدمائه. 

أو لَيهشِّمَن الآن أنفك.

 قال: 

كيف ذاك يا أمير المؤمنين! 

هو سوقةٌ، وأنا عرشٌ وتاج. 

كيف ترضى أن يخرّ النجم أرضًا.

قال له: 

نزوات الجاهلية ورياح العنصرية قد دفناها. 

أقمنا فوقها صرحاً جديداً، وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيداً.

 قال:

 كان وهماً ما جرى في خلَدي أنني عندك أقوى وأعز. 

أنا مرتدٌ إذا أكرهتني.

 قال: 

عنق المرتد بالسيف تُحَز. 

عالمٌ نبنيه كل صدع فيه بشَبا السيف يُداوى، إلخ...

 فلما أيقن أنه لا بد من أن يُقتَصَّ منه ولّى هارباً شطر الشمال، والتحق بقومه الغساسنة، وشرب الخمر، وعاش حياةً لاهيةً عابثة، لكنّي عثرتُ قبل فترة على أبياتٍ قالها وهو يفارق الحياة، لو سمعتم هذه الأبيات لشعرتم أن قلبه يُعْتَصَر من شدة الندم، هل تحبون أن تعرفوا مَن هو العاقل؟ هو الذي يفعل فعلاً لا يندم عليه، عند الموت هناك ندمٌ شديد.

 ماذا قال أحد الصحابة ؟ قال: "والله لو علمت أن غداً أجلي ما قدرت أن أزيد في عملي" ، أي أنه منطلقٌ بأعلى سرعة، لو علمت أن غداً أجلي ما قدرت أن أزيد في عملي.

 وقال سيدنا علي: "والله لو كُشِف الغطاء ما ازددت يقيناً" .

 أيْ أنَّ أصحاب النبي بلغوا من يقينهم أنه لو كُشف الغطاء فيقينهم قبل كشف الغطاء كيقينهم بعد كشف الغطاء، وأنه لو علم أحدهم أن غداً أجله ما قدر أن يزيد في عمله، فالإنسان هذه الساعة التي لا بد منها ساعة الفراق، يجب أن تكون أمامه دائماً، ومستعداً للقاء الله عزَّ وجل، وللإجابة عن كل أعماله التي فعلها في الدنيا.

 فلذلك الإيمان على فراش الموت لا ينفع، فلما كان على قيد الحياة حرم البنات حقَّهُنّ، وأعطى البنين، غيَّر في الميراث، وكتب سندات دَيْن خلَّبية كلها، حتى يجعل الثروة بأيدٍ قليلة، هذا كله متى يندم عليه؟ وهو على فراش الموت.

 في بعض البلاد الإسلامية عالِمٌ أفتى ببعض الفتاوى التي لا ترضي الله عزَّ وجل، قال لي أحد علماء دمشق: حضرت نزعه الأخير، وهو على فراش الموت رفع يديه الاثنتين، وقال: "إنني أشهدكم أنني برئٌ من كل الفتاوى التي أفتيت بها من قبل" ، طبعاً أدرك الخطورة.

 فنحن نريد هذه الساعة، ساعة لقاء الله عزَّ وجل، لذلك كل واحد منا؛ قبل أن تقول أيَّة كلمةٍ، قبل أن تأخذ أيَّ مبلغٍ، قبل أن تقطع، قبل أن تمنع، قبل أن تعطي، قبل أن لا تعطي، قبل أن تغضب قبل أن ترضى، قبل أن تصل، قبل أن تقطع، قبل أن تقف أي موقف، هل عندك جوابٌ لله عزَّ وجل؟ أعندك جواب لله؟ إذا كان معك جواب، فكما قال عليه الصلاة والسلام:

((  إذَا لَمْ تَسْتَحِ فاصْنَعْ مَا شِئْتَ. ))

[  البخاري  ]

 من معاني هذا الحديث: إذا عرضت هذا الأمر على نفسك، وأنت بين يدي الله، ووجدت أنك محقٌّ في هذا العمل، وهذا العمل لا تستحي به، إذاً افعله، ولا تخشَ كلام الناس، إذا لم تستحِ من الله بهذا العمل افعله، ولا تخشَ أحداً، وعلامة المؤمن أنه لا يخشى إلا الله عزَّ وجل.

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور