وضع داكن
19-04-2024
Logo
برنامج ربيع القلوب 2 - الحلقة : 23 - الولاية لله تعالى
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

 بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
المذيع :
 بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أرحب بكم مستمعينا الكرام عبر إذاعة القرآن الكريم من الدوحة ، في هذا اللقاء الإذاعي الجديد من برنامج " ربيع القلوب " الموسم الثاني .
بداية أعزائي المستمعين لكم التحية من فريق العمل ، من الإعداد محمود الدمنهوري ، الهندسة الإذاعية معتصم السلامة ، ومني في التقديم مصابر الشهال .
 نتوقف مستمعينا الكرام في هذه الحلقة عند آيات من كتاب الله من سورة الأنعام عند قوله تعالى :

﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(15)﴾

[ سورة الأنعام]

 الولاية لا تكون إلا لله فهو تعالى الخالق الرازق ، وهو الضار النافع ، وإن منطق الحق وميزان العقل يقضي بأن يستحق العبودية ، هو الخالق الرازق ، ومن أراد السلامة في الدنيا والآخرة فعليه بالتوجه إلى خالقه ، وإنزال حوائجه بربه ، ولزوم بابه ، والمداومة على عبادته ، والإقامة على خدمته ، وانتظار فرجه ، واستمطار رحمته ، وإفراد الله بالولاية يدل عليه قوله تعالى :

﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾

 ويربي القرآن المسلم على تحديد هذا الأمر بينه وبين نفسه ، وأمام الآخرين بوضوح وجلاء .

﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ(196)﴾

[ سورة الأعراف]

 ولاية المسلم للرسل وللمؤمنين نابعة من هذه الولاية ، وهذه الولاية متبادلة بين العبد وربه، ولاء العبد لله ، وتولي الله لعبده .
 وفي حلقة هذا اليوم نتوقف عند هذه الآيات ، ونتدبرها مع ضيفنا الفاضل الداعية الإسلامي فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ، أهلاً وسهلاً بكم فضيلة الدكتور .
الدكتور محمد راتب :
 بارك الله بكم ، ونفع بكم ، وأعلى قدركم .
المذيع :
 فضيلة الدكتور ؛ لو بدأنا بالمعنى الإجمالي لهذه الآيات ، ومعنى الولاية ؟

الملكية الإلهية ملك خلقٍ وتصرف ومصير :

الدكتور محمد راتب :
 بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أخي الكريم ؛ بارك الله بكم ، ونفع بكم ، وأعلى قدركم .
 الآية تبين أن الله سبحانه وتعالى حينما ذكر أن كل ما في السماوات والأرض - والسماوات والأرض مصطلح قرآني - يعني ما سوى الله ، فالكون هو السماوات والأرض ملك له ، الملكية الإلهية ملك خلقٍ ، وتصرف ، ومصير ، قد تملك شيئاً ولا تملك التصرف به ، تملك بيتاً أجرته ، قد تتصرف ولا تملك المصير ، أما ملكية الله خلقاً ، وتصرفاً ، ومصيراً ، أي أعلى ملكية بالكون ، خلقاً ، وتصرفاً ، ومصيراً .

﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(26)﴾

[ سورة آل عمران]

 أي شيء يملك يملكه الله ، أي شيء على الإطلاق ، مادي ، معنوي ، قوة ، مال ، مكانة ، جاه ، سيطرة ، منصب ، أي شيء يُملك يملكه الله

﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾

 أي هو بحسب السياق بيدك الخير والشر ، لأن الله عز وجل ما ذكر الشر ، معنى إيتاء الملك خير ، ونزعه خير ، الإعزاز خير ، والإذلال خير .

توظيف الشر للخير لأن الشر يتناقض مع وجود الله :

 هناك ملمح دقيق جداً ؛ عندنا أسماء لله الحسنى ، توجيه العلماء الكبار أن تذكر مثنى مثنى ، المعطي المانع ، أي يمنع ليعطي ، الخافض الرافع ، يخفض ليرفع ، المعز المذل ، يذل ليعز ، أسماء الله الحسنى بعضها ينبغي أن يذكر مثنى مثنى ، لأن الشر يتناقض مع وجود الله ، عندنا خير صارخ ، وشر صارخ ، إلا أن الشر موظف للخير .

﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(21)﴾

[ سورة السجدة]

 الشر المطلق ، أي الشر للشر يتناقض مع وجود الله ، مع وجود الله لا يوجد شر مطلق، لكن يوجد شر موظف للخير ، هذه نقطة مهمة جداً .
 فلذلك ما دام الله بيده كل شيء يستحيل بل ألف مستحيل أن تتجه إلى غيره ، الحياة بيده ، الممات بيده ، الصحة بيده ، المرض بيده ، القوة بيده ، الضعف بيده ، الخوف بيده ، الأمن بيده ، بيده كل شيء ، لذلك ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد .
 مثل بسيط : طريق عريض ، ينتهي بحفرة ما لها من قرار ، فالسيارة الغالية سقطت ، والرخيصة سقطت ، والدراجة سقطت ، والمحرك سقط ، كل المركبات سقطت ، بعد أن سقطت الحفرة العميقة التي ما لها من قرار فيها وحوش كاسرة ، الأسباب انتهت ، بقيت النتيجة ، أي هذا دخل جهنم بأكله الربا ، هذا لجريمة قتل ، كل هذه الذنوب والمعاصي والآثام التي تستحق الخلود في النار ، الأسباب التغت ، أو توحدت ، والمصير واضح .
 يقابلها ؛ إنسان دخل الجنة لأنه أب صالح ، وهذه المرأة أم صالحة ، هذا موظف صالح ، هذا طبيب صالح ، ما غش مرضاه ، هذا محام صالح ، هذا مهندس صالح ، فبعد أن دخلوا الجنة ألغيت الأسباب ، أسباب الجزاء انتهت ، بقي الجزاء ، وأسباب الخيرات انتهت ، بقيت الخيرات .
 لذلك البطولة : إني والإنس والجن في نبأ عظيم ، أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر سواي ، خيري إلى العباد نازل ، وشرهم إلي صاعد ، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم ، ويتبغضون إليّ بالمعاصي وهم أفقر شيء إلي ، من أقبل علي منهم تلقيته من بعيد ، ومن أعرض عني منهم ناديته من قريب ، أهل ذكري أهل مودتي ، أهل شكري أهل زيادتي ، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب ، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد ، والسيئة بمثلها وأعفو ، وأنا أرأف بعبدي من الأم بولدها .
 هناك أثر آخر دقيق جداً : قال: يا رب أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك ؟ وقع في روعه أن أحب عبادي إليّ تقي القلب ، نقي اليدين ، لا يمشي إلى أحد بسوء ، أحبني ، وأحب من أحبني ، وحببني إلى خلقي ، قال : يا رب ، تعلم أنني أحبك ، وأحب من يحبك ، فكيف أحببك إلى خلقك ؟ قال : ذكرهم بآلائي ، ونعمائي ، وبلائي ، أي ذكرهم بآلائي كي يعظموني ، وبنعمائي كي يحبوني ، وببلائي كي يخافوني .
 لذلك النقطة الدقيقة جداً : الإنسان إذا عرف عرفَ كل شيء ، وإذا استقام على أمره ملك كل شيء ، ابن آدم اطلبنِي تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء .
 لذلك : ربي ماذا فقد من وجدك ؟ و ماذا وجد من فقدك ؟ إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟

فـلو شاهدت عيناك من حسننـــــــا  الذي رأوه لما وليت عنــــــــــا لغـيرنـــا
ولو سمعت أذناك حسن خطابنـــا  خلعت عنك ثياب العجب وجئتنـــــــــــا
ولو ذقت مـن طعم المحبــــــة ذرة  عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنـــــــــــا
ولو نسمت من قربنا لك نسمــــة  لمــــت غريباً واشتيـــــــــاقاً لقربنـــــــــــا
ولـــــو لاح من أنوارنا لك لائــــــح  تركت جميع الكائنات لأجلنـــــــــــــــــــــا
فما حبنا سهل وكل من ادعــــــى  سهولته قلنا له قــــــــــــد جهلتنـــــــــــــا
فأيسر ما في الحب للصب قتـلـه  وأصعب من قتل الفتى يوم هجرنـــا
***

المذيع :
 نعم ، فضيلة الدكتور ؛ الاستفهام هنا لو عدنا للآيات :

﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾

؟

الحبّ أصل الدين :

الدكتور محمد راتب :
 استفهام إنكاري ، مثلاً : شيء ثمين بالبيت كُسر ، من كسره ؟ الأولاد سكتوا ، فقال الأب : أنا كسرته ؟ هذه أنا استفهام إنكاري

﴿ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً ﴾

 هل يعقل أن أتخذ ولياً غير الله ؟ أن أطيع غير الله ؟ أن آمن بغير الله ؟ أن أخضع لغير الله ؟ أن أحب غير الله ؟ لذلك الحب أصل في هذا الدين .
 بالمناسبة أخي الكريم ؛ الله خلقنا ، بيده حياتنا ، بيده موتنا ، بيده غنانا وفقرنا ، بيده صحتنا ومرضنا ، ومع كل ذلك بيده كل شيء ، ما أراد أن نعبده إكراهاً ، قال :

﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(256)﴾

[ سورة البقرة]

 بل أراد أن تكون العلاقة بينك وبين الله علاقة حب ، قال :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(54)﴾

[ سورة المائدة]

أنواع الحبّ :

 لذلك يوجد نقطة دقيقة جداً : هناك حب في الله ، وهناك حب مع الله ، الحب في الله عين التوحيد ، والحب مع الله عين الشرك ، كيف ؟ تحب الله عز وجل خالق السماوات والأرض ، تحب أنبياءه جميعاً ، تحب كل رسله ، تحب الصحابة الكرام جميعاً من دون استثناء ، تحب العلماء الربانيين ، تحب العمل الصالح ، تحب المساجد ، تحب أسرتك ، لا تحب غير امرأتك ، تحب العمل الطيب ، الحب في الله يتفرع إلى مئة فرع ، الحب في الله عين التوحيد ، والحب مع الله عين الشرك ، بمعنى أنك بمجرد أن تعزو الخير لغير الله فقد أشركت شركاً خفياً ، لمجرد أن تحب جهة تمنعك أن تصلي ، أو جهة تحضك على معصية ، أن ترغبك في معصية ، أو تزين لك معصية ، فلابد من الحب في الله ، فلهذا الإنسان :
 ابن آدم اطلبنِي تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء .
 أجمل كلمة : من أعجب العجب أن تعرفه ثم لا تحبه ، ومن أعجب العجب أن تحبه ثم لا تطيعه ، هذا من أعجب العجب ، ذات كاملة ، أصل الكمال ، والنوال ، والجمال .
المذيع :
 فضيلة الدكتور ؛ السؤال هنا الذي يتبادر إلى الذهن : ما الذي يدفع الإنسان وهو الكائن العاقل لتولي غير الله سبحانه وتعالى وهو يعلم أن الأمر بيده وإليه ؟

الغفلة أخطر شيء بالإنسان :

الدكتور محمد راتب :
 لأن أخطر شيء بالإنسان الغفلة ، أن يغفل عن مصيره .
 عبدي رجعوا وتركوك ، وفي التراب دفنوك ، ولو بقوا معك ما نفعوك ، ولم يبقَ لك إلا أنا ، وأنا الحي الذي لا يموت .
 الإنسان أخي الكريم ؛ له بيت ، له زوجة ، أولاد ، كنائن ، صبايا بنات ، أزواجهن ، مكانته الاجتماعية ، مرتبته الإدارية ، ثروته الكبيرة ، مراكبه الفارهة ، رحلاته في الصيف ، نزهاته ، بيت على البحر ، وبيت بالمدينة ، وبيت بمكان آخر بمصيف ، يأتي الموت ينهي كل شيء ، جثة هامدة ، حتى الذي اشتراه ليس له .
 مرة دعيت إلى عقد قران ، في أفخر حي بمدينة أسكنها ، دخلت للبيت ، الثريات شيء لا يصدق ، مستوياتها ، السجاد كله إيراني ، البلاط إيطالي ، الأثاث مذهل ، أنا بالتعزية أقول: من اشترى هذه الثريات ؟ المرحوم ، من اختار هذا السجاد الراقي جداً ؟ المرحوم ، تأملت في البيت قطعة قطعة ، أين المرحوم ؟ تحت التراب .
 عبدي رجعوا وتركوك ، وفي التراب دفنوك ، ولو بقوا معك ما نفعوك ، ولم يبقَ لك إلا أنا ، وأنا الحي الذي لا يموت .

العاقل من يعدّ للموت عدته :

 أنا أعتقد أن أذكى إنسان ، أعقل إنسان ، أكبر إنسان فهماً ، أن يعد لهذه الساعة التي لا بد منها .
 كان هناك عالم كبير في الشام ، حفر في بيته قبراً ، وكان يضطجع فيه كل خميس حوالي ساعة من الزمن ، ويتلو قوله تعالى :

﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(100)﴾

[ سورة المؤمنون]

 يخاطب نفسه ويقول : قومي لقد أرجعناك ، فهذا تذكر الموت عبادة من العبادات ، لأنه طبعاً : وسيشيع إلى المثوى الأخير ، هو القبر ، أما المؤقت فهو بيتك ، هذا مثوى مؤقت .
 عبدي رجعوا وتركوك ، وفي التراب دفنوك ، ولو بقوا معك ما نفعوك ، ولم يبقَ لك إلا أنا ، وأنا الحي الذي لا يموت .
المذيع :
 سبحانه وتعالى ؛ شيخنا فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ، في قوله تعالى :

﴿ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ﴾

 ما معناها هنا ؟ وما إشارتها الضمنية ؟

الإنسان كائن ضعيف :

الدكتور محمد راتب :
 أنت كائن ضعيف ، لماذا ؟ أنت مفتقر بوجودك لتناول الطعام والشراب ، لا يكفي ، ومفتقر إلى ثمن الطعام والشراب ، ينبغي أن تمشي في الأسواق ، أنت مفتقر مرتين إلى الطعام والشراب لتبقى حياً ، ومرة للعمل كي تكسب ثمن الطعام والشراب ، فالله عندما وصف الأنبياء بأنهم بشر ، قال :

﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً(7)﴾

[ سورة الفرقان]

 كلمتان دقيقتان ؛ أول كلمة مفتقر بوجوده إلى الطعام والشراب ، والكلمة الثانية ومفتقر إلى ثمن الطعام والشراب ، لا بد من أن تأكل كي تعيش ، ولا بد من أن تعمل لتكسب ثمن الطعام والشراب .

من عزف عن طلب الحق فهو ميت عند الله :

 لكن يوجد نقطة دقيقة : هذا الجماد أخي الكريم ، هذه الطاولة ، هذا الجماد له طول ، عرض ، ارتفاع ، وزن ، حجم ، هذا الجماد ، هكذا تعلمنا في المدارس ، أما النبات كالجماد له وزن، وحجم ، وطول ، وعرض ، وارتفاع ، لكنه ينمو ، الحيوان كالجماد ، وزن ، حجم ، طول ، عرض ، ارتفاع ، وينمو إلا أنه يتحرك ، الإنسان يشبه الجماد له وزن ، حجم ، طول ، عرض ، ارتفاع ، ويشبه النبات بالنمو ، وبقية المخلوقات بالحركة ، إلا أن الله أودع فيه قوة إدراكية ، هذه القوة الإدراكية تلبى بطلب العلم ، وكل إنسان عزف عن طلب العلم - وكلامي دقيق - هبط عن مستوى إنسانيته إلى مستوى لا يليق به ، دقق في القرآن الكريم ، قال تعالى :

﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ(21)﴾

[ سورة النحل]

 ميت ، نبضه 80 مثالي ، ضغطه 8 ـ 12 مثالي ، عند الله ميت ، لأنه عزف عن طلب الحق ، عزف عن معرفة الله ، عن معرفة مصيره ، بالآخرة ما آمن .
 لي كلمة دقيقة بالإلحاد ؛ الإلحاد إذا إنسان طعن جسمه بجهة قلبه بخنجر ماذا فعل ؟ نحر جسمه ، فمات ، لو عصى الله نحر نفسه ، حجبت عن الله ، لو ألحد نحر عقله ، بين أن ينحر الإنسان جسمه فيموت ، وبين أن ينحر نفسه فيعصي الله ، أو أن ينحر عقله فليحد .

خيار الإنسان مع الإيمان خيار وقت فقط :

 أنا عندي بحث لطيف ، حوالي عشرين ملحداً ، ملحدون دعاة للإلحاد ، ماذا قالوا على فراش الموت ؟ اعترفوا بوجود الله ، الآية الكريمة تقول :

﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(24)﴾

[ سورة الأنعام]

 لذلك الحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح ، والحقيقة الأدق منها ؛ أنه لا بد من أن تؤمن ، فأنت خيارك مع الإيمان خيار وقت فقط ، لأن أكفر كفار الأرض ، فرعون الذي قال:

﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى(24)﴾

[ سورة النازعات]

 بقول آخر :

﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ(38)﴾

[ سورة القصص]

 هذا فرعون قال حينما أدركه الغرق :

﴿ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ(90) ﴾

[ سورة يونس]

 معنى ذلك الإيمان حاصل ولكن بعد فوات الأوان ، فالبطولة ، والنجاح ، والفلاح أن تؤمن في الوقت المناسب ، وألا يكون إيمانك بعد فوات الأوان .
 دخل للامتحان وهو لم يدرس شيئاً ، قدم الورقة فارغة ، أخذ صفراً ، رجع إلى البيت ، فتح الكتاب فهم الموضوع ، متى فهمه ؟ بعد انتهاء الامتحان ، فلذلك الإيمان حاصل ولكن بعد فوات الأوان .
المذيع :
 فضيلة الدكتور ؛ لو عدنا إلى قوله تعالى :

﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾

 الأولوية هنا شيخنا ما المقصود بها ؟ أو الأولية عفواً ؟

حرص الإنسان على سلامة وجوده واستمراره :

الدكتور محمد راتب :
 دقيقة ؛ كل إنسان حريص على سلامة وجوده بالطعام والشراب ، بعدما تقدم بالسن وأخذ شهادة عليا مثلاً ، وتزوج ، هو حريص على الزواج ، الحقيقة الطعام والشراب حفاظاً على بقاء الفرد ، والزواج ! قال : حفاظاً على بقاء النوع ، لو لم يكن هناك زواج ينتهي النوع البشري ، لا يكفي عنده حاجة ثالثة ؛ حفاظاً على بقاء الذكر ، بعد أن أكل وشرب وتزوج وأنجب ، بقيت عنده حاجة أن يقال : الطبيب الأول ، المهندس الأول ، التاجر الأول ، الطعام والشراب حفاظاً على بقاء الجسم ، الفرد ، والزواج دون أن يشعر حفاظاً على بقاء النوع ، والتفوق حفاظاً على بقاء الذكر ، ثلاث حاجات متوافرة بالدين بأعلى مستوى ، ثلاث حاجات ؛ الطعام والشراب ما منعك عنه ، منعك عن الخمر ، والخنزير فقط ، مسموح لك أن تأكل ألف نوع وعشرة آلاف شراب ، عدا الخمر والخنزير ، ما نهاك عن الزواج ، تتزوج أجمل امرأة ، وتتزوج :

﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)﴾

[ سورة النساء]

 لكن لا يوجد زنى بالقرآن ، لا يوجد ذلك بالإسلام ، المحرمات ثلاثة بالألف ، والمباحات ألف بالألف ، فالإنسان عندما يترك المباحات ، ما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا جعل لها قناة نظيفة طاهرة تسري خلالها ، إذاً بالدين لا يوجد حرمان لكن يوجد ترشيد ، وتصعيد .
المذيع :
 في قوله تعالى ، فضيلة الدكتور :

﴿ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾

 ما المقصود بنهي الله رسوله عليه الصلاة والسلام ؟ وهنا من ماذا تفيده في هذا السياق ؟

لكل إنسان من خصائص النبي نصيب :

الدكتور محمد راتب :
 النبي الكريم إذا نُهي في الأعم الأغلب لأصحابه ، لمن حوله ، وإذا أثني عليه أيضاً لكل صحابي جزء من هذا الثناء ، كلمة دقيقة جداً ، صفات النبي الكريم ، لمن قلده ، أو من اتبع سنته له من خصائص النبي نصيب ، والعاصي الذي خالف منهج الله عز وجل أيضاً يحاسب على عمله ، إذاً الحساب دقيق جداً ، ودائماً وأبداً لا يمر بين نقطتين إلا خط مستقيم واحد ، الحرب بين حقين لا تكون ، بين حق وباطل لا تطول ، بين باطلين لا تنتهي .
المذيع :
 في نهاية الآية :

﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾

 لمن الخطاب في هذه الآية ؟

العلم قوام حياة الإنسان :

الدكتور محمد راتب :
 للنبي الكريم ، إذا كان سيد الخلق ، وحبيب الحق ، وسيد ولد آدم ، يخاف من الله ، أنت لا تخاف منه ؟ لا يخاف منه إلا الأحمق ، إلا إنسان مغرر به ، إلا إنسان جاهل .
 لذلك : إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم ، والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به ، لذلك العلم قوام حياة الإنسان .
المذيع :
 شيخنا ؛ في الختام هذه الآيات :

﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾

 ما الهدايات المستنبطة من هذين الآيتين الكريمتين ؟

التوحيد نهاية العلم والعبادة نهاية العمل :

الدكتور محمد راتب :
 ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، التوحيد نهاية العلم ، والعبادة نهاية العمل ، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، وفحوى دعوة الأنبياء جميعاً :

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25)﴾

[ سورة الأنبياء]

 لا إله إلا الله توحيد ، التوحيد نهاية العلم ، والعبادة نهاية العمل .

خاتمة وتوديع :

المذيع :
 أحسن الله إليكم فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي الداعية الإسلامي على هذا اللقاء ، أشكركم على حضوركم أيضاً في أستوديو إذاعة القرآن الكريم من الدوحة ، برنامج ربيع القلوب .
 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور