وضع داكن
28-03-2024
Logo
إذاعة القرآن الكريم من الدوحة - برنامج ربيع القلوب 1 - الحلقة : 27 - الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

المذيع :
  بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله على إحسانه ، والشكر لله على توفيقه وامتنانه ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه ، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأخوانه ، ومن سار على نهجه ، واقتفى أثره، واستن بسنته ، وسلم تسليماً كثيراً مزيداً إلى يوم الدين .
 وبعد ؛ فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وأسعد الله أوقاتكم أخواني وأخواتي أينما كنتم بكل خير ، مرحباً بكم في برنامجكم اليومي : "ربيع القلوب" برنامج قرآني إيماني نقف من خلاله على بعض آيات الله البينات تدبراً ، وتأملاً ، وعملاً .
 "ربيع القلوب" يتهادى إلى مسامعكم عبر أثير إذاعة القرآن الكريم من الدوحة ، باسمكم جميعاً يسعدني أن أرحب بضيفنا الدائم فضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي ، أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم شيخنا ..
الدكتور راتب :
 بارك الله بكم ، ونفع بكم ، وأعلى قدركم ، وحفظ بلدكم .
المذيع :
 آمين جزاكم الله خيراً .
 مسمع صوتي عن آيات اليوم ، ثم نعود إلى شيخنا لنقف معه حولها تأملات وخواطر ، يقول ربنا جل وعز :

﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾

[ سورة القصص : 77]

 في مناسبة هذه الآية لما قبلها جاءت هذه الآية في سياق قصة قارون مع قوم موسى عليه الصلاة والسلام ، وهي تؤسس للطريقة الأمثل في تعامل الإنسان مع عطاء الله سبحانه وتعالى .
 شيخنا ، بارك الله بكم مع مطلع هذه الآية :

﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ﴾

[ سورة القصص : 77]

 لدينا هنا تساؤل هل الحديث هنا عن المال فقط أم أن الآية عامة تشمل المال وغيره ؟

 

من عرف ربه تنعكس أهدافه من الاستهلاك إلى الاستثمار :

الدكتور راتب :

﴿ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ ﴾

[ سورة القصص : 77]

 آتاك عزاً ، آتاك مالاً ، آتاك سلطاناً ، آتاك قوة ، آتاك ذكاءً ، آتاك كل شيء ، كل شيء آتاك الله إياه إنما آتاه لك بهدف واحد ، هو أن تستثمره لا أن تستهلكه ، وفرق كبير بين الاستثمار والاستهلاك .
 الإنسان أحياناً يكون معه مال ، إذا تاجر به ينمو هذا المال ، وقد ينمو نمواً كبيراً أما إذا أنفقه فيكون قد استهلكه وانتهى .
 فالذي آتاك الله إياه ينبغي أن تستثمره ، أن توظف علمك للآخرة ، أن توظف أسرتك للآخرة ، أن تربي أولادك .
 إذا أنفقت هذا المال في المباحات فقد استهلكته ، أما إذا أنفقته في الأعمال الصالحة فقد استثمرته ، طبعاً الآية تكفينا ، والآية عامة مطلقة .
 فابتغِ في المال الدار الآخرة ، ابتغِ بوسامتك الدار الآخرة ، ابتغِ بفصاحتك الدار الآخرة ، ابتغِ بعلمك الدار الآخرة ، ابتغِ بجهلك الدار الآخرة ، ابتغِ بغناك الدار الآخرة .
 المؤمن إذا تزوج ، إذا سافر ، إذا جلس مع زوجته وأولاده ، إذا لبس الجديد ، أكل الثريد ، فكله من أعماله الصالحة ، لأنه يبتغي بها وجه الله والدار الآخرة ، لا يبتغي الدنيا ، ولا الفخر ، ولا الاستعلاء ، ولا العلو في الأرض .
 هذا الثوب الجديد الذي اشتريته اطلب به الدار الآخرة ، وانوِ به أن تكون ذا مظهر حسن ، ومقبول عند الناس ، فأنت مؤمن ، وهذا الدين عظيم ، فكن بهيئة حسنة ، كما أخرج أبو داود عن أبي الدرداء قال :

(( سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنكُم قادِمُونَ على إخوانكم فَأصْلحُوا رِحَالَكُم ، وأصلحوا لِبَاسَكُم ، حتى تكونوا كأنَّكم شَامَةٌ في النَّاسِ ))

 حتى إذا الإنسان لبس الثوب الجديد هدفه الآخرة ، هو مؤمن يمثل هذا الدين .

(( فَأصْلحُوا رِحَالَكُم ، وأصلحوا لِبَاسَكُم ، حتى تكونوا كأنَّكم شَامَةٌ في النَّاسِ ))

 الإنسان إذا عرف الله انعكست أهدافه من الاستهلاك إلى الاستثمار ، من أن يستهلك هذه الأموال ، يستهلك متع الحياة الدنيا ، أو أن يوظفها للآخرة ، استمتع بها ، لكن لها هدفان كبيران ؛ هدف استهلاكي وهدف توظيفي ، فالإنسان له مكانة ، مكانته على أن يصلح بين الناس ، ماله يعينه على إطعام الفقير ، على إيواء المشرد ، على تعليم الجاهل ، حجمه الإنساني عند الله بحجم عمله الصالح ، والصالح يصلح للعرض على الله ، فالحديث كما ذكرته قبل قليل :

(( إنكُم قادِمُونَ على إخوانكم فَأصْلحُوا رِحَالَكُم ، وأصلحوا لِبَاسَكُم ، حتى تكونوا كأنَّكم شَامَةٌ في النَّاسِ ))

 إذا اشتريت كتاباً اقرأه ، وافهمه ، وانقل أجمل ما فيه لمن حولك ، يوجد سهرات كلام فارغ ، اشتريت كتاباً وقرأته ، عندك سهرة لخص بعض الأذكار وتكلم عنها ، نقلت العلم إلى الآخرين ، الإنسان إذا آمن بالآخرة يوظف كل ما عنده من فكر ، من مطالعات ، من آراء، من إطلالات على بعض الأشياء ، توظف للدار الآخرة ، أي كسب حياته ، كسب وقته ، كسب ماله ، كسب جاهه ، كسب علمه ، كسب ثقافته ، كل الميزات توظف في العمل الصالح ، نحن بأكثر السهرات كلام فارغ ، غيبة ونميمة ، لكن لو شخص دُعي إلى سهرة ، يهيئ كلاماً أو شرح آية أو شرح حديث أو قصة مؤثرة ليتكلم بها ، تجد جمع الناس على الهدى .

 

العمل الصالح علة وجود الإنسان :

 دائماً الفخر ، والمديح ، والاستعلاء ، وأكلنا ، واشربنا ، وسافرنا ، وأنفقنا ، ونزلنا بفندق خمس نجوم ، وتمتعنا بالمناظر ، يوجد أناس محرومون يحترق قلبهم بهذا الكلام ، أنت :

﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾

[ سورة الضحى : 11]

 أية نعمة ؟ النعمة العامة ، نعمة الهدى ، نعمة الاستقامة ، نعمة فهم القرآن ، حدث الناس بالنعمة المشتركة .

(( وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله لا يُلْقِي لها بالاً يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً ))

[البُخَارِيُّ وأحمد عن أبي هريرة ]

 مرة قال أحدهم : أنت أخلاقي لأنك فقير ، وأنت فقير لأنك أخلاقي ، هذه الكلمة كالسم بالدسم .

(( وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله لا يُلْقِي لها بالاً يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً ))

[البُخَارِيُّ وأحمد عن أبي هريرة ]

 قال لها : لقد قلت كلمة لو مزجت بمياه البحر لأفسدته ، ومن عدّ كلامه من عمله فقد نجا ، فالإنسان بلقاءاته ، بسهراته ، برحلاته ، بسفره ، جالس مع أخوانه ، وأصدقائه ، وأقربائه ، وزملائه ، يتكلم كلاماً طيباً ، الإنسان بكلمة طيبة قد يأخذ بيد إنسان إلى الله ، قد ينظر نظرة حانية يأخذ بيد يتيم إلى الله عز وجل ، الإنسان خلق للعمل الصالح ، علة وجود الإنسان الوحيدة في الدنيا العمل الصالح ، هذا العمل الصالح حجمه عند الله .

﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾

[ سورة الأنعام : 132]

 الآن هذه الزوجة لو الإنسان طلب الزواج للدار الآخرة ، إن أنجب أولاداً لماذا أنجبهم ؟ ليكونوا أولاداً صالحين ، يعبدون الله من بعد أبيهم ، الإنسان حريص على سلامة وجوده ، وكمال وجوده ، واستمرار وجوده ، الاستمرار بالأولاد الصالحين ، أعمال هؤلاء الأولاد في صحيفة الأب .

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾

[ سورة الطور :21]

 أي شيء في الحياة من زواج ، من أولاد ، من حرفة ، من مال ، من بيت ، من سيارة ، من مركبة ، من سفر ، من حضر ، يوظف في الحق أو في الباطل ، في الافتخار والاستعلاء أو في خدمة الخلق .
 أنا أقول كلمة : شخص سافر أرسله والده لفرنسا لينال الدكتوراه ، أي علة وجوده الوحيدة في باريس الدراسة ، فإذا الإنسان فهم أن علة وجوده العمل الصالح ، ما الدليل ؟

﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً ﴾

[ سورة المؤمنون : 99 ـ 100]

 معنى ذلك أن علة وجودك في الدنيا كلها العمل الصالح لأنه ثمن الجنة ، فأنا عندما أعطي الفقير من مالي ، وأعلم الجاهل بعلمي ، وأصلح بين شخصين بجاهي ، وأقدم للناس نموذجاً بنشاطي ، فالمؤمن قدوة ، والقدوة قبل الدعوة ، والإحسان قبل البيان .
المذيع :
 شيخنا :

﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ﴾

[ سورة القصص : 77]

 لماذا يعطي الله المال للإنسان ؟

 

وجود الإنسان مبني على العمل الصالح الذي هدفه الآخرة :

الدكتور راتب :
 والله أنا أفهم هذا فهماً دقيقاً : أي شيء آتاك الله منه هو عونٌ لك للدار الآخرة ، بالمال ترقى ، بالزوجة ترقى ، بالأولاد ترقى ، بحرفتك ترقى ، بطبك ترقى ، يأتي مريض فقير لا يقبله ، أما المؤمن فيعالجه ، ارتقى عند الله بطبه ، يأتي محام يجد إنساناً مظلوماً وفقيراً يعاونه ، اجعل معاونة هذا الفقير زكاة علمك ، زكاة حرفتك ، أي وجود الإنسان مبني على العمل الصالح ، الذي يصلح للعرض على الله ، هدفه الآخرة ، الهدف يسمو بالإنسان ، هدفه الجنة ، هدفه إرضاء الله ، هدفه أن ينجو من هذه الدنيا الفانية ، متاعها قليل ، ومسؤوليتها كبيرة جداً ، أعطيتك مالاً فماذا صنعت به ؟ الإنسان لا يستطيع أن يكذب ، لم أنفق منه شيئاً مخافة الفقر على أولادي من بعدي ، قال : إن الذي خشيته على أولادك من بعدك قد أنزلته بهم.
 يخاطب إنساناً آخر : أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه ؟ يقول : يا ربي أنفقته على كل محتاج ومسكين ، لثقتي بأنك خيرٌ حافظاً وأنت أرحم الراحمين ، فيقول له : أنا الحافظ لأولادك من بعدك .
 يوجد قصتان دقيقتان : أحد الخلفاء الصالحين ما ترك شيئاً ، أولاده كانوا أغنياء جداً ، وفتحوا فتوحات كبيرة ، وخليفة آخر ترك ملايين مملينة ، كل شيء تركه ضاع ، وجدوا بعض أحفاده يتسولون ، فلذلك الله كبير .
 أنت عندما تعمل عملاً صالحاً أنت ضمنت لأولادك أيضاً حياة جيدة .
المذيع :

﴿ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾

[ سورة القصص : 77]

على الإنسان ألا ينسى نصيبه من الدنيا بشرط الاعتدال و عدم البذخ :

الدكتور راتب :
 هذه الآية دقيقة جداً ، أنا سامحني بهذه الكلمة : تفهم فهماً ما أراده الله ، لماذا جاء الله بك إلى الدنيا ؟ من أجل العمل الصالح ، نصيبك في الدنيا هو العمل الصالح ، أما أقول لك: أكلنا وسافرنا ، واشترينا بيتاً ثانياً بالمصيف ، وبيتاً على البحر ، وسيارة ثانية ، هو يفتخر ، ونسي أنه جيءَ به إلى الدنيا للعمل الصالح .

﴿ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾

[ سورة القصص : 77]

 لا تنسَ العمل الصالح الذي جئت إلى الدنيا من أجله ، والآيات تؤكد ذلك .

﴿ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾

[ سورة القصص : 77]

 لكن لا مانع من أن تأكل وتشرب .

﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ﴾

[ سورة الأعراف : 31]

 تتزوج وتنجب أولاداً وتشتري بيتاً ، كله مسموح به ، لكن بالحد المعتدل ، بالحد الذي لا يوجد به ترف ، ولا بذخ ، ولا كبر .
المذيع :
 شيخنا ، كذلك في نفس الآية التي قبل قليل :

﴿ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾

[ سورة القصص : 77]

 ما دلالة إضافة النصيب إلى ضميري ؟

 

نصيب الإنسان في الدنيا هو العمل الصالح :

الدكتور راتب :
 لأنه أنت جيءَ بك إلى الدنيا لشيء أساسي فيها ، وهو نصيبك فيها ، أي حصتك فيها العمل الصالح ، طبعاً والآية تفهم فهماً آخر ، كلما الإنسان بذخ واشترى بيوتاً ، وترفه ، وأكل أكلاً غير معقول ، واشترى أشياء كلها لا تنفعه كثيراً ، يقول لك : أنا قرأت قوله تعالى :

﴿ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾

[ سورة القصص : 77]

 أنا والله أشعر من أعماقي أن هذه الآية تفهم فهما ما أراده الله ، أي إذا قال أب لابنه : لا تنسَ نصيبك في الجامعة ، ما نصيبه في الجامعة ؟ أن يدرس ، ينال الدكتوراه ، هي نصيبه ، أما لا تنس نصيبك من الرفاه ؟ ليس معقولاً ، الآية لا تتناسب ، هذا فهمي لهذه الآية والله أعلم .
المذيع :
 شيخنا كيف ينجو العبد من فتنة المال ؟

 

كيفية النجاة من فتنة المال :

الدكتور راتب :
 والله دائماً وأبداً العلم رقم واحد ، إذا أيقنت أن هذا المال أداة كبيرة جداً ، أحد أسباب دخولك الجنة ، المال قوة أخي الكريم ، المال قوة ، أنت بالمال قد تفتح معهداً شرعياً ، قد تفتح مستشفى ، قد ترعى الأيتام ، قد تدعو إلى الله ، قد تدعم الدعاة ، عندك أبواب العمل الصالح لا تعد ولا تحصى ، بل قيل : الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق ، المال قوة .

(( المؤمن القويُّ خيْر وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلّ خير ))

[مسلم عن أبي هريرة]

 فالمال قوة ، والعلم قوة ، والمنصب قوة ، إذا شخص عُرض عليه منصب ، قال سيدنا يوسف :

﴿ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾

[ سورة يوسف : 55]

 عندك قوة المال ، قوة العلم ، قوة المنصب ، فإذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله يجب أن تكون قوياً ، لأن خيارات القوي في العمل الصالح لا تعد ولا تحصى ، في إنشاء ميتم ، في إنشاء معهد شرعي ، فتح مستشفى ، إطعام الجياع ، كسوة العراة ، تعليم الجهلاء ، الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق .
 يقول أحد الصحابة الكرام سيدنا ابن عوف : حبذا المال أصون به عرضي ، وأتقرب به إلى ربي .
المذيع :
 شيخنا ، وفي قوله :

﴿ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾

[ سورة القصص : 77]

 الإنسان من إحسان الله إليه ؟

 

نعمة الإيجاد و الإمداد من تفضل الله على الإنسان :

الدكتور راتب :
 الله عز وجل منح الإنسان نعمة الإيجاد .

﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ﴾

[ سورة الإنسان : 1]

 أنا أحياناً أقول لأخواني في الجامع : عام 1850 من كان منا حي ؟ ولا شخص ، إذاً في وقت لم تكن شيئاً مذكوراً ، الله عز وجل فضل علينا بنعمة الإيجاد ، مع الإيجاد الإمداد ، أمدك بأم وأب ، بطعام وشراب ، بمن يربيك ، أمدك بأخ أكبر أحياناً ، أمدك بأم رحيمة ، ثم أمدك بعقل ، أخذت شهادة ، تعينت بوظيفة ، جاءك دخل ، أمدك بزوجة ، أمدك بأولاد ، فكل شيء الله عز وجل أمدك به أمدك به لغاية نبيلة ، أن تعرف الله من خلال هذه النعمة ، وأن توظفها في خدمة عباده ، أن تعرفه ، وأن توظف هذه النعمة لخدمة عباده ، هذا المؤمن ، المؤمن حياته هادفة ، عنده هدف كبير ، حياته راقية جداً ، المؤمن قريب من الله عز وجل ، قريب من أصل الجمال ، والكمال ، والنوال ، كل جمال الكون مسحة من جمال الله ، وكل ما في الكون من عطاء شيء من عطاء الله عز وجل .

﴿ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾

[ سورة القصص : 77]

 بعض العلماء فهموا هذه الآية : نصيبك من الدنيا أن تعمل عملاً صالحاً ، أي أن تستثمر خصائصك استثماراً لا استهلاكاً .
المذيع :

﴿ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ﴾

[ سورة القصص : 77]

 ما المراد بالفساد هنا ؟

 

الابتعاد عن التكبر :

الدكتور راتب :
 الفساد هنا أن تظهر ما عندك كبراً ، أنت اشتريت بيتاً ، كلما جاءك ضيف تريه البيت كله ، أربعمئة و خمسون متراً ، والبلاط من إيطاليا ، والثريات رشانج ، والسجاد إيراني ، هذا الذي زارك قد يكون فقيراً ، وقد يكون إنساناً دخله محدود ، هذا حينما تفتخر بالدنيا ، أما المؤمن فيفتخر بمعرفة الله عز وجل ، بفهمه لكتاب الله ، بحكمته ، بإرشاد الناس ، بتواضعه ، ما أجمل الغني إذا تواضع ، يتواضع للفقير ، يكرم هؤلاء الفقراء .

﴿ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾

[ سورة القصص : 77]

 ما هو النصيب ؟ جاء بعدها :

﴿ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾

[ سورة القصص : 77]

 هذا هو النصيب من الدنيا ، الآية الثانية تفسر الأولى .

﴿ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾

[ سورة القصص : 77]

 أي لا تنس أن تحسن كما أحسن الله إليك ، منحك نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، ونعمة الهدى والرشاد .
المذيع :
 شيخنا كيف يمكن أن يصل الإنسان إلى مقام الإحسان ؟

 

كيفية الوصول إلى مقام الإحسان :

الدكتور راتب :
 لا بد من طلب العلم ، أخي الكريم ، الإنسان أعطي قوة إدراكية ، ما لم يطلب العلم هبط عن مستوى إنسانيته إلى متسوى لا يليق به ، أول مستوى لا يحتمل :

﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ﴾

[ سورة النحل :21]

 سمي عند الله ميتاً ، ثاني مستوى :

﴿ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ﴾

[ سورة المنافقون :4]

 ثالث مستوى :

﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾

[ سورة الفرقان : 44]

﴿ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ﴾

[ سورة الجمعة : 5]

 ضع على الحمار كتاب فيزياء ، واسأله فهم منه شيئاً ؟ ما فهم شيئاً بالحياة ، فهم طعاماً ، وشراباً ، ومتعاً رخيصة ، وكبراً ، واستعلاء على الناس ، الفرق بين حياة المؤمن وحياة غير المؤمن فرق نوعي ليس فرقاً بالدرجة ، هذا في واد وهذا في واد ، هذا هدفه الله والدار الآخرة ، هذا محسن معطاء .

 

الفرق النوعي بين المؤمنين و غير المؤمنين :

 الله عز وجل جعل على رأس هذا الهرم البشري زمرتين ، الأقوياء والأنبياء ، الأقوياء أخذوا ولم يعطوا ، الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا ، الأقوياء ملكوا الرقاب ، الأنبياء ملكوا القلوب ، الأقوياء يمدحون في حضرتهم ، الأنبياء في غيبتهم ، الأقوياء عاش الناس لهم ، الأنبياء عاشوا للناس ، والناس جمعاً تبع لقوي أو نبي .
 والإنسان يعرف نفسه ، الله عز وجل قال :

﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾

[ سورة القيامة : 14ـ 15]

 الإنسان إما أنه من أتبع الأنبياء يؤثر العطاء لا الأخذ ، التواضع لا الكبر ، يؤثر الإحسان لا الإساءة ، هناك فرق نوعي بين المؤمنين وغير المؤمن .

﴿ أفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ﴾

[ سورة السجدة : 18]

المذيع :
 شيخنا ، ما المفهوم التربوي الذي يمكن أن يفهمه القارئ أو السامع من قوله تعالى :

﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ﴾

[ سورة القصص : 77]

الإيمان بالدار الآخرة إيمان حقيقي :

الدكتور راتب :
 يجب أن تؤمن بالدار الآخرة إيماناً حقيقياً ، إيماناً يشف عن عمل ، عن التزام ، عن انضباط ، عن هدف ، أنت مؤمن إيماناً قطعياً أن هناك داراً آخرة ، والدنيا زائلة وفانية ، والدنيا ساعة اجعلها طاعة ، والدنيا تزول وتنتهي .

الإنسان خاسر لأن مضي الزمن يستهلكه :

 الإنسان أخي الكريم ما قرأت تعريفاً بحياتي للإنسان أدق من تعريف الحسن البصري: الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه ، فلأن هذا الإنسان بضعة أيام، لأنه زمن ، أقسم الله له بمطلق الزمن ، قال له :

﴿ وَالْعَصْرِ ﴾

[ سورة العصر : 1]

 جواب القسم مذهل :

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾

[ سورة العصر : 2]

 خاسر ، إله يقسم للإنسان بالزمن ، وجواب القسم الخسارة ، لمَ يا رب أنا خاسر ؟ قيل : لأن مضي الزمن يستهلك الإنسان فقط ، قبل أن نقول : مؤمن ، غير مؤمن ، محسن ، مسيء قبل أن نقول كل هذا الكلام ، الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه ، فجاء جواب القسم :

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾

[ سورة العصر : 2]

 بعد هذه الآية :

﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾

[ سورة العصر : 2 ـ 3]

 قال عنها الإمام الشافعي : هذه أركان النجاة ، آمن عرف الحقيقة ، الآن تحرك وفقها ، عمل الصالحات ، دعا إليها وصبر على معرفتها ، والعمل بها ، والدعوة إليها .
المذيع :
 أهم فوائد هذه الآية شيخ ؟

﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ﴾

[ سورة القصص : 77]

المؤمن إما جاذب لمن حوله أو متكبر :

الدكتور راتب :
 هذه تسمو بالإنسان في كل حركته في الحياة ، بين مستهلك وبين مستثمر ، بين أن يأخذ وبين أن يعطي ، بين أن يفتخر وبين أن يعين ، إذا لم يكن هناك فرق نوعي أخي الكريم ، فرق نوعي كبير بين الإيمان وعدم الإيمان ليس له فائدة ، يوجد فرق نوعي ، شخص عرف أن هناك آخرة للأبد ، ما الأبد ؟ مئة مليار مليار مليار مليار حتى ينقطع النفس ، لا شيء أمام الأبد ، أكبر رقم ، واحد بالأرض وأصفار للشمس ، تصور واحداً أمامه مليون ومئة و ستة و خمسون كيلو متراً ، وكل ميلي صفر ، هذا الرقم إذا نسب للانهاية قيمته صفر ، الإنسان مخلوق للانهاية ، مخلوق لجنة عرضها السماوات والأرض .

(( فيها ما لا عين رأتْ ، ولا أذن سمعتْ ، ولا خطَر على قلبِ بَشَرْ ))

[ متفق عليه عن أبي هريرة]

 فالإنسان يفسد هذه الجنة وهذه الآخرة بسنوات معدودة وشهوات لا ترضي الله عز وجل ؟!

﴿ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ﴾

[ سورة القصص : 77]

 أن تظهر ما عندك ، أن تفسد بين شريكين ، بين أخوين ، ماذا أحضر لك زوجك على العيد ؟ لم يحضر لي شيئاً ، زوجها فقير ، زوجها موظف ، تشاجرت معه فغضب فطلقها لأن هذه قالت لها : ماذا أحضر لك ؟ هي أغنى منها .

﴿ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ﴾

[ سورة القصص : 77]

 أين خواطر الناس ؟ أنت أعطهم شيئاً لطيفاً ، أعطهم معلومات عن الآخرة ، الآخرة تجمع والدنيا تفرق ، الآخرة تجمعنا والدنيا تفرقنا ، تواضع ، هناك كثير من الصفات للمؤمن جاذبة للناس ، وصفات تغيير المؤمن منفرة ، أنت إما جاذب لمن حولك ، أو متكبر :

(( لا يدْخُلُ الجنةَ مَنّ كان في قلبه مثقالُ حبَّة من كِبْر ))

[مسلم والترمذي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه]

 مثل كيلو حليب فيه نقطة بترول فسد ، أما يضاف للبن خمسة أضعافه ماء فيصبح عيران ، يقبل الماء لكن لا يقبل البترول .
 الكبر كالبترول يفسد طعم أي شيء .
المذيع :
 شيخنا ، المضامين التربوية في الآية الكريمة ، وبهذا المحور نختم إن شاء الله .

 

المضامين التربوية في قوله تعالى : وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ :

الدكتور راتب :
 طلب العلم .

﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ﴾

[ سورة القصص : 77]

 آمن بالآخرة ، أخي الكريم ، أركان الإيمان خمسة أركان ، ما من ركنين تلازما بالقرآن تلازماً شبه دائم كالإيمان بالله واليوم الآخر ، لا يكفي الإيمان بالله ، واليوم الآخر ، أنت مخلوق للجنة ، مخلوق للأبد ، مخلوق للديمومة ، والدنيا مؤقتة ، الدنيا ساعة اجعلها طاعة ، فالإنسان إذا آمن بالآخرة حقيقة لا بد من أن تنقلب مقاييسه مئة و ثمانين درجة ، صار يعطي لا يأخذ ، يكرم لا يستهلك ، يتواضع لا يتعاظم ، الصفات تتناقض عندئذٍ إذا الواحد آمن بالآخرة، وآمن بالدنيا .

 

خاتمة و توديع :

المذيع :
 شكراً لكم شيخنا ، وبارك الله بكم .
الدكتور راتب :
 شكراً جزيلاً ، وبارك الله بك أيضاً .
المذيع :
 حفظكم الله ، والشكر موصول لكم أنتم أخواني وأخواتي على طيب المتابعة ، وجميل الاستماع .
 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الاستماع للدرس

00:00/00:00

إخفاء الصور