- ندوات إذاعية / ٠22برنامج ربيع القلوب - إذاعة القرآن الكريم الدوحة
- /
- ٠1 ربيع القلوب 1 - أحاديث عام 2019
مقدمة :
المذيع :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله على إحسانه ، والشكر لله على توفيقه وامتنانه ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه ، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأخوانه ، ومن سار على نهجه ، واقتفى أثره، واستن بسنته ، وسلم تسليماً كثيراً مزيداً إلى يوم الدين .
وبعد ؛ فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وأسعد الله أوقاتكم أينما كنتم بكل خير ، مرحباً بكم في برنامجكم اليومي : "ربيع القلوب" برنامج قرآني إيماني نقف من خلاله على بعض آيات الله البينات تدبراً ، وتأملاً ، وعملاً ، "ربيع القلوب" يتهادى إلى مسامعكم عبر أثير إذاعة القرآن الكريم من الدوحة ، باسمكم جميعاً يسعدني أن أرحب بضيفنا الدائم فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم شيخنا . .
الدكتور راتب :
بارك الله بكم ، ونفع بكم ، وأعلى قدركم ، وحفظ لكم بلادكم .
المذيع :
آمين وإياكم شيخنا .
مسمع صوتي عن آيات اليوم ثم نعود مع شيخنا لنقف معه حولها تأملات وخواطر، يقول ربنا جل وعز :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾
في مناسبة هذه الآية لما قبلها :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾
نهت الآية التي قبلها عن التجسس ، وسوء الظن ، والغيبة ، فجاءت هذه الآية لتبين أن الناس جميعاً سواسية عند الله ، وأنه لا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ، فهذه الحقيقة تدفع المؤمن إلى حسن التعامل مع الناس جميعاً .
شيخنا ، بارك الله فيكم على إيجازها وبلاغتها لو عرفها الإنسان حق المعرفة لحلت كل مشاكله .
﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾
ما المعنى الدقيق لهذه الآية ؟
الدين أممي :
الدكتور راتب :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
هذه الآية لها معنى دقيق جداً :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾
أوسع كلمة تشمل جميع الناس .
﴿ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ ﴾
هذه اللام لام التعليل :
﴿ لِتَعَارَفُوا ﴾
ليعرف بعضكم بعضاً ، ليأخذ بعضكم من بعض كل خير ، ليعطي بعضكم لبعض كل خير ، العلاقات علاقات عطاء ، علاقات ود ، علاقات رحمة ، علاقات نقل معرفة ، علاقة معاونة ، هكذا أرادنا الله عز وجل ، أما علاقات الحروب ، والغزو ، والقهر ، فهذه بخلاف منهج الله ، لذلك :
﴿ لِتَعَارَفُوا ﴾
ثم يقول :
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾
يوجد ملامح دقيقة جداً ، يقول النبي الكريم عن سلمان ، وهو فارسي :
(( سلمان منا أهل البيت))
وعن صهيب الرومي :
(( نعم العبد صهيب ، لو لم يخاف الله لم يعصه))
وعن أبي لهب في القرآن :
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾
معنى ذلك أن هذا الدين أممي .
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾
(( فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ))
هذا المفهوم الأممي مفهوم عظيم جداً ، مفهوم يرقى بالإنسانية جميعاً .
العلاقات بين الأفراد والشعوب والأمم علاقات ود ومحبة وعطاء :
لذلك :
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾
هناك مقياس واحد يرقى بالإنسان هو التقوى ، والتقوى أن تنظر بنور الله ، أن تتحرك وفق منهج الله ، أن تأخذ بما يرضي الله ، وأن تعطي ما يرضي الله ، أي العلاقات بين الأفراد والشعوب والأمم علاقات ود ومحبة وعطاء ، هذا أصل التصميم الإلهي ، فإذا خرجنا عن هذا التصميم دفعنا الثمن باهظاً ، وكانت الحياة شقاء وعذاباً .
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾
فلذلك كما قيل :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ﴾
ما قال اجتنبوا الظن كله ، إنسان دخل إلى بيته رأى الهاتف بيد زوجته ، فلما دخل أغلقت الهاتف فجأة ، الآن إذا ظن بها ظناً سيئاً هناك سبب ، أما بلا سبب فهذا الظن الآثم ، هناك ظن معقول ، إذا كان هناك مؤشر ، علامة ، دليل ، لك أن تظن الظن الذي يحصنك من الطرف الآخر ، أما إذا لم يكن هناك دليل فهذا صار فيه إثم ، لا يوجد أي دليل ظن سيئ ، هذا مرض نفسي ، وبحاجة إلى معالجة .
المذيع :
شيخنا ، بارك الله فيكم :
﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾
هذه الآية أوضحت وصححت ميزان التفاضل ، كيف ذلك ؟
التقوى ميزان التفاضل بين البشر :
الدكتور راتب :
لأنه يوجد ميزان واحد هو التقوى ، وطاعة الله تكبر عند الله وعند الناس بتقوى الله، ويصغر الإنسان عند الله بمعصيته ، فالله جعل مقياساً واحداً .
((فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ))
كما قلت قبل قليل :
(( سلمان منا أهل البيت))
صهيب رومي ، أبو لهب قرشي هاشمي :
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾
فنحن ديننا دين مبادئ وقيم ، دين انتماء إلى الفضيلة ، والاستقامة ، والعمل الصالح، لا دين تعصب ، لذلك ورد :
(( لَيسَ مِنَّا مَنْ دَعا إِلى عَصبيَّة ، وليس منا من قاتل عصبيَّة ، وليس منا من مات على عصبيَّة))
الابتعاد عن الغيبة و سوء الظن لأنهما يهدمان المجتمع :
الحقيقة الدقيقة : هناك منهج إنساني ، ومنهج عنصري ، أنت إذا انضممت إلى جهة انضماماً شكلياً ، أو انضماماً لسبب غير الحق هذا الانضمام لا قيمة له ، أما إذا انضممت إلى أهل الحق فهذا الذي يرقى بالإنسان .
لذلك كما تفضلتم قبل قليل ؛ أنا حينما أظن الظن السوء بسبب فهذا الظن لا شيء فيه ، أما حينما أظن بلا سبب فهذا يهدم العلاقات ، يهدم التآخي بين البشر ، فالإنسان قبل أن يظن ينبغي أن يتحقق ، لذلك :
﴿ وَلَا تَجَسَّسُوا ﴾
ماذا يقابل تجسسوا ؟ ولا تحسسوا ، التحسس البحث عن الفضيلة ، تتبعت أخبار الصالحين هذا تحسس ، أما التجسس فتتبع الأخبار السيئة .
﴿ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ﴾
أي شيء لا تستطيع أن تواجه به الآخر إذا ذكرته في غيبته فهو غيبة ، أدق مقياس أي شيء لا تستطيع أن تواجه به الآخر إذا ذكرته في غيبته فهو غيبة .
﴿ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ﴾
أخي الكريم؛ إذا ألغيت الغيبة في المجتمع كان المجتمع متماسكاً ، كان فصلاً واحداً، كان سداً منيعاً ، لا يمكن أن يخترق هذا المجتمع إلا بالغيبة ، فالغيبة من أكبر الكبائر .
المذيع :
شيخنا ، بارك الله فيكم .
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾
ما المقياس الدقيق لذلك؟
للتقي كفالتان ؛ جنة في الدنيا وجنة في الآخرة :
الدكتور راتب :
الحقيقة ، ما هي التقوى ؟ أنا أتقي النار ، أتقي الوحش في الغابة ، أتقى الأفعى في البستان ، التقوى ؛ الحذر ، من هو التقي ؟ الذي يتقي أن يعصي الله ، يتقي أن يبتعد عن الله ، يتقي أن يحب غير الله ، هي تقوى واسعة جداً .
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ﴾
يا الله! كفلين ، الدنيا والآخرة .
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ ﴾
كفالتان .
﴿ مِنْ رَحْمَتِهِ ﴾
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾
جنة في الدنيا ، وجنة في الآخرة .
﴿ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ﴾
الآية صريحة ، واضحة ، صارخة .
حاجة كل إنسان إلى نور يرى به الحق حقاً و الباطل باطلاً :
تصور إنساناً يمشي بمركبته ليلاً ، لا يوجد معه ضوء ، قد يصطدم بصخرة ، قد يقع في حفرة كبيرة ، قد تنقلب مركبته في الوادي ، إذا معه ضوء كاشف ، هذا الضوء الكاشف هو التقوى ، التقوى أن تستنير بنور الله ، أنت تتحرك وفق نور ساطع ، كاشف ، الحق واضح ، الباطل واضح ، الخير واضح ، الشر واضح ، الكمال واضح ، النقص واضح ، المؤمن مستنير، غير المؤمن في غيبوبة ، في عمى .
﴿ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ﴾
البصيرة ، عندنا بصر العين ، وعندنا بصيرة .
لكن أنت في الليل لك عينان دقيقتان حادتا البصر لا قيمة لهما من دون نور ، مهما كانت العين سليمة ، من دون ضوء لا قيمة لها في الليل ، فأنت بالليل تحتاج إلى نور يتوسط بينك وبين المرئي تماماً .
وفي الحق تحتاج إلى نور ، ترى به الحق حقاً ، والباطل باطلاً ، فكما أن العين لا ترى الأشياء في الليل إلا بنور ، والإنسان لا يرى الحقائق في الحياة إلا بنور الله .
﴿ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ﴾
نور الكهرباء كي ترى الأشياء في الليل عن طريق العين ، ونور الله ترى به الحقائق في القلب ، القلب مركز العقل ، العقل مركزه القلب .
﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾
أحدث البحوث الآن أن الخلايا في القلب هي تمد الدماغ بالبصر ، القلب هو الأصل في الإدراك ، والآية واضحة .
﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾
البحث طويل جداً ، عندما زرعوا قلباً لإنسان فقد كل ذكرياته ، فقد كل معرفته بأحفاده ، موضوع طويل ، نهاية هذه الموضوعات العلمية أن العقل في القلب ، تأكيداً لقوله تعالى :
﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾
المذيع :
شيخنا ، ذكرتم في تفسيركم عند معرض عن قوله :
﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾
قلت سنقف عند حكمة هذه الآية ، لو حدثتمونا عن هذه الحكمة ؟
العمل الصالح علة وجود الإنسان الوحيدة في الدنيا :
الدكتور راتب :
الحق موزع في الأرض ، شعوب وقبائل حكمة إلهية ، هناك أسر ، وبطون ، وأقاليم ، وشعوب ، وقبائل ، الحكمة من تنوع هذه الانتماءات أن نتعارف ، أن يأخذ بعضنا من بعض ، القوي يعين الضعيف ، والعالم يعين الجاهل ، والمتألق يعين المنطفئ ، أي يوجد تمايز ، يوجد قوي وضعيف ، غني وفقير ، عالم وجاهل ، هذا اللقاء وهذا التواصل يأخذ بعضكم من بعض ، أي هذه في النهاية سبب للعمل الصالح ، والعمل الصالح سبب دخول الجنة ، علة وجودنا الوحيدة في الدنيا العمل الصالح ، والدليل :
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً ﴾
لِمَ سمي العمل صالحاً ؟ لأنه يصلح للعرض على الله ، ومتى يصلح للعرض على الله ؟ إذا كان خالصاً وصواباً ، خالصاً ما ابتغي به وجه الله ، وصواباً ما وافق السنة .
أنا حينما أعلم علم اليقين أن علة وجودي الوحيدة في الدنيا هي العمل الصالح أسعَى إليه كل يوم ، بل كل ساعة ، بل كل مناسبة ، هناك عمل صالح في البيت ، وعمل صالح بالعمل ، وعمل صالح وقت الفراغ ، وعمل صالح بالنزهة ، وعمل صالح في الفصول المتعددة ، وعمل صالح باللقاءات ، وعمل صالح بالظروف ، علة وجود الإنسان العمل الصالح .
كما لو أن أباً أرسل ابنه إلى باريس لينال الدكتوراه من السوربون ، علة وجوده الوحيدة في هذه المدينة العملاقة الدراسة ، هذا لا يمنع أن يأكل في مطعم ، أو أن يجلس في حديقة ، أو يقتني كتاباً ، أو يسهر عند صديقه ، أما علة وجوده الأولى والوحيدة في هذه المدينة الكبيرة فهي الدراسة .
فإذا فهم الإنسان علة وجوده الوحيدة ، الدليل القطعي :
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ ﴾
ما قال : لأكمل تعمير البناء ، لأكمل تحقيق الربح ، لا .
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً ﴾
وما سمي العمل صالحاً إلا إذا كان صالحاً للعرض على الله ، ولا يكون صالحاً للعرض على الله إلا إذا كان خالصاً وصواباً ، خالصاً ما ابتغي به وجه الله ، وصواباً ما وافق السنة .
يقول لك : يانصيب خيري ، هذا عمل غير صالح ، وقد يكون خيرياً لكنه عمل غير صالح ، يكون خالصاً وصواباً ، خالصاً ما ابتغي به وجه الله ، وصواباً ما وافق السنة ، هذا العمل علة وجودنا الوحيدة في الدنيا ، العمل الصالح ، الدليل :
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً ﴾
الآية الأصل في الموضوع .
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً ﴾
صالحاً أي يصلح للعرض على الله ، متى يصلح ؟ إذا كان خالصاً وصواباً ، خالصاً ما ابتغي به وجه الله ، وصواباً ما وافق السنة .
المذيع :
شيخنا ، قلتم كذلك الفضائل لا تكون إلا في المجتمع لذلك قهرنا الله سبحانه وتعالى بأسلوب لطيف أن نعيش في مجتمع ، ما المقصود بقهرنا الله بأسلوب لطيف أن نعيش في مجتمع ؟
الله عز وجل خلق كل إنسان ليحاسبه و يمتحنه و لا يكون ذلك إلا في مجتمع :
الدكتور راتب :
إذا شخص جلس بجزيرة وحده ، أي عمل صالح ؟ الذي عنده زوجة يرحمها ، يعاونها، يكرمها ، عنده أولاد يربيهم ، تاجر يعطي بضاعة جيدة ، لا يمكن لعمل صالح أن يكون إلا بمجتمع ، فالتاجر عمله الصالح النصح ، بضاعة جيدة ، سعر معتدل ، الطبيب عمله الصالح العناية بالمريض ، الطبيب ممكن أن يوهم المريض بمرض كبير هو غير صحيح ، ممكن أن يبتزه ، والمحامي كذلك ممكن ، المهندس كذلك ، الله عز وجل خلقنا ليحاسبنا ، ليمتحننا ، والامتحان لا يكون إلا بالمجتمع ، نعيش في مجتمع شئنا أما أبينا .
المذيع :
شيخنا ، ليس لأي إنسان الحق أن يفتخر بشيء منحه الله إياه من جهد ، من خلال قوله تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ ﴾
كيف لنا أن نفهم هذه العبارة ؟
الخلق العظيم الذي يتمتع به النبي الكريم :
الدكتور راتب :
النبي الكريم يتمتع بمئات الخصائص التي يتميز بها وحده ، فلما أراد الله أن يمدحه ، بماذا مدحه ؟ بخلقه ، الخلق منه .
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
أما ذاكرته القوية فمن الله ، لا ينسى من الله .
﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ﴾
معه مئة خصيصة أو أكثر يتميز بها عن كل الخلق ، لكن المديح جاء بما هو من صنعه ، بأخلاقه .
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
للتقريب : إذا أب أعطى ابنه سيارة ، الأب غني ، أعطى ابنه سيارة ، هل يعقل أن يكون له حفل تكريم لهذه السيارة ؟ ليس لها معنى ، أما عندما يأخذ الدرجة الأولى بالامتحان يعطيه سيارة فالدرجة الأولى جهد منه ، أما السيارة فعطاء من الأب ، فالنبي بمَ مدح ؟ بخلقه العظيم ، عنده أخلاق لو وزعت على أهل بلدة لكفتهم .
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
ذهب إلى الطائف ، كذبوه ، سخروا منه ، أغروا صبيانهم أن يضربوه ، وضُرب ، وسال الدم من قدمه الشريفة ، جاءه ملك الجبال ، قال : يا محمد ، أمرني ربي أن أكون طوع إرادتك ، لو شئت لأطبقت عليهم الأخشبين ، قال : لا يا أخي اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون ، لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحده .
هذه الخلق العظيم ، ثقته بالله شيء لا يصدق ، إنسان مهاجر مئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً ، ما معنى ناقة ؟ أي مرسيدس ، شيء ثمين جداً ، مئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً ، يتبعه سراقة لينال هذه الجائزة الكبيرة جداً ، ثروة كبيرة جداً مئة ناقة ، قال له : يا سراقة كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ دعنا نفكر فيها قليلاً ، شخص ملاحق ، مهدور دمه ، مئة ناقة يتبعه ليأتي به حياً أو ميتاً ، يتبعه رجل اسمه سراقة يتمنى أن يقبض عليه ، أو أن يقتله ، لينال مئة ناقة وهي ثروة كبيرة جداً ، يقول له هذا الملاحق ، المهدور دمه : يا سراقة ! كيف بك إذا لبست سواري كسرى ؟ ما هذا الكلام ؟ الذي حصل أنا سأصل سالماً ، هذه ثقته بالله ، وسأؤسس دولة في المدينة ، وسأنشئ جيشاً ، وسأحارب أكبر دولة في العالم ، فارس ، وسأنتصر ، وسوف تأتي الغنائم ، و لك من هذه الغنائم سوار كسرى ، والله شيء لا يصدق .
جاءت الغنائم ، مسك صحابي جليل رمحه ، ومده إلى الأعلى قدر ما يستطيع ، وجاء صحابي آخر وأمسك رمحه ، الرمح طوله مترين أو ثلاثة ، ومده إلى الأعلى بقدر ما يستطيع ، لم تتراء الرماح أبداً ، قال سيدنا عمر : أين سراقة ؟ جاؤوا له بسراقة ، بحث في الغنائم عن سوار كسرى ، وألبسه سوار كسرى ، وقال سيدنا عمر : بخ بخ ، أعيرابي من بني تميم يلبس سوار كسرى .
من لم يعبد الله فالله في حلّ من وعوده :
والله الذي لا إله إلا هو زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين وعود قائمة .
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾
قانون ، أي الحقيقة المرة أراها دائماً أفضل ألف مرة من الوهم المريح ، هل نحن مستخلفون في الأرض؟
﴿ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ﴾
هل هذا الدين ممكن أم يواجه حرباً عالمية ثالثة كانت تحت الطاولة واليوم فوق الطاولة ؟
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ﴾
كلمة واحدة :
﴿ يَعْبُدُونَنِي ﴾
فإن لم نعبده فالله جلّ جلاله في حلّ من وعوده الثلاث .
المذيع :
شيخنا بارك الله فيكم ، الله جل جلاله وزع القدرات ، والطاقات ، والثروات ، ليتكامل المجتمع ويتعارف ، كيف لنا أن نفهم هذه العبارة من خلال قوله تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾
توزيع الحظوظ في الدنيا توزيع ابتلاء :
الدكتور راتب :
يوجد قوي وضعيف ، القوي مكلف أن يعين الضعيف ، فالقوي يبذل والضعيف يشكر ، فالاثنان تقربا إلى الله
يوجد غني وفقير ، الغني يعين الفقير ، يوجد صحيح ومريض ، هذا التفاوت أكبر سبب للعمل الصالح ، ولأن علة وجودنا في الدنيا العمل الصالح بشكل أو بآخر الحظوظ ، الغنى حظ ، القوة حظ ، الذكاء حظ ، الوسامة حظ ، الحظوظ موزعة في الدنيا توزيع ابتلاء ، أي الغني - كلمة دقيقة - مبتلى بالغنى ، ممتحن بالغنى ، والفقير ممتحن بالفقر، والقوي ممتحن بالقوة ، والضعيف ممتحن بالضعف ، والوسيم ممتحن بالوسامة ، والدميم بالدمامة ، والمرأة ممتحنة بأنوثتها ، والرجل بقوته ، أنت ممتحن بما أعطاك ، ممتحن بما زوي عنك ، والله الدعاء مذهل :
(( اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله عوناً لي فيما تحب ، وما زويت عني ما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب))
على الحالتين رابح ، أعطاك قوة ، اجعلها يا رب في خدمة عبادك ، أعطاك مالاً ، اجعله في خدمة الفقراء ، أعطاك علماً ، اجعله في خدمة الجهلاء ، أعطاك صحة ، اجعلها في صحة المرضى .
(( ما رزقتني مما أحب فاجعله عوناً لي فيما تحب ، وما زويت عني ما أحب))
ما تمكنت أن أكون غنياً ، فاجعل هذا الوقت الذي نتج من ضعف دخلي ، عندي وقت فراغ .
(( وما زويت عني ما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب))
على الحالتين رابح ، لذلك المؤمن :
(( عَجَبا لأمر المؤمن! إنَّ أمْرَه كُلَّه له خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابتْهُ سَرَّاءُ شكر ، فكان خيراً له ، وإن أصابتْهُ ضرَّاءُ صَبَر ، فكان خيراً له ))
المذيع :
شيخنا ، ممكن نختم بهذا الدعاء ؟
الدعاء :
الدكتور راتب :
اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارضَ عنا ، اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما نحب .
خاتمة و توديع :
المذيع :
اللهم استجب ، شكراً لكم شيخنا ، وشكراً موصول أنتم أخواني وأخواتي على طيب المتابعة وجميل الاستماع .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته