- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠57برنامج أحاديث قدسية - قناة قطر
مقدمة :
أخوتي الكرام ؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم ، لكن العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً ، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم ، فإذا ظن أنه علم فقد جهل ، طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً ، بينما الجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً ، لذلك هذه الحلقات إن شاء الله تتمحور حول الأحاديث القدسية .
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم .
معرفة أسماء الله الحسنى جزء أساسي من عقيدة المسلم :
أيها الأخوة الأحباب ؛ لا زلنا مع الأحاديث القدسية ، والحديث اليوم :
(( لما خَلقَ اللهُ الخلقَ كَتبَ في كِتابه وهو يكتب على نفسه وهو وضع عندهُ على العرشِ : إِنَّ رَحمتي تَغْلِبُ غَضَبي ))
لذلك معرفة أسماء الله الحسنى جزء أساسي من عقيدة المسلم ، ولأنك لا تقبل صديقاً إلا أن تعرف عنه كل شيء ، وأنت حينما تقول : الله خلق السماوات والأرض ، هذا لا يكفي يجب أن تعلم المزيد عن رحمته ، عن حلمه ، عن عدله ، عن رأفته ، عن قوته ، عن بطشه ، حينما قال الله عز وجل :
(( يا داود ! ذكرهم بآلائي ، ونعمائي ، وبلائي - الشرح - ذكرهم بآلائي كي يعظموني ، وذكرهم بنعمائي كي يحبوني ، وذكرهم ببلائي كي يخافوني ))
والحقيقة أن رحمة الله يصعب أن نعرفها بشكل مجرد إلا عن طريق الأمثلة ، انظر إلى قلب الأم ، تعيش لابنها ، تموت من أجله ، تطعمه ولا تأكل ، تلبسه ولا تلبس ، هو شغلها، هو هدفها ، يتقطع قلبها إذا أصابه مكروه ، هي مخلوقة من مخلوقات الله ، من الذي أودع فيها هذه الرحمة ؟
نظام الأبوة ونظام الأمومة أكبر دليل على رحمة الله عز وجل :
أخوتنا الكرام ؛ هناك أمثلة من عالم الحيوان لها معنى كبير ، فالأمومة في أي مخلوق متميزة بالرحمة ، لكن الله يعلمنا أن بعض المخلوقات ترحم أولادها إلى حين .
من هذا القبيل كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يمشي مع أصحابه ، فرأوا أماً تقبّل ابنها ، وتخبز على التنور ، فقال عليه الصلاة والسلام : أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار ؟ قالوا : لا والله ، أو هي تقدر على ذلك ؟ فقال النبي الكريم : لله أرحم بعبده من هذه المرأة بولدها .
قال تعالى :
﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴾
كأن الله تعالى أراد أن يعرفنا بذاته العلية ، من نظام الأب والأم ، أكثركم آباء ، لا يريد الأب من ابنه شيئاً إلا أن يكون سعيداً ، حينما يسمع أنه نجح في الشهادة ، أو تسلم وظيفة، أو تزوج ، أو كان حسن السيرة ، يمتلئ قلبه فرحاً .
كنت مرةً في بلد عربي عند مدير مؤسسة ضخمة جداً ، جاءه اتصال هاتفي ، ثم استمع إليه ، ثم قال لي : لي ابن صغير جداً ، قال لي : تعال خذني لعند رفيقي ، وهذا مدير العام يحكم مئات الموظفين ، وكلهم يهابونه ، أما ابنه فتعال أوصلني إلى عند صديقي ، سبحان الله ! قال تعالى :
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ﴾
هذا الابن واثق من محبة أبيه ، من أودع في قلبه المحبة ؟ لولا هذه الرحمة التي أودعها الله في قلب الأب ما كان هذا الطفل يجرؤ على أن يطالب أباه بقسوة إلى أن يوصله لعند صديقه ، فحينما يسأل الابن أباه يسأل الأم بقوة وبتحكم أيضاً .
ألم يقل بعض الأباطرة : إنني أحكم إسبارطة ، وإسبارطة تحكم العالم ، وأمك تحكمني ، وأنت تحكم أمك ، أي ؛ ابن يحكم أمه ، والأم تحكم الإمبراطور ، والإمبراطور يحكم أثينا ، وأثينا تحكم العالم ، هذا نظام الأبوة ، شيء معجز ، نظام الأبوة ونظام الأمومة أكبر دليل على رحمة الله عز وجل ، الطفل له شأن كبير ، لأن الله عز وجل يقول :
﴿ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴾
حقيقة رحمة الله :
ولكن يا أخوة الإيمان : ما حقيقة رحمة الله ؟ إنها كروح في الجسد ، بها يقف ، وبها يتحرك ، وبها يفكر ، وبها يتكلم ، وبها يستمع ، يسعد بها الإنسان ولو فقد كل شيء ، ويشقى بفقدها ولو ملك كل شيء ، رحمة الله ليست ملك أحد ، فيمسكها أو يرسلها ، ولكنها بمتناول كل واحد من البشر ، إذا هو دفع ثمنها ، قال تعالى :
﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
وقال تعالى :
﴿ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾
ما من نعمة يمسك الله معها رحمته إلا وتنقلب بذاتها إلى نقمة ، ما من محنة تحفها رحمة الله إلا وتكون بذاتها نعمة ، ينام المرء على الشوك مع رحمة الله فإذا هو مهاد وثير ، ينام على الحرير وقد أمسكت عنه رحمة الله فإذا هو شوك القتاد ، يعالج المرء أعسر الأمور برحمة الله فإذا هي هوادة ويسر ، ويعالج أيسر الأمور وقد تخلت عنه رحمة الله فإذا هي مشقة وعسر ، يخوض المخاوف والأخطار ومعه رحمة الله ، فإذا هي أمن وسلام ، يعبر المناهج والسبل وقد أمسكت عنه رحمة الله ، فإذا هي مهلكة وبوار ، رحمة الله لا تعز على طالب كائناً من كان في أي زمان وأي مكان ، وفي أي حال ومآل ، وجدها إبراهيم عليه السلام في النار ، وجدها يوسف عليه السلام في الجب كما وجدها في السجن ، وجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت ، في ظلمات ثلاثة ، وجدها موسى في اليم عليه السلام ، وهو طفل مجرد من كل قوة وحراسة ، وجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في الدور والقصور ، فقال بعضهم لبعض :
﴿ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ﴾
ووجدها عليه الصلاة والسلام وصاحبه في الغار ، والأعداء يتعقبون ويتقصون الآثار، ويجدها كل مؤمن آوى إليه يائساً ممن سواها ، قاصداً باب الله وحده من دون كل الأبواب .
آثار رحمة الله :
أيها الأخوة الأحباب ؛ يبسط الله الرزق مع رحمته ، فإذا هو متاع طيب ورخاء ، وإذا هو رغد في الدنيا ، زاد إلى الآخرة ، ويمسك رحمته فإذا هي مسار قلق وخوف ، وإذا هو مسار حسد وبغض ، وقد يكون معه الحرمان ، ببخل أو مرض ، وقد يكون معه التلف ، بإفراط واستهتار ، يمنح الله الذرية مع رحمته فإذا هي زينة الحياة الدنيا ، ومصدر فرح واستمتاع ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح ، ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد ، وعالة وشقاء ، وسهر بالليل ، وتعب في النهار ، يهب الله الصحة والعافية مع رحمته ، فإذا هي رحمة وحياة طيبة ، ويمسك رحمته فإذا الصحة والعافية بلاء يسلطه الله على الصحيح المعافى ، فينفق الصحة والعافية ثم يحطم الجسم ، ويفسد الروح ، ويسخر السوء إلى يوم الحساب .
ويعطي الله الجاه والقوة مع رحمته فإذا هي أداة إصلاح ، ومصدر أمن ، ووسيلة لإدخار الطيب الصالح بالعمل والأثر ، ويمسك رحمته فإذا الجاه والقوة مصدرا قلق على قوته ، ومصدرا طغيان وبغي ، ومصدرا حقد وكراهية ، لا يقر لصاحبها قرار ، ويدخر بها الآخرة رصيداً ضخماً من النار .
موجبات رحمة الله :
بعد هذا الوصف الدقيق لآثار رحمة الله تطمح كل نفس إلى أن تنال من رحمة الله ما يسعدها في الدنيا والآخرة ، فتسأل النفس : كيف السبيل إلى رحمة الله ؟ وهل في القرآن إشارات إلى موجباتها ؟
أولاً : التقوى ، وفي القرآن الكريم إشارات كثيرة إلى موجبات الرحمة ، قال تعالى :
﴿ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾
أي إذا اتقيت الله أيها الإنسان فقد حققت أحد موجبات رحمته .
ثانياً : الطاعة ، قال تعالى :
﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾
أي إذا اتبعت المنهج الذي رسمه الله عز وجل للإنسان ، وتفاصيله التي بينتها السنة سنة النبي الكريم العدنان ، فقد حققت أحد موجبات الرحمة .
ثالثاً : الصلاة ، قال تعالى :
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾
فالصلاة أيها الأخوة هي العبادة الشعائرية التي إن صحت بالتزام أمر الله ، والإحسان إلى خلقه ، تتملك نفس صاحبها من خلال رحمة الله ، وكان عليه الصلاة والسلام إذا دخل المسجد يدعو ويقول :
(( اللَّهمَّ افْتح لي أبواب رحمتك))
رابعاً : قراءة القرآن ، قال تعالى :
﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾
فإذا أردت أن تناجي ربك فادعه ، وإذا أردت أن يناجيك ربك فاقرأ القرآن .