وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 03 - سورة الأنعام - تفسير الآيات 7-12 ، خسارة الكافر ومكسب المؤمن
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .

 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثالث من دروس سورة الأنعام .


من أراد أن يؤمن فلا يحتاج إلى معجزة ومن أراد ألا يؤمن فلا تنفعه المعجزة :

 

ومع الآية السابعة، وهي قوله تعالى : 

﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ(7) ﴾

[ سورة الأنعام ]

هذا الكتاب القرآن الكريم الذي أُنزل على قلب سيد المرسلين، والذي فيه المنهاج القويم، لو أنهم درسوا ما فيه، ونظروا في توجيهاته، وفي أخباره، وفي تفاصيله لآمنوا، لكنهم كذبوا.


 الآن لو رأوا بأم أعينهم كتاباً ينزل من السماء، فلما وصل إلى الأرض لمسوه بأيديهم لقالوا:

﴿إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ معنى ذلك أن الذي يريد أن يؤمن، أبسط شيء يراه يكفيه للإيمان، والذي لا يريد أن يؤمن، لو رأى المعجزات تِلو المعجزات لا يؤمن، القضية قضية قرار داخلي يتخذه الإنسان، لو أن الإنسان أراد الحقيقة، البعرة تدل على البعير، والأقدام تدل على المسير، والماء يدل على الغدير، أفسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج ألا تدلان على الحكيم الخبير ؟!!

 القضية أيها الإخوة، أن هذا الكون بوضعه الراهن، بوضعه القائم من دون خرق لنواميسه هو معجزة، عينك معجزة، حواسك الخمس معجزة، الدماغ معجزة، ابنك الذي تراه بعينك معجزة، الطعام الذي تأكله معجزة، لو أنك نظرت إلى ما في هذا الكون من دون تغيير لنواميسه، ولا لقوانينه، من دون خرق لقوانينه، هو بحد ذاته معجزة، فهذا الإعجاز اللامتناهي إن تعامى الإنسان عنه، لن يؤمن بخرق لنواميسه، ولا بخرق لقواعده. 

فلذلك أيها الإخوة، هذا الذي أراد أن يؤمن لا يحتاج إلى معجزة، والذي أراد ألا يؤمن لا تنفعه المعجزة. 


الطريق إلى الله ليس في المعجزات ولكن في اتخاذ قرار إيماني مسبق :


﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ إذاً: ينبغي أن تطلب الحقيقة، ينبغي أن تتخذ قراراً داخلياً في البحث عن الحقيقة، فإن اتخذت هذا القرار كل شيء في الكون يدل على الله، من دون خرق للنواميس، من دون تعطيل للقوانين، الكون بحد ذاته معجزة، يعني ثلاثمئة ألف شعرة، لكل شعرة وريد، وشريان، وعصب، وعضلة، وغدة دهنية، وغدة صبغية، هذا الشعر، هذا خلق الله، قلت: في العين في الميليمتر المربع من الشبكة يوجد مئة مليون مستقبل ضوئي، في المعدة 35 مليون عصارة، الدماغ فيه 140 مليار خلية استنادية سمراء لم تُعرَف وظيفتها بعد، ماذا أقول؟! الإنسان من حُوَين وبويضة في تسعة أشهر صار إنساناً سويّاً .


 أيها الإخوة ، الطريق إلى الله ليس في المعجزات، ولكن في اتخاذ قرار إيماني مسبق، و هذا يفسر آيات كثيرة تأتي على نمط واحد.

﴿  وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُم بِـَٔايَةٍۢ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّىٓ أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْـَٔةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًۢا بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ ٱلْأَكْمَهَ وَٱلْأَبْرَصَ وَأُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49)﴾

[  سورة آل عمران ]

 يعني إن أردتم أن تؤمنوا فهذا آية لكم، أكثر من آية على هذا النمط:

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أنت حينما تريد أن تؤمن، كل شيء في الكون يدلك على الله، كأس الحليب، ما علاقة هذا الكائن البقرة بهذا الإنسان؟ غذاء كامل للإنسان، ما علاقة هذا الطعام بأجسامنا؟ توافق تام مع أجسامنا، معنى ذلك أن هناك إلهاً عظيماً هو الذي خلق هذا الإنسان، وخلق له هذه النباتات، وخلق له هذه البهائم كي يأكل منها.

 ما معنى أن تكون الكرة الأرضية وحدها من بين المجموعة الشمسية صالحة للحياة؟ الآن الكواكب السّيّارة التي هي المجموعة الشمسية، بعض هذه الكواكب تصل سرعة الرياح فيها إلى 2000 كم في الساعة، 2000 كم في الساعة أي لا يمكن أن يبقى شيء على سطح هذا الكوكب، نحن برياح سرعتها ستمئة كيلومتر مدن بأكملها تطير، برياح سرعتها مئة كيلومتر يحصل انهدام واقتلاع أشجار، برياح سرعتها ستمئة كيلومتر لا يبقى شيء في المدينة، بعض الكواكب السيارة سرعة الرياح فيها ألفَا كيلومتر في الساعة، بعض الكواكب الهواء كله حول الكوكب، ثاني أكسيد الكربون، غاز سام، في بعض الكواكب الحرارة 450 درجة فوق الصفر، بعض الكواكب الحرارة 238 درجة تحت الصفر، لو استعرضت الكواكب السيارة واحداً وَاحداً، لا يمكن لواحد أن تصلح فيه الحياة، ما معنى أن تكون الأرض وحدها بحجمها، بنسبة يابستها إلى بحرها، بهوائها، بحرارتها، بليلها، بنهارها مناسبة تماماً للإنسان؟ معنى ذلك أن هناك خالقاً عظيماً.

 الآن هذه الخلية في رحم الأم تنمو وتنقسم، وتنمو وتنقسم، لو لم تكن هناك يد إلهية لنما هذا الجنين، وأصبح نسيجاً لحمياً متجانساً، أو نسيجاً عصبيّاً، أو نسيجاً عظميّاً، ما معنى أن يكون في هذا الطفل عظام، وأوعية، وشرايين، وقلب، وجهاز هضم، ومريء، ومعدة، وأمعاء، وكبد، وبنكرياس، ودماغ، وأعصاب، وأطراف، وأصابع، يد من صنعت هذا ؟! 


لولا أن النبي والرسول بشر تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر :


 أيها الإخوة: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ اقتراح آخر من هؤلاء المكذبين:

﴿  وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) ﴾

[ سورة الأنعام ]

 

لو أن النبي عليه الصلاة والسلام كان ملَكاً، وأمرنا أن نغض أبصارنا ماذا يُقال له؟ أنت ملَك لا تعرف، هذه شهوة أودعها الله فينا، لم تُودع فيك حتى تنهانا عن هذا، يجب أن يكون الرسول بشراً، ولولا أن النبي والرسول بشر تجري عليه كل خصائص البشر لَمَا كان سيد البشر، لولا أنه بشر تجري عليه كل خصائص البشر، ثم انتصر على بشريته لَمَا كان سيد البشر، يريدون نبياً ملَكاً، الملَك لا يعيش واقع الإنسان، لا يعيش شهوة الإنسان، لا يعيش ضغوط الإنسان، لا يعيش صوارف الإنسان، ولا عقبات الإنسان، كل هذه الصوارف، والعقبات، والضغوط، والشهوات، الملَك لا يعرفها إطلاقاً، إذاً كيف يكون رسولاً لنا؟ لكن لو أنه كان ملكاً كيف يرونه؟ كيف يستمعون إليه؟ لا بد أن يكون له شكل كشكلهم، وحركة كحركتهم، وجسم كأجسامهم .


الأنبياء لهم مهمتان مهمة التبليغ القولي ومهمة الأسوة العملية :


 قال تعالى : 

﴿  وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ(9) ﴾

[ سورة الأنعام ]

مستحيل أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام من جنس آخر، عندئذٍ تتعطل مهمته الثانية. 

الأنبياء لهم مهمتان: مهمة التبليغ القولي ، ومهمة الأُسوة العملية ، بل إنني أرى أن مهمة الأسوة العملية أبلغ ألف مرة من مهمة التبليغ القولي ، فأيّ إنسان إذا أُوتي فصاحة في اللسان، وذاكرة قوية ينطق بما ينبغي أن يقول، ويقول كلاماً رائعاً، لكن الذي خصّ الله به الأنبياء أنهم في سلوكهم هناك انضباط مذهل، ما تكلموا كلمة إلا فعلوها، ليس هناك مسافة أبداً بين أقوالهم وأفعالهم، فلو أن هذا النبي كان في الأصل ملَكاً، ثم ألبسه الله شكل الإنسان، وكان بينهم متحدّثاً، فهو قد يؤدي مهمة التبليغ، ولكن لا يؤدي مهمة الأسوة، الله عز وجل يقول :

﴿  لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً(21) ﴾

[  سورة الأحزاب  ]


 فإذاً: لا بد من أن يكون هذا الذي يبلغك ناطقاً بالحق، مُطبّقاً للحق، ربما تقنع من طبيب باختصاص بأعلى مستوى، تنتفع بعلمه ولا يعنيك سلوكه، قد يكون غير مستقيم، قد لا يصلي، قد يشرب الخمر، لكنك في هذا الموطِن أنت بحاجة إلى علمه فقط، فتأتي طبيباً يعنيك من الطبيب اختصاصه فقط، فتنتفع بطبيب، بمهندس، بخبير، بمحلّل، بمترجم، تنتفع بآلاف الأشخاص، ولا يعنيك ما يفعلون، إلا أنك لا يمكن أن تنتفع من رجل دينٍ إلا إذا كان مُطبِّقاً لما يقول، وإلّا تسقط الدعوة، وهذا الذي يقولونه أحياناً: خذ من أقوالهم ولا تلتفت إلى أفعالهم ، هذا كلام غير صحيح، لا يمكن أن تحترمهم إذا تكلموا شيئاً وفعلوا شيئاً، لا يمكن أن تُلقي لهم أذناً صاغية إذا رأيت كلامهم في واد، وأفعالهم في واد آخر.

 إذاً: لو أن الله سبحانه وتعالى جعل الأنبياء والرسل ملائكة، ثم أعطاهم صورة الإنسان، وبيان الإنسان، وألبسهم لَبوس الإنسان، بلّغوا الأقوام، ولكن أعظم شيء في النبي والرسول هو أنه قدوة، فَقَدوا القدوة . 


الإنسان المنكر إذا طلب معجزة وتحققت ولم يؤمن يستحق الهلاك :


 فيا أيها الإخوة الكرام، الله عز وجل يقول: لا بد من أن يكون النبي، والرسول من جنسكم، ومن طبيعتكم، ومن بني البشر، وهو بشر كالبشر، خصائص البشرية موجودة فيه. 


إذاً: لولا أنه بشر تجري عليه كل خصائص البشر، لَمَا كان سيد البشر، لولا أنه بشر تجري عليه كل خصائص البشر، ثم انتصر على بشريته، لمَا كان سيد البشر.

 النقطة الدقيقة أن الإنسان المُنكِر إذا طلب معجزة وتحققت، ولم يؤمن يستحق الهلاك، لذلك: 

﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ﴾ أحياناً هذا شيء مُبَّسط ، إنسان يطلب من الله شيئاً، يا رب إن فعلت كذا فأنا تائب لك، هكذا بسذاجة، الله عز وجل يحقق له هذا الشيء، أنا أقول لكل إنسان تمنى على الله شيئاً، وربط إيمانه بالله، أو استقامته، أو توبته بهذا الشيء، فالله عز وجل تكرُّماً منه حقق له هذا الشيء، ولم يتب بعدها، ولم يُنجز وعده بعدها، فأمامه مصيبة كبيرة، قياساً على هذه السُّنة الكبيرة التي هي من سُنن الله عز وجل.

 الأقوام الذين كفروا لو طلبوا معجزة، وبنَوا إيمانهم على هذه المعجزة، وتحققت هذه المعجزة ولم يؤمنوا، استحقوا الهلاك العاجل: ﴿وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ﴾ .


من سنن الله عز وجل أن هناك معركة قائمة أزلية أبدية بين الحق والباطل :


﴿  وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) ﴾

[ سورة الأنعام ]

 معركة الحق والباطل معركة أزلية، أبدية من آدم إلى يوم القيامة، الله عز وجل شاءت حكمته أن يكون في الأرض مؤمن وغير مؤمن، ففريق يدعو إلى الله، وفريق يدعو إلى الشيطان، ربّانيّون وطواغيت، مؤمنون وكافرون، أُخرَويّون ودنيويّون، أناس شهوتهم يعبدونها من دون الله، وأناس إله عظيم يعبدونه وحده، فهناك فريقان في كل مجتمع، هذا النظام أن هناك معركة قائمة أزلية أبدية بين الحق والباطل، هذه من سنن الله عز وجل.

﴿  وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ(113) ﴾

[  سورة الأنعام  ]

الله سبحانه وتعالى ميز الإنسان بحرية الاختيار :


﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ للتوضيح: لعلكم فهمتم أنه شاءت حكمة الله أن يكون في الأرض كفار ومؤمنون، لا أقصد أبداً أن الله خلق الكافر كافراً، لكنني أريد أن أقول: إن الله سبحانه وتعالى ميّز هذا الإنسان بحرية الاختيار. 

﴿  إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً(3) ﴾

[  سورة الإنسان  ]


﴿ وَلِكُلٍّۢ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَٰتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ(148)﴾

[  سورة البقرة ]

﴿ وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍۢ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِى ٱلْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا(29) ﴾

[  سورة الكهف ]

 وإن الناس بعضهم آمن، وبعضهم لم يؤمن، فالذي آمن يدعو إلى الهدى، والذي لم يؤمن يدعو إلى الضلال، إذاً شيء طبيعي مادام الإنسان في اختيار، وقد أُودِعت فيه الشهوات، وقد أُعطي حرية في اختياره، أن تنشأ هذه المعركة الأزلية الأبدية بين الحق والباطل. 


تكذيب الإنسان للحق وسخريته منه تكون سبب هلاكه أحياناً :


 فالاستهزاء بالرسل شيء قديم، والسبب أن أنبياء الله جل جلاله معهم منهج، المنهج فيه ممنوعات، الدين الذي من عند الله يُقيّد الإنسان في شهواته، فأيّ شهوة أودعها فيه مسموح له أن يمارسها في حيّز محدود، أما أن تُمارَس من دون قيد أو شرط، هذا ليس ديناً، هذه إباحية، الآن يقول لك: فلان إباحي، يعني ما عنده شيء حرام، ممكن أن يمارس شهوته من دون قيد أو شرط إطلاقاً، لا في كسب الأموال، ولا في علاقته بالنساء، ولا في أي شيء آخر، فلذلك الشهوات واسعة جداً، والمنهج الإلهي يقيّد المؤمن في ممارسة شهواته، فهناك قناة نظيفة لكل شهوة أودعها الله فيك.


 فلذلك الإنسان حينما يكون حراً في ممارسة الشهوة، يفعل ما يشاء، ثم يأتي إنسان يقول له: أنا نبي، وهذه حرام لا تفعلها، ماذا يفعل؟ هذا الذي ألِف أن يتحرك بلا قيد ولا شرط، يأتي إنسان ويقول له: إنه رسول الله، والزنا مُحرَّم، والربا مُحرّم، وأكل الخنزير مُحرّم. 

﴿ وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلًا ۚ قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدًۢا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُۥ عِلْمُ ٱلْكِتَٰبِ(43) ﴾

[ سورة الرعد ]

 ردّ الفعل الطبيعي من هؤلاء الكفار المتفلتين الإباحيين على دعوة الأنبياء والرسل التكذيب، فالتكذيب معه استهزاء، التكذيب معه عِداء، التكذيب معه قتل، أنبياء كُثُر قُتلوا : 

﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ حاق: يعني أحاط، سخريتهم كانت سبب هلاكهم، سخريتهم أحاطت بهم، وأهلكتهم، ودمرتهم، والإنسان أحياناً تكذيبه للحق وسخريته منه سبب هلاكه.


من يحارب الحق فهو الخاسر لا محالة :

 

لمّا قال الله عز وجل: 

﴿  إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ(4) ﴾

[  سورة التحريم  ]

 امرأتان يقول الله في حقّهما: ﴿وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ﴾ أي على رسول الله ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ ما معنى هذه الآية؟ أي يجب أن تعلم أيها الإنسان أنك إذا كذّبت الحق مَن هو الطرف الآخر، أنت في النظام المدني، أو في بلاد في العالم الثالث لا تجرؤ أن تعتدي على إنسان له صفة رسمية، لماذا ؟ لأن الدولة كلها وراءه، أنت حينما تمتنع أن توقع الأذى به تعلم ما المصير، تعلم أن هناك قوة عظمى لا تستطيع أن تقابلها .


 فلذلك هذا الذي يسخر من أنبياء الله، من رسل الله، من دين الله، من شعائر الله عز وجل، لا يعلم أن الله سبحانه وتعالى قد يُدمّره، وقد يُهلكه بسبب هذه السخرية، ولاسيما إذا كانت علانية، ثم يقول الله عز وجل: 

﴿  قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(11) ﴾

[ سورة الأنعام ]

 الآن التاريخ كما يُقال يعيد نفسه، والتاريخ مدرسة، هؤلاء الذين كذبوا الرسل والأنبياء ما مصيرهم؟ التاريخ القريب، لما بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم للناس رسولاً، الذين كذبوه: أبو جهل، أبو لهب، أين هم الآن؟ بعضهم يقول: هم في مزبلة التاريخ، والذين وقفوا معه، وأيّدوه، ونصروه أين هم؟ في أعلى عليين.  يعني دائماً إذا حاربت الحق فأنت خاسر لا محالة، قد يكون لك جولة على الحق، كما هو الوضع الآن، الآن هناك دول عظمى تحارب المسلمين في كل بقاع الأرض، وبما تملك من أسلحة فتاكة، قد تنتصر في معارك محدودة، لكن في النهاية العاقبة لمن؟ للمتقين:

﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ ثم: تفيد الترتيب على التراخي، أي أن الله عز وجل يُمهل ولكن لا يُهمل، وكل أفعالك، وحركاتك، وسكناتك محسوبة عليك، وهناك عقاب، وهناك عقاب أليم، وهناك هلاك مبين. 

إذاً: انظر إلى التاريخ، كم قوم حارب المسلمين؟ الإسلام بقي كالطَّود الشامخ، والذين حاربوه عبر التاريخ الإسلامي هم في مزابل التاريخ، كم حركة أرادت أن تكيد للإسلام، أين هي الآن ؟!! 


الله عز وجل لخص لنا كل الحقائق بالقرآن الكريم :

 

فيا أيها الإخوة، هذه أيضاً طريق للمعرفة، التاريخ يعطي حقائق ناصعة، والإنسان إذا أراد أن يعرف الحقيقة، فليأخذها من كتاب الله، وليعزّزها بما يجري في التاريخ .

 شيء آخر، لو أن إنساناً عنده وقت فارغ، وعنده تحليل عميق، وعنده دراسة اجتماعية دقيقة، وتابع ما يجري فيمن حوله، يجد أفعال الله في أعلى درجة من الحكمة، والعدل، والرحمة، الله عز وجل موجود، تجد المخلص له معاملة، الخائن له معاملة، الصادق له معاملة، الكاذب له معاملة، المُتقن له معاملة، لكن نحن في غفلة، والذي يحصل أيها الإخوة، أن معظم الناس مُطّلعون على آلاف القصص من آخر فصل، هذا لا يكفي، لكن لو أنك اطّلعت على قصة من أول فصل إلى آخر فصل، قد تخِرّ لله ساجداً، لعظمة الله ولعدله، إنسان تطاول، إنسان بنى مجده على التطاول على الآخرين، يأتي من يُهينه، إنسان جمع مالاً من حرام، هذا المال يُبدَّد ويُدمَّر، فلو أنك تتبّعت ما يجري حولك لرأيت منهجاً دقيقاً جداً، ولكن هذا الطريق طويل وشاق، الله عز وجل لخص لك هذه الحقائق بالقرآن الكريم، لكن هذه الآية : 

﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا﴾ ﴿ثُمَّ﴾ يعني على التراخي ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ الذين كذبوا الحق. 


ملكية الإنسان محدودة :


 الله عز وجل بعدها يقول: 

﴿  قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) ﴾

[ سورة الأنعام ]

 يعني هذا الكون كله لمن؟ من مالكه؟ ملكية الله له من أعلى مستوى، يعني خَلقاً، تصرُّفاً، مصيراً. 


لاحظ الإنسان قد يملك بيتاً ولا ينتفع به، يعني مُؤجَّر على القانون القديم فرضاً، يملكه لكن لا ينتفع به، وقد ينتفع ببيت ولا يملكه، وقد يملك بيتاً وينتفع به، ولكن مصيره ليس إليه، يصدر قانون استملاك، هذا مثل للتقريب، ملكية الإنسان محدودة، إنسان يملك أموالاً منقولة وغير منقولة، ما دام القلب ينبض فهذه الأموال له، وقّف القلب، في ثانية تحولت كل هذه الأموال لورثته، لا يملك شيئاً، فالإنسان مهما كان قوياً ملكيته محدودة.

 الآن مهما كان في نعمة فإما أن تزول عنه، وإما أن يزول عنها، أبداً، إنسان يكون في بيت فخم جداً، يفتقر، يُفلِس، يضطر أن يبيعه، يسكن في بيت متواضع جداً، حتى يؤدي ما عليه من ديون، هذه النعمة زالت عنه، أو أن يموت فيزول عنها، إذاً ملكية الإنسان محدودة .

 لذلك لما سألوا بدويّاً معه قطيع من الإبل: لمن هذه ؟ أجمل كلمة، وأبلغ كلمة قالها: هي لله في يدي.

﴿  قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِى ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ۖ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ (26) ﴾

[ سورة آل عمران ]

 الملك الحقيقي لله، لك عينان هل تملكهما؟ في أي لحظة هذه النعمة العظمى يفقدها الإنسان، لك سمع، لك عقل، نقطة دم لا تزيد على رأس دبّوس تتجمد في بعض الأوعية في الدماغ، فيفقد الإنسان ذاكرته كلها، يعني فقد علمه كله، ما من شيء يملكه الإنسان . 


رحمة الله تعالى بعباده :

 

إذاً: ﴿قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ﴾ مالك الملك، هو خير الوارثين، إنسان ترك ألف مليون، أحد الورثة اختل توازنه، نصيبه تسعون مليوناً، أغلق محله التجاري، وتابع معاملات الإرث، وبراءات الذمة والمالية، ستة أشهر وهو في دوائر الحكومة، ومات بجلطة في الحمام، ولم يأخذ قرشاً واحداً، الله عز وجل خير الوارثين، أنت لا تملك شيئاً. 

﴿قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ الآية دقيقة جداً، أن يُعطى الإنسان مُهلة للموت هذه رحمة كبيرة، أخطأت، ما دمت حياً، ما دام القلب ينبض، هناك فرصة للتوبة، ما دمت حياً، وما دام في العمر بقية، وما دام القلب ينبض، باب التوبة مفتوح، هذه رحمة الله .

والرحمة الثانية : أن الذي ظُلم في الأرض سيأتي يوم تُسوّى فيه الحسابات، سوف ينتصر الله له يوم القيامة، والذي أُخِذ ماله في الدنيا يُعوّض عنه يوم القيامة، والتي كان حظها من الرجال سيئاً، وكانت صالحة لها يوم القيامة معاملة خاصة، فأدق كلمة أن هذا اليوم؛ اليوم الآخر تُسوّى فيه الحسابات، هذه رحمة الله عز وجل، فلذلك الإنسان لولا الإيمان باليوم الآخر، لكانت حياتنا جحيماً، أحياناً أنت ضعيف ولك عدو قوي، حاقد عليك، يتمنى تدميرك، ويدمّرك، وأنت لا تفعل شيئاً، لولا أن هناك حساباً . 

﴿  وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) ﴾

[  سورة إبراهيم  ]


أكبر خسارة للإنسان أن يخسر نفسه :

 

المشكلة كبيرة جداً، إذاً يوم القيامة، أولاً: 

﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ يعني الحساب يوم القيامة، ما دمت في الدنيا فالفرصة متاحة كي تتوب، والفرصة متاحة كي تُصلِح ما كان منك، فكل شيء قابل للإصلاح ما دام القلب ينبض، وهذا من رحمة الله بنا.

 والرحمة الثانية: أن الإنسان إذا مات، وكان مظلوماً، كان إنساناً فقيراً ما تمتع بالحياة الدنيا، وثمة إنسان غني، فهذا الذي كان فقيراً له معاملة خاصة يوم القيامة، إذاً سيأخذ حقه الكامل. 


بالمناسبة الحياة الدنيا قصيرة جداً، الآخرة أبدية، سرمدية، فإذا ضاع منك شيء في الدنيا، تُعوَّض عليه إلى أبد الآبدين.

 أيها الإخوة الكرام، تقتضي رحمة الله أن الإنسان إذا أخطأ ما دام حيّاً له أن يتوب، باب التوبة مفتوح، وهذه رحمة .

 الآن كان في الدنيا فقيراً، أو كان مُعذَّباً، أو كان مريضاً، هذا عَرَض ضيّق، لكن الآخرة رحمة إلى ما لا نهاية، فإذا خسر الدنيا وربح الآخرة، خير له ألف مرة من أن يربح الدنيا، ويخسر الآخرة.

إذاً أيضاً هذا من رحمة الله عز وجل : 

﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ يعني يمكن أن تخسر كل شيء، أما إذا خسرت نفسك فهذه أكبر خسارة. 

﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ يعني الذي لا يؤمن هو الذي خسر نفسه.

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور