وضع داكن
19-04-2024
Logo
مختلفة - الأردن - المحاضرة : 45 - الهجرة درس تعليمي لنا بينما الإسراء معجزة سماوية.
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

العبادة علة وجودنا الأولى و الوحيدة :

 أشكر للقائمين على هذا المسجد دعوتهم الكريمة، التي إن دلت على شيء فعلى حسن الظن بي، وأرجو الله أن أكون عند حسن ظنكم.
 الأخوة الكرام، أهل العلم، والفضل، والبيان، و القرار، إن وجدتم بكلمتي تلك ما كنتم تتوقعون فالفضل لله وحده، و إلا فحسبكم الله ونعم الوكيل.
 أخواننا الكرام؛ موضوع الهجرة في تصوري يحتاج إلى عدة مقدمات حتى تلقي هذه المقدمات ضوءاً على حقيقة الهجرة.
 يوجد مصطلح حديث اسمه: علة الوجود، أي سبب الوجود سؤال كبير يحتاجه كل الناس: ما سبب وجودك بالأرض؟ ما علة وجودك في الأرض؟
 أب أرسل ابنه لبلد لينال الدكتوراه، ولتكن باريس، مدينة عملاقة كبيرة، فيها كل شيء، متاحف، دور سينما، دور لهو، جامعات، أسواق، متاجر، إلى آخره، نقول: علة وجود هذا الابن في هذه المدينة العملاقة شيء واحد هو الدراسة.
 ألا ينبغي أن نسحب هذه الحقيقة على علة وجودنا في الدنيا؟ لماذا نحن في الدنيا؟ الذي خلقنا لماذا خلقنا؟ لماذا جاء بنا إلى الدنيا؟ ما علة وجودنا؟ ما سبب وجودنا؟ الآية تقول:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

[ سورة الذاريات: 56]

 معنى هذا أن علة وجودنا الوحيدة و الأولى العبادة، و العبادة في أدق أدق تعاريفها طاعة طوعية، الذي خلقنا، حياتنا بيده، موتنا بيده، الصحة بيده، المرض بيده، القوة بيده، الضعف بيده، و السعادة بيده، ومع كل هذا ما أراد أن نعبده إكراهاً، فقال:

﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾

[ سورة البقرة: 256]

 بل أراد أن تكون العلاقة به علاقة حب، فقال تعالى:

﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾

[ سورة المائدة: 54]

الحب نوعان؛ حبّ في الله و حبّ مع الله :

 لذلك قالوا: الحب نوعان، حب في الله و هو عين التوحيد، و حب مع الله و هو عين الشرك، الحب في الله أن تحب الله، أن تحب الأنبياء جميعاً، و على رأسهم سيد الأنبياء و المرسلين، أن تحب الصحابة جميعاً، أن تحب أهل الحق جميعاً، أن تحب المساجد، أن تحب العمل الصالح، أن تحب القرآن، أن تحب مجالس العلم، الحب في الله يتفرع عنه آلاف الفروع، أما الحب مع الله فعين الشرك، الحب في الله عين التوحيد، والحب مع الله عين الشرك، أي أن تحب جهة تمنعك أن تصلي، لك مصلحة معها، لذلك العبادة طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية.
طاعة ليست قسرية، بل طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، فما عبد الله من أحبه و لم يطعه، و ما عبد الله من أطاعه و لم يحبه.

تعصي الإله وأنت تظهر حبه  ذاك لعمري في الــــــــــمقال شنيع
لـــــو كان حبك صادق لأطعت ه إن المحب لــــــــــــمن يحب يطيع
***
لكن:
فـــــــــلو شاهدت عيناك مــن حسننا  الذي رأوه لما وليت عنا لغيرنــــــــــا
ولو سمعت أذناك حسن خطابنـــــــا خلعت عنك ثياب العجب وجئتنـــــا
ولـــــــــــو ذقت من طعم المحبة ذرة  عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنــــــا
***
ولـــــــو نسمت من قربنا لك نسمة  لمت غريباً واشتياقاً لقربنـــــــــــــــــــــا
ولـــــــــــــو لاح من أنوارنا لك لائح  تركت جميع الكائنات لأجلنـــــــــــــــــا
فـــــــــما حبنا سهل وكل من ادعى  سهولته قلنا له قد جهلتنــــــــــــــــــــــا
فــــأيسر ما في الحب بالصب قتله  وأصعب من قتل الفتى يوم هجرنا
***

أنواع العبادة :

 أخواننا الكرام، أنتم مؤمنون إن شاء الله، أكبر عقاب يؤدب به المؤمن أن يحجب عن الله.

﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾

[ سورة المطففين:15]

 ما دام لك استقامتك، و عملك الصالح، و أداء صلواتك، و غض بصرك، و ضبط الشاشة، وتربية أولادك، إذاً معك مع الله خط ساخن، تناجيه في الليل، اسمعوا يا أخوان:

(( إذا كان ثلث الليل الأخير نزل ربكم إلى السماء الدنيا فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من طالب حاجة فأقضيها له؟ حتى يطلع الفجر))

[ رواه أحمد عن أبي هريرة]

 لذلك أخواننا الكرام، العبادة أنواع، أحد هذه الأنواع: العبادة الشعائرية، العبادة الشعائرية هي الصوم، و الصلاة، و الحج، و الزكاة، و الشهادة، سامحوني أحياناً الحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح، وعود نفسك أن تتقبل الحقيقة المرة، لا أن تكون ضحية الوهم المريح، يوجد حقيقة مرة، العبادة الشعائرية الصلاة.

(( يؤتى برجال يوم القيامة لهم أعمال كجبال تهامة يجعلها الله هباء منثوراً، قيل: يا رسول الله جلهم لنا؟ قال: إنهم يصلون كما تصلون، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ))

[ سنن ابن ماجه عن ثوبان ]

 فمن لم يكن له ورع يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله، هذه الصلاة، الصوم:

(( مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعمَلَ بِهِ، فَليسَ للهِ حاجة فِي أَن يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ ))

[أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة ]

 انتهى الصوم، الزكاة:

﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾

[ سورة التوبة: 53]

 الحج:

(( من حج بمال حرام ووضع رجله في الركاب وقال: لبيك اللهم لبيك، ينادى أن لا لبيك ولا سعديك، وحجك مردود عليك ))

 بقي الشهادة:

(( من قال لا إله إلا الله بحقها دخل الجنة، قيل: وما حقها؟ قال: أن تحجبه عن محارم الله ))

[ الترغيب والترهيب عن زيد بن أرقم بسند فيه مقال كبير ]

 في الصحاح:

(( ولن تُغْلَبَ أُمَتي مِنْ اثنا عَشَرَ ألفا مِنْ قِلَّةٍ ))

[أخرجه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عباس ]

 نحن ملياران، و الحقيقة المرة، أنا أراها كما قلت قبل أفضل ألف مرة من الوهم المريح، عندنا ثروات لا يعلمها إلا الله، عندنا وحدة بين أمتنا، و مع ذلك نعاني ما نعاني كما ترون و تسمعون.
 لذلك عندنا عبادة تعاملية، هذه الشعائرية، خمس عبادات بخمس صفات سلبية لا تقدم و لا تؤخر، أما العبادة الشعائرية فأصلها أن سيدنا جعفر سأله النجاشي عن الإسلام فقال له:

(( أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لتوحيده، ولنعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم ))

[أخرجه ابن خزيمة عن جعفر بن أبي طالب ]

 العبادة التعاملية، إن حدثت الناس فأنت صادق، إن عاملتهم فأنت أمين، إن استثيرت شهوتك فأنت عفيف، و يأتي فوق كل ذلك النسب، فلذلك الإسلام منهج يبدأ من أخص خصوصيات الإنسان من العلاقات الزوجية و ينتهي بالعلاقات الدولية، أما الصلاة، و الصوم، و الحج، و الزكاة، و الشهادة فعبادة شعائرية، أما الأصل فالعبادة التعاملية، إن حدثت الناس فأنت صادق، إن عاملتهم فأنت أمين، إن استثيرت شهوتك فأنت عفيف، لذلك حينما نطبق منهج الله كما أراد الله نستحق وعود الله عز وجل.

التعاون فضيلة و قوة و حضارة :

 هناك حالة بالعالم الغربي اسمها: فوبيا إسلام، قلق من الإسلام، لأنه اكتسح أوروبا، و قارات بالعالم كثيرة، بفترة صغيرة جداً، الخوف من الإسلام شكل ردود فعل قاسية جداً، لذلك أتصور أن العالم الغربي يريد إفقارنا، و إفسادنا، و إذلالنا، ما العمل؟ أن نتعاون، التعاون فضيلة، التعاون قوة، التعاون حضارة.

﴿ وَتَعَاوَنُوا ﴾

[ سورة المائدة :2]

 أمر إلهي.

﴿ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾

[ سورة المائدة :2]

 و مع الأسف الشديد، الشديد، أن الطرف الآخر يتعاون تعاوناً مذهلاً وبينهم خمسة بالمئة قواسم مشتركة، و نحن مع الأسف مرة ثانية نتقاتل أحياناً كما ترون، و بيننا خمسة و تسعون بالمئة قواسم مشتركة، هذه الحقيقة المرة التي سامحوني أن أعرضها عليكم لأن الناس بحاجة إلى حقيقة مرة، دغدغة المشاعر سهلة جداً على أي متكلم، بالإمكان أن ندغدغ مشاعركم جميعاً، لكن البطولة الحقيقة المرة التي هي أفضل ألف مرة من الوهم المريح.
 لذلك الطرف الآخر يتمنى إفقارنا، و إفسادنا، و إذلالنا، ما العمل؟ أن نعمل، أن نستخرج الثروات، نطور الصناعات كي نكتفي، إذا اكتفينا فالأمر بيدنا، أما إذا كنا مستهلكين فالأمر بيد المنتجين، لو مُنع عنك قطع غيار الطائرات، ألغي الأسطول كله، يوجد تحكم كبير، القوي يتحكم بالضعيف.

حجم الإنسان عند ربه بحجم عمله الصالح :

 لذلك إذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله يجب أن تكون قوياً، والدليل:

(( المؤمن القويُّ خيْر وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف))

[ رواه مسلم عن أبي هريرة]

 لكن النبي جبّار الخواطر قال:

(( وفي كلّ خير ))

[ رواه مسلم عن أبي هريرة]

 إذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله يجب أن تكون قوياً، لأن خيارات الإنسان المؤمن بالعمل الصالح لا تعد و لا تحصى، و العمل الصالح علة وجودك، الدليل:

﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً ﴾

[ سورة المؤمنون: 99 ـ 100]

 دليل آخر: حجمك عند الله بحجم عملك الصالح.

﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾

[ سورة الأنعام: 132]

 لذلك حينما تستيقظ صباحاً، و في الفجر، و في دعاء القنوت: ربي هب لي عملاً صالحاً أتقرب به إليك.
 حجمك عند الله بحجم العمل الصالح.
 لذلك تعليق ساخن: لا تكن داعية يشطح، ولا داعية ينضح، لا يشطح، ولا ينضح، كن داعية ينصح لا يمدح، و لا يفضح، ابتعد عن التطرف، هناك تطرف تشددي، و تطرف تفلتي.
طبعاً عندما سأل النجاشي سيدنا جعفر قال له:

(( كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لتوحيده، ولنعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا ـ التعاملية ـ بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء ))

[أخرجه ابن خزيمة عن جعفر بن أبي طالب ]

 لذلك قالوا دققوا: ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط، من المخلط؟ هو الذي خلط صالحاً وآخر سيئاً، الآية تقول- هذه الآية فيها حقيقة مرة-:

﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ ﴾

[ سورة مريم : 59]

 معنى أضاعوا الصلاة لا تعني تركوها، لكن فرغت من مضمونها.

﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾

[ سورة العنكبوت: 45]

 فإن لم تنهَ إذاً فرغت من مضمونها.

﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ﴾

[ سورة مريم: 59]

 وقد لقي المسلمون بعض هذا الغي.

الشبهات و الشهوات أخطر شيء في الدين :

 لذلك كلمتان دقيقتان خطيرتان: أخطر شيء في الدين الشبهات، و الشهوات، الحل:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾

[ سورة التوبة: 119]

 أنت بحاجة إلى حاضنة إيمانية، أن تسهر مع المؤمنين، أن تتنزه مع المؤمنين، أن تتعامل مع المؤمنين، لا يمنع أن تتعامل مع الجميع، لكن الأصل العلاقات الحميمة، السهر الطويل، الرحلة، أما علاقات عمل فهذه لا يوجد بها إشكال إطلاقاً.
 الآن هناك حقيقة مرة، عندك بيت فيه كل الأجهزة الكهربائية، من أعلى مستوى، انقطع التيار، كله وقف، كتل بلاستيكية، لا تعني شيئاً، الآن القطع إن كان متراً أما مئة متر مثل بعضها، حصل انقطاع.
 لو أخدت ألف بيت، لا يوجد خمر بألف بيت مسلم، و لا زنى، و لا قمار، لكن يوجد به تقصير، تفلت قليل، عدم ضبط الشاشة، عدم تربية الأولاد، عدم الاهتمام بثياب المرأة، الأشياء هذه نتائجها كالكبائر.
 كلمة دقيقة: طريق عرضه حوالي ستين متراً، على يمينه واد سحيق، و عن يساره واد سحيق، و أنت تمشي بالطريق بالمنتصف لو حرفت المقود سنتمتراً واحداً، وثبته إلى أين؟ إلى الوادي، سنتمتراً واحداً، لكن ليس فوراً، هناك ثلاث دقائق أو أربع، أما لو حركته تسعين درجة و رجعته فستنفد، هذا المثل المقدم على النص دقيق جداً.
لا صغيرة مع الإصرار، و لا كبيرة مع الاستغفار، عود نفسك أن تتوب توبة نصوحة.

أرقى أنواع السفر أن تفر بدينك :

 الآن هذه مقدمة، الله عز وجل خلق ظروفاً بحياة النبي الكريم، هذه الظروف اقتضت هذه الهجرة، أي كان من الممكن ألا تكون، الله عز وجل وحده واجب الوجود، لكن ما سواه ممكن الوجود، ممكن أن يكون أو ألا يكون، و إذا كان على ما هو كائن، أو على خلاف ما يكون أليس من الممكن أن يكون الكفار بكوكب آخر؟ بالمريخ مثلاً، لكنا في راحة كبيرة، أو بقارة خاصة، ممكن، أو بحقبة معينة، لكن شاءت حكمة الله أن نكون معاً على أرض واحدة، و في وقت واحد، و في بيئة واحدة، و في ظروف واحدة، لأن الحق لا يقوى إلا بالتحدي، و لأن أهل الحق لا يستحقون الجنة إلا بالبذل و التضحية، فنحن هذا قدرنا، و قدر الله عز وجل له آثار إيجابية كبيرة جداً.
 لذلك علة وجودك العبادة، مكان منعك من أن تعبد الله، من أن تصلي، من أن تحجب زوجتك، إذا كان هناك مكان، زمان، نظام قوي، منعك أن تعبد الله، منعك من علة وجودك الأولى و الوحيدة، لابد من أن تغادر، لذلك كانت الهجرة، التي هي عنوان هذا اللقاء الطيب، هذه المقدمة، الهجرة؛ حينما ترى أن مكاناً ما، أو زماناً ما، أو وضعاً ما، يمنعك أن تعبد الله فلابد من أن تفر بدينك، هي أرقى أنواع السفر، أن تفر بدينك، أو أن تطلب العلم بالسفر، هل هناك حالة أقل من ذلك؟
 أذكر مرة كنت بأستراليا وعندما غادرت أستراليا ودعني رئيس الجالية على علم رفيع قال لي كلاماً مؤلماً- هي قارة فيها ثمانية عشرة مليوناً، التربة عمرها حوالي مئتي سنة فقط، الفواكه أنواع منوعة، بحجوم نادرة، و هناك خيرات لا يعلمها إلا الله- قال لي: بلغ أخواننا بالشام -اسمعوا ماذا قال- أن مزابل الشام- والأردن في الشام، الشام أربع دول- خير من جنات أستراليا، قلت: و الله ما فهمت شيئاً، كي أخذ منه، قال: ابنك هناك يكون خمسين بالمئة ملحداً.
 أنا كنت البارحة في احتفال تحفيظ القرآن الكريم، و الله شيء يدعو للبكاء، آلاف الطلاب يحفظون كتاب الله، نحن عندنا نعم، أخواننا الكرام النعمة إذا ألفت نسيت، والبطولة أن تعرف النعم، في هذا البلد الطيب، التدين ليس تهمة تحاسب عليه، صحيح؟ عندكم ضبط تلبس بالصلاة؟ لا يوجد، نعمة كبيرة، و الشعب أطياف، لا يوجد بين طيفين أحقاد تاريخية تقتضي القتل، كما في البلاد الأخرى، و هناك دولة قوية تحاسب و تعاقب لكن لا يوجد عندها قتل، هذه النعم ألفت فنسيت، ماذا قال النبي في دعائه؟

(( اللهم أرنا نعمك بدوامها لا بزوالها))

 لذلك الآية المتعلقة بالهجرة:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ﴾

[ سورة النساء: 97]

 إذا حال مكان، أو زمان، أو جهة، أو كيان أن تعبد الله ينبغي أن تهاجر، أي على الإنسان أن يؤثر ما يبقى على ما يفنى.
 بربك مثل طبعاً صارخ لو خُيرت بين دراجة و مرسيدس ماذا تأخذ؟ هل هناك شك؟ إذا كانت الدراجة دائماً، و المرسيدس ساعة واحدة، تأخذ الدراجة ساعتئذ، و إذا كانت المرسيدس دائمة و الدراجة ساعة واحدة، لذلك لا يوجد إنسان أكثر غباء، و أكثر حمقاً، و تعاسةً، و شقاءً ممن اختار الدنيا على الآخرة.

(( ابن آدم اطلبنِي تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء ))

[ حديث قدسي ]

 هو ينتظرك.

من آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً :

 لذلك:

(( أَلا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ))

[ رواه أحمد عن ابن عبَّاس ]

 أنت راكب دراجة، و عمل الجنة بصعود، و الطريق ترابي، فيه أكمات، وحفر، وعرق شديد، لكن هذا الطريق ينتهي بجنة عرضها السماوات و الأرض، و هناك طريق ثان هابط، و مزين، ومعبد، و أنت راكب دراجة، أيهما أسهل؟ النازل، لكن ينتهي بحفرة ليس لها من قرار، فيها وحوش كاسرة، لم تأكل من شهر، لو وضعوا لوحة على مقدمة الطريق الهابط، وعلى الصاعد، صار هناك بيان، هذا البيان، لو وضعوا منظاراً صار هناك رؤية، لذلك كل إنسان يتخذ قراراً أن يؤثر الدنيا على الآخرة وقع بخطأ كبير، من آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً، و من آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً، لذلك سحرة فرعون:

﴿ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ﴾

[ سورة طه : 71]

 بآخر القصة:

﴿ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾

[ سورة طه: 72]

 هذا القرار، أنت تعيش مثل معظم الناس، يمر عليك قراران أو ثلاثة بحياتك، إما أن تكون بطلاً، أو تكون قد سقطت بالامتحان.

(( أَلا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ، إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ ))

[ رواه أحمد عن ابن عبَّاس ]

عبادة الله لأنه الوحيد المستحق للعبادة :

 أخواننا الكرام، اسمع آية التحدي:

﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾

[ سورة هود: 55 ـ 56]

 كلمة سلبية لكن خطيرة: إذا أسلمك إلى غيره لا يستحق أن تعبده، الدليل:

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ ﴾

[ سورة هود: 123 ]

 أل الجنس، أي أمر بالكون يرجع إلى الله.

﴿ فَاعْبُدْهُ ﴾

[ سورة هود : 123 ]

 متى أمرك أن تعبده؟ بعد أن طمأنك.

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾

[ سورة هود: 123 ]

 نقطة على خطه البياني، ويبقى صاعداً، أهل الدنيا إذا أتاهم الموت يقولون: لم نرَ خيراً قط، هو غارق بالنعيم، و الرفاه، لم نرَ خيراً قط، أهل الإيمان: لم نرَ شراً قط.

الأخذ بالأسباب و كأنها كل شيء ثم التوكل على الله و كأنها ليست بشيء :

 لذلك أخواننا الكرام، عندنا حدثان كبيران الإسراء و الهجرة، بالإسراء ألغيت الأسباب كلياً.

﴿ أَسْرَى بِعَبْدِهِ ﴾

[ سورة الإسراء: 1 ]

 بثوان، أما الهجرة فالنبي أخذ بكل الأسباب تعليماً لنا، الدرس طويل، والموضوع طويل وهو موجود بأي كتاب، كيف اختار الطريق، اختار الدليل، اختار الصحابة، اختار الناقة، كل تفاصيل الهجرة أُخذت وفق الأسباب، لذلك على المؤمن- هذه قاعدة مهمة جداً- أن يأخذ بالأسباب و كأنها كل شيء، ثم يتوكل على الله و كأنها ليست بشيء.
 عندك سفرة إلى مكان معين، تراجع المحرك، و الزيت، و كل الوسائل الأساسية، و المكابح، ثم تتوكل، أن تأخذ بالأسباب و كأنها كل شيء، ثم تتوكل على الله و كأنها ليست بشيء، هذه مشكلتنا الكبيرة، نحن عندنا تواكل وليس توكلاً، التوكل أن تأخذ بالأسباب.
 معقول النبي الكريم قبل معركة بدر يرفع يديه إلى السماء حتى الرداء سقط من كتفيه؟! فسيدنا الصديق طمأنه، يا ترى سيدنا الصديق إيمانه أقوى؟ ملمح دقيق بالسيرة، العلماء قالوا: قلق النبي أن يكون أخذه بالأسباب أقل مما ينبغي، القانون الدقيق أن تأخذ بالأسباب و كأنها كل شيء، ثم تتوكل على الله و كأنها ليست بشيء.
 لذلك لا يسعني إلا أن أقول: حفظ الله لكم إيمانكم جميعاً، و أهلكم، و أولادكم، و صحتكم، و مالكم، و السادسة أهم واحدة و استقرار بلادكم.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور