وضع داكن
29-03-2024
Logo
مختلفة- لبنان - المحاضرة : 60 - طرابلس - معرض طرابلس الدولي - أثر الإيمان في تربية الأجيال 2 - أثر الإيمان في نفس الإنسان.
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

قضية الإيمان قضية مصيرية تحدد مصير الإنسان :

 أيها الأخوة المؤمنون؛ أيها الأخوة الأحباب؛ بادئ ذي بدء: يسعدني أن أكون اليوم بينكم في هذه المدينة الطيبة، مدينة العلم والعلماء، ولهذه المدينة في قلبي مكانة كبيرة، وهذا الجمع الكبير يدل على عناية أهل هذه البلدة، وهو وسام شرف لها بالعلم والعلماء، وأسأل الله تعالى أن يحيطها بجهود الخيرين، الطيبين، في كفاءة طلاب العلم، وفي رعايتهم، وأن تبقى هذه المدينة مصدر عطاء للخير والهدى والحق في أرجاء العالم.
 موضوع محاضرة اليوم الذي طُلب مني: أثر الإيمان في تربية الأجيال.
 أيها الأخوة الكرام؛ إن قضية الإيمان قضية مصيرية، تحدد مصير الإنسان، إما في سعادة أبدية، أو في شقاء أبدي، إنها سعادة الأبد، أو شقوة الأبد، إنها الجنة أبداً، أو النار أبداً، والإيمان ليس مجرد إعلام المرء بلسانه أنه مؤمن، وليس مجرد قيام الإنسان بأعمال وشعائر اعتاد أن يقوم بها المؤمنون، وليس مجرد معرفة ذهنيةً لحقائق الإيمان، وبكلمة مختصرة، ليس الإيمان مجرد عمل لساني، وليس مجرد أعمال وشعائر يقوم لها المؤمنون، وليس مجرد معرفة ذهنية لحقائق الإيمان، وبكلمة مختصرة ليس الإيمان مجرد عمل لساني، ولا عمل بدني، ولا عمل ذهني، إنما هو عمل يبلغ أهواء النفس، ويحيط بجوانبها كله من إدراك وإرادة ووجدان.
 لابد من إدراك ذهني تنكشف به حقائق الوجود على ما هي عليه، وهذا الانكشاف لا يتم إلا عن طريق الوحي الإلهي المعصوم حصراً، ولا بد من أن يترك هذا الإدراك العقلي الذي لا يزلزله شك.
 أي الوهم ثلاثون بالمئة، الشك ستون بالمئة، الظن سبعون بالمئة، غلبة الظن تسعون بالمئة، أما الطبع فمئة بالمئة هذا اليقين.

﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ﴾

[ سورة التكاثر: 5]

 في أمور الدين لابد من علم اليقين.

 

الإيمان بالنبوة والرسالة ووحدة الدين :

 أيها الأخوة الكرام؛ ولا بد من أن يصحب هذه المعرفة الجازمة دعماً قلبياً، وانقياداً إرادياً يتمثل في الخضوع والطاعة، ولابد من أن يتبع ذلك المعرفة حرارة وجدانية مسعدة مضمونها هذا الإيمان وهو وجود الله تعالى، ووحدانيته، وكماله، وجود، وحدانية، كمال.
 والإيمان بالنبوة، وبالرسالة، وبوحدة الدين عند الله، والإيمان بمثل عليا إنسانية واقعية، وقدرات بشرية ممتازة، استطاعت أن تجعل من مكارم الأخلاق، وصالح الأعمال، وتضاؤل النفوس حقائق واقعة، وطقوساً ماثلة بها.
 والإسلام ليس مجرد أفكار في بعض الأمور، وليس مجرد أماني لبعض النفوس، أو نظريات في الكتب والقراطيس، كيف يقبل العقل الحب، أو الفطرة السليمة أن تنتهي الحياة، وقد طغى فيها من طغى، وبغى بها من بغى، وقتل من قتل، وقُتل من قُتل، وتجبر فيها من تجبر، ولم يأخذ أحد من هؤلاء عقابه، بل تستر واختفى، أخلف ونجا، وبالجانب الآخر استقام من استقام، وأحسن من أحسن، وضحى من ضحى، وجاهد من جاهد، وقدم من قدم، ولم ينل جزاء ما قدم.
 ألا يحق للعقل أن يؤمن إيماناً جازماً أنه لا بد من أن توجد دار أخرى تسوى فيها الحسابات، ويجزى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، هذه كليات الدين، أساسيات، المؤمن إنسان آخر، له مبادئه، له عقائده، له منطلقاته، له مقاييسه، له قيمه.

آثار الإيمان في نفس الإنسان :

 أيها الأخوة الكرام، أما آثار الإيمان في نفس الإنسان فهذه بعض حقائق الإيمان، فما هي آثار الإيمان في نفس الإنسان؟ الله جل جلاله يقول:

﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾

[ سورة الإسراء: 70]

 أي إن الإنسان مخلوق كريم عند الله، خلقه في أحسن تقويم، وكرمه أعظم تكريم، وصوره فأحسن صورته، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأرسل له الملائكة، وميزه بالعلم والإرادة، وجعله خليفته في الأرض.

﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ﴾

[ سورة الجاثية: 13]

﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾

[ سورة لقمان: 20]

 فكل ما في الكون له ولخدمته، أما هو فجعله تعالى لنفسه.

﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾

[ سورة طه: 41]

 وكل ما في الكون لخدمة الإنسان، أما هذا الإنسان فكما قال الله عز وجل:

﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾

[ سورة طه: 41]

 لذلك يعتز الإنسان بانتسابه إلى الله تعالى، وارتباطه بكل ما في الوجود، ويحيا عزيز النفس، عالي الرأس، عصياً على الذل، بعيداً عن الشعور بالتفاهة، والضياع، والصغار، والفراغ.
 أما الإنسان في نظر الماديين فلا يزيد ثمنه عن فئة من العملات الرخيصة، لأن فيه من الدهن ما يكفي لصنع سبع قطع من الصابون، دهن الإنسان، وفيه من الفحم ما يكفي لصنع سبعة أقلام من الرصاص، ومن الفوسفور ما يكفي لصنع مئة وعشرين عود ثقاب، وفيه ملح المغنيزيوم يصلح جرعة واحدة لأحد المسهلات، وفيه من الحديد ما يساوي مسماراً متوسط الحجم، ومن الكلس ما يكفي لطلاء بيت من الزجاج، وفيه من الكبريت ما يكفي لتطهير جلد كلب واحد، وفيه من الماء ما يزيد عن ثلاثين لتراً، هذا الإنسان في نظر الماديين، أما عند الله فالإنسان مكرم، صنعه على صورته، أعد له جنةً:

(( فيها ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خطَر على قلبِ بَشَرْ ))

[متفق عليه عن أبي هريرة]

الفرق بين الرزق و الكسب :

 لذلك في حياة الناس شيء يسمى اللذة، وفي الدين شيء يسمى السعادة، والفرق كبير كبير بين اللذة والسعادة، لذلك اللذة تحتاج إلى وقت، وصحة، ومال، ولحكمةٍ بالغةٍ بالغةٍ دائماً ينقصه أحد هذه الثلاثة، في البدايات يوجد صحة، ووقت، لكن لا يوجد مال، في المنتصف يوجد مال، وصحة، لكن لا يوجد وقت، بالنهاية يوجد وقت ومال لكن لا يوجد صحة، لحكمةٍ بالغةٍ بالغة هذه الدنيا لا تستقر لإنسان، الله جعل سقفها منخفضاً جداً، الدنيا ساعة اجعلها طاعة.
 مثلاً شخص يملك سبعمئة مليار دولار صاحب أبل، سبعمئة مليار دولار، يقول: هذا الرقم لا يعني عندي شيئاً، بيل غيتس يملك ثلاثة وتسعين ملياراً، هذا الرقم لا معنى له عندي إطلاقاً، لماذا؟ هناك رزق وهناك كسب، الرزق ليس لك إلا ما أكلت فأفنيت، ولبست فأبليت، وتصدقت فأبقيت، الثلاثة مستهلكات، الرزق أكلت فأفنيت، لبست فأبليت، تصدقت فأبقيت، واحد من الثلاثة من الرزق له أثر مستقبلي، أما الكسب فكل ما تملكه لم تنتفع به إطلاقاً، وسوف تحاسب عليه، فمنه بين الرزق والكسب.
 السلامة لها شيء، والسعادة شيء آخر، فيلسوف في قمة تبذيره، ملك في قصره، فقير في كوخه، مترف في ملذاته، معانٍ في ويلاته، هو في وقت محدد، لكن لماذا خلقنا؟ لسعادة أبدية، ما معنى الأبد؟ كلمة نقولها دائماً.
 سامحوني بهذا المثل: بين الأرض والشمس مئة و ستة و خمسون كيلو متر، والشمس تكبر الأرض بمليون وثلائمئة ألف مرة، أي يدخل في جوف الشمس مليون وثلائمئة ألف أرض، وبينهما مئة و ستة و خمسون كيلو متر، والله عز وجل حينما يقول:

﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴾

[ سورة البروج: 1]

 الأرض في دورتها حول الشمس تمر بـاثني عشر برجاً، أحد هذه الأبراج برج العقرب، رأيته في متحف فضائي كالعقرب تماماً، لكن يوجد نجم أحمر صغير متألق اسمه قلب العقرب، هذا النجم الأحمر الصغير المتألق الذي اسمه قلب العقرب، دقق الآن: يتسع للشمس والأرض مع المسافة بينهما، الشمس تكبر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرة، وبينهما مئة و ستة و خمسون مليون كيلو متر، وقلب العقرب نجم صغير في برج العقرب رأيته في متحف فلكي في أمريكا يتسع للشمس والأرض مع المسافة بينهما.
 هذا الإله العظيم يعصى؟ ألا يخطب وده؟ ألا ترجى جنته؟ ألا تخشى ناره؟

تعصي الإله وأنت تظهر حبه  ذاك لعمري في الــــــــــمقال شنيع
لـــــو كان حبك صادقاً لأطعته  إن المحب لــــــــــــمن يحب يطيع
***

بطولة الإنسان أن يؤمن بالله العظيم :

 أخواننا الكرام؛ كلمة من القلب إلى القلب: أية فكرة في الدين، أي فكرة، أي نص، أي حديث، لا يحملك على طاعة الله، لا جدوى منه.

﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ﴾

[ سورة الحاقة: 30-32]

 ضعوا تحت كلمة عظيم أربعة خطوط، إبليس آمن بالله، قال:

﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾

[ سورة ص: 81 ]

 البطولة أن تؤمن بالله العظيم، خالق السماوات والأرض، الإيمان بالله العظيم عن طريق الآيات.

﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾

[ سورة الجاثية: 6 ]

 الآيات الثلاثة، آيات كونية خلقه، الآيات التكوينية أفعاله، الآيات القرآنية كلامه، فالكونية تحتاج إلى تفكر.

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾

 يتفكرون فعل مضارع، يفيد الاستمرار.

﴿ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾

[ سورة البقرة: 191]

 أما الآيات التكوينية فأفعاله.

﴿ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾

[ سورة آل عمران: 137]

 فاء، الآية الثانية:

﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾

[ سورة الأنعام: 11]

 الفاء تعني يأتي العقاب مباشرة، وثم تعني يأتي العقاب متأخراً، هذه أفعاله، أما كتابه فيحتاج إلى تدبر، الكون تفكر، الأفعال نظر، الكتاب تدبر.

 

الفرق بين اللذة و السعادة :

 أيها الأخوة الكرام؛ سؤال كبير حير الإنسان عبر العصور والأزمان: أين السعادة؟ ولماذا الشقاء؟ ولقد وضعها الناس في غير موضعها، فعادوا كما يعود طالب اللؤلؤ من الصحراء، صفر اليدين، مجهود البدن، كثير النفس، خائب الرجاء، يتوهم في ألوان من المتع المادية، يتوهم الناس اليوم السعادة في ألوان من المتع المادية، وفي أصناف من الشهوات الحسية، فما وجدوها تحقق السعادة أبداً، ربما زادتهم مع كل جديد منها هماً جديداً، خذ من الدنيا ما شئت وخذ بقدرها هماً، ومن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه وهو لا يشعر.
 أخواننا الكرام، ولا بد من التفريق الآن إذاً بين السعادة واللذة، اللذة حسية، طعام طيب، بيت واسع، مناظر خلابة، مركبة فارهة، سعادة حسية، مرتبطة بالجسد الفاني، يأتي من خارج الإنسان، فيلهث وراءها، متعبة في تحصيلها، متناقصة في تأثيرها، أي شيء جديد ممتع بعد حين عادي، المركبة ممتعة، بعد حين عادية، الزواج بعد حين عادي، البيت بعد حين عادي، ما سمح الله للدنيا أن تمدك بسعادة متنامية، مستحيل، ولا مستمرة، بل متناقصة، لأنه يحبك، لأنه خلقك للآخرة، الدنيا غير مسعدة، تضر، وتمر، بينما السعادة، اللذة حسية، مادية، طعام طيب، منظر جميل، مركبة فارهة، بيت رائع، أما السعادة فنفسية، طبيعتها مرتبطة بذات الإنسان.

﴿ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾

[ سورة آل عمران: 119]

﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ﴾

[ سورة الفجر: 27]

 يوجد نفس، وجسد، اللذة مرتبطة بالجسد، أما السعادة فمرتبطة بالنفس، تنبع من داخل الإنسان، أما اللذة فتأتي من خارج الإنسان، سهلة في تحصيلها، تُب إلى الله، اصطلح مع الله، اعقد العزم على أن تطيع الله، افعل شيئاً في سبيل الله، اقرأ القرآن، صلّ قيام الليل، احضر مجلس علم، سهلة في تحصيلها، لذلك:

((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خطَر على قلبِ بَشَرْ ))

[متفق عليه عن أبي هريرة]

 إذا أنت زرت حوالي ثلاثين دولة، أو ثلاثين عاصمة، خبرتك محدودة، أنت تسمع بمئتين و خمسين دولة، أما المواقف فلا تنتهي.

((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خطَر على قلبِ بَشَرْ ))

[متفق عليه عن أبي هريرة]

 مرة ثانية: الإنسان له أطوار، في الطور الأول من حياته يوجد وقت وصحة لكن لا يوجد مال، في الطور الثاني يوجد مال وصحة، لكن لا يوجد وقت، في الطور الثالث يوجد وقت ومال لكن لا يوجد صحة، هكذا أراد الدنيا، ما أرادها أن تكون مسعدة، أرادها أن تكون ممراً للجنة.

 

أحكام الدين ليست حداً لحريتنا بل هي ضمان لسلامتنا :

 بربكم أخواننا الكرام؛ إن رأيتم في الطريق لوحة كتب عليها: حقل ألغام ممنوع التجاوز، بربكم جميعاً هل تعد هذه اللوحة حداً لحريتكم أم ضماناً لسلامتكم؟ في اللحظة التي توقن بها أن كل أحكام الدين ليست حداً لحريتنا بل هي ضمان لسلامتنا أنت فقيه ورب الكعبة.
 خاطب زوج زوجته، فقال لها متوعداً: لأشقينك، فقالت له في هدوء: لا تستطيع أن تشقيني، ولا تستطيع أن تسعدني، فقال الزوج في حمق: وكيف لا أستطيع؟ فقالت الزوجة في ثقة: لو كانت السعادة في مال وكنت تملكه لقطعته عني، لو أن السعادة في الحلي لحرمتني منها، ولكنها في شيء لا تملكه أنت، ولا الناس جميعاً، فقال الزوج في دهشة: وما هي؟ فقالت في يقين: إنني أجد سعادتي في إيماني، وإيماني في قلبي، وقلبي لا سلطان لأحد عليه غير ربي.
 سعادتك معه، سلامتك معه، النعمة الكبيرة أن تعرف الله.

(( ابن آدم اطلبنِي تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء ))

[ تفسير ابن كثير]

 بعض العارفين قال: لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها بالسيوف، أنت مع الله، مع العظيم.
 بربكم، طفل عقب العيد قال لأحد أقربائه: معي مبلغ عظيم، كم يقدر؟ مئة دينار مثلاً، لو قال رئيس البنتاغون: أعددنا لحرب العراق مبلغاً عظيماً تقدره بمئتي مليار، دققوا الآن فإذا قال ملك الملوك، ومالك الملوك:

﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾

[ سورة النساء: 113]

(( ابن آدم اطلبنِي تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء ))

 قال: يا رب أعطني ولا تحرمني، أكرمني ولا تهني، آثرني ولا تؤثر علي، أرضني وارضَ عني.
 أحد العلماء يقول: ماذا يفعل أعدائي بي؟ بستاني في صدري، فإن أبعدوني فإبعادي سياحة، وإن حبسوني فحبسي خلوة، إن قتلوني فقتلي شهادة، فماذا يفعل أعدائي بي؟

 

الإيمان مرتبة قوية جداً :

 الإيمان مرتبة قوية جداً، كلام دقيق، شخص معه ذهب، قطعة ذهب عيار أربعة و عشرين، يوجد ثمانية عشر، وستة عشر، و اثنا عشر، لكن كله ذهب، أما الذهب فهو غير التنكك، التنك معدن خسيس، والذهب معدن نفيس، فالمؤمنون يتفاوتون بالذهب، أما غير المؤمن فلئيم، على بخيل، على منتقم، على حقود، شيء كبير جداً كلمة مؤمن.
 الإنسان يدرس ثلاثاً و عشرين سنة، يأخذ ابتدائي، وإعدادي، وثانوي، ولسانس بالآداب، أو بكالوريوس بالعلوم، ودبلوم عامة، ودبلوم خاصة، وماجستير، ودكتوراه، من أجل كلمة د. ثلاث و عشرون سنة دراسة من أجل د. ومن أجل كلمة مؤمن تستحق الجنة إلى أبد الآبدين، يقول لك: لا يوجد عندي وقت، لا يوجد عندك وقت تقرأ القرآن؟ لا يوجد عندك وقت تحضر مجلس علم؟ تتابع حديثاً؟ تتابع مجلس علم؟
 قال بعضهم: مساكين أهل الدنيا، جاؤوا إلى الدنيا وخرجوا منها ولم يذوقوا أطيب شيء فيها، إنها جنة القرب، والآية تقول:

﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾

[ سورة الرحمن: 46 ]

 جنة في الدنيا، وجنة في الآخرة، الدنيا جنة القرب، والآخرة جنة الخلد، ومن لم يذق جنة الدنيا لم يذق جنة الآخرة.
 لذلك أخواننا الكرام؛ السعادة الحقيقية لا يملك بشر أن يعطيها، ولا يملك أحد منك أن ينتزعها، لا يوجد جهة أرضية تعطيها، ولا جهة أرضية تستطيع أن تأخذها منك، بستاني في صدري.
 والله يوجد شخص حدثوني عنه، دخل السجن بسبب اختلاف رأي، ليس مخطئاً لكن خلاف رأي، حفظ كتاب الله كله، قال: والله أسعد أيام حياتي وأنا في السجن، ما الذي يصير مع الإنسان عندما يعرف الله؟

(( ابن آدم اطلبنِي تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء ))

(( قال: يا رب أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك؟ ـ وقع في روعه ـ أن أحب عباده إلي نقي القلب، نقي اليدين، لا يمشي إلى أحد بسوء، أحبني وأحب من أحبني وحببني إلى خلقي، قال: يارب تعلم أنني أحبك، وأحب من يحبك، فكيف أحببك إلى خلقك؟ قال: ذكرهم بآلائي ونعمائي وبلائي- الشرح: ذكرهم بآلائي كي يعظموني، وذكرهم بنعمائي كي يحبوني، وذكرهم ببلائي كي يخافوني- ))

[ حديث قدسي]

 معنى ذلك لا بد من أن يجتمع في قلب المؤمن تعظيم لله أولاً، ومحبة له ثانياً، وخوف منه ثالثاً.

 

قانون الالتفاف و الانفضاض :

 يوجد تعبير دقيق: ينبغي أن تحب الله بقدر ما تخافه، وينبغي أن تخافه بقدر ما تحبه، قضية دقيقة جداً، وهذا درس للآباء وللأمهات وللمدرسين ولأي إنسان، الله جعلك لعدد من الناس أن تُحب، وأن تُحترم بوقت واحد، أن يحبك من حولك بقدر ما يخافوك، لذلك عندنا قانون الائتلاف والاختلاف، الله عز وجل قال دققوا يا محمد:

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾

[ سورة آل عمران: 159]

 أي يا محمد بسبب رحمة استقرت في قلبك من خلال اتصالك بنا، كنت ليناً لهم، فلما كنت ليناً لهم التفوا حولك، وأنت أنت بالذات افتراضاً ولو كنت منقطعاً عنا لامتلأ القلب قسوة، ولانعكست القسوة غلظة وفظاظة، عندئذٍ ينفض الناس من حولك، هذا اسمه قانون الالتفاف والانفضاض، يحتاجه الأب، والأم، والمدرس، وأستاذ الجامعة، ورئيس الدائرة، من الخفير إلى الأمير.

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾

[ سورة آل عمران: 159]

ثلاث نعم من أصابها ما فاته من الدنيا شيء :

 والله يا أخوان يوجد آيات جامعة، مانعة، رائعة، قاطعة، وهناك أحاديث:

(( مَنْ أصبَحَ منكم آمِنا في سِرْبه، مُعافى في جَسَدِهِ، عندهُ قوتُ يومِه، فكأنَّما حِيزَتْ له الدنيا بحذافيرها ))

[الترمذي عن عبيد الله بن المحصن ]

 ثلاث نعم يا أخوان، يا شباب، يا شابات، ثلاث نعم من أصابها ما فاته من الدنيا شيء، نعمة الهدى، يعرف أن هناك إلهاً عظيماً، رباً كريماً، رحمن، رحيماً، وهناك جنة و نار، و برزخ، و عذاب، و إكرام، و طاعة، و معصية، نعمة الهدى.
 النعمة الثانية: نعمة الصحة، لا يوجد خثرة بالدماغ، ولا فشل كلوي، ولا مرض خطير.
 والثالثة: نعمة الكفاية.

(( مَنْ أصبَحَ منكم آمِنا في سِرْبه، مُعافى في جَسَدِهِ، عندهُ قوتُ يومِه، فكأنَّما حِيزَتْ له الدنيا بحذافيرها ))

[الترمذي عن عبيد الله بن المحصن ]

 وإن الله في حكمته وجلاله جعل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط.
 قال له: يا رب هل أنت راضٍ عني؟ وقع في قلبه أن يا عبدي هل أنت راضٍ عني؟ قال: يا رب كيف أرضى عنك وأنا أتمنى رضاك؟ فجاء الجواب: إذا كان سررك بالنقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عني.

 

الأمن نعمة لا يملكها إلا المؤمن :

 أخوتنا الكرام؛ الناس أحياناً يموتون على ما عاشوا، من عاش في طاعة الله يموت على طاعته، من عاش في معصية الله يموت على معصيته، والموت يلخص حياة الإنسان.
 الآن هل تصدقون أن هناك نعمة لا يملكها الإنسان في الأرض إلا المؤمن، قال تعالى:

﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ ﴾

[ سورة الأنعام: 81- 82 ]

 ما قال الأمن لهم، إذا قال: الأمن لهم أي ولغيرهم، إذا قلت في الفاتحة: نعبد إياك، فالصلاة باطلة، تعني أن نعبد غيرك.

﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾

[ سورة الفاتحة: 5 ]

 يوجد تقديم حصر.

﴿ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ ﴾

[ سورة الأنعام: 81- 82 ]

 الأمن لهم وحدهم، أيضاً هناك السكينة، تسعد بها ولو فقدت كل شيء، وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء، السكينة تسعد بها، تتنزل من الله عز وجل، ولو فقدت كل شيء، وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء.

 

الإيمان سلامة و سعادة و ثقة بالله :

 أخواننا الكرام؛ الحقيقة أن ثمار الإيمان لا تعد ولا تحصى، الإيمان سلامة، الإيمان سعادة، الإيمان ثقة بالله، الإيمان تفاؤل، الإيمان تعاون، والإيمان تلقّ، الإيمان كله سر الإنسان في سعادته، لذلك الله يقول:

﴿ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾

[ سورة الصافات: 172 ـ 173 ]

 وزوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين.
 اسمحوا لي بهذه الكلمة: الحرب بين حقين لا تكون، الحق لا يتعدد، أي بين نقطتين يمر مستقيم واحد، مهما حاولت يأتي الثاني فوق الأول، بين حقين لا تكون، وبين حق وباطل لا تطول، الله مع الحق، وبين باطلين لا تنتهي.
 مرة حدثني أخ كان في بلد، أستاذ رياضيات رسم خطين متوازيين، قال: المتوازيان لا يلتقيان، قال له طالب: قل إن شاء الله أستاذ، قال له: هذه لا علاقة لها بالدين يا بني، هذه رياضيات، أنهوا له عقده، جاء شخص أذكى منه، أول درس رسم مستقيمين متوازيين، قال: المتوازيان لا يلتقيان إلا بإذنه تعالى، فإذا التقيا فلا حول ولا قوة إلا بالله، أي دارهم ما دمت في دارهم.

الحب في الله عين التوحيد والحب مع الله عين الشرك :

 أخواننا الكرام؛ ملمح لطيف:

﴿ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ﴾

[ سورة الشرح: 6 ]

 يا ترى هل المنطق إن بعد العسر يسرا؟ قال:

﴿ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ﴾

[ سورة الشرح: 6 ]

 أي أخ عنده مشكلة اليسر ضمنه.

﴿ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ﴾

[ سورة الشرح: 6 ]

 هذا من باب التفاؤل، المؤمن من صفاته التفاؤل دائماً وأبداً، وقل لي من يفرحك أقل لك من أنت، هل تفرحك طاعة الله؟ قالوا: الحب في الله عين التوحيد، والحب مع الله عين الشرك، تحب الله، تحب أنبياءه جميعاً، وتحب الرسل جميعاً، وتحب سيد الأنبياء والمرسلين، تحب الصحابة الكرام، تحب العلماء الربانيين، تحب المساجد، والعمل الصالح، الحب في الله عين التوحيد، والحب مع الله عين الشرك، أن تحب جهة تمنعك أن تصلي عين الشرك، فالحب في الله عين التوحيد والحب مع الله عين الشرك.

 

الناس جميعاً تبع لقوي أو نبي :

 آخر شيء بهذا اللقاء الطيب: يقع على رأس الهرم البشري زمرتان، الأقوياء والأنبياء، الأقوياء ملكوا الرقاب، والأنبياء ملكوا القلوب، الأقوياء أخذوا ولم يعطوا، الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا، الأقوياء عاش الناس لهم، الأنبياء عاشوا للناس، الأقوياء يمدحون في حضرتهم والأنبياء في غيبتهم، الناس جميعاً تبع لقوي أو نبي.

من ذكر الله أدى واجب العبودية :

 آخر فكرة:

﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى* وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾

[ سورة الليل: 1- 3]

 سعي كم شخص؟ ثمانية مليارات الآن، هذه المساعي المتباينة لبني البشر يمكن أن توضع في حقلين اثنين فقط.
 ممكن أن نضغط الدين كله بكلمة واحدة: الاستقامة، فإن لم تستقم، دقق، دين بلا استقامة فولكلور، القرآن فولكلور شرقي، دين بلا استقامة أعراف، تقاليد، تراث، أو خلفية إسلامية، أو توجهات إسلامية، أو عاطفة إسلامية، أو بطاقة معايدة إسلامية، هذا قوس إسلامي، الإسلام منهج تفصيلي يبدأ من فراش الزوجية، وينتهي بالعلاقات الدولية، افعل ولا تفعل.
 مرة كنت في بلد بعيد، دعاني أحدهم لزيارة معمل سيارات، قال لي الخبير: هذه السيارة فيها ثلاثمئة ألف قطعة، أنا كراكب أعرف أنه يوجد فيها غلاف معدني، محرك، مقاعد، مقود، عجلات.
 ممكن للدين العظيم أن ينضغط بخمسة أشياء، أو أربعة، العقل، أيديولوجيا، التفكير، المنطلق النظري، السلوك العملي، الاستقامة سلبية، أنا ما أكلت مالاً حراماً، أنا ما كذبت، أنا غششت، سلوك إيجابي، الله قال:

﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾

[ سورة الأنعام: 82 ]

 إنكم إن تذكروني أديتم واجب العبودية، لكنني إن ذكرتكم منحتكم نعمة الأمن، لا يملكها إلا من فقدها، إن ذكرتكم منحتكم السكينة تسعدون فيها ولو فقدتم كل شيء، ويشقى الإنسان بفقدها ولو ملك كل شيء، منحتكم التوفيق.

﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ﴾

[ سورة هود: 88 ]

 أخواننا الكرام؛

(( ما من مخلوق يعتصم بي من خلقي أعرف ذلك من نيته، فتكيدوه أهل السماوات والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً، ما من مخلوق يعتصم بمحلوق من دوني أعرف هذا من نيته إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه، وقطعت أسباب السماء بين يديه))

[ ورد في الأثر]

 أخواننا الكرام، ختام هذا اللقاء الطيب أشكر من أعماق نفسي نيابة عمن معي سماحة المفتي الدكتور مالك الشعار، ونرجو الترحيب به، وشكراً للسادة العلماء الذين حضروا أيضاً هذا اللقاء الطيب.
 آخر دعاء: حفظ الله لكم جميعاً إيمانكم، وأهلكم، وأولادكم، وصحتكم، ومالكم واستقرار بلادكم.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

إخفاء الصور