وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 4 - سورة محمد - تفسيرالآيات 16-18 من غفل عن الحق خسر الدنيا والأخرة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة المؤمنون مع الدرس الرابع من سورة محمد صلى الله عليه وسلم.


المنافقون إن هم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً:


 مع الآية السادسة عشرة وهي قوله تعالى:

﴿  وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ(16)﴾

[ سورة محمد ]

 هذه من للتبعيض ﴿وَمِنْهُمْ﴾ الــ "هم" على من تعود؟

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ(12)﴾

[ سورة محمد ]

﴿وَمِنْهُمْ﴾ أي من هؤلاء الذين كفروا؛ الذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، مِن هؤلاء من يستمع إليك، أي يمكن أن يتوجه الإنسان الشارد عن الله عزَّ وجل إلى مجلس علم مثلاً، فيعرف: من هؤلاء الكفار، من هؤلاء المنافقين، من هؤلاء الذين: 

﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)﴾

[  سورة الفرقان ]


الآيات التي تصف بعضاً ممن عاشوا مع رسول الله في حقيقتها تصف نماذج بشرية:


 لو أنهم مثلاً اجتمعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ما الذي يحصل؟ فلنستعرض بعض النماذج البشرية: لو أن إنساناً امتلأ قلبه حباً للدنيا، لو أن إنساناً شرد عن الله شرود البعير، لو أن إنساناً أعرض عن الله عزَّ وجل وكان في جلسةٍ يُذْكَر فيها اسم الله عزَّ وجل، ما موقفه؟ ماذا يحصل؟ في الحقيقة أيها الإخوة؛ إن الآيات التي تصف بعضاً ممن عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي في حقيقتها تصف نماذج بشرية، نموذج متكرر نراه في كل حين، في كل عصر؛ إنسان شارد، إنسان غافل، إنسان منغمس في الدنيا، إنسان أخرج من حساباته الدار الآخرة، إنسان لم يعبأ بهذا الدين العظيم، هذا الإنسان لو جلس في مجلس علم، لو التقى مع إنسان يدعو إلى الله مثلاً، فما موقفه؟ هذا الذي حصل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يقع في أي عصر.

﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ يستمع، يُصْغِي.


من أراد أن يعرف الله أي شيء في الأرض يدل عليه:


﴿حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا﴾ ما من مثلٍ يوضِّح هذه الحقيقة كالمثل التالي: إنسان ذكي، إنسان ذكي ولا أقول: عاقلاً، متفوقاً، دارساً، لكن امتلأ قلبه حباً للدنيا، أصر على الدنيا ولم يعبأ بالآخرة، لو أنه استمع إلى الحق لا يعقل شيئاً، لا يفقه شيئاً، لا يدري ماذا قيل، لا يدري ما موضوع الخطبة إطلاقاً. 

﴿مَاذَا قَالَ آنِفًا﴾ طيب هو ذكي، حَصَّل تحصيلاً عالياً، فلماذا غفل عن موضوع هذه الخطبة مثلاً ؟ لأنه هو في واد وموضوع الخطبة في وادٍ آخر، آلة تصوير من أغلى الآلات، لو أن إنساناً أمسكها ووضعها أمام منظرٍ جميلٍ جداً، وضبط كل حركاتها وسكناتها، ضبط الفتحة والمسافة والسرعة، وضغط على زرها المتعلق بالتقاط الصورة لكنها ليس بداخلها فيلم، فلا قيمة لهذه الآلة، ولا قيمة لهذا الضغط، ولا قيمة لذاك التوجُّه، فالإنسان إذا طلب الحق فأي شيءٍ يدله على الله، قرار الحق قرار داخلي، إذا أردت أن تعرف الحقيقة، إذا أردت أن تصل إليها، فأي شيءٍ في الأرض يدلُّك على الله، أما إذا كان هناك إعراض داخلي، انصراف عن الحق داخلي، عدم اعتناء بالحق داخلي، هذا الانصراف الداخلي أثره سقيم، فلو أنه التقى برسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ﴿مَاذَا قَالَ آنِفًا﴾ ولو قرأ أعظم كتاب، ولو استمع إلى أبلغ شريط، ولو حضر أعظم خطبةٍ، يقول: ﴿مَاذَا قَالَ آنِفًا﴾ لماذا لم يعقل؟ لماذا لم يفهم؟ لأنه في واد والحق في وادٍ آخر. 


من لم يطلب الحق لا يفهم شيئاً:


 أقرب مثل: أحياناً الإنسان يدخل إلى محل تجاري فيه بضائع منوعة، لقد دخل إلى هذا المحل ليشتري قماشاً معيناً، فقد يأتي صاحب المحل التجاري ويعرض عليه بضاعةً أخرى، لا يعبأ، ولا يهتم، ولا يسمع، ولا يدقق، ولا يفكِّر إطلاقاً، هو في واد والبضاعة المعروضة عليه في وادٍ آخر، فلذلك هذا نموذج متكرر، أن يكون الإنسان غافلاً أو ممتلئًا قلبه بالدنيا، منصرفًا إلى الدنيا، مصراً على شهواتها، لم يُدخل في حساباته الدار الآخرة، مثل هذا الإنسان لو التقى برجل يحدِّثه عن الله عزَّ وجل، لا تجد إصغاءً، ولا فهماً، ولا تأثُّراً، ولا عقلاً.

﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ هل في الدنيا أبلغ من النبي؟ هل هناك من رجل أبلغ من رسول الله؟ أنقى منه؟ أكثر تأثيراً من أسلوب النبي عليه الصلاة والسلام؟ أوتي جوامع الكلم، من حيث البلاغة فكلامه في أرفع مستوياتها على الإطلاق، بعد كلام الله كلام رسول الله، على الإطلاق، ومن حيث قوة التأثير، النبي عليه الصلاة والسلام أعلى مخلوقٍ على الإطلاق في قوة التأثير، ومع ذلك إن لم تطلب الحق تقل: ﴿مَاذَا قَالَ آنِفًا﴾ إن لم تصر على طلب الحق تقلْ: لم أفهم شيئاً، ما الموضوع الذي طرقه اليوم الخطيب؟ وما الشيء الطريف فيها يقول لك: والله حضرنا خطبة رائعة، فتقول له: ماذا قال الخطيب؟ يقول لك: والله لم أتذكر ولكن خطبة رائعة، لا يذكر منها ولا كلمة واحدة ولا آية ولا حديث، لأنه في واد وموضوع الخطبةٍ في وادٍ آخر. 


من صدق في طلب الحقيقة تعلم من كل شيء:


 لذلك لما الإنسان يصدق توجهُه في طلب الحقيقة يتعلم من كل شيء، فكأس الماء يُعَلِّمُهُ، ابنه الذي أمامه يعلمه، كل شيءٍ يُعْطيه درساً بليغاً، أما إذا ابتعد الإنسان عن الحق فلو واجه الآيات وجهاً لوجه لا يتأثر بها، لذلك النبي عليه الصلاة والصلاة قال:

(( أوصاني الله بتسع أوصيكم بها: أوصاني بالإخلاص في السر و العلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى، وأن أعطي من حرمني، و أعفو عمن ظلمني، وأن يكون نطقي ذكراً، وصمتي فكراً، ونظري عبراً. ))

[ رواه رزين  ]

 إذا نظرت فاعتبر، وإذا صمتَّ ففكر، وإذا نظرت فاذكر، إذاً هؤلاء الذين كفروا والذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم. 

﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا﴾ حدثني أخ له صديقٌ دعاه إلى حضور مجلس علم قبل أن يصطلح مع الله، قبل أن يتوب إليه، قبل أن يلتفت إليه، قال له بعد أن حضر الدرس: بالحرف الواحد: والله لم أفهم من الدرس كلمةً واحدة، ولم أعِ شيئاً، لأنني في واد والمتحدث في واد، لكن بعد أن توجَّه إلى الله، بعد أن أراد الهدى، بعد أن اصطلح مع الله عزَّ وجل، أصبح أذناً صاغية، آلة من دون فيلم، لا فائدة منها إطلاقاً، لكن لما يطلب الإنسان الحقيقة يتأثر بكل كلمة، فالإنسان بعد أن يطلب الحق، كله آذان، كله أَعْيُن، لكنه قبل أن يطلب الحق. 

﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ(171)﴾

[ سورة البقرة  ]

في كل كرسيٍ تَسَنَّدَ إنسانٌ  متكتفٌ أعمى أصمٌ أخرس

* * *


الإنسان إذا طلب شيئاً عقل عنه أما إذا أعرض عنه لم يفهم شيئاً:


 أما في أوامر الدنيا فهو يفهم كل شيء، ربنا عزَّ وجل وصف أهل الدنيا قال:

﴿  يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُون(7)﴾

[  سورة الروم  ]

 والدليل: حدِّث إنسانًا بأمور الدين، فإذا كان في وادٍ آخر يشعرك أن هذا الحديث لا يعنيه، يتململ، يتثاءب، يعتذر، ثم أُطْرُق معه حديثًا آخر دنيوياً، يقف على قدميه ساعاتٍ طويلة وهو لا يشعر لأن الدنيا تعنيه، لأنه راغبٌ فيها، لأنه لا يعلم شيئاً غيرها، لأنها أمنيته في الحياة، فهذا نموذج بشري متكرر، وهذا الشيء مما يعزِّي إخواننا الكرام، فلو كنت حريصاً على هداية أخ صديق وجئت به إلى المسجد وقد مُلِئْتَ أنت إعجاباً بالدرس، وسألته يقول لك: ما قال شيئاً يذكر، ماذا قال المتكلم ؟ لم أفهم عليه ولا كلمة واحدة، لا تتألم، لا تصب بالإحباط، فهذا شيء طبيعي جداً، الإنسان إذا طلب شيئاً عقل عنه، أما إذا أعرض عنه لم يفهم شيئاً.


علامة اهتمام الإنسان الحفظ و الإصغاء و التأثر:


 شخص آخر مثلاً ساكن في بيت يملكه، والبيت مرتب ومنظم وهو مستقر فيه، فبينما هو في الطريق قال لقائل: هل تريد بيتًا شراءً؟ فيمكن ألا يسمعه، إذ ليس له علاقة، لكنك تصور: إنسان بلا بيت، خطب وعقد العقد ولم يجد بيتًا، ومضى على الخطبة سنتان، والأمور تعقدت وصار مشروع الزواج في خطر، يتمزق، فهو لا يعرف نفسه متزوجاً غير متزوج، وبينما هو بالطريق قال له قائل: هل تريد بيتًا؟ يمكن أن ينكب على رجليه يقبلهما من شدة اهتمامه، فإذا اهتم الإنسان بطلب الحق، يصغي، يتأثر، يحضر المجلس، يحفظ كل ما قيل فيه، علامة الاهتمام الحفظ، الدليل: ﴿مَاذَا قَالَ آنِفًا﴾ لم يفهم شيئًا، لا فهم ولا حفظ، وهذا كذلك مؤشر لنا كلنا.


من علامات صدق الإنسان أن يستوعب الحقيقة و يتفاعل معها:


 إذا جلست في مجلس علم، واستوعبت الآيات وفهمتها وتأثرت بها، وحفظتها، وتحدثت بها أثناء الأسبوع، هذا دليل صدقك، دليل إخلاصك، دليل أنك طلبت الحق، أما إذا جلست مع عدد من الإخوة تتذاكرون بالدرس ولم يخطر ببالك ولا فكرة، ولا آية، ولا حديث، والله هذه مشكلة، مشكلة كبيرة جداً أن تقول كما يقول هؤلاء: ﴿مَاذَا قَالَ آنِفًا﴾ أن تستوعب الحقيقة، أن تتفاعل معها، أن تحفظها، أن تكون في قلبك، أن تتمثلها كلما تحرَّكت هذا من علامات الصدق، أما ألاّ تذكر ماذا قيل، ولم تستوعب شيئاً مما قيل، ولم تعبأ به، ولم تحفظ آية و لو واحدة أو حديثاً مما قيل بل نسيت، وتنسى ما قيل فهذا كله علامة أن هذا المستمع من أهل الدنيا.


من كان بعيد الاهتمام عن الدين فهو في غفلة مرعبة:


﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ للصحابة الكرام المقربين من رسول الله صلى الله عليه وسلم مواقف للتعلم ملموسة، كسيدنا ابن الزبير، كسيدنا ابن مسعود، هكذا ورد في التفاسير، لكن من كانت قلوبهم غلف فيقولون: ﴿مَاذَا قَالَ آنِفًا﴾ يعني ماذا قال قبل قليل؟ أحياناً الإنسان يصلي، ويقرأ الإمام سورةً قراءةً جيدةً رائعةً فإذا سألته ماذا قرأ الإمام في الصلاة؟ لا يذكر شيئاً، ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها، ماذا عقلت من الصلاة؟ قد لا يذكر بعضهم ماذا قرأ الإمام، ومرة كان أناس في نزهة صلى فيهم الإمام الظهر خمس ركعات، وما من واحدٍ ذكر أنه أضاف ركعةً خامسة، فالإنسان أحياناً يكون بعيداً اهتمامه، ويكون له وجود جسمي لكن نفسه ليست موجودة فهذه غفلة مرعبة.


من امتلأ قلبه بالدنيا لم يعد فيه مكان للحق:


(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ كلمة ﴿طبع﴾؛ من أوجه تفسيراتها طبع بمعنى مَلأَ، كأن يكون لديك إناء امتلأ ولم يبق فيه مكان لإضافة شيء جديد، إناء امتلأ بشيء وأردت أن تضع فيه شيئاً جديداً فليس هناك مكان إطلاقاً، كما كان الشاعر: 

بلاني الدهر بالأرزاء حتى     فؤادي في غشاءٍ من نبــــــالِ

فكنت إذا أصابتني سهـــامٌ     تكسَّرت النصال على النصال

[ المتنبي ]

 ليس فيه شواغر. 

قال: ﴿وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ أي أن القلب إذا امتلأ بالهواء لم يبق فيه مكانٌ للحق، هذا معنى الآية، فالقلب امتلأ بالهوى ولم يبق فيه مكانٌ للحق، فإذا الإنسان ملأ قلبه بالمتع، وملأت الدنيا قلبه وحضر مجلس علمٍ، هذا فالحق لن يجد في قلب هذا الإنسان مكاناً، لم يبق محلاَّت، هذا معنى الطبع، طبع الإناء أي ملأه، أو طبع الإناء أغلقه بعد أن امتلأ، فهذا تحصيل حاصل.. 

﴿  مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ۚ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ ۚ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ ۖ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)﴾

[ سورة الأحزاب ]

 لك قلبٌ واحد فإذا امتلأ بالدنيا لم يعد فيه مكان للحق، أما إذا فرَّغته من الدنيا استوعب الحق.


من امتلأ قلبه بحب الدنيا خسر الدنيا و الآخرة:


﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ أي أن الله عزَّ وجل نظر إلى قلوبهم فرآها ممتلئةً حبا‌ً للدنيا، إذاً هذا الإنسان لا يعي على خير..

﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(5)﴾

[ سورة الصف ]

   فهذا الإضلال إذا عُزِيَ إلى الله عزَّ وجل فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري، إذا عزي الزيغ إلى الله: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ فهذه الإزاغة الجزائية المبنية على الزَيْغِ الاختياري، إذا عزي الطبع إلى الله، فهذا هو الطبع الجزائي المبني على امتلاءٍ اختياري لحب الدنيا، امتلأ القلب فلم يعد فيه شواغر، وأنت أحياناً إذا أردت أن تضع في وعاءٍ شيئاً، تقول: إنه ممتلئ، فكما لو أن إنساناً أتى ليستمع إلى مجلس علمٍ لكن قلبه ممتلئٌ شهواتٍ دنيئةً.


ذاكرة الإنسان متعلقة باهتمامه:


 لذلك يُروى أن سيدنا عثمان قال: "أيدخل أحدكم إلى المسجد والزنا بين عينيه؟ فقيل له: أوحيٌ بعد رسول الله؟ قال: لا ولكنها فراسةٌ صادقة" . فذاك يكون في عالم آخر.

 أنت تلاحظ أحياناً إخوانَنا المدرسين تجد أن طالباً شارداً، يكون درس فيزياء، كيمياء، رياضيات، درس لغة عربية، المدرس يجهد في توضيح الأفكار، وتسجيل الملاحظات على السبورة، وإملاء القواعد، لكن ذاك الطالب في عالم آخر، فلذلك الانتباه أساسه الاهتمام، خذ مثلاً صاحب محل تجاري عنده عشرة آلاف صنف، كقطع الغيار، أعندك القطعة الفلانية؟ يقول له: باقي قطعة، اصعد يا بني تجدها على الرف الثالث باليمين، بآخر الرف تجد قطعة أحضرها، فما معنى ذلك؟ معنى ذلك أنه مهتم كل الاهتمام بهذه المصلحة ويكسب منها رزقه، فحفظ كل تفاصيلها، فسبحان الله الذاكرة متعلقة بالاهتمام، كلما نما اهتمامك في شيء نمت معه الذاكرة، أحياناً إنسان يكون نَسَّاء أي كثير النسيان لكن بالموضوعات التي يهتم لها لا ينسى شيئاً، معنى ذلك أن الذاكرة اصطفائية، فلذلك هنا: كما أن هناك إضلالاً جزائياً أساسه الضلال الاختياري، وكما أن هناك إزاغةً جزائيةً أساسها الزيغ الاختياري، هناك طبع جزائيٌ أساسه امتلاء القلب بالشهوات، ذهبنا لنملأ قلبه خيراً فوجدانه ممتلئاً شرًا.


من اتبع أهواءه امتلأ قلبه بالشهوة:


 إذاً ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ تأمل في تتمة الآية تجد أن الله عزَّ وجل عطف السبب على المُسَبَّب، بماذا امتلأت قلوبهم حتى لم يبق فيها مكان للحق؟ قال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ حينما اتبعوا أهواءهم امتلأت قلوبهم بالشهوات، وقد تجدون هذه النماذج كثيرةً جداً، شخص كل اهتمامه بالأعمال الفنية الساقطة، يتتبعها حركةً حركة، فإذا تكلم لا يتكلَّم إلا عنها، وهذا النموذج إخواننا الكرام متكرر، اليوم سألني أخ كريم فقال: إن الله عزَّ وجل حينما يقص علينا بعض القصص لا نجد فيها تفاصيل، ولا جزئيات، ولا أسماء أمكنة، ولا أسماء أزمنة، كلامٌ عام، فما حكمة ربنا جلَّ جلاله من أن قصص القرآن الكريم ليس فيها تفاصيل، ولا أمكنة ولا أزمنة ؟ قلت له: يا أخي لو أن الله سبحانه وتعالى ذكر لك أسماء الشخصيِّات، والمكان الذي تحركوا عليه، والزمان الذي غَلَّفَ هذه الأحداث، وأورد تفاصيل كثيرة جداً، لوقع في وهمك أن هذا تاريخ، أو أن هذه قصة وقعت ولن تقع مرة ثانية، فلم يعد القرآن إذًا كتاب هداية، لكن الله سبحانه وتعالى حينما يغفل هذه التفاصيل، والأسماء ؛ أسماء الشخصيات، والأماكن والأزمنة من أجل أن يلقي في روعك أن هذا نموذج متكرر تجده في كل زمان، فكل من يبحث عن تفاصيل قصص القرآن الكريم كأنه يَفْسِدُ على الله حكمته، بل هو نموذج متكرر. 


من كان صادقاً في طلب الله عقل و فهم و استفاد:


 طبعاً تقرؤون هذه الآيات: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ مَن هؤلاء: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ هؤلاء كانوا في عهد النبي عليه الصلاة والسلام ولكن خصوص السبب لا يعني أن هذه الآية لا تنطبق على كل إنسانٍ فيه هذه الصفات، فهذا إذاً كما يسميه بعض العلماء نموذج متكرر نجده في كل زمانٍ ومكان، فليحذر أحدنا أن يكون ذلك النموذج المتكرر، أي اطلب الله بصدق، إذا كنت صادقاً عقلت واستفدت وفهمت وحفظت وتحرَّكت، أما إذا ما فقد الصدق في طلب الحقيقة تقول كما قال هؤلاء: ﴿مَاذَا قَالَ آنِفًا﴾


موضوع التذكر له علاقة بالاهتمام و صدق التوجه:


 صار عدم استيعاب موضوع العلم، أو عدم عقل المعلومات وفهمها، وصمة عار بحق الإنسان، الدليل أنه ليس مهتمًا، والإنسان أحياناً ينسى أشياء كثيرة ويذكر أشياء كثيرة، الذي ينساه لا يهتم له، فمثلا شخص تقول له: الاسم الكريم، يقول لك اسمه، بعد دقيقة تنسى اسمه، دقيقة واحدة وتنسى اسمه فما السر؟ وإنسان آخر تسأله عن اسمه فلا تنساه طول حياتك، فموضوع التذكر له علاقة بالاهتمام و صدق التوجه، هذا النموذج الأول: 

﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ(16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ(17)﴾

[  سورة محمد ]


من اختار رضوان الله و الدار الآخرة شرح الله صدره للإيمان:


 هذا موضوع آخر، النبي عليه الصلاة والسلام قال: 

((  إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ. ))

[  الترمذي عن أنس  ]

 إذا اختار الإنسانُ أن يصل إلى الله، إذا اختار رضوان الله، إذا اختار الدار الآخرة، فالله عزَّ وجل يزيده هدىً، هو اهتدى، حينما طلب الحقيقة اهتدى، حينما طلب رضوان الله اهتدى، حينما طلب الدار الآخرة اهتدى، فكيف يزيده الله هدىً ؟ قيل: يشرح الله له صدره للإيمان، ألم يقل الله عزَّ وجل

﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ(7)﴾

[  سورة الحجرات ]

 فهذا القلب، قلبك الذي هو بين إصبعين من أصابع الرحمن حينما يشرحه للهدى يكون قد أعانك على نفسك، أنت اخترت الطريق الصحيح والله سبحانه وتعالى وجّه قلبك إليه، فهذا مما يزيدك الله به هدىً، وبعضهم قال: النبي عليه الصلاة والسلام ببيانه وسنته المطهَّرة القولية والعملية يزيدك هدىً، والله عزَّ وجل قال:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)﴾

[ سورة النساء ]


وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى: آية لها عدة معان:


1ـ انشراح صدرك:

 مثلاً أربعمئة حديثٍ شريف تُوضِّحُ أحكام البيع والشراء والتجارة، ففيها زيادة بيان و هداية، فالنبي من خلال سنته القولية والعملية زاد المهتدين هدىً، فإما أن نفهم أنّ الهدى انشراح الصدر، أي أن يزيدك الله هدىً فهو انشراح صدرك. 

2 ـ بيَّن لك ما في القرآن الكريم:

 إما أن نفهم أن يزيدك الله هدىً أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن لك ما في القرآن الكريم.  

3 ـ وفقك إلى العمل الذي يرضاه:

 وإما أن تفهم أن يزيدك الله هدىً أنه وفقك إلى العمل، وإلى تطبيق هذا الذي سمعته.

4 ـ أن ترى بعينك الأحداث التي تؤكِّدُ ما في القرآن:

 وإما أن يزيدك الله به هدىً أن ترى بعينك الأحداث التي تؤكِّدُ ما في القرآن، فالخلاصة: إما أن الحوادث تؤكد ما في القرآن، وإما أن الله سبحانهُ وتعالى يوفقك إلى تطبيق ما تعلمت، وإما أن الله سبحانه وتعالى عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم يوضِّح لك ما في كتابه من تفاصيل، وإما أن الله سبحانه وتعالى يشرح صدرك للهدى، فشرح الصدر، وبيان النبي، والتوفيق للعمل، وأن ترى الحوادث تؤكِّدُ ما في القرآن الكريم، أربع معانٍ في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾


من طلب الهدى أعطاه الله زيادة عليها:


  على ضوء هذه الآية أرجو الإصغاء إليّ: أنت في طريق ووصلت إلى مفرق طرق، فهناك طريقان، وأنت تتجه إلى حمص، ولا تدري من أي طريقٍ تسلك، فرأيت إنسانًا سألته: من أين حمص؟ قال لك: من هذا الطريق، قلت له: شكراً بارك الله بك، قال لك: انتبه يا أخي بعد حين هناك تحويلة، بعد حين آخر هناك ممر خطر، بعد حين ثالث يواجهك حاجز، أنت حينما سألته وأجابك، وشكرته زادك تفاصيل، هذا من باب التقريب، وأنت حينما طلبت الحق واهتديت إلى الله عزَّ وجل فأعطاك تفاصيل كثيرة، كيف تعامل زوجتك، كيف تعامل أولادك، كيف تكسب رزقاً حلالاً، كيف تمضي وقت الفراغ، كيف تربي أولادك، زادهم هدىً، هذه الزيادة، طلبت الهُدى فأعطاك الله ما طلبت وزيادة.


من اختار الهدى شرح الله صدره بالإيمان:


 إذاً المعاني الدقيقة لهذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ أولاً شرح الله صدورهم وهذا أكبر دعمٍ لهم، فالإنسان أحياناً ينقبض، ومن لوازم هذه الآية أن الإنسان لو اختار اختياراً سيئاً، لو اختار أن يعصي الله عزَّ وجل يشعر بضيق، يشعر بقلق، بكآبة، هذه الكآبة من خلق الله عزَّ وجل، فضيق القلب، وكآبة القلب، والشعور بالحرج حينما يقدم الإنسان على معصية، هذه معونة من الله لك إذ نَفَّرَكَ منها، أبعدك عنها، وحينما ينشرح صدرك، ويفرح قلبك، وتشعر بالانطلاق حينما تختار الهدى، فالله سبحانه وتعالى أعانك على ذلك ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ .


النبي زاد الإنسان هدىً لأنه بيّن ما نزل في كتاب الله عزَّ وجل:


  حينما يبيِّن لك النبي التفاصيل، فمثلاً أمرك الله بأداء الزكاة، والنبي بين لك بالأحاديث الشريفة أحكام الزكاة، تفاصيل الزكاة، زكاة العروض، زكاة النقدين، زكاة المواشي، زكاة الحلي، زكاة الرِكاز، النبي زادك هدىً لأنه بين ما نزل في كتاب الله عزَّ وجل، وحينما توفق إلى العمل الصالح وتقطف ثماره يزيدك الله به هدىً، وحينما ترى المرابي وقد دُمِّرَ ماله، والله سبحانه وتعالى يقول مخوفًا من عاقبة الربا:

﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ(279)﴾

[  سورة البقرة ]

 هذه الوقائع و الأحداث تزيدك هدىً، حينما ترى أن الذي يزني يُزنى به ولو بجداره فهذا مما يزيدك هدىً، حينما يعق الإنسان والديه ولا يوفق في حياته، فهذا كذلك يزيدك هدىً، فالحوادث تزيدك، والتطبيق حينما تطبِّق تقطف ثمار الهدى، والنبي يبيِّن، وشرح الصدر يدفع، هذا معنى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾


الله عز وجل دلّ الإنسان على المنهج التفصيلي الذي ينبغي أن يسير عليه:


 آتاهم المنهج التفصيلي الذي ينبغي أن يسيروا عليه، يعني بيّن لهم ما يتقون، لذلك قال تعالى:

﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3)﴾

[  سورة المائدة ]

 ما من قضيةٍ متعلقةٍ بالدار الآخرة، متعلقةٍ باتصالك بالله عزَّ وجل، متعلقةٍ بسبب وجودك في الأرض، متعلقةٍ بالهدف الكبير الذي خلقت من أجله، ما من قضيةٍ متعلقةٍ بهذه الموضوعات إلا وبينها الله عزَّ وجل ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا﴾


العاقل من يحتاط لساعته و يعدّ لها العدة اللازمة:


﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ(17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ(18)﴾

[ سورة محمد ]

 وها نحن الآن بصدد الحديث عن الساعة: يعني أولاً هناك ساعتان، الساعة العُظْمى يوم القيامة، وساعة صغرى هي ساعة كل إنسان، فكل إنسان له ساعة، ساعةٌ خاصة وساعةٌ عامة، والأولى أن ينتبه الإنسان لساعته الخاصة، ساعة مغادرة الدنيا، والعاقل هو الذي يحتاط لهذه الساعة ويُعِدُّ لها كل شيء، يعد لها معرفة الله، يعد لها الاستقامة على أمره، يعد لها العمل الصالح.


ماذا ينتظر الإنسان من الدنيا ؟ هل ينتظر إلا:


1ـ الفقر المفاجئ:

﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا﴾ الناس في لهو، وفي غفلة، لكن لو أن واحداً منهم وهو منغمس في شهواته، في لقاءاته، في سهراته، في زياراته، في تمتعه بما حرَّم الله، في كسبه للمال الحرام وهو منغمس وجاءته أزمةٌ في قلبه فجأةً، وأخذ إلى المستشفى، وشعر أنه على وشك مغادرة الدنيا، والله الذي لا إله إلا هو يشعر بآلام وبضيق لو وزِّعَ على أهل بلدٍ لكفاهم. 

﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ﴾ ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام:  

(( بادِروا بالأعمالِ سبعًا هل تنتَظِرونَ إلَّا فقرًا مُنسيًا ، أو غنًى مُطغيًا، أو مَرضًا مُفسدًا، أو هَرمًا مُفندًا، أو موتًا مُجهِزًا أو الدَّجالَ فشرُّ غائبٍ ينتظرُ، أو السَّاعةَ فالسَّاعةُ أدهَى وأمرُّ.))

[ ضعيف الجامع ]

 فقر مفاجئ ممكن. 

2 ـ الغنى المطغي:

(أَوْ غِنًى مُطْغِيًا) والله لقد قال لي شخص يوماً: إنّ بيتي مساحته ألف متر مع الحدائق، ما دخل لبيتي حلويات إلا بالصواني، ولا دخل فواكه إلا بالصناديق، وعندي ثلاث سيارات، واحدة للسفر مريحة، وثانية للمدينة، وثالثة للمعمل، وذكر لي من دخله الكبير ومن ألوان حياته المترفة الشيء الكثير، ثم دارت الأيام فرأيته والله ينام في غرفةٍ قميئة ويأكل أكلاً خشناً لا يأكله معظم الناس، فقر مفاجئ، طبعاً هذا الغنى كان ببلد آخر، ثم أخرج بيومٍ واحد، وجاء إلى بلده لا يملك ولا ليرة واحدة، فأخذ غرفة صار يخيط فيها، فرأيت أن الفقر المفاجئ ممكن، هذا الفقر المفاجئ حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا) ينسيك كل شيء (أَوْ غِنًى مُطْغِيًا) كنت مستقيماً لكنَّ الغنى حملك على المعاصي كلها، هذا من البلاء، هذا من أكبر المصائب أن تكون ملتزماً فيأتي المال الكثير فيحملك على معصية الله عزَّ وجل، هذا بلاء 


دعوة النبي الكريم بأن من أحبه فليجعل الله رزقه كفافاً:


 أنا مرة سألت إنسانًا قلت له: عدد لي المصائب، ذكر لي المرض والفقر والقهر والجوع، فقلت له: لكنك أكبر مصيبة لم تذكرها، قال لي: ما هي؟ قلت له: الغنى المطغي إن هذا المال سبب الشقاء الأبدي، سبب دخول النار، لذلك النبي الكريم قال:

(( قَدْ أَفْلَحَ مَن أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بما آتَاهُ. ))

[ صحيح مسلم ]

 وكلما قال لي إنسان: أنا دخلي الحمد لله كافيني، مستورة، أقول له: إذاً أصابتك دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، أنت ممن تحب رسول الله، إذاً أصابتك دعوة النبي، خذ من الدنيا ما شئت، وخذ بقدرها هماً ومن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه وهو لا يشعر، إذاً: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ﴾

3 ـ المرض المفسد:

(هل تنتظرون إلا فقراً منسياً أو غنىً مطغياً أو مرضاً مفسداً) هناك أمراض تذهب بلذائذ الدنيا كلها، وأمراض تمنعك من لذائذ الطعام، وأمراض تمنعك من الأشياء التي يتمتع بها الفقير، كان في هذه البلدة قبل خمسين سنة والٍ، كان مركز الوالي بالمرجة التي فيها الآن بائعو الحلويات، مرة دخل عليه مدير مكتبة فرآه مطلاً من نافذة غرفته.. وكان بالطابق الأرضي سجن.. والدمعة على خده، قال له: يا سيدي مالك ؟ قال: جاء إنسان ينتظر سجينه ليراه فلم يسمحوا له، فجلس على الأرض وتناول طعاماً بِنَهَم، وأتمنى أن أكون مكانه على أن آكل هذا الطعام بهذا النَهَم، محروم من الأكل كله، فالنبي صلى الله عليه و سلم يقول: (أو مرضاً مفسداً) مرض يفسد الحياة كلها.  

4 ـ الهرم المفند:

(أو هرماً مفنداً) أي تضعف ملكاته، تضعف ذاكرته، يعيد القصة مئتين أو ثلاثمئة مرة في حياته، أهله يخرجون من جلدهم من قصصه، فقد حفظوها كلها، وذات مرة ذكر لي أخ قصة بينما كنت في أحد المساجد، وهي قصة مؤثرة وهو رجل يصلي بارك الله به، وبعد ثلاثة أيام أعادها علي ثم بعد جمعة أعادها مرة ثالثة، ورابعة، حفظتها غيباً بكل تفاصيلها، هذا الهرم المفند، يعيد القصة مئة مرة، ويصبح حُشرياً، وظله ثقيل، وينصرف الناس من حوله.


من كان تقياً متعه الله بسمعه و بصره و فؤاده إلى يوم مماته:


 لذلك فالإنسان المؤمن يمتِّعُهُ الله بقوته وملكاته وعقله وذاكرته، وكذلك زرت إنسانًا أعرف أنه ما اقترف حراماً في حياته، ولا أكل درهماً حراماً، قال لي: والله أجريت تحليلات كلها مطمئنة عمره ستة وتسعون عاماً.. فكل التحاليل نتائجها سليمة، وذاكرته قوية، فالإنسان المستقيم جاء في وصفه من عاش تقياً عاش قوياً.

إذا كان دخله حلالاً، وأنفق المال وفق ما يرضي الله عزَّ وجل يمتعه الله بسمعه وبصره وعقله وقوته ما أحياه، ويجعله الوارث له، كما قال النبي الكريم:

(( اللهمَّ مَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا.  ))

[  سنن الترمذي ]

 ذكر لي أخ أنّ أمه فقدت ملكاتها كلها، قال لي: نربطها، لأننا لو لم نربط يديها لأكلت من غائطها، وصلت إلى شيخوخة لا تحتمل، هذا يسمى أرذل العمر، أما المؤمن لكرامته على الله عزَّ وجل تكون أجمل سنوات حياته في خريف عمره، يزداد عقله، ويزداد مكانةً وعلماً وفهماً وهو في قلوب الآخرين، الشباب كلهم مثل بعض، أما التفاوت فيبدو واضحاً في خريف العمر، أيام الشيخوخة، فالمؤمن حينما يكون في شبابه مستقيماً، يمتعه الله بسمعه وبصره وقوته ما أحياه. 

5 ـ الموت المفاجئ:

﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ﴾ طبعاً: (فماذا ينتظر أحدكم من الدنيا هل تنتظرون إلا فقراً منسياً أو غنىً مطغياً أو مرضاً مفسداً أو هرماً مفنداً أو موتاً مجهزاً) يقول لك: بيتي ثمنه أربعون مليون، فلما توفي استقر بالقبر، أمعقول هذه النقلة المذهلة من قصر كل شيء فيه إلى حفرة صغيرة؟ نعم معقول. وهذا هو مصيرنا جميعاً، لكن هذا القبر إما أن يغدو روضة من رياض الجنة أو حفرة من حُفَرِ النيران. 


من أشراط الساعة بعثة النبي الكريم:


﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً﴾ أو أن الساعة التي وعد الله بها كل الخلائق كما قال عليه الصلاة والسلام: 

((  بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ يَعْنِي إِصْبَعَيْنِ. ))

[  صحيح البخاري ]

 يعنى أنّ مجيء النبي عليه الصلاة والسلام من أحد أشراط الساعة، ما دام النبي قد جاء برسالته فالساعة قريبة ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا﴾ من أشراطها بعثة النبي عليه الصلاة والسلام.


الإيمان قضية وقت لا قضية قبول أو رفض:


﴿فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ﴾ يعني كيف يتذكرون هذه الحقائق ومتى؟ يتذكرون؟ بعد أن جاءتهم الساعة؟ كفرعون متى آمن؟ بعد أن أدركه الغرق، فقال:

﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)﴾

[   سورة يونس  ]

 فقال الله عزَّ وجل:

﴿ ءَآلْـَٰٔنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ(91)﴾

[  سورة يونس ]

 معنى ذلك أن الإيمان الذي يحدث عند الموت لا قيمة له ولا ينفع صاحبه بل يزيده ألماً وفجيعة، والإيمان قضية وقت لا قضية قبول أو رفض، أجل: قضية وقت حصراً لا قضية قبول أو رفض.


من أيقن بالساعة متأخراً ما نفعه يقينه أبداً:


﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ فَأَنَّى لَهُمْ﴾ أي كيف يتصرفون حينما تأتي ساعتهم؟ إما أن تأتي ساعتهم، أو أن تأتي هذه الساعة، يوم القيامة، الطالب لما يقرع جرس الامتحان، ولم يكن درس من قبل، فماذا أفاده أنْ يؤمن أن هناك امتحانًا؟ العبرة بالاستعداد له، لا باليقين أن هناك امتحان، لو كان طالب مشككًا بالامتحان ثم قرع جرس الامتحان، وأيقن أن هناك امتحان، فكونه ما درس ولا استعد لهذا الامتحان وقرع الجرس فلا يعني هذا شيئاً عنده، ولا ينفعه، ولا ينجِّيه، هذا اليقين المتأخِّر لا قيمة له، فهو يقين متأخر دون أيّ عمل، لذلك:

﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ(158)﴾

[ سورة الأنعام ]


من أتى أجله و هو منكر للإيمان خسر آخرته:


فالعبرة كما قلت وأقول دائماً وقد ذكرت هذه الفكرة المرة تلو المرة: خيارك مع الإيمان خيار وقت لا خيار قبول أو رفض، لا تستطيع أن ترفض الإيمان حينما يأتي الأجل:

﴿ لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾

[  سورة ق ]

﴿ يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24)﴾

[  سورة الفجر ]

﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27 (يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)﴾

[ سورة الفرقان ]

﴿ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ(56)﴾

[ سورة الزمر ]

 الإيمان سيحصل، لكن ليس هناك عمل، كما لو أن طالباً عرف السؤال ولكنه لم يدرس ولم يستعد، خرج من الامتحان فتح الكتاب هذا هو الجواب، ما قيمة هذه المعرفة المتأخرة ؟ فالنتيجة صفر، والصفر خسار و بوار.


تذكر الإنسان لا ينفعه إذا جاء أجله:


﴿فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ﴾ يعني إذا جاءت الساعة فما قيمة هذا التذكر؟ التذكر لا ينفعهم، فقد مضى وقت الاستعداد لهذا الامتحان، ولات حين مناص. 

﴿  فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ(19)﴾

[ سورة محمد ]

 هذه الآية إن شاء الله لها تفاصيل في الدرس القادم.

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور