وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 9 - سورة الزخرف - تفسير الآيات 80-89 الإبرام
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس التاسع والأخير من سورة الزخرف.


إذا أراد أحد إبرام أمر فليتدبر عاقبته وليعلم أن لكل شيء حسابه:


 مع الآية التاسعة والسبعين وهي قوله تعالى:

﴿  أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ(79)﴾

[ سورة الزخرف ]

 وقد بيّنت في الدرس الماضي طرفاً من هذه الآية، حيث إن الله سبحانه وتعالى يبين أن هذا الإنسان قد يفكر، وقد يتخذ قراراً، بالمصطلح الحديث، أو يُبرِم أمراً، لكن حينما يبرم الإنسان الأمر قد يغفل عن أن الله بيده كل شيء، وأن الله سبحانه وتعالى مُطَّلع على كل شيء، وأن الإنسان في قبضته، فالإنسان حينما يتجاهل أن الأمر بيد الله، وأنّ الله مُطَّلع عليه وأن الله سيحاسبه يغدو بإبرامه هذا الأمر أحمق، يبدو باتخاذه هذا القرار متسرعاً.

 فالإنسان قبل أن يتحرك، قبل أن يعطي، قبل أن يمنع، قبل أن يغضب، قبل أن يتخذ قراراً، قبل أن يبرم أمراً، قبل أن يضع خطة، قبل أن يسيء إلى إنسان، عليه أن يفكر بماذا سيجيب ربه يوم القيامة؟ وما حجته؟ إذا أراد أحدكم إبرام أمر فليتدبر عاقبته، فأنت لك أن تتخذ أي قرار، ولك أن تُبرِم أي أمر ولكن لكل شيء حسابه، ولكل عمل نتائجه، ولكل سيئة عقاب، ولكل حسنة ثواب، والأمر ليس كما يتوهم الناس.

﴿  أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى(36)﴾

[ سورة القيامة ]

 هكذا بلا حساب، بلا مسؤولية، بلا جزاء، بلا ثواب، بلا عقاب، بلا جنة، بلا نار؟ ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ .

﴿  أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ(115)﴾

[ سورة المؤمنون ]


الدين هو العقل ومن لا دين له لا عقل له:


 الجاهل وحده يتوهم ذلك، وقد ترى إنساناً يتحرك حركة عشوائية، ويتطاول ويعتدي ويأخذ ما ليس له، ويؤذي، ويبالغ في إذلال الآخرين، أو في أخذ ما في أيديهم ويظن نفسه ذكياً متفوقاً متمكناً، وهذا هو الحُمق بعينه، وهذا هو الجهل بعينه.

 أيها الإخوة الكرام، قبل أن تتحرك، قبل أن تتخذ قراراً، قبل أن تطلّق، قبل أن تتزوج، قبل أن تعقد صفقة، قبل أن تعلن سعراً، قبل أن توقِع أذىً، قبل أن تتحرك، فكِّر أنك في قبضة الله، فكّر أن كل أمرك بيد الله، فكر واعلم أن الله سبحانه وتعالى قادر بثانية واحدة أن يجعل حياتك جحيماً، الإنسان تأتيه المصيبة فجأة من دون سابق إنذار، إما في جسده، أو في ماله، أو في أهله، أو في أولاده، أو في عقله، فهذا الذي يرتكب الحماقات ويسيء إلى الناس إما مُعتدّاً بقوته، وإما مُعتدّاً بجبروته، وإما مُعتدّاً بذكائه هذا هو الجاهل بعينه.

 إخواننا الكرام، دائماً فرِّقوا بين من هو مُتفوق في اختصاصه، غافل عن ربه، هذا ليس ذكياً، ولو بدا لكم أنه ذكي، ربما نسمي ذكاءه ذكاءً جزئياً محدوداً مهنياً حرفياً، لكن الذكاء الحقيقي هو الذكاء الشمولي الذي تعرف من خلاله حجمك، وأين كنت؟ وإلى أين المصير؟ وماذا ينبغي أن تفعل؟ الذكاء الذي يضم الآخرة إلى الدنيا، والمسؤولية إلى العمل، والجزاء إلى المقدمات، هذا هو الذكاء، فلذلك مَن لا دين له لا عقل له، إنما الدين هو العقل.


كلما زاد إيمانك زاد خوفك من الله:


﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ﴾ هذه الآية يمكن أن تُطبَّق على آلاف آلاف القصص، اتخذ الزوج قراراً بتطليق زوجته ظلماً وتعسُّفاً وهو يظن أنه قادر على كل شيء، قد يُصاب بمشكلة لا يتحملها، قد يتخذ التاجر قراراً بعقد هذه الصفقة ولو كانت حراماً، قد يتّخذ مَن أولاه الله أمرَ بعض الناس قراراً بإيقاع الأذى بمن هم دونَه، ويغيب عن ذهنه أن الله سيحاسبه حساباً شديداً لذلك: ﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ﴾ يعني البطولة لا أن تتفوق في لحظة واحدة، ولا أن تُوقِع الأذى بالآخرين، اثنان لا تقربهما؛ الإشراك بالله والإضرار بالناس، فحينما تتخذ قراراً بالإضرار بالناس لا ينبغي أن يغيب عن ذهنك أن الله بالمرصاد وأنه حسيب، النبي عليه الصلاة والسلام أرسل غلاماً في حاجة، وغاب طويلاً، والنبي بشر، فغضب، فلما عاد الغلام، قال عليه الصلاة والسلام: 

((  لولا القصاص لأوجعتك بهذا السواك. ))

[ ضعيف الجامع ]

 أيها الأخ الكريم، كلما ازداد إيمانك ينبغي أن يزداد خوفك من الله، يجب أن تفحص إيمانك من شدة خوفك من الله، فالخوف من الله يتناسب مع معرفته، لذلك أخوف إنسان على وجه الأرض من الله هو النبي عليه الصلاة والسلام، وكلما قلّ الإيمان قلّ الخوف من الله، فإذا انعدم الإيمان انعدم الخوف، لذلك قال بعضهم: 

ذو العقلِ يشقى في النّعيمِ بعقلِه       وأخو الجَهالةِ في الشّقاوةِ يَنعمُ

[ المتنبي ]


الخوف المقدس هو أن تعرف أنك مسؤول وتعرف حدود مسؤوليتك:


 فإذا آمنت بالله عز وجل، وعرفت حدود مسؤوليتك، وعرفت الرسالة التي أناطها الله بك، وعرفت أن هذه الدنيا دار عمل، وأن الآخرة دار جزاء، وأن كل حركة أو سَكَنة مُحاسَب عليها وأنه:

﴿  فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8)﴾

[ سورة الزلزلة  ]

 تشعر أنك خائف، وهذا هو الخوف المقدس، تشعر أنك مسؤول، لذلك لا تعجب أن يقول عمر: ليت أم عمر لم تلد عمر، ليتها كانت عقيماً، لا تعجب، لا تعجب إن رأيت نفراً من أصحاب رسول الله وهم الذين جاهدوا معه، وباعوا أنفسهم في سبيل الحق، لا تعجب أن يتهموا أنفسهم بالنفاق، كما قال بعض التابعين: لقيت أربعين من أصحاب رسول الله وما منهم أحد إلا ويظن نفسه منافقاً، لا تعجب، كلما عرفت ربك أكثر عرفت المسؤولية التي أناطها بك أكثر، وعرفت المهمة التي كلفك بها أكثر، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: 

(( والله لو تَعلَمُونَ مَا أعلَمُ لَضحِكتُمْ قَليلاً، وَلَبَكَيْتُمْ كَثيرا، وما تَلَذَّذْتُم بِالنِّساءِ على الفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلى الصُّعُدَاتِ تَجأروُنَ إِلى اللهِ. ))

[ الترمذي  ]


على الإنسان أن يخشى الوقوف بين يدي الله فالصدق منجاة والكذب مهواة:


 الحساب دقيق، والدليل أن إنساناً لو طُلب منه أن يقابل جهة ما بعد يومين، فلا ينام الليل وهو نظيف ومستقيم، فما بالك أن يسألك خالق السماوات والأرض، الذي يعلم السر وأخفى، أنت أمام إنسان من جنسك تخشى السؤال، ماذا سأُسأَل؟ ماذا فعلت حتى طُلِبت؟ فكيف إذا وقفت بين يدي الواحد الديان وهو الذي يعلم كل شيء، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

 والشيء الذي يلفت النظر هو أن الإنسان قد يؤتيه الله في الدنيا طلاقة لسان، وقوة بيان، ونصاعة حُجة، قد يستطيع قلب الحق باطلاً، وقلب الباطل حقاً، قد يستطيع أن ينتزع إعجاب من يستمع إليه، وأن يُقنِع الناس، هذا الذي سماه بعض الصحابة جدَلاً، قال كعب بن مالك: لقد أوتيت جدلاً، يعني عندي قوة إقناع، ولو أردت أن أسترضي رسول الله ليُوشِكَنّ الله أن يسخِّطه عليّ، عرف أن الله بيده كل شيء، قال: فأجمعت صدقه، فحينما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبب تخلفه عن غزوة تبوك قال: والله يا رسول الله إني أوتيت جدلاً، ولكنني لم أكن في وقت من الأوقات أنشط مني ولا أقوى في الوقت الذي تخلّفت فيه عنك، فالنبي عليه الصلاة والسلام أكبر صدقه، وقال: أما هذا فقد صدق ، سمع من خمسة وثمانين رجلاً مختلفاً أعذاراً، وقبلها منهم وسكت عنهم، أما هذا الصحابي فقال عنه: أما هذا فقد صدق ، لذلك الصدق منجاة، والكذب مهواة .

(( وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال: تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ فقلت: بلى إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله لا والله ما كان لي من عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك فقمت. ))

[ صحيح البخاري ]

 يعني أشعر أن الآية لها ظلال كثيرة: ﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ﴾ .


كلما ازداد المؤمن علماً ازداد انضباطاً على منهج الله:


 قلبك بيده، عينك بيده، الشبكية بيده، مركز البصر في الدماغ بيده، نمو الخلايا بيده، ضيق الشرايين بيده، عمل الكلية بيده، يُقال فشل كلوي أخطر من مرض القلب، تشمّع الكبد بيده إن توقَّف الكبد انتهى أجله وليس هناك أمل إلا الموت، فالإنسان ماذا يملك؟ والله لا يملك شيئاً، فأي عضو في جسده لو تعطّل قلَبَ حياته إلى جحيم، هذه الأعضاء ليست بيدك، الله عز وجل قال:

﴿  قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)﴾

[ سورة آل عمران ]

 فعلامَ القول إنني سأفعل ولن أفعل، وأعطي ولن أعطي، تأدّبْ مع الله، ولتعلم أنك كلما ازددت علماً ازددت أدباً مع الله، كلما ازددت علماً ازددت تواضعاً لله، كلما ازددت علماً ازددت خوفاً من الله، كلما ازددت علماً ازددت انضباطاً على منهج الله، لماذا مجلس العلم؟ لتعرف الله، لتنعكس هذه المعرفة سلوكاً راقياً، كمالاً في التعامل، أدباً مع الله، أدباً مع عباد الله، تواضعاً للمؤمنين، والنبي عليه الصلاة والسلام وهو قِمّة البشر كلهم، يقول الله له:

﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ(215)﴾

[  سورة الشعراء ]


على المؤمن أن يحسب حساب كل شيء لأنه يعلم أن الله عليم بأفعاله خبير بنواياه:


 هذا المؤمن غالٍ على الله، ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بل إن من توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام أن تتواضع لمن تعلم، وأن تتواضع لمن تتعلم منه، هذا مجتمع المؤمنين مجتمع رائع جداً، مجتمع متكاتف، متعاون، متساوٍ.

﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ﴾ قد يحلف الإنسان يميناً كاذباً، يميناً غموساً، وسماها العلماء غَموساً؛ لأنها تغمس صاحبها في النار، ولأنها لا كفارة لها، ومن حلف يميناً غموساً عليه أن يجدد إسلامه، يحلف يميناً بكل بساطة يميناً كاذبة، وربنا عز وجل قد ينتقم منه انتقاماً سريعاً وقد يعطيه مهلة.

 مضمون هذه الآية يعني أنك قبل أن تتحرك لابد من أن تحسب حساباً لأشياء كثيرة، الذي يُؤسَف له أن بعض الناس إذا تحرك يحسب حساباً لكل شيء، ذكي جداً، لكنه يغفل عن ربه، وأنه مطَّلع عليه، ناظرٌ إليه، عليمٌ بأفعاله، خبيرٌ بنيّاته، يرى مؤدّى أفعاله، وسوف يحاسبه حساباً دقيقاً.

﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ (47)﴾

[ سورة الأنبياء ]

 ورد في السنة المطهرة أنه: 

(( ما مِن عَثرةٍ، وَلا اختِلاجِ عِرقٍ، وَلا خَدشِ عودٍ، إلَّا بِما قَدَّمَت أَيديكُم، وَما يَعفواللهُ أكثرُ. ))

[ الألباني بسند ضعيف ]

 وليس هناك مجال لذكر قصص كثيرة تؤكد هذه الآية، إياك أن تتخذ قراراً، أو أن تُبرم أمراً لا يرضي الله؛ لأن الله بالمرصاد، إياك أن تتخذ قراراً بإيقاع الأذى، إياك أن تتخذ قراراً بالاستعلاء، شخص قرأ وصية فقال تُكتَب على ظُفر لإيجازها وبلاغتها قال: اتَّضِعْ لا ترتفعْ، اتَّبِعْ لا تبتدِعْ، الوَرِع لا يتّسع، هذه وصية.

﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)﴾

[ سورة الأعراف ]

 وقال:

﴿  وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا(26 (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)﴾

[ سورة الإسراء ]


الخوف من الله هو النجاة لأن رأس الحكمة مخافة الله:


 هناك الآن من يدفع عشرات الآلاف ليلتقط محطة تلفزيونية تفسد أهله وأولاده بماله، وهو عند الناس مسلم.

﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ﴾ الخوف من الله هو النجاة، أن تخاف من الله، الإنسان رأسه عنوان حياته، فلو قُطِع رأسه ماذا بقي منه؟ لا شيء، النبي الكريم يقول:

(( رأسُ الحِكمةِ مَخافةُ اللهِ. ))

[ ضعيف الجامع ]

إذا كانت الحكمة إنساناً فرأسها مخافة الله، فإذا أُلغِيت مخافة الله، فما بقي شيءٌ من الحكمة إطلاقاً، والحقيقة الخوف من الله يتناسب مع العلم بالله، كلما ازداد علمك ازداد خوفك، لعل الخوف مؤشرٌ لمعرفتك بالله.

 الطبيب مثلاً؛ لكثرة ما يرى في المستشفى من إنتانات معوية، من أمراض سارية، من عدوى، تجده يبالغ في النظافة، يبالغ بمعالجة الخضار بمواد كيماوية حتى تقتل الجراثيم، لماذا يخاف كل هذا الخوف؟ قد لا يأكل شيئاً في المطاعم؛ لأنه يرى كل يوم حالات الإنتانات، وحالات الالتهابات، وحالات العدوى، والأمراض السارية يراها بعينه، لذلك هو يخاف، لماذا يخاف أكثر من الناس؟ لأن علمه أكبر وأعمق من علم الناس في هذا الموضوع، هذا مثل، وأنت كلما تعرّفت إلى الله أكثر خِفتَ منه أكثر.

 كلمة: 

(( إنَّ الرَّجُلَ لَيَتكَلَّمُ بالكَلِمَةِ لا يَرى بها بَأسًا يَهوِي بـها سَبْعينَ خَريفًا في النَّارِ. ))

[ تخريج المسند لشعيب ]

في مجلس من مجالس الناس ماذا تعني كلمة (قصيرة)؟ ففي المجالس النسائية قد يصفون المرأة وصفاً كاملاً، الالسيدة عائشة قالت قصيرة عن أختها صفيّة، فقال يا عائشة: 

((  لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ البَحْرِ لَمَزَجَتْه   ))

[  رواه أبو داود والترمذي، عن عائشة  ]

 كلمة (قصيرة)، فما قولك بما فوق هذه الكلمة!  

أفضل الإيمان أن تشعر أن الله معك ويراقبك وهذا يدعى مقام المراقبة:

 (إنَّ الرَّجُلَ لَيَتكَلَّمُ بالكَلِمَةِ لا يَرى بها بَأسًا يَهوِي بـها سَبْعينَ خَريفًا في النَّارِ) فهذا الذي يتكلم في أعراض الناس، وينهش أعراضهم، ويغتابهم، ويوقع بينهم العداوة والبغضاء، كيف يكون حسابه عند الله عز وجل؟

﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ﴾ يعني بالتعبير الدارج؛ أنت هذا الذي صدر منك، حسناً سوف نريك:

﴿  أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ(79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ(80)﴾

[ سورة الزخرف ]

 أيها الأخ الكريم، إذا تيقنت أن الله معك دائماً، وأنه يسمع ويرى انتهت كل مشكلاتك، لأن هذه الرؤيا تحملك على طاعة الله، لو شعر الإنسان أنه مراقب من إنسان آخر يضبط كلماته، يضبط حركاته، لا يدخل مكاناً مشبوهاً، لا يتكلم كلمة لها معنيان، هذا لو راقبه إنسان، لو قيل له أنت مراقب، فكيف لو شعر أن الله معه دائماً؟ وأفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك دائماً، هذا إيمان عظيم، اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، أن تشعر أن الله معك، هذا المقام سماه العلماء مقام المراقبة، فدائماً أنت تحت المراقبة، وهذا يجعلك مع الله دائماً، ومع منهجه، ومع سنة نبيه، ومع الإحسان إلى الخلق.  


على المؤمن أن يعلم أن الله يعلم كل شيء وسيحاسب كل إنسان على عمله:


﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ ذات مرة قلت لكم: إن الله سبحانه وتعالى اختار من بين أسمائه كلها اسمَين، وقد يعجب الإنسان لماذا هذان الاسمان بالذات، قال:

﴿  اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا(12)﴾

[ سورة الطلاق ]

 إذا أيقنت أنه يعلم، وأنه قدير أن يُحاسِب انتهى الأمر، أنت لا تنفّذ الأمر إذا علمت أنه لا يعلم، أو علمت أنه يعلم ولكن لا يحاسب، أو علمتَ أنه يحاسب ولكن لا يعلم، أمّا إذا أيقنت أنه يعلم وسوف يحاسب فقد انتهى، ودقق أيها الأخ الكريم، أنت مع إنسان مثلك إذا كان أقوى منك ويعلم وسيحاسب فلا يمكن أن تعصيه، مستحيل، مع إنسان راقب نفسك، إذا كان مكسوفاً، هذه البضاعة دخلت بوثيقة، فنسخة من هذه الوثيقة تذهب للمالية، تكتب في البيان أنك استوردت هذه البضاعة؛ لأنه يعلم وسيحاسب، انتهى الأمر، هذا مع إنسان فكيف مع خالق الأكوان؟ 

﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ كل شيء مُسجّل، لقد استطاع الإنسان أن يسجّل على أي إنسان كل حركاته وسكَناته، يعني أن الإنسان بلغ درجة صار كل شيء لديه مسجلاً صوتاً، أو صوتاً وصورة، أحياناً يطّلع الإنسان على ما فعل، انتهى التحقيق، يرى بعينه كيف تحرك، وأين ذهب، وماذا تكلم؟ فإذا الإنسان استطاع أن يسجل فالله عز وجل على كل شيء قدير، والإنسان سيرى أعماله يوم القيامة مكتوبة. 

﴿  اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا(14)﴾

[ سورة الإسراء ]

 كله مسجل، فإذا آمن بالملائكة كما أمر الله عز وجل وأنهم يكتبون كل الأعمال، فأنت حينما تقول: السلام عليكم ورحمة الله في الصلاة على من تسلم؟ على الملائكة الذين أوكل الله إليهم كتابة أعمالك الصالحة والطالحة. 


قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ: هذه الآية لها عدة تفسيرات:


﴿  قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)﴾

[ سورة الزخرف ]

 لهذه الآية تفسيرات كثيرة، بعضهم قال: "إنْ" بمعنى "ما" ، يعني ما للرحمن ولدٌ وأنا أول العابدين له وحده، ولا شريك له، هذا معنى.

 والمعنى الثاني: قل إن كان للرحمن ولدٌ، فأنا أول من أعبده لكن ليس له ولد، هذا طرح افتراضي، لكن ليس له ولد، فلو أن له ولد فأنا أول من أعبده. 

والمعنى الثالث: أو قل إن زُعِم للرحمن ولد فأنا لا أعبد إلا الله وحده، هذا المعنى الثالث.

 أول معنى: ليس للرحمن ولد لذلك أنا أعبد الله وحده هذا هو المعنى الأول. 

المعنى الثاني: لو افترضنا أن للرحمن ولداً فأنا أول من أعبده. 

المعنى الثالث: إذا زُعم أن للرحمن ولداً، فأنا أعبد الله وحده لا شريك له. 

﴿  قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ(82)﴾

[  سورة الزخرف ]


الله تعالى منزه أن يكون له ولد لأن الولد أساسه أن الإنسان يكمل به ضعفه:


 كلمة "سبحان" تفيد التنزيه، يعني نزِّه الله عن أن يكون له ولد؛ لأن الولد أساسه أن الإنسان يكمّل به ضعفه، الإنسان ينجب ولداً حتى إذا تقدمت به السن رآه شاباً إلى جانبه، فمن ضعف الإنسان يتمنى إنجاب الولد، لأن الإنسان سينتهي إلى عدم، يقول لك: هذا الولد يخلفني من بعدي، يخلّد ذكري في الأرض، هذا من ضعف الإنسان، إما من ضعفه أو من فنائه، لكن الله سبحانه وتعالى لا يليق به هذه المعاني.

﴿سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ أيعقل أن يكون له ولد! هو الأول والآخر والظاهر والباطن، هو الأزليّ الأبديّ، لا أول له ولا آخر، هو غنيٌّ عن كل مخلوق، يحتاجه كل شيء في كل شيء وهو غني عن كل شيء.

﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ*سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ هذا التسبيح، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هذه الباقيات الصالحات التي قال الله عنها:

﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)﴾

[ سورة الكهف ]


الذكر يؤهل الإنسان ليكون في ذمة الله في نهاره وليله:


 إنك إن سبّحته وإن وحّدته وإن كبّرته وإن حمدته فقد عرفته، وإن عرفته عرفت كل شيء، وإن عرفته عرفت أنه كل شيء، ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كل شيء، إن عرفته تقرّبت منه، وإن تقرّبت منه سعدت بقربه في الدنيا والآخرة، ملكت كل شيء، هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ كتاب الأذكار للإمام النووي فيه أذكار النبي التي كان يذكرها كل يوم صباحاً، فالإنسان إذا وُفِّق إلى أن يذكرها، وإلى أن يستغفر الله في اليوم ألف مرة، فيقول أستغفر الله، فقد حقق خيراً لنفسه:

﴿  فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10) يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا(12)﴾

[ سورة نوح ]

 فالاستغفار سبب لرحمة الله عز وجل، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هذه الباقيات الصالحات، لا حول ولا قوة إلا بالله هذه من أذكار النبي عليه الصلاة والسلام، فلو اطّلعتم على أذكار النبي وحاولتم أن تقرؤوها صباحاً كل يوم، فهذه ممّا تُعين الإنسان على أن يكون مُسلَّحاً طوال النهار، مُسلَّحاً بقربه من الله، العلم سلاحي، والقرب من الله سلاح المؤمن. 


غير المؤمن يكون غير جاد بطلب الحقيقة وهذه التسلية عبّر الله عنها بكلمة يخوضوا:


﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)﴾

[ سورة الزخرف ]

 قال المفسرون: فذرهم يخوضوا في باطلهم، ويلعبوا في الدنيا، يعني غير المؤمن ليس جادّاً في طلب الحقيقة، بل يريد أن يتسلى، ما قولك في الموضوع الفلاني؟ ما قولك في السحر؟ ما قولك في الكتاب الفلاني؟ ليس عنده رغبة قوية في معرفة الحقيقة، يتسلى بالأفكار تسليةً، هذا التسلي في الأفكار عبّر الله عنه في القرآن بكلمة "يخوضوا".

﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا﴾ يخوض يعني أي شيء لا يقنع به، يطرح لك مائة موضوع، وليس عنده استعداد أن يصدّق موضوعاً، هذا يشكّك، هذا يتحفّظ، هذا لا أعتقد، تجد شخصاً مترفاً ليس عنده رغبة بمعرفة الحقيقة، ولا بتبنيها ولا بالسعي لها لست أدري، ولماذا لست أدري؟ لست أدري، هذا معنى يخوضوا ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا﴾ 

 تجد الإنسان يقرأ ويطالع لكن قراءة غير هادفة، قراءة متعة، فتتكون عنده ثقافة واسعة، وعنده إمكانية أن يتكلم في المجالس كلاماً لطيفاً مُحبَّباً مسلياً للناس، لكن هو لا ينضبط لا بمنهج ولا بسلوك، لأن الحقيقة الكبرى ما عرفها، ما عرف سرّ وجوده ولا غاية وجوده، ولا عرف عن ربه شيئاً، وعنده فكر ومطالعة، ويقرأ، ويتعلم، ويستمع، ويشاهد، ويتأمل، ويلاحظ، وأصبح عنده مجموعة مقولات ليتسلّى بها. 


للمؤمن هدف واضح وهدفه معرفة الله وكل ما يقربه لله:


  معنى "يخوضوا" ليس هناك هدف واضح، لكن المؤمن هادف، وهدفه أن يعرف الله، كل ما يقربه من الله يتمسك به، وكل مَا يبعده عن الله يبتعد عنه وانتهى الأمر، عنده هدف، وعنده اصطفاء، الحياة محدودة، إن أردنا أن نقرأ كل شيء، وأن نطالع كل شيء فالوقت لا يتسع، مثلاً تجد مجلة فيها ثلاثون مقالة، منها تسع وعشرون مقالة لا تعنيك، تقرأ موضوعاً عن شرق ىسيا، موضوعاً عن البرازيل، جيد أنت تقرأ، لكن هناك حقيقة أكبر وأهم يجب أن تعرفها، والحياة قصيرة، الإنسان فجأة يشعر بمرض يقرّبه من أجله، عندئذ يندم.

 الوقت ثمين جداً، أوضح مثل لذلك الطالب الذي عنده امتحان بعد أسبوع، سنة التخرج والمادة الأخيرة وهذه المادة أهم مادة، ولها كتاب مقرر، وهذا التخرج مهم جداً يبنى عليه مستقبله، يُبنَى عليه زواجه، يبنى عليه مكانته الاجتماعية، وعنده مكتبة ضخمة أربعة جدران كلها تغص بالكتب، أيُعقل أن يقرأ قصة في هذا الأسبوع، أو مسرحية مثلاً أو كتاباً لطيفاً عن غرائب العالم، أو قصص العرب؟ الآن نريد الكتاب المقرر الذي سيحدد مصير نجاحنا آخر العام، هذه حالة المؤمن، لا يكون مبعثراً كما أنه لا يتشتت، ولا يكون ضائعاً ولا هائماً على وجهه لا، أنا أريد كتاب الله، وسنة رسول الله، وسيرة النبي وأصحابه الكرام، هذا منهجي في الحياة، أتقن معرفة كتاب الله وكلام رسول الله، وسيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وبعدها أقرأ ما يعينني على فهم كلام الله، ممكن أن أقرأ موضوعاً علمياً يزيد من إيماني بالله، هذا ممكن، المطالعة الهادفة، القراءة الهادفة، أما أن أقرأ كل شيء بلا منهج، وبلا هدف، بل أقرأ تسلية، وتمضية وقت ليس هذا من صفات المؤمن.


في حكم الآخرة كل الدنيا لعب:


﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا﴾ اللعب؛ الله عز وجل سمّاه لعباً، ماذا يعني اللعب؟ يعني عمل لا هدف له بل عمل عابث، قد يلعب المرء للساعة الواحدة ليلاً بالطاولة ماذا استفاد؟ هل ألفت كتاباً؟ أو  أسست مشروعاً؟ أو دعوت إلى الله! ما عملت شيئاً، هذا اللعب عمل لا طائل منه، مثلاً لاحظ طفلاً صغيراً يمسك بلعبة، فأنت كإنسان راشد تراه ضيّق الأفق، لو أخذتها منه عنوة، يبكي ساعة، فهل من المعقول أن تبكي أنت من أجل لعبة؟ لا، فأنت كبير، لكن لا تنسَ أن ما أنت فيه لو تجاوزته لرأيت نفسك تلعب، أنت مهتم بالتحف، مهتم بالسجاد النادر مثلاً، لكن لو تجاوزت الدنيا لرأيت هذه الهواية الراقية في نظرك الآن لعباً، لأنه لا طائل منها، جاء الموت فأنهى كل شيء، فالدنيا كلها لعب.

﴿ اِعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)﴾

[ سورة الحديد  ]

 فأنت ترى لعباً في مرحلة تجاوزتها، لكن المرحلة التي تعيشها فيها لعب وأنت لا تدري، سمعت بأذني أن شخصاً يقول: قضيت ستة أشهر وأنا محتار أأجعل تمديدات التدفئة داخلية أم خارجية، بعد ذلك قال: نجعلها داخلية، وبعد عشرين عاماً حينما تفسد الأنابيب نجعلها ظاهرةً، هذا الرجل حينما يأتيه ملك الموت يرى أن هذا لعباً، فاللعب عمل لا طائل منه، لكن المشكلة أنت لا ترى اللعب إلا في مرحلة تجاوزتها، وما أنت فيه ترى نفسك جاداً وهو لعب أيضاً، في حكم الآخرة كل الدنيا لَعِب.  


المؤمن يعلم أن الله خلاق وفعّال لكن غير المؤمن يعتقد أن الله خلاقاً وليس فعالاً:


 ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ هذا اليوم يأتيهم كالصاعقة، حينما يأتي ملك الموت، ويرى المؤمن مكانته في الجنة يقول: لم أرَ شراً قط، قد تكون حياته مشحونة بالآلام والمتاعب والمعالجات والمضايقات، ويقول: لم أرَ شراً قط، أما أهل الدنيا الذين انغمسوا في شهواتها وأكلوا مالاً حراماً، وتطاولوا على عباد الله إذا رأوا مكانتهم في النار يقول أحدهم: لم أرَ خيراً قط، كل شيء تنعّم به في الدنيا لا يراه شيئاً.

﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا﴾ هذه (ذرهم) تهديد، قد يقول الأب لزوجته: اتركيه لي، شيء كبير، تهديد. 

﴿  فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ(83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ(84)﴾

[ سورة الزخرف ]

 يعني أكثر الناس يتوهمون أن الله عز وجل خلق الكون، وأعطى كلّ إنسان إمكانات، ثم ترك العباد وشأنهم، لا، ليس هذا من شأن الله، إن هذا لا يليق بعدالة الله، ولا بكمال الله، ولا بوحدانية الله، ولا بأنه فعّال، الأجانب يرون أن الله خلّاقاً وليس فعّالاً، أعطى كل إنسان إمكانات وأطلق العباد، لذلك لا يخافون من الله، بل يخافون من بعضهم بعضاً، لكن عقيدة المسلم الصحيحة: أن الله سبحانه وتعالى خلّاق وفعّال، يعني كما هو في السماء إله هو في الأرض إله، الأمر كله بيده، هذا هو الإيمان، فلا يقع شيء إلا بعلمه وبإرادته ومشيئته، هذا هو التوحيد، الله عز وجل بيده كل شيء، ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كله عائد إليه، قال:

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(123)﴾

[  سورة هود  ]


علينا أن نفسر ما يجري في العالم تفسيراً توحيدياً ينسجم مع القرآن الكريم:


 ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾ قد يحلو للإنسان أن يفسر كل شيء تفسيراً أرضياً بعيداً عن الإيمان، وقد يفسّر الأحداث الكبرى في العالم من زاوية مادية مَحضة، أن فلاناً قوي، وفلاناً ضعيف، وفلاناً اعتدى، وفلاناً استغل، وفلاناً سيطر، وفلاناً قهر، يجب أن تفهم كل شيء من زاوية هذا القرآن الكريم، يعني أوضح مثل كأن يقول فلان: هنا وقعت مشكلة، وهناك قامت حرب أهلية، وهنالك حدث اجتياح، الله عز وجل قال:

﴿  وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112)﴾

[ سورة النحل ]

 عليك أن تفسّر كل ما تسمع من أحداث كبرى في العالم تفسيراً توحيدياً، تفسيراً ينسجم مع القرآن الكريم، لكن إذا تجاهلت أن الله هو الإله في الأرض، إذا توهّمت أن الله إله في السماء فقط، عندئذ ينصرف الذهن إلى تفسير كل شيء تفسيراً أرضياً بعيداً عن تفسير الأمور على أن الله في الأرض إله، وكل شيء بيد الله عز وجل، هذا شيء مريح، من دون هذا الإيمان تشعر بالقهر، تشعر بالظلم، تشعر أن إنساناً لا يرحم وبيده الأمر، وأن جهة تطغى وهي قوية، وأن هؤلاء الناس ضعاف، أساساً أكبر عقبة أمام ضعاف الإيمان هي هذه العقبة، يرى مثل ما قال رسول الله: 

(( لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، (فقراء) فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخده؛ ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت، لا تخاف؛ ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم.  ))

[ السيرة النبوية لابن هشام ]

هذه كلها عقبات، إذا رأيت أن الأمر بيد أعداء المسلمين وهم أقوياء وأذكياء وبأيديهم التكنولوجيا الحديثة، وتحت تصرفهم كل شيء ونحن ضِعاف لا نملك شيئاً، طبعاً هذه الفكرة وحدها تسبب القهر، والضعف، والتخاذل، والخنوع، والتّطَامُن، لكن إذا أيقنت أن الله سبحانه وتعالى بيده كل شيء، وهو على كل شيء وكيل، هذه الفكرة وحدها ترفع معنوياتك ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ .


يجب تطبيق منهج الله حتى نصبح في حال أفضل:


 أفعاله كلها حكيمة، وحكمته مبنية على علم.

﴿  وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(85)﴾

[ سورة الزخرف ]

 تبارك: أي كثُرَ خيره ، الله عز وجل خلق السماوات والأرض، وأمدّ الإنسان بكل شيء، والخيرات التي أودعها الله في الأرض لا تعدّ ولا تحصى، والعطاء كبير ولكن الإنسان هو الذي أفسدَ الحياة، الحياة لا تفسد إلا حينما يتحرك الإنسان حركةً خلاف منهج الله، وربنا عز وجل وصف الكفار بأنهم يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، الفساد أساسه إنسان مُخيّر خرج عن منهج الله، الله صمّم الأنثى والذكر للزواج، فأحدث أهل الضلال الزنى، كما أحدثوا الملاهي، وصار هناك انحرافات، صمم الحاجات من أجل أن تكسب منها رزقاً حلالاً فانحرف الإنسان إلى السرقة، ووقع البغيٌ، والعدوان، والاحتيال، والتدليس، والكذب، والغش، والاحتكار هذه كلها انحرافات عن منهج الله، لو طبّقنا منهج الله عزّ وجل لكنّا في حال غير هذه الحال.


الجهل هو العدو الأول للإنسان وهو سبب الشر:


﴿وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ من أين يأتي الشر؟ من سوء استخدام الأشياء، أضرب مثلاً أعيده كثيراً: الملح مادة أساسية في الحياة، وكذلك السكر مادة أساسية، ومسحوق التنظيف أيضاً مادة أساسية، لكن إذا وضعت الملح في الحلويات تفسد، إن وضعت السكر في الطبخ يفسد، يعني الموضوع سوء استخدام، والله عز وجل خلق كل شيء لحكمة بالغة، الدين أساسه يعطيك إرشادات في استخدام الأشياء، هذه استخدِمْها هكذا، والله عز وجل -كما أقول دائماً- ما أودع فينا شهوة إلا وجعل لها قناة نظيفة نعبر بها هذه القناة، أما حينما يخرج الإنسان عن منهج الله يكون الفساد في الأرض، لذلك تأكدْ أنه ليس هناك مشكلة إلا ومن ورائها معصية، ولا تقع معصية إلا من ورائها جهل، فيصبح الجهل هو العدو رقم واحد للمؤمنين وللناس.

﴿وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ والإنسان عليه أن يهتم أكثر ما يهتم بساعته هو، يعني ساعة لقاء الله عز وجل.

﴿ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)﴾

[ سورة الزخرف ]

 أي؛ صنم، حجر، اللات، العُزّى، الأشخاص الذين تعتمد عليهم، وترجو نفعهم، وتخشى ضرّهم هؤلاء من دون الله لا يملكون الشفاعة، الشفاعة تقريب من الله عز وجل قال سبحانه: ﴿إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾


علينا أن نتعلم من إنسان نثق بعلمه وبخبرته:


 إذا الإنسان شهد الحق، فمعرفته تنفعك، وحاله ينفعك، وإذا سألته تنتفع من جوابه، إن أصغيت له تنتفع بعلمه، يدلّك على الله، وعلى طاعة الله، وعلى طريق القرب من الله، وعلى طريق سعادة الدنيا والآخرة، فالشفاعة هنا أي مَن شَهدَ الحق ينفعك، الشفع الزوج: إذا اقتربت منه، تعاملت معه، سألته، جالسته، صاحبته، اقتبست من علمه تستفيد منه، يعني شفع لك.

 فالمعنى اللطيف لهذه الآية: أن الله سبحانه وتعالى يقول هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله لا يملكون لكم الشفاعة، لا ينفعونكم أبداً: ﴿إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ يعني شهد الحق ويعلم أنه شهد الحق، يعلم ويعلم أنه يعلم، هذا الذي تنفعك شفاعته، هذا معنى قول الله تعالى:

﴿  يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(119)﴾

[ سورة التوبة  ]

 ها معنى قول الله تعالى:

﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا(28)﴾

[ سورة الكهف ]

 وهذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام: 

(( عَليكم بالجَماعةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ. ))

[ صحيح الجامع ]

 أنت يجب أن تتعلم من إنسان تثق بعلمه واستقامته، وتتعلم من خبرته ومن علمه، إذاً: ﴿وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ .


علينا ألا نفصل بين القناعة والسلوك فهما متلازمتان:


 لا تصاحب من لا ينهض بك إلى الله حاله ويدلك على الله مقاله ، يعني صاحِب من يدلك على الله مقاله وينهض بك إلى الله حاله، هذه الصحبة صحبة المؤمنين.

﴿  وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ(87)﴾

[ سورة الزخرف ]

  لو فرضنا أن مريضاً مرضه شديد، ويتألم ألماً لا يحتمل، وسألته: أين المستشفى؟ يقول لك: هذه المستشفى، ولكنه ذهب إلى نزهة ولم يذهب للمستشفى، فتقول له: إلى أين أنت ذاهب؟ طالب تعرفه في الشهادة الثانوية تقول له: متى الامتحان؟ يقول لك: اليوم، لكنه يتخلف عن الذهاب للامتحان، ويذهب يتنزه، فتقول له: إلى أين أنت ذاهب؟

 شيء غريب جداً، فإذا أقررت أن الله هو خالق السماوات والأرض، وبيده كل شيء فماذا تنتظر؟ ما الذي يمنعك أن تتوب إليه؟ وأن تقبل عليه؟ وأن تقيم أمره؟ الفصل بين القناعات والسلوك خطير جداً، في العالم الإسلامي اليوم لن تجد مسلماً لا يعلم أن الله هو الخالق، وأن الجنة والنار حق، وأن الحياة تنتهي بالموت، حركة الإنسان الذي لا يطلب العلم حركة عجيبة جداً، يمشي في طريق مناقض لقناعاته.

﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ يعني أين ينصرفون.

﴿  وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88)﴾

[ سورة الزخرف ]

وقول النبي عليه الصلاة والسلام: ﴿يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ .


الدعوة إلى الله تحتاج إلى نفس طويل وإلى إدراك عميق:


 النبي عليه الصلاة والسلام أمره الله أن يصفح.

﴿  فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)﴾

[ سورة الزخرف ]

 يعني إذا أنت رأيت واحداً بعيداً متلبساً في معصية فعليك ألا تحقد عليه، بل يجب أن تشفق عليه كالطبيب تماماً، الطبيب لو رأى إنساناً يعاني من مرض جلدي مزعج جداً هل يحقد عليه؟ لا، هو طبيب يشفق عليه، فهذا من ضعف إيمانه، ومن ضعف إدراكه، من ضيق أُفُقه، من إعراضه عن مجالس العلم، من جهله بكلام الله، من عدم إيمانه بحقيقة الحياة الدنيا، قد يكون لك صديق، أو قريب، أو جار منغمس في المعاصي ولا يصلي، فأشفق عليه مبدئياً ﴿وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ*فَاصْفَحْ عَنْهُمْ﴾ إن الدعوة إلى الله تحتاج إلى نفس طويل، إلى صدر واسع، إلى إدراك عميق، إلى رحمة، إلى تحمّل، إلى تجلّد، وإلا إنْ ضاق الداعية بالناس ذرعاً فكيف يهديهم؟ إن حقد عليهم كيف يهديهم؟ إن عاداهم فكيف يهديهم؟ النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيد الخلق وحبيب الحق، المعصوم الذي يُوحَى إليه قال له سبحانه وتعالى:

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(159)﴾

[ سورة آل عمران  ]


على الداعية أن يكون على خلق حتى يملك قلوب الناس:


 الداعية الآن ماذا يملك من صلاحيات؟ لا يملك شيئاً، يملك فقط أن يعلّم الناس، وأن يكون أخلاقياً معهم حتى يملك قلوبهم، الأقوياء ملكوا الرقاب، والعلماء ملكوا القلوب، وشتّان بين المُلْكين، واحد بقوته يملك أن يحركك كما يشاء، لكن الداعية الصادق المخلِص يملك قلبك بإحسانه، وبكماله، فأنت إذا أردت أن تدعو إلى الله عز وجل لا ينبغي أن تحقد على العصاة.

 أبو حنيفة النعمان له جار مغنٍّ أزعجه إزعاجاً لا حدود له، طوال الليل يغني، يقول: أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ، مرة أُلقي القبض عليه فذهب أبو حنيفة ليتوسّط له كي ينقذه بحكم حق الجار، فلما دخل على صاحب الشرطة، طبعاً أكبرَه إكباراً شديداً، وأطلق كل من معه إكراماً له، ففي طريق العودة قال: يا فتى، هل أضعناك؟ ما أضعناك .

 فالمؤمن يصبر؛ يصبر على أذى الجيران، وعلى أذى المُعرِضين، وعلى أذى المقصرين، يتطاولون أحياناً، يتكلمون كلاماً فيه سخرية.

﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ﴾ النبي الكريم: 

(( كُنْتُ أَمْشِي مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعليه بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فأدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً، حتَّى نَظَرْتُ إلى صَفْحَةِ عَاتِقِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ أَثَّرَتْ به حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِن شِدَّةِ جَذْبَتِهِ، ثُمَّ قالَ: مُرْ لي مِن مَالِ اللَّهِ الذي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إلَيْهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ له بعَطَاءٍ. ))

[ صحيح البخاري ]

نبي كريم، يعني حوادث كثيرة جرت مع النبي لو جرت مع غيره لكان قطع رأسه فوراً، قال تعالى: ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ﴾ .


على المؤمن أن يتقرب إلى الله بخدمة خلقه والصبر عليهم:


 الصفح أساسه الرحمة، إذا دعوت إلى الله ينبغي أن تحب الناس جميعاً، ينبغي أن تصبر عليهم، أن تصبر على جفوتهم، وعلى أذاهم أحياناً، على أسئلتهم أحياناً أخرى، وعلى بعض تصرفاتهم أحياناً.

﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ بعض الشيوخ يقولون: ما وصل فلان إلى ما هو عليه من نُضجٍ حتى بذلنا جهداً كبيراً، فقد يكون الإنسان الآن غير ناضج، لكنه بعد عدة سنوات يكون قد نضج، وتوازن، وعرف الحقيقة، وانطلق، وأسرع إلى الله عز وجل، لو أنك لم تصبر عليه لما صار إلى حاله الجديدة، صبرك هو سبب نضجه، يعني هذه الآية خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام في الدرجة الأولى، ولكل من سار على سنته: ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ قلب المؤمن لا يعرف الحقد أبداً، ولا يضيق ذرْعاً بالناس، يرى أن هؤلاء عباد الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله، وأنت دائماً تتقرب إلى الله بخدمة خلقه، ولا تنسوا هذا الحديث الشريف: 

(( اصنع المعروف إلى من هو أهله، وإلى غير أهله، فإن أصبت أهله أصبت أهله، وإن لم تصب أهله كنت أنت أهله.))

[ ضعيف الجامع الصغير ]

 فهذه نهاية حميدة، كان هناك تابعي جليل أقذع بعضهم عليه بالسُّباب وهو ربما الشعبي، فبكل بساطة قال لمن يؤذيه: إن كنت صادقاً فيما تقول غفر الله لي، وإن كنت غير ذلك غفر الله لك ، أحياناً إنسان هادئ، حليم، موصول بالله عز وجل، وعنده قلب كبير يطفئ الشر كله، يخجل الإنسان لأن العنف إذا قابلته بالعفو والصفح تجده صغّر فاعله.  


لا عداوة في الإسلام بل علينا أن نتمثل أخلاق النبي الكريم:


 ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ﴾ تسمع أن فلاناً اسمه صفوح، كلمة كبيرة، كلمة صفوح تعني أن يتمثل أخلاق النبي، كان صفوحاً عليه الصلاة والسلام.

 عمير بن وهب جاء ليقتل النبي عليه الصلاة والسلام، سيدنا عمر شعر بنيته، وهو مقبل، فقيّده بحمّالة سيفه وساقه إلى النبي، والنبي صاحب هذا القلب الكبير ليس عنده حقد أبداً، ليس عنده شيء اسمه ألم، يحب الخلق كلهم، قال: يا عمر أطلِقه ، فأطلَقه سيدنا عمر، قال له: ابتعِد عنه، ابتعَد عنه، وقال له: ادنُ مني يا عمير ، دنا منه، قال: سلّم علينا، قال له: عمت صباحاً يا محمد، قال: قل السلام عليكم ، قال: لست بعيداً بسلام الجاهلية، هذا سلامنا، ما الذي جاء بك إلينا يا عمير؟ قال: جئت أفكّ أخي من الأسر، قال له: وهذه السيف التي على عاتقك؟ قال: قاتلها الله من سيوف، وهل نفعتنا يوم بدر؟ قال له: ألم تقل لصفوان لولا أطفال صغار أخشى عليهم العَنَت، وديون ركبتني لذهبت وقتلت محمداً وأرحتكم منه ، وقف عمير وقال: أشهد أنك رسول الله، لأن هذا الكلام جرى بيني وبين صفوان ولا يعلمه أحد إلا الله وأنت رسول الله.

 لقاء شخصي، أما مغزى القصة فنجده في قول عمر: "دخل عمير على رسول الله والخنزير أحب إليّ منه، وخرج من عنده وهو أحب إليّ من بعض أولادي" .

 لا عداوة في الإسلام أبداً، تُعادي أنت عمله فقط، فإذا رجع إلى الله صار أخاك في الله، إذا لم تشعر بهذا الحب لإخوانك المؤمنين فلست مؤمناً، لذلك: ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ .


أسعد الناس من استعمله الله في الخير وأشقاهم من استعمله في الشر:


 أخيراً: 

(( لا يحلُّ لمسلمٍ أن يُروِّعَ مسلمًا . ))

[ سنن أبي داوود ]

شرّ الناس من اتقاه الناس مخافة شره، المؤمن سلام لا يخرج منه إلا كل خير، تجد الناس مرتاحين له، وإذا كان شخص يخيف لا يجعلك تنام الليل، ويمكن أن يشي بك ويجعلك تدفع ثلاثة ملايين إن كان عندك شيء غير نظامي، فتخاف أن يخبّر عنك، أما المؤمن ليس عنده هذا الحقد، عنده سلام، وطيبة ورحمة، وهو مصدر سعادة للناس، لذلك إذا أردت أن تعرف مقامك عند الله فانظر فيمَ استعملك؟ أسعد الناس من استعمله الله في الخير، وأشقى الناس من استعمله الله في الشر.

 منذ أيام بينما كنت في طريقي إلى بعض أشغالي، قال لي شخص: هذا ملهى ضخم أنشأه شخص ومات بعد أن افتتحوه، قلت له من باب الطُّرفة: هذه صدقة جارية له، يعني أن كل معصية تقع فيه حتى يوم القيامة فهي في صحيفته.

والحمد لله رب العالمين.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنّا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضِنا وارضَ عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور