وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 6 - سورة الزخرف - تفسير الآيات 46-56 موسى وفرعون
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة الكرام مع الدرس السادس من سورة الزخرف.


قصة قرآنية حول نبي كريم دعا إلى الله:


 مع الآية السادسة والأربعين وهي قوله تعالى:

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِـَٔايَٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيْهِۦ فَقَالَ إِنِّى رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ(46)﴾

[  سورة الزخرف  ]

 ربنا سبحانه وتعالى يقول في آية أخرى:

﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(111)﴾

[  سورة يوسف ]

 وفي آية ثانية:

﴿ وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ(120)﴾

[  سورة هود ]


يحتاج الإنسان أحياناً إلى مثل حيّ وتطبيق عمليّ للثبات على منهج الله تعالى:


 إذاً القصة القرآنية حول نبي كريم دعا إلى الله، وتحمّل في دعوته ما تحمّل، ثم انتصر على خصومه، وتمت كلمة ربك لهذا النبي بالنصر والتأييد، هذه القصة من شأنها أن تُثبّت النبي محمداً صلى الله عليه وسلم.

ويُقاس على هذا أنك إذا أردت أن تدعو إلى الله عز وجل وجئت المدعوين بمَثَل حيّ، إنسان وقف موقفاً صحيحاً، وطبّقَ أمر الله، وذكرت لهم كيف أن الله أكرمه وحفظه وأيّده ونصره، هذه القصة الواقعية التي تُثبِت حقائق الدين، وتؤيّد نصوص الشريعة هذه لها دور خطير في الدعوة إلى الله، لأن الإنسان أحياناً لا تكفيه النصوص النظرية، ولا تكفيه الموضوعات المجرّدة، بل يحتاج إلى مثل حي، ويحتاج إلى تطبيق عملي، ويحتاج إلى أن يرى إنساناً كفَّ عن الحرام فأكرمه الله.

 هناك قواعد مُستنبَطة من التعامل غير الشرعي، منها أن الإنسان إذا لم يكذب لا يربح، إذا لم يغش لا يربح، وإذا لم يحتَلْ على الناس لا يربح، هذه قواعد شيطانية مستنبطة من طرائق الكفار في تعاملهم، فأنت حينما تأتي بمثل حي عن إنسان صدقَ، وكان الصدق ليس في صالحه لكن الله سبحانه وتعالى قلبَ له المعايير فأكرمه بصدقه، إن هذه الأمثال الحيّة تقدم دعماً للمؤمنين.

 فلذلك أيها الإخوة الكرام، إذا كنت تعرف قصة واقعية تبيّن أن إنساناً وقفَ الموقف الصحيح، وطبق أمر الله، وطبق شرع الله والله سبحانه وتعالى أكرمه، فهذا مما يعين المدعو على التثبُّت والثبات على منهج الله عز وجل، من هذا المنطلق ربنا عز وجل يقول: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ والنبي عليه الصلاة والسلام بشر، هو سيد البشر لكنه بشر، ولولا أنه بشر تجري عليه كل خصائص البشر لمَا كان سيد البشر، فالخوف من طبيعة البشر، وربما كان خوف النبي على هذه الدعوة وعلى سلامتها، فلذلك ربنا عز وجل جعل هذا القرآن مُنجَّماً أي كان ينزل في مناسبات خاصة وفق الحوادث التي تجري في عهد النبي من أجل تثبيت قلب النبي عليه الصلاة والسلام، يقول الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِـَٔايَٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ﴾ .


الله أرسل المنهج للناس مع الأنبياء ليحد من شهواتهم وانحرافهم:


 الحقيقة أن الفارق من حيث القوة كبير جداً، فسيدنا موسى إنسان فقير خرج من قصر فرعون خائفاً، هائماً على وجهه، وصل إلى مدين وعاش فيها مع سيدنا شعيب، وأرسله الله عز وجل إلى فرعون، وفرعون لا يعرف هذه الكلمة إلا من قرأ التاريخ، وعرف من فرعون، فهو من جبابرة الأرض، فسيدنا موسى ضعيف طريد، أرسله الله بآيات إلى فرعون، ومن سنن الله سبحانه وتعالى أنه إذا أرسل نبياً رسولاً، فإنه يؤيده بما يؤكد أنه رسول، ويجري على يديه معجزة، وهذه المعجزة تنطق بأن هذا الإنسان رسول الله.

 والسبب؛ لأنه إذا أرسل الله الأنبياء للناس بمنهج، فهذا المنهج من شأنه أن يحدّ من شهوات الناس، ومن طغيانهم وانحرافهم، فأغلب الظن أن عليّة القوم الأقوياء والأغنياء يرفضون دعوة الأنبياء، هذا هو الأعم الأغلب، ماذا يقولون؟ يتهمون هؤلاء الأنبياء والمرسلين بالكذب، كيف يردون عليهم؟ بالمعجزات، إذاً اتهام المنتفعين بالكفر والانحراف للأنبياء بالكذب لا بدّ من أن يكون مع النبي دليل وحجة على أنه رسول، ولذلك قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾ ولبعض العلماء رأيٌ في أن أفعال الله عز وجل حينما تٌصاغ بضمير الجمع يٌستفاد منها أن فعل الله عز وجل داخل فيه كل أسمائه الحسنى، يعني فعل الله فيه لطف وعلم وعدالة ورحمة وإكرام، ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾ فجاء الضمير بالجمع، أما حينما يتحدث الله عن ذاته يقول:

﴿  إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي(14)﴾

[  سورة طه ]

 فالحديث عن الذات يقتضي ضمير المفرد، والحديث عن الأفعال يقتضي ضمير الجمع لأن كل أسماء الله جلّ جلاله داخلة في هذا الفعل.


الآيات والمعجزات هي الدليل على صدق الرسالة:


﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِـَٔايَٰتِنَآ﴾ الآيات هي الدليل، ألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين، لم يألف الناس أن العصا تنقلب إلى حية حقيقة.

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِـَٔايَٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ﴾ ويقول بعض العلماء: حينما قال الله عز وجل لسيدنا موسى في المناجاة:

﴿  وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى(17)﴾

[  سورة طه ]

 إله يسأل، ما معنى هذا السؤال؟ ألا يعلم الله أنها عصا، ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾ فسيدنا موسى حينما سأله الله هذا السؤال في المناجاة انتهزها مناسبة ليطيل الحوار مع الله عز وجل قال:

﴿ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ (18)﴾

[  سورة طه ]

 واستحيا أن يطيل الجواب فقال: ﴿وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ فلو أن الله سبحانه وتعالى كان يريد أن يتابع الحوار لسأله يا موسى ما هذه المآرب الأخرى؟ لكن الله جلّ جلاله حينما سأله ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾ ليوضح له أنها عصا من خشب، وبعد قليل سوف تنقلب إلى حية (أفعى) تسعى.

﴿  وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى(17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى(18) قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى(19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى(20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى(21)﴾

[  سورة طه ]


المعجزة التي جاء بها نبينا محمد ليست معجزة حسية بل معجزة دائمة:


 لكن أيها الإخوة من فضل الله على أمة النبي صلى الله عليه وسلم أن المعجزة التي جاء بها النبي ليست معجزة حسية، المعجزة الحسية كعود الثقاب تتألق ثم تنطفئ وتصبح خبراً يصدقه من يصدقه ويكذبه من يكذبه، لكن معجزة النبي عليه الصلاة والسلام كتاب بين أيدينا، كلما تقدم العلم كشف عن جانب من إعجاز هذا القرآن الكريم، فهو معجزة دائمة إلى يوم القيامة.

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِـَٔايَٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيْهِ﴾ طبعاً ليس فرعون وحده هو المقصود بل فرعون وقوم فرعون، فقال سيدنا موسى: ﴿فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فقد عاش موسى في قصر فرعون، قال الله تعالى حكاية عن فرعون:

﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ(18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ(19)﴾

[ سورة الشعراء ]


القصص في القرآن الكريم لها مغزى:


 يعني فرعون تذكر أن هذا الإنسان الذي يقول إني رسول من رب العالمين كان عندنا في القصر، في قصر فرعون، لأنه يُروى أن فرعون رأى في منامه أن طفلاً من بني إسرائيل سوف يقضي على ملكه، فاتخذ قراراً بذبح أبناء بني إسرائيل جميعاً وانتهى الأمر، ولم يكن يدري أن الذي سيقضي على ملكه سيربيه في قصره.

 ودائماً القصص في القرآن الكريم لها مغزى، فالله عز وجل يذكر المغزى أحياناً، وفي أحيان كثيرة يدع القارئ يستنبط المغزى، ففرعون التقط سيدنا موسى من اليَمّ، 

﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ(8)﴾

[ سورة القصص ]

ولم يكن يدري أن هذا الطفل الذي سيُرَبى في قصره، وسوف يخرج من قصره خائفاً، ويلتقي بسيدنا شعيب ويعود رسولاً إلى فرعون هو الذي سيقضي على ملكه.

﴿فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ كلمة رسول رب العالمين، فهذه الكلمة تحدث عند المؤمن الصادق أثراً كبيراً، ليس شخصاً عادياً، هذا يمثل دين الله عز وجل، فالقرآن كلام رب العالمين، هذا الأمر أمر رب العالمين، هذا الرسول رسول رب العالمين، شيء عظيم جداً أن خالق الكون يرسل رسولاً، وهذا الرسول يتكلم بوحي من الله عز وجل، فلما الإنسان لا يعبأ برسول الله، ولا بسنته، ولا يعبأ بكلامه فهذا دليل على عدم إيمانه، أو دليل ضعف إيمانه.

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِـَٔايَٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيْهِۦ فَقَالَ إِنِّى رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ(46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47)﴾

[ سورة الزخرف  ]


الإنسان عقل وشهوة ؛ الشهوة تدعو للانحراف والعقل يدعو لطاعة الله:


 هذه السخرية والاستهزاء والضحك دليل الجهل، أو أن الإنسان حينما يكون منغمساً في شهواته يرفض أية دعوة سماوية تضعه على صراط مستقيم، الإنسان له عقل وله شهوات، شهواته تدعوه إلى الانحراف لكن عقله يدعوه إلى طاعة الله عز وجل، مثل ما قال سيدنا علي: رُكِّب الإنسان من عقل وشهوة، ورُكِّب الحيوان من شهوة بلا عقل، ركب المَلَك من عقل بلا شهوة، ركب الإنسان من كليهما، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان.

 يعني ولقد ضربت هذا المثل كثيراً لأنه يعبر عن حقيقة ثابتة؛ لو أن إنساناً ركب مركبة في أيام  الحر الشديد، عن يمينه شمس وعن شماله ظل ظليل، لكن هذه المركبة تدور حول ساحة وتأخذ مساراً عكسياً، فالطريق مدته ساعة، ودورتها حول هذه الساحة تستغرق دقيقة واحدة، فلو أن الإنسان صعد إلى هذه المركبة، ورأى عن اليمين شمساً، وعن اليسار ظلاً، فإذا جلس في المقاعد التي تضربها أشعة الشمس المحرقة لدقيقة واحدة تنعكس الآية إلى آخر الطريق في الظل الظليل، أما إذا ركب وفق حاجات جسده، وعطّل عقله يقبع في الظل، لكن بعد دقيقة واحدة تنعكس الآية، ويغدو في حرّ الشمس إلى آخر الطريق.

 إذاً هي قضية تحكيم وإعمال العقل، العقل أداة معرفة الله، أداة محاكمة، أداة ترى بها المستقبل قبل أن تصل إليه، فمثلاً؛ مرة سألوا طالباً نال الدرجة الأولى على كل الطلاب في الامتحانات العامة: ما سبب هذا التفوق؟ فقال كلمة لها معنى دقيق: لأن ساعة الامتحان لم تغادر مخيلتي طوال العام.

 وكذلك المؤمن ساعة المغادرة، ساعة لقاء الله عز وجل، ساعة الموت إذا كانت ماثلة في ذهنه طوال حياته، ففي كل موقف وفي كل حركة وفي كل سكنة، وعند كل عطاء وكل منع، كل كلام، وصل، قطع، عطاء، منع، غضب، رضا، يذكر كيف سيقابل ربه في هذا الموقف، معنى ذلك لابد أن يستقيم على أمر الله.


الخير كله في طاعة الله والشر في معصيته سبحانه:


﴿  فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ(47)﴾

[  سورة الزخرف  ]

 ضحك الساذج، ضحك الجاهل، ولا تنسوا أيها الإخوة أن أعدى أعداء الإنسان على الإطلاق هو الجهل، وأن الذي يحب نفسه حباً جماً ويؤثرها على كل شيء يجب أن ينطلق من هذه المحبة إلى طاعة الله عز وجل، لأن الخير كله في الطاعة والشر كله في المعصية، خالق الكون يقول:

﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾

[  سورة الأحزاب ]

 يجب أن تعتقد أنه من المستحيل أن تعصي الله وتفوز، ومن المستحيل أن تطيعه وتخسر، سبحانك إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت ، تطيع الله ومع طاعته كل الفوز، ومن يعصِ الله فمع معصيته كل الخسارة.

إذاً هم يضحكون لكن بعد ذلك سوف يبكون، ضحكوا أولاً وبكَوا ثانياً، البطل هو الذي يضحك آخر الأمر، يضحك حينما يلقى الله عز وجل وقد غُفِر له ذنبه واستحقّ جنة ربه، هذه هي البطولة، لأن هناك آيات تؤكد هذه الحقيقة:

﴿  فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ(34)﴾

[  سورة المطففين ]


العاقل هو الذي لا يفعل شيئاً يندم عليه:


 العبرة؛ من يضحك آخر المطاف، أما في أول المَطاف هناك من يضحك وهو ساذَج، يضحك وهو جاهل، يضحك وهو لا يدري أنه سوف يبكي، ونحن في حياتنا الدنيا قد نرى الخارجين عن القانون يسرقون، ويحسبون أنهم بهذه السرقة سبقوا الناس جميعاً، حصّلوا أموالاً طائلة بلا جهد، أما حينما يقعون في قبضة العدالة، ويُودَعون في السجن لسنوات طويلة يدركون أنهم كانوا أغبياء.

 فمن العاقل إذاً؟ هو الذي لا يفعل شيئاً يندم عليه، علامة عقلك الراجح أن كل أفعالك التي تفعلها لا تندم عليها أبداً، أما الذي يندم هو الذي حكّم شهوته في أفعاله فجاء الوقت الذي دفع فيه ثمن انحرافه باهظاً فبكى ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾ وقال:

﴿  قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ(108)إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ(109)فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ(110)﴾

[  سورة المؤمنون ]


الله يري المؤمن آياته كل يوم بتأييده مع ضعفه وخذلان الكافر مع قوته:


 قال أيضاً:

﴿ وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(48)﴾

[  سورة الزخرف  ]

 الحقيقة أيها الإخوة، إذا أردنا أن نتوسّع في فهم هذه الآية، والله آيات الله لا تنقطع، آيات الله في كل عصر لا تنقطع، طبعاً إذا وسّعنا مفهوم هذه الآية فالله عز وجل يري الناس آياته كل يوم، يُري آياته بتأييد المؤمن على ضعفه، وخُذلان الكافر مع قوته، لأن في الحياة قواعد مستنبطة من طبيعة الحياة المادية، يعني مثلاً: لو أنك أقرضت إنساناً قرضاً حسناً، وعلى حسابات الآلة الحاسبة القرض الربوي أربح، فهناك حقيقة يستنبطها الناس من طبيعة التعامل المادي بين الناس أن القرض الربوي أربح، والضمانات التي تقدمها بعض الجهات التي لا ترضي الله أقوى.

 لكن حينما تلتزم بأمر الله عز وجل، فالله عز وجل يُرِيك آياته، قد يؤتيك من الإكرام والعطاء ما لا سبيل إلى وصفه؛ لأنك التزمت أمر الله عز وجل، ولم تقترف المعصية، قد يتراءى لك الخير في المعصية، أو قد تتوهم أن مصلحتك في المعصية، أما حينما تستقيم على أمر الله طاعة لله عز وجل هناك ظروف تستجد لا تعرف معناها، هذه الظروف كأنها آية من آيات الله الدالة على عظمته، مثلاً لو أن واحداً ترك شيئاً لله، دخل كبير مشبوه، فقال: إني أخاف الله رب العالمين، حسب الظاهر هذا الدخل يحل له كل المشكلات، يوفر له بيتاً ومركبة وزواجاً، لكن هذا الدخل مشبوه، فلما آثر طاعة الله عز وجل وحجزه عن قبض هذا المال خوفه من الله عز وجل، الآن تأتي الأمور بشكل غير طبيعي لتقدم لهذا المؤمن العطاء الجزيل الذي لم يكن متوقعاً، وهذا معنى قول الله عز وجل:

﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)﴾

[  سورة الطلاق  ]


إذا انطلقت من طاعة الله يرزقك من حيث لا تحتسب ويجد لك من كل ضيق مخرجاً:


 ما معنى مخرجاً؟ المخرج يعني بناء مُحكَم الإغلاق، وإنسان في هذا البناء ليس له مخرج وضاق به الأمر، قال: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ المخرج: باب فرج، والأمر كان محاطاً. 

ضَاقتْ فلمّا استحكَمتْ حلقاتُها    فُرِجَت وكنتُ أظنُّها لا تُفرَجُ

[ الإمام الشافعي ]

 وقال: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ الآية دقيقة المعنى جداً، أنت إذا أطعت الله عز وجل قلت هذا حرام لا أقبله، وهذا الدخل مشبوه لا أقبضه، وهذا العمل لا يرضي الله لا أفعله، أنت إذا انطلقت في حركتك اليومية من طاعة الله ولو بدا لك أو توهمت أنها خلاف مصالحك المادية، ربنا عز وجل سيريك آياته بأن تُرزَق من حيث لا تحتسب، وأن تُفتَح لك أبواب النجاة بعد أن بدت لك أنها مغلقة، لذلك بعض الشعراء يقول: 

كن عن همومك مُعرِضاً    وكِلِ الْأمورَ إلى القَضا

وأَبشِرْ بخيـــرٍ عاجــــلٍ    تنسى به ما قـد مضَــى

فَلَرُبَّ أمرٍ مسخـطٍ لـــك    في عواقبــــــه رضـــا

ولَرُبَّما ضاقَ المضيـــقُ    ولَرُبَّمــا اِتّسـعَ الفضـــا

اللّــــــهُ يفعلُ ما يشـــاءُ    فلا تكــــنْ مُعترِضـــــاً

الله عــــوَّدك الجميــــلَ    فَقِسْ على ما قد مَضَـى

[ صفي الدين الحلّي ]

 وإني لأرجو الله سبحانه وتعالى أن أُوَفّق إلى توضيح هذه الفكرة، هناك قواعد يستنبطها الناس من طبيعة الحياة؛ كأن تسمع مثلاً أن فلاناً تزوج امرأة غنية، هذا المال الذي تملكه سوف يسعده، لو أنه لم يرعَ الدين في اختيار الزوجة لكنه راعى المال، فالمال قد يشقيه، لكنه لو اختار زوجة لدينها تنفيذاً لسنة النبي عليه الصلاة والسلام، ولو أنها فقيرة ولو أنها أقل من أختها الغنية تلك، فلعل الله سبحانه وتعالى يُرِيك آياته بأن يسعدك عن طريق هذه الزوجة التي اخترتها إرضاءً لله عز وجل.  


تأويل الآيات وقوع الوعد والوعيد:


  إذاً هناك قواعد مادية يعرفها جميع الناس، وأوامر الله عز وجل تتناقض مع هذه القواعد المادية، فالمؤمن يلزم جانب الشرع، وحينما يلزم جانب الشرع يريه الله من آياته، يكون ضعيفاً فيقوّيه الله عز وجل، يكون فقيراً فيغنيه، تكون الأمور معسرة فتتيسّر له، فالمؤمن الله جل جلاله يريه من آياته دائماً، إذاً الآيات دائماً بين أيدينا، وما من قصة تقع إلا آية دالة على عظمة الله، بل إن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ(39)﴾

[  سورة يونس  ]

 قال بعض العلماء: تأويل الآيات وقوع الوعد والوعيد، هذا الكلام إيضاح وبيان لقوله تعالى: ﴿وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا﴾ يعني؛ قلعة من قِلاع الكُفر بعد سبعين عاماً تنهار وتصبح شتاتاً؟! أليست هذه آية من آيات الله عز وجل؟ هذه آية كبرى، ما كان أحد يتوقع أن هذه القلعة التي بُنِيت على أساس أنه لا إله، تنهار بهذه البساطة وبهذه السرعة، هذه آية من آيات الله عز وجل، وأحياناً قد ترى بلدة غارقة في الفسق والمجون، فيأتيها زلزال فيقوِّضها عن آخرها وهذه آية من آيات الله عز وجل.


كل ما يجري من حولك هو آيات تدل على عظمة الله عز وجل:


 قوم يفسقون ويفجرون ويأكلون الربا يبتليهم الله بحرب أهلية تسحقهم، هذه آية من آيات الله عز وجل، لو أردت أن تنظر إلى الأحداث نظرة توحيدية دينية لرأيت كل ما يجري في العالم آياتٌ تدل على عظمة الله عز وجل، لا تفصل بين ما يجري وبين كتاب الله قال تعالى:

﴿  وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112)﴾

[  سورة النحل ]

 وأنت أيها المؤمن وحدك إذا استقمت على أمر الله ترى من آيات الله الدالة على وجوده وعلى عظمته الشيء الكثير، منذ سنتين أرسلوا إلى الفضاء الخارجي مركبة سموها المتحدي، فهذه المركبة بعد سبعين ثانية أصبحت كتلة من اللهب، مع أنهم راجعوا جاهزيتها مراجعة دقيقة جداً بالعدّ التنازلي، وكل جهاز له جهاز مضاعَف ومع ذلك، آيات، طبعاً هذا الدرس يضيق بنا عن ذكر الآيات، لكن كل دقيقة وكل ثانية وكل حدث في العالم لو تعمّقتَ في فهمه وحللته وتأملت فيه لوجدته آية دالة على عظمة الله.


من اختار جانب الله رفعه الله و من اختار جانب الشر خذله الله:


 هذا: ﴿وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ﴾ هذه آية مستمرة، طبعاً هذه الآيات التي مع الأنبياء معجزات صارخة، لكن هناك آيات كثيرة جداً تقع لأحدنا، وتقع لمن حولنا، وتقع في مجتمعاتنا، وفي مجتمعات أخرى نراها كل يوم. 

﴿وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا﴾ قد يتصدق الإنسان، وهو في ضائقة مادية، فيأتيه رزق وفير وهو لا يدري، يقول هذه آية من آيات الله، وقد يبخل أحدهم بهذا المال فيضيع منه هذا المال، وتلك آية من آيات الله، حينما يختار جانب الله عز وجل يرفعه الله، حينما يختار جانب الشر يخذله الله عز وجل، هذه آية من آيات الله، ضمن مجال عملك هناك آيات، وإذا الإنسان أطاع الله في عمله فالله يحميه من الأشرار، وعندما الإنسان يستغل جهل الناس ويكسب مالاً حراماً يأتيه من هو أقوى منه فيأخذ هذا المال، وهذه آية من آيات الله الدالة على عظمته.


الله دائماً مع المؤمنين والكفار لا ينجحون إلا لجولة بسيطة وبعدها يخذلهم الله:


 طبعاً الآية متعلقة بسيدنا موسى، لكن كل مؤمن إذا فكّر يجد أن هناك آيات تحيط به كل يوم، تنطق بأن الله موجود، وأن الأمر بيده، وأنه عادل، وأنه رحيم، وأن الله سبحانه وتعالى مع المؤمنين، وأن الكفار لا يفلحون ولا ينجحون ولا يتفوقون ولا ينتصرون إلا لجولة بسيطة، وبعدها يقيم الله جلّ جلاله الحق على أنقاضهم.

﴿وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا﴾ أحياناً نيأس من شدة جفاف السماء، فيقال: إن المخزون الجوفي نفد، المياه الجوفية انخفضت للعُشر، هذه البلاد مهددة بالعطش لا بدّ من أن نغادرها، فتأتي سنة بأمطار غزيرة تفوق الحدّ السنوي بضعفين، قبل سنتين بلغ المنسوب ثلاثمئة وخمسين مليمتراً في دمشق بعد أن يئِسَ الناس من هطول الأمطار الغزيرة، هذه آية من آيات الله الدالة على عظمته، قد تأتي مواسم جيدة جداً، وأحياناً يطوف عليها طائف من ربك وهم نائمون، تحترق بالصقيع، على مستوى الزراعة والتجارة والصناعة والأنواء الجوية والطقس، ودخل الإنسان إن كان دخلاً مشروعاً فله معاملة من رب العالمين، وإن كان غير مشروع فله معاملة أخرى، ولقد توسعت في شرح هذه الآية لأنها تمس واقعنا جميعاً: ﴿وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ .


كل أنواع العذاب من أجل أن ترجع إلى الله عز وجل:


 أيها الإخوة الكرام، هل من آية أوضح من هذه الآية؟ إن بعض الأشخاص وبسذاجة يقولون: يا أخي الله يعذّبنا، ولا أحد مسرورو بحياته، إن هذا كلام الجاهلين فالله عز وجل يقول: ﴿وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ افهم على الله، فكل أنواع العذاب من أجل أن ترجع إليه، فإذا رجعت إليه فاقرأ الآية التالية:

﴿  مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا(147)﴾

[ سورة النساء ]

 انتهى الأمر، كلام ربنا عز وجل واضح مثل الشمس.


إذا وقعت في مصيبة فاعلم أن هذه المصيبة هي تنبيه ولفت نظر:


 ﴿وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ لو أنهم رجعوا، وبعد أن يرجعوا: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ أيها الإخوة، أتمنى على الله أن كل أخ مؤمن لمّا تصيبه أحداثاً معينة ألا يكون ساذجاً مع هذه الأحداث، بل عليه أن يقول: إن الله غني عن تعذيبي، وهذه المصيبة التي لحقت بي لا بد لها من حكمة، فما هي الحكمة؟ لعل في هذه المصيبة ردعاً، لعل في هذه المصيبة دفعاً، لعل في هذه المصيبة كشفاً، لعل في هذه المصيبة تنبيهاً ولفت نظر.

﴿  وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ(49)﴾

[  سورة الزخرف  ]

 طبعاً هناك آية سابقة ذكرتها لكم:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ(94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ(95)﴾

[  سورة الأعراف ]


للدعوة أربع مراحل:


 معنى ذلك أن هناك أربع مراحل؛ أول مرحلة أن الله يدعونا دعوة شفهية عن طريق الأنبياء والمرسلين والدعاة الصادقين، يا عبادي اتقوا الله، يا عبادي آمنوا بالله ورسوله، يا عبادي أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، يا عبادي قولوا للناس حسناً، هذه دعوة شفهية وهي أول مرحلة ثم إن لم يستجيبوا أخذوا بالبأساء والضراء فلعلهم يضّرّعون، فإن لم يتضرعوا يأتِ مكان السيئة الحسنة لعلهم يشكرون، فإن لم يشكروا دخلوا في مجال المرحلة الرابعة وهي مرحلة القَصْم.

﴿ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ هذه مراحل نظامية، تُدعى أولاً إلى الله، تدعى إلى الحق يجب أن تستجيب، فإن لم تستجب فهناك مرحلة ثانية وهي البأساء والضراء، يعني العذاب لعلهم يرجعون، لعلهم يضرعون، لم تضرع ولم ترجع ولا استجبت فهناك مرحلة ثالثة بدّلنا مكان السيئة الحسنة، خير وأموال وفتحنا أبواب كل شيء لعلهم يشكرون، فما شكرت إذاً لا أنت استجبت ولا تضّرّعت ولا شكرت فما بقي إلا الهلاك، هذا المعنى ورد في هذه الآية.

﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ﴾ بعض المفسرين قالوا: الساحر له مكان كبير فهذا ليس استهزاء بل هو تعظيم، عندهم الساحر هو العالِم، وهذا يشير إلى أنهم ما اعترفوا به نبياً.

﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ﴾ في المستقبل، أي أنهم قالوا لموسى: نحن سوف نؤمن، فادعُ الله أن يكشف عنا هذه المصائب، القُمّل والجراد والضفادع والدم في تسع آيات، المرحلة الثالثة:

﴿  فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ(50)﴾

[  سورة الزخرف  ]


البطولة أن تدعو الله وأنت في الرخاء وهذا حال المؤمنين:


 الحقيقة أيها الإخوة الكرام، قد يُصاب أحدٌ بمصيبة، فيبتهِل ويتضرع، ويدعو يا رب، يا رب، يا  رب، فالله عز وجل يستجيب له، ويكشف عنه هذه المصيبة، ومن ثم فكل بطولته ينبغي أن تكون في تنفيذه عهد الله عز وجل، لكن الإنسان بالرخاء ينسى وبالشدة يتذكر، هذا شأن أي إنسان جاهل، أي إنسان قليل الإيمان، فأكثر الناس عند الشدة يقولون: يا الله، فلو أن أشخاصاً ركبوا البحر والموج ارتفع، والباخرة أصبحت كَرِيشَةٍ في هذا البحر، فلن تجد إنساناً إلا ويدعو الله عز وجل، فبطولتنا بالرخاء لا بالشدة، كل الناس من دون استثناء في الشدة يدعون الله عز وجل، لكن البطولة أن تدعوه وأنت في الرخاء، وأنت صحيح مُعافى، وأنت في حالة جيدة.

﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ﴾ فالإنسان كلما هبط مستواه الفكري خاف بعيونه، أما المؤمن فيخاف بعقله، ولكن الكافر يخاف بعينه، فحينما يواجه الشدة يقول: يا الله، فإذا أُزِيحَت عنه الشدة ينسى ويعود إلى شهواته.

 مرة ذكرت لكم أن شخصاً بينما كان يقود سيارته أصابته أزمة قلبية، وزوجته إلى جنبه، ومن رحمة الله به أن صديقه مر بسيارته الواقفة، فلما صرخت زوجته نزل الصديق وحمله إلى المقعد الخلفي وأخذه إلى المستشفى، إلى العناية المشددة، فحينما أفاق من هذه الأزمة طلب مسجلة، وذكر أن الدكان كذا ليست لي بل لإخوتي، والمزرعة الفلانية وهكذا، وبدأ يعترف بما اغتصب من حقوق لإخوته، فلما صحا من أزمته، وعاد إليه نشاطه طلب هذا الشريط وكسّره، وعاد إلى ما كان عليه من اغتصاب أموال إخوته، فالله عز وجل أعطاه مهلة ثمانية أشهر ثم جاءته القاضية، وقضى بها نحبه، الله رحمه وأعطاه إنذاراً مبكراً. 


المصائب هي إنذار مبكر من الله سبحانه وتعالى:


 وليعلم إخواننا الكرام أن المصائب إنذار مبكر، والله عز وجل من سننه الكونية يَسوق الشدة، ثم يرفعها لينظر ماذا يفعل صاحبها؟ يدعوك أولاً، فإن لم تستجب، جاء بالشدة، فإن لم تتضرع جاء بالخير فإن لم تشكر، فقد انتهى الامتحان، ولابد من المقصلة انتهى، والآن هو ينتظر أن يقصمه الله عز وجل، فأسعد الناس الذي يستجيب بعقله من دون مشاكل، ومن دون شدائد، ومن دون مصائب، ومن دون مضايقات، ومن دون دفع، هذا أسعد الناس، ويأتي بالدرجة الثانية من إذا أصابته المصيبة استفاد منها، وعاد إلى الله، ثم المرحلة الثالثة إذ يأتي بالرخاء استدراجاً، فنرجو من الله أن نكون من الأولين، وأن نستجيب:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(24)﴾

[  سورة الأنفال ]

 اسمع، واستجب، وفكِّر، وحكِّم عقلك، وقل: هذه الدنيا ممر، وليست مقر، منزل ترَح لا منزل فرح، دار عمل لا دار أمل، دار تكليف لا دار تشريف، مرحلة مؤقتة، جسر نعبره إلى الآخرة، فإذا عرف الإنسان حقيقة الدنيا سار على منهج الله عز وجل. 

﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ*فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ﴾ وفي آية أخرى يقول تعالى:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا(10)﴾

[  سورة الفتح  ]

 وقال:

﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ(51)﴾

[   سورة الزخرف  ]


تلبية دعوة موسى بكشف البلاء عن قومه كانت دعماً لهذا النبي العظيم:


 طبعاً لما جاءت الشدائد، وطُلب من سيدنا موسى أن يدعو الله عز وجل لرفع هذه المصائب، ورُفِعَت فما الذي حصل؟ صار لسيدنا موسى مكانة عند قوم فرعون، وأنه إنسان عظيم، فقد جاءت الشدائد من السماء، وبدعائه كُشِفَت، فكأنه نافس فرعون، ونازعه مكانته، فأراد فرعون أن يستنقذ مكانته، قال تعالى: ﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ﴾ هل هناك أحد ينازعني في هذا المُلك؟ وبالمناسبة كلمة (لي) مهلكة لصاحبها.

﴿وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ فسيدنا موسى حينما طُلب منه أن يدعو الله عز وجل ودعا ربه فكُشِف هذا البلاء، فكأن هذا كان دعماً لهذا النبي العظيم، فالناس التفتوا إلى سيدنا موسى فأين فرعون من موسى؟ وأين ملكه؟ لذلك استنقذ مكانته، قال تعالى:

﴿  وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ(51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ(52))

[  سورة الزخرف  ]


مقياس أهل الدنيا هو المال والقوة:


 ماذا يملك موسى؟ إنسان ضعيف فقير مُشرَّد هائِم على وجهه، فماذا يملك هذا الإنسان؟ وليس غنياً:

﴿ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ(53)﴾

[  سورة الزخرف  ]

 دليل العظمة في عهد فرعون أن الرجل له سِواران من ذهب، وقلادة في عنقه من الذهب أيضاً، ليس مع موسى ذهب، وأين الذهب الذي يتحلى به، انظر مقياس فرعون.

﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ*أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ﴾ يعني ضعيف، ليس حوله رجال، ليس عنده أتباع، ليس غنياً، لا يملك هذا الذهب. 

﴿  فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)﴾

[  سورة الزخرف  ]


الطاعة يجب أن تكون في المعروف لا في الباطل:


 أين أتباعه؟ أين الذين حوله؟ أين الذين يرفعونه؟ طبعاً قاسه بمقياس مادي، الإنسان العظيم هو القوي والغني، غني بالذهب وقوي بأتباعه، هذا لا أتباع ولا ذهب بمقياس فرعون، أما أدق آية:

﴿  فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(54)﴾

[  سورة الزخرف  ]

  فاستخف عقولهم فأمرهم بما لا يُعقَل، لكنهم أطاعوه ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ لما الإنسان يطيع مخلوقاً في معصية الخالق أو يطيع أمراً سخيفاً، فهذا لا عقل له، أروي هذه القصة مراراً، وأذكركم بها: لما أحد الصحابة كان أميراً على جماعة بأمر النبي وقال علماء السيرة كان به دعابة (أي عنده طرفة) فأمر بإضرام نار عظيمة، وقال لأصحابه: اقتحموها ألست أميركم؟ أليست طاعتي طاعة رسول الله؟ الصحابة وقفوا مترددين، بعضهم قال كيف نقتحمها ونحن إنما آمنا بالله فراراً منها؟ فما اقتحموها ولم يستجيبوا له، فلما عرضوا أمرهم على النبي، قال عليه الصلاة والسلام: 

(( لو دخلوها ما خرجوا منها إِلى يوم القيامة، إِنَّمَا الطاعةُ في المعروف. ))

[  متفق عليه  ]


لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق:


 الحقيقة أن الإنسان يبدو سخيفاً، وخفيفاً، خفيف العقل حينما يطيع إنساناً فيما لا يرضي الله عز وجل، أو في أمر سخيف، علامة شخصيتك أنك لست أُلْعوبة ولا دُمية ولا ريشة، أنت إنسان لك اختيارك، يعني أدق مما يستفاد أن زوجة فرعون آسية كانت صدِّيقة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:

(( كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ.  ))

[ رواه البخاري ومسلم ]

(( حُسْبُكَ من نساءِ العالمينَ مَرْيَمُ ابنةُ عِمْرانَ، وخديجةُ بنتُ خُوَيْلِدٍ، وفاطمةُ بنتُ مُحَمَّدٍ، وآسِيَةُ امرأةُ فِرْعَوْنَ.))

[ صحيح الترمذي ]

 ماذا يستفاد من أن امرأة فرعون كانت صدِّيقة؟ المعنى عميق جداً أن المرأة مستقلة عن زوجها في دينها، وليست تابعة للزوج، من سَقَط المَتاع، هذه امرأة لها شخصيتها، هي صدِّيقة، وزوجها أكفر كفار الأرض، المعنى أنه لا حجة لامرأة تقول: هذا زوجي ليس فيه دين فماذا أفعل؟ من قال لك هذا؟ امرأة فرعون صدِّيقة وزوجها كافر، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، أن تكون امرأة فرعون صدِّيقة هذا مما يرفع قيمة النساء، هي لها اختيارها ولها شخصيتها، ولها اتجاهها، ولها محاكمتها، ولها إيمانها.

فلذلك هذا الذي ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ﴾ رآهم خِفَاف العقول، ضعاف العقول﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ﴾ ولأنه استخفهم أمرهم أمراً غير معقول، قال لهم: أنا إله، أنا ربكم الأعلى، فصدّقوه لضعف عقولهم، وأطاعوه فيما لا يرضي الله عز وجل، فلماذا كانوا ضعاف العقول، والنفوس؟ قال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾


لا تقبل بأية فكرة أو فتوى إلا إذا اتفقت مع نصوص الدين:


 إخواننا الكرام، لما يعصي الإنسان ربه يصبح مثل سَقَطِ المتاع، ليس له قيمة أبداً، يخاف من ظله، ومتى يُستخَفّ بالإنسان؟ ومتى تضعف نفسه وتتهاوى معنوياته؟ ومتى يَخنَع؟ ومتى يذِل؟ ومتى يقبل الضَّيم؟ إذا كان عاصياً لله عز وجل، إذا كان عبداً لشهواته، والآية دقيقة المعنى جداً بل هي من أدق الآيات في القصة.

﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ يروون قصة رمزية: إن الشيطان تمثل شخصاً وطرق باب عابد، فقال له: أنا الخَضِر، فهذا العابد لضعف عقله، وضعف محاكمته، وضعف إيمانه فرح به فرحاً شديداً، ورحّب به ترحيباً شديداً، قال له: رُفِعت عنك الصلاة ففرح أكثر، ورُفِع عنك الصيام ففرح أكثر، ثم إن هذا نفسه طرق باب عالم فقال له: أنا الخَضِر، فقال له وقد عرف حقيقته: يا عدوّ الله لست الخضر وكاد يهوي عليه بالعصا، يعني: 

(( فقيهٌ واحدٌ أشدُّ على الشَّيطانِ من ألفِ عابدٍ . ))

[ ابن ماجه بسند ضعيف ]

كن عالماً، أو متعلماً، أو مستمعاً، ولا تكن ضعيف العقل، لا تقبل أية فكرة، أو أي خبر، أو أية خرافة أو أي حكم، أو أي فتوى.

 يعني أنا أتألم حينما أسمع أن فلاناً أفتى بكذا، فهل هذا فلان مشرِّع؟ أنت يا أخي مؤمن، وعندك كتاب وسنة فقط، وعندك قرآن قطعي الثبوت والدلالة، وعندك سنة نبوية مطهرة صحيحة، هذا هو المقياس، أما إذا صار كل إنسان مُشرِّعاً فقد انتهى الدين إلى ضياع، وصار عندنا مليون دين.


القبول والرفض كلاهما بحاجة إلى دليل:


 ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ قال له النبي الكريم: (لو دخلوها ما خرجوا منها إِلى يوم القيامة، إِنَّمَا الطاعةُ في المعروف) دائماً اطلب الدليل، اطلب التعليل، لا تكن إنساناً ساذجاً.

﴿ قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(108)﴾

[  سورة يوسف ]

 دين الله عز وجل له أدلة.

﴿  وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ(117)﴾

[  سورة المؤمنون ]

 لابد من برهان، حجة، دليل، نص قرآني، نص نبوي صحيح دلالته واضحة، لا تقبل شيئاً من غير دليل، وإياك أن ترفض شيئاً بدون دليل، لا القبول ولا الرفض، لئلا تكون من هؤلاء: 

﴿  فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(54) فَلَمَّا ءَاسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ(55)﴾

[  سورة الزخرف  ]

 أي أغضبونا، أسخطونا، فلما عصَونا ﴿فَلَمَّا ءَاسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾


من حكمة الله أن يكون الأنبياء ضعافاً ليكون الإيمان بهم خالصاً لله تعالى:


 هناك حكمة أيها الإخوة، وهي أن الأنبياء لحكمة أرادها الله عز وجل يُرسَلون وهم ضعفاء، شخص عادي ضعيف، ليست في معصمه أساور من ذهب، وليس معه جماعة تذود عنه، ليس غنياً بالذهب، وليس قوياً بالجماعة، فهو ضعيف، والدليل النبي عليه الصلاة والسلام ماذا قال عنه كفار مكة؟ قالوا عنه شاعر، وقالوا عنه ساحر، وقالوا عنه مجنون، وقالوا عنه كاهن، لو كان قوياً لا يستطيعون أن يقولوا هذا الكلام، لكن شاءت حكمة الله أن يكون النبي ضعيفاً، ولك أن تقول عنه مجنون وساحر وكاهن وشاعر وأن تنام في بيتك مطمئناً ولا شيء عليك، معنى ذلك أنه ضعيف جداً، لو كان على جانب من القوة، وقلت عنه مجنون يُنتَقم منك أشد الانتقام.

 وشاءت حكمة الله أن يكون الأنبياء ضعافاً؛ ليكون الإيمان بهم خالصاً لله، فحينما تؤمن بهذا النبي وتنصاع لأمره، ولا يَحدُوك في هذا الإيمان رغبة بما عنده لأنه لا يملك شيئاً، ولا رهبة فليس هناك ما يخيف، إذاً ليس عنده شيء لا من دواعي الترغيب ولا من دواعي الترهيب، لذلك من يؤمن بالنبي يؤمن به مخلصاً لله عز وجل.

 أما الحكمة الثانية فهي؛ أن هذا النبي يقوى، ويقوى، ويقوى وهذا الطاغية يضعف، ويضعف، ويضعف.

﴿  إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ(4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ(5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ(6)﴾

[  سورة القصص ]


الإنسان لا يجب أن يكون عبداً لغير الله لأن عبد الله حر:


 أيها الإخوة الكرام ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ يعني أنت أيها الإنسان لا ينبغي أن تكون عبداً لعبد، أنت عبدٌ لله، كن حرّاً، ولا تكن أداة بيد أحد، ولا تكن خطيئة لأحد، ولا تكن تابعاً لأحد، كن عبداً لله عز وجل فعبد الله حر، أي أنّ فرعون لمّا استخف قومه طبعاً أمرهم بأوامر غير معقولة، ونفذوا هذه الأوامر.

﴿فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ فِسْقُهم جعلهم خفيقي العقول، ضعيفي النفوس، فسقهم مع ضعف عقولهم وضعف نفوسهم جعلهم أدواتٍ رخيصةً بيد فرعون.

﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ*فَلَمَّا ءَاسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ لما عصونا وأغضبونا انتقمنا منهم ﴿انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ .


قصة سيدنا موسى مع قومه الضعاف:


 والقصة معروفة سيدنا موسى مع قومه الضعاف.

﴿  إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ(54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ(55)﴾

[  سورة الشعراء ]

 فرعون وما أدراك ما فرعون! بقوته وجيشه وبطشه كان وراء موسى.

﴿  فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِي (62)﴾

[  سورة الشعراء ]

 وربنا عز وجل أمره أن يضرب البحر بعصاه، 

﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)﴾

[ سورة الشعراء ]

سار سيدنا موسى وأصحابه في الطريق اليابسة، فلما خرج من البحر، وكان قد تبعهم فرعون، فلما كانوا وسط اليَمّ عاد البحر بحراً، عندئذ قال فرعون: 

﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ(90) ءَآلْـَٰٔنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ(91)﴾

[  سورة يونس ]


المؤمن عاقل يتعظ بغيره بينما الشقي دائماً يتعظ بنفسه:


 أيها الإخوة موضوع الإيمان موضوع وقت، إن لم تؤمن في الوقت المناسب فلابدّ من أن تؤمن بعد فوات الأوان، والقضية قضية وقت، يعني خيارك مع الإيمان لا خيار قَبول أو رفض، بل الخيار خيار وقت، قل متى أؤمن؟ الآن الإيمان مجدٍ، لكنه بعد فوات الأوان ليس مجدياً.

 

﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)﴾

[  سورة الزخرف  ]

 يعني وجبة سابقة إلى النار، يقال: سلف وخلَف ﴿وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ﴾ والإنسان يتعظ بغيره، والشقي دائماً يتعظ بنفسه، السعيد من اتعظ بغيره، الله جعل قوم فرعون مثلَاً لكل من بغى وطغى، وقال أنا ربكم الأعلى، بئس العبد عبد طغى وبغى، ونسي المبتدا والمنتهى، سلفاً: يعني وجبة سبقت كفار مكة إلى جهنم:

﴿  النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ(46)﴾

[  سورة غافر ]


العبرة أن السعيد من يتعظ بغيره:


 يعني من ستة آلاف سنة أضربها بثلاثمئة وخمسة وستين يوماً ضربُ اثنين ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ .

﴿فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ﴾ مثَل: يُتَّقى أن يقع مرة ثانية، كلمة أخيرة: السعيد من اتَّعظ بغيره، والشّقيّ لا يتّعظ إلا بنفسه.

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور