وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 4 - سورة الزخرف - تفسير الآيات 26-32 قصة سيدنا إبراهيم مع أبيه- حسن الخلق- رحمة الله خير من الدنيا وما فيها
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الرابع من سورة الزخرف.


الاتصال والترابط بين آيات القرآن:


 مع الآية الكريمة السادسة والعشرين، وهي قوله تعالى:

﴿  وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)﴾

[  سورة الزخرف ]

 الحقيقة أن بين آيات القرآن الكريم اتصالاً وترابطاً، هذا المعنى في الترابط أشار القرآن الكريم إليه في قوله تعالى:

﴿ الر ۚ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1)﴾

[  سورة هود ]

 قد لا تجد بين المقطعين أو الآيتين رابطاً لغوياً، لكنك تجد الرابط المعنوي قطعاً، فحينما قال الله عز وجل: 

﴿ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ(23)﴾

[  سورة الزخرف ]

 على أمة: على طريقة، أي نحن نقلد آباءنا، هكذا آباؤنا، هكذا نشأنا، وهكذا تربينا، وهكذا التقاليد، وهكذا العادات، وهذا هو التراث. 

﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ فربنا جلّ جلاله جاء بمَثل حيّ، بنبي كريم، بأبي الأنبياء، بالنبي الذي اجتمع على تعظيمه كل الناس، قال: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾ أي واذكروا ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ﴾ . 


التقليد في العقيدة مرفوض:


 أيها الإخوة، لا تقليد في العقيدة، في العقيدة التقليد مرفوض وغير مقبول، وعند جمهور العلماء فِسق، وعند بعضهم كُفر، التقليد لا يكون في العقيدة إطلاقاً، لو سمحنا أن يكون في العقيدة تقليد لأصبحت كل الفِرَق الضالة على حق، لأنهم ما فعلوا إلا أنهم قلّدوا مَن قبلهم، لا يمكن أن تعطل عقلك مع أي إنسان، دائماً يقول النبي عليه الصلاة والسلام:

((  إنما الطاعة في المعروف. ))

[ صحيح الجامع ]

 لذلك فالمُترفون مُحِبّو الدنيا يقلدون آباءهم، يقتدون بهم، يقدسون العادات ولو كانت مخالفة لكتاب الله، يقدسون التقاليد ولو كانت باطلة، يقدسون التراث ولو كان انحرافاً، الله عز وجل يبين أن هذا النبي الكريم وقف الموقف التالي من أبيه وقومه، قال: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ﴾ أي براء من الأصنام التي تعبدونها، 

﴿  إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ(23)﴾

[ سورة النجم ]

وبراء من عبادتكم لها، وبراء: مصدر استُعمل مكان الصفة، يعني إنني بريء، براء لأنها مصدر لا تُجمَع ولا تُثنّى ولا تُذكَّر ولا تُؤنَّث، تقول المرأة إنني براء، ويقول الرجلان: إننا براء، ويقول الرجال: إنا براء، على كلٍّ هذه القضية لغوية، براء مصدر حلّ محل الصفة. 

﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27)﴾

[  سورة الزخرف ]


العبادة لا تكون لغير الله:


 هذه الآية تبين أن العبادة للذي فطرك وحده، لأنه هو سبب وجودك، هو الذي خلق، هو الذي صوَّر، هو الذي رزق، هو الذي ربّى، هو الذي هدى، هو الخبير، هو المشرِّع، إليه المصير، إليه المآب، لا يمكن أن نتصور عبادة لغير الله، وهذا الذي يعبد غير الله يقع في مطبٍّ خطير، يعني احتقر نفسه.

﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)﴾

[  سورة البقرة ]

 أنت حينما تحتقر نفسك تعبد غير الله ، يعني باللغة الدارجة لا يليق بك أن تعبد غير الله، أنت المخلوق المكرم، أنت المخلوق الأول، لا يليق بك أن تعبد غير الله، هو الذي خلقك، هو الذي أوجدك، هو الذي رباك، هو الذي سيّرك، هو الذي أمدّك، هو الذي هداك، بيده كل شيء، مالك الملك. 

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾

[  سورة هود  ]

﴿ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(12)﴾

[ سورة الشورى ]

﴿ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)﴾

[ سورة غافر ]

﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(3)﴾

[ سورة الحديد ]

 أفتعبد غير الله عز وجل؟


الهداية لا تكون إلا من الذي فطر الإنسان:


﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ*إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ إذا قال إبراهيم عليه السلام ﴿فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ بمعنى أنه سيزيدني هدىً، وبمعنى أنه سيثبتني على الهدى وسيزيدني هدى، لكن هناك معنى آخر يُستنبط من هذا: أن الهداية لا تكون إلا من الذي فطر الإنسان، يعني عندك جهاز كمبيوتر لو أصابه خلل، أو لو أردت أن تستعمله لا يمكن أن تهتدي إلا بتعليمات الصانع، لا يليق بجهاز معقد جداً أن تسأل عن طريقة استعماله إنساناً جاهلاً، أو صديقاً حميماً، أو إنساناً أمياً، أو بائعاً لطيفاً تحبه كثيراً، فهؤلاء جميعاً لا يفقهون بهذا الجهاز، ولا يمكن أن نستهدي إلى طريقة تشغيله وصيانته إلا بالاستعانة بصانعه.

 ففي الآية إذاً معنيان دقيقان: الأول لا يمكن أن نعبد إلا الذي فطرنا، والذي فطرنا هو الذي سيهدينا، بمعنى أنه من لوازم الكمال الإلهي، من لوازم ربوبية الله عز وجل أنه لا يدع عباده من دون توجيه، فمثلاً من المعاني الدنيا لأبوة الأب أنه يوجّه أولاده نحو الحق والخير، أيعقل أن يتوهم الأب أن كل مهمته في إطعام أولاده وإكسائهم فقط؟ لا، فأقل أب يهتم بأخلاق أبنائه، وبدينهم، وبمستقبلهم، فمن لوازم كمال الأب أن يوجه أولاده إلى الطريق الصحيح، إذا كان في قلب الأب شيء من الرحمة قليل، فكيف بالرحمن الرحيم!‍ أيدع عباده من دون توجيهات، من دون رسل، من دون أنبياء، من دون إلهام، من دون تبيين، من دون توضيح!

 فالآية تعني أن الذي فطر الإنسان هو وحده الذي سيهديه، هو وحده، يعني الهدى لا يمكن أن يؤخَذ إلا من الخالق، إنسان مفكر، مصلح اجتماعي، إنسان طرح أفكاراً، طرح منهجاً، نقول له: بادئ ذي بدء من أين جئتنا بهذا المنهج؟ من عندك، من أنت حتى تكون مُنظِّراً لنا؟ من أنت حتى تكون مشرِّعاً لنا؟ ماذا تملك من خبرات؟ ماذا تملك من علم حتى تشرّع لهذا الإنسان؟ لذلك أي تشريع وضعي باطل في أصله، لأن المشرِّع رجل، إنسان علمه محدود، الدليل:

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)﴾

[  سورة الإسراء ]


العبادة لا تكون إلا لله والهدى لا يكون إلا من الله:


﴿ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ(255)﴾

[  سورة البقرة ]

 فصاحب العلم المحدود حتى في طبيعة النفس البشرية لا يمكن أن يكون مشرِّعاً للبشر، ولو أن الإنسان تعمق في العلم إلى حدّ ما؛ لأن له نزوات وله شهوات، وله مصالح، وله مآرب، وله سقطات، لا يمكن لبشر كائناً من كان أن يكون مشرِّعاً، لأنه لا يعلم وإذا علم لا ينصف، حينما يشرّع الإنسان يوجه التشريع لمصالحه الشخصية، ولا يحيط علماً بالمُشرَّع له، فلذلك الآية فيها معنيان دقيقان:

 الأول: أن العبادة لا تكون إلا لله، وأن الهدى لا يكون إلا من الله ، فمن الذي ينبغي أن تعبده؟ هو الذي أوجدك من العدم.

﴿  هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا(1)﴾

[  سورة الإنسان ]

 من الذي ينبغي أن تعبده؟ هو الذي أمدك بما تحتاج، فهذا الهواء من أمدك به؟ وهذا الماء من أمدك به؟ لو أن السماء شحّت ويبس النبات ومات الحيوان ماذا نفعل ببلادنا؟ نهجرها، لو أن السماء شحّت هل تستطيع قوى الأرض مجتمعةً أن تصدر قراراً بإنزال المطر؟ لا، وهذه حقيقة بين أيدينا جميعاً، إذاً من الذي ينبغي أن يُعبَد؟ هو الذي خلق، وهو الذي يرزق، وهو الذي يربي، وهو الذي بيده كل شيء، وهو الذي إليه المصير، هذا الذي ينبغي أن تعبده، ومَن هذا الذي ينبغي أن يهديك؟ هو الخالق، أي بمعنى مبسط جداً؛ أيُّ آلة بين يديك بالبديهة وبالفطرة ومن دون تعقيدات تشعر أن الجهة التي يمكن أن تعطيك التعليمات لتشغيلها هي الجهة الصانعة وحدها، وأنت لا تقبل أساساً أن تأخذ التوجيهات من غير صانع هذه الآلة، فكل شخص لو اشترى آلة معقدة، فأول شيء يتبادر له أن يطلب التعليمات، فإن كانت مثلاً باللغة الأجنبية ينتظر ليترجمها فهذا أفضل، فإذاً أنت بالفطرة حريص على سلامة آلة، حريص على حسن مردود آلة، أفلا تكون حريصاً على سلامتك، على نهايتك، على سعادتك، فإن كنت حريصاً على كل ذلك، فلن تسلم، ولن تسعد إلا بتطبيق تعليمات الصانع، لذلك: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ*إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِي﴾ .


(إلا) استثناء متصل بمعنى أني أعبد الله وحده:


 قال: (إلا) هذه استثناء متصل، هذه العبارة قد ترد كثيراً في دروس التفسير، معنى استثناء متصل: أي أن المستثنى منه من جنس المستثنى، إذا قلت: حضر الطلاب إلا خالداً، خالد طالب، أما المنقطع أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه، كأن تقول: حضر الطلاب إلا المدرس، فالمدرس ليس طالباً، فالعلماء قالوا هذا استثناء متصل، لأنهم يعبدون الله ويعبدون أصناماً من دون الله ﴿إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ هذا استثناء متصل، أي أنا أعبد الله وحده. 

﴿ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(28)﴾

[  سورة الزخرف ]


كلمة التوحيد باقية في عقب سيدنا إبراهيم:


 إن الذي جعلها كلمة باقية في عقبه هو الله عز وجل، يعني كلمة التوحيد باقية في عَقِب هذا النبي العظيم سيدنا إبراهيم، وكلمة التوحيد هي "لا إله إلا الله"، وإذا أردت أن تعرف الدين كله فهو أن تؤمن أنه لا إله إلا الله:

﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)﴾

[ سورة محمد ]

لكن دقة الآية أنّ الله عز وجل لم يقل: فقل لا إله إلا الله بل قال: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ والإنسان لو فهم القرآن فهماً دقيقاً لانتبه إلى أفعال الأمر، فالله جل جلاله حينما يقول لك: فاعلم أي فاعلم، ما قال: قل، قد يقول أحدهم ما معنى قول النبي الكريم: 

(( من قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ صادقًا من قلبهِ، دخل الجنَّةَ. ))

[ ابن عبد البر ]

 أحياناً يأتي القول تعبيراً عن عقيدة صادقة، هنا القول بمعنى قال ذلك عن عقيدة، وعن علم: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ .


الشرك أن تتوهم أن الأمر بيد غير الله:


 الرجوع إلى الله دائماً، والإنسان عندما يرى أن الأمر بيد غير الله فإنه لا يرجع إلى الله، بل يرجع إلى من يتوهم أن الأمر بيده، وهذا هو الشرك.

﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)﴾

[  سورة لقمان ]

 لكن إذا أيقنت أن الأمر كله بيد الله ترجع إلى من؟ إلى الله، أيضاً ببساطة إذا دخلت إلى دائرة حكومية وأنت محتاج إلى موافقة، تقول: الموافقة بيد من؟ يا ترى هل بيد المدير العام أم معاون المدير العام؟ أم مدير الشؤون الذاتية؟ فإذا أُبلِغت أن الموافقة من حق المدير العام وحده فإلى أين تتوجه؟ إلى المدير العام، بالفطرة بيد من الموافقة؟ بيد فلان إذاً تتوجه إليه، لذلك فهذه كلمة التوحيد ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾ أي في ذريته ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ إلى الله، فالشرك يرجعك إلى غير الله، يرجعك إلى عبد من عبيد الله، يرجعك إلى الجهة التي أشركتها مع الله، لكن التوحيد يرجعك إلى من؟ إلى الله، لذلك قال تعالى:

﴿  فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ(213)﴾

[  سورة الشعراء ]


من أراد أن يسعد في الدنيا و الآخرة فليرجع إلى الله عز وجل:


 إذا أردت أن تسعد فارجع إلى الله، وإذا أردت أن تشقى فارجع إلى غير الله، غير الله عز وجل لا شيء، لكن الله كل شيء. 

وجعلها الله كلمة باقية في عقبه، والهاء في "عقبه" تعود على سيدنا إبراهيم: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ لعل الذين جاؤوا من بعده يرجعون إلى الله دائماً، نقطة دقيقة جداً أنت ترجع لمن بيده الأمر، فإذا علمت أن الله بيده الأمر ترجع إلى الله، وإذا علمت أن الأمر بيد زيد أو عبيد أو فلان أو علان تتوجه إلى زيد أو عبيد أو فلان أو علان، تتوجه وتتوسل وتتصاغر وتستعطف وتستجدي وتخاف وترضي هذا الإنسان في معصية الله لأنك أشركته مع الله.

 ولقد قلت مرة في خطبة في يوم عرفة يوم وقفة عيد الأضحى المبارك، قلت: من قال الله أكبر ثم أطاع مخلوقاً كائناً من كان وعصى خالقه فهو بحكم من لم يقل: الله أكبر ولا لمرة واحدة ولو رددها بلسانه ألف مرة، لأنه إنما أطاع الأقوى في تصوره، ومن كسب مالاً حراماً، فكأنه ما قال الله أكبر ولا مرة ولو رددها بلسانه ألف مرة، لأنه إنما رأى أن هذا المال أكبر عنده من الله، أو من طاعة الله، ومن لم يُقم الإسلام في بيته إرضاءً لأهله فهو ما قال الله أكبر ولا مرة، ولو رددها بلسانه ألف مرة، لأنه إنما رأى أن إرضاء أهله أكبر عنده من إرضاء الله عز وجل، فالقضية دقيقة جداً. 


الله عز وجل يعلمنا أنه لا إله غيره عن طريق الوحي:


﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ الله عز وجل لا إله غيره لكن دائماً يعلمنا أنه لا إله غيره، كيف يعلمنا؟ يعلمنا عن طريق الوحي، القرآن كله يُلخَّص بكلمة: لا إله إلا الله، تقول هذه مبالغة، لا ليست مبالغة.

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25)﴾

[  سورة الأنبياء ]

 ليس القرآن كله، بل الكتب السماوية كلها فحواها "لا إله إلا الله" ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾


لا إله إلا الله هي العقيدة وطاعة الله عز وجل هي السلوك:



 العقيدة لا إله إلا الله والسلوك هو العبادة، لذلك العلماء قالوا: لا إله إلا الله نهاية العلم، والتقوى نهاية العمل، فأنت إذا وصلت إلى لا إله إلا الله وصلت إلى الحقيقة الكبرى التي لا حقيقة بعدها، وإذا أطعت الله عز وجل فأنت أكرم الخلق.

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ معرفة أنه لا إله إلا الله هي العقيدة الصحيحة، وطاعة الله عز وجل هي السلوك الصحيح، وما سوى ذلك باطل في باطل.

﴿  قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3)﴾

[  سورة المؤمنون ]

 اللغو ما سوى الله عقيدةً وسلوكاً، أيُّ حركة لغير الله لغو وباطل، وأي توهم بعيد عن الله عز وجل لغو وباطل ، يعني أنت ترجع لمن بيده الأمر، فإذا علمت أن الله بيده كل شيء رجعت إليه.


الله عز وجل ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كله إليه:


 لذلك فالله عز وجل ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كله إليه، قال:

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾

[  سورة هود  ]

 الله جل جلاله هو الذي ينبغي أن يُعبَد، والله جل جلاله هو الذي ينبغي أن يُستَهدى، الحديث القدسي: 

((  يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. ))

[ صحيح مسلم عن أَبِي ذَرٍّ ]

 دقق الآن، إنه كلام قطعي، (ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) والله عز وجل أكبر وأعظم من أن يظلمك، أو من أن يحرمك، أو من أن يعطي غيرك ولا يعطيك، أو مِن أنْ يُكرِم غيرك ولا يُكرِمك. 

﴿  بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمْ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ(29)﴾

[  سورة الزخرف ]

 كلمة متّعتُ: أي أطلتُ أعمارهم وأعطيتهم ما يشتهون ، يعني فقد تجد إنساناً باعَه طويل في الدنيا، المال عنده موفور، وصحته قوية، ودخله كبير، وعِزّه عريض، جاهه كبير، ولا ينقصه شيء من الدنيا، فهل هذا إكرام؟ هذه الدنيا لا علاقة لها بالإكرام إطلاقاً. 

﴿  فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ(15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)﴾

[  سورة الفجر ]

 فلا هذا صحيح ولا هذا صحيح، ليس عطائي إكراماً بل هو ابتلاء، وليس منعي حرماناً بل هو دواء.


حظوظ الدنيا درجات نرقى بها إلى الجنة أو دركات نهوي بها إلى جهنم:


 ملخص الملخص أن: حظوظ الدنيا درجات نرقى بها أو دركات نهوي بها، وهي حيادية، كل شيء أعطاك إياه بإمكانك أن ترقى به إلى الجنة، وبإمكان الإنسان الضّال أن يهوي به إلى جهنم، الشيء نفسه كالعقل يمكنك أن تصل به إلى الله، ويمكن أن تستخدمه لغير ما صُنع له؛ في المكر والدسيسة والكذب والاحتيال، العقل كذلك، والمال كذلك، والصحة كذلك، والذكاء كذلك، وطلاقة اللسان كذلك، أي حظ من حظوظ الدنيا يمكن أن تستخدمه لتكون في أعلى عليين، وأي حظ من حظوظ الدنيا يمكن أن تستخدمه فتكون -لا سمح الله- في أسفل سافلين.

﴿بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ﴾ ولقد جاء الحديث الشريف أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: 

(( لو كانت الدُّنيا تعدِلُ عند اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقَى كافرًا منها شرْبةَ ماءٍ. ))

[ صحيح الترغيب ]

 لا أعتقد أن هناك مخلوقاً أهون على الناس من بعوضة، فقد يأخذ الإنسان احتياطه حتى لا يقتل نملة، لكن البعوضة يقتلها ولا يشعر بشيء إطلاقاً لهوانها على الناس، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يقل بعوضة بل قال جناح بعوضة (لو كانت الدُّنيا تعدِلُ عند اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقَى كافرًا منها شرْبةَ ماءٍ) . ولقد رأى النبي الكريم مرة شاة ميتة وقد تفسخت فقال:

(( أترون هذه هينة على أهلها؟ قالوا: نعم، قال: للدنيا أهون على الله -عز وجل- من هذه على أهلها. ))

[ تخريج المسند لشعيب ]

لأنها تنتهي بالانقطاع.


الدنيا ليست عطاءً بل متاعاً ما دامت تنتهي إلى الموت:


 وما أكثر ما أردد الكلمة التالية: الموت ينهي غنى الغني، ينهي فقر الفقير، ينهي قوة القوي، ينهي ضعف الضعيف، ينهي وسامة الوسيم، ينهي دمامة الدميم، ينهي كل شيء، إذاً الدنيا ليست عطاء، فمادامت تنتهي بالموت إلى لا شيء فإذاً ليست عطاءً، هذا العطاء لا يليق بالله عز وجل، لا يليق بالله أن يعطيك شيئاً ثم يسترده، إذاً هذه الدنيا بمجملها ليست عطاءً، وهذا معنى قول الله عز وجل: ﴿بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمْ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ﴾ يعني إلى أن أسمعهم الرسول القول الحق، الدنيا متاع والمتاع الشيء العابر، وهي متاع الغرور يُغتر بها.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ(38)﴾

[  سورة التوبة ]

الله يعجب! قال ﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ هذه الآية ألا تهتز لها النفوس! وإليك آية أخرى:

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)﴾

[  سورة النساء ]

 لما الرب العظيم يقول هذا عطاء قليل يجب أن نصدقه وألا نحرص عليه وألا نعصي الله من أجله، وألا نتنافسه.


أشقى الناس من يأتيه الحق فيكفر به:


﴿  وَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ(30)﴾

[  سورة الزخرف ]

 هذا أشقى إنسان يأتيه الحق فيكفر به، يأتيه الحق فيسخر منه، يأتيه الحق فيتهم من جاء بالحق بالسحر والشعوذة والكهانة وما إلى ذلك. 

﴿وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ﴾ هناك سؤال أطرحه عليكم: الكفار قالوا عن النبي إنه ساحر ومجنون وقالوا كاهن، هذا الشيء قالوه، فلماذا أثبته الله في القرآن وصار يتلى إلى يوم القيامة؟ مثل شخص أساء وقال عن شخص تحبه أنه جاهل، فالله عز وجل ثبتها في القرآن الكريم: 

﴿ فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)﴾

[  سورة الذاريات ]

 ما الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى أثبت التهم الباطلة التي نُعِت بها النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيد الخلق وحبيب الحق؟ الجواب: أنّ أيّ إنسان دعا إلى الله في الدنيا، إذا هاجمه من هاجمه، وطعن به من طعن به، وانتقص من قدره من انتقص فلئلا يتألم له في النبي الكريم أسوة حسنة، يعني هذه التهم التي اتُّهِم بها النبي وهو منها براء أثبتها الله في القرآن الكريم تطييباً لأمته من بعده، فإذا النبي الكريم قالوا عنه ساحر وشاعر ومجنون وكاهن فمن أنت؟ وإن قال الناس عنك تهمة باطلة فهذا شأن الحق والباطل.


الحياة الدنيا هي معركة أزلية بين الحق والباطل:


 أيها الإخوة إن الحياة الدنيا كلها معركة أزلية أبدية بين الحق والباطل، دائماً أهل الحق يحاربهم أهل الباطل، ودققوا في قول النبي الكريم:

(( للمؤمِنِ أربَعَةُ أعدَاءٍ: مؤمِنٌ يَحْسُدُهُ، ومنافِقٌ يُبْغِضُهُ، وشيطانٌ يُضِلُّهُ، وكافِرٌ يقاتِلُهُ ))

[ الجامع الصغير بسند ضعيف ]

 ﴿بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمْ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ﴾ الإنسان يُمتَّع لكن إذا جاء الحق ولم يستجب يهلك، أحياناً الله عز وجل يعطيك فرصة، لكن بعد أن توضحت الأمور وأسمعك الحق بالحجج الدامغة لن يعذرك أبداً.


المؤمن لا يقلد بل يتحقق بالدليل:


 وبالمناسبة الآية الأولى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ﴾ توجز أمر المؤمن الصادق من أنه لا يقلد ولكن يتحقق، وأنت كمؤمن لا يليق بك إلا الدليل. 

﴿  وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللـَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهـَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِـسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِـحُ الْكَافِرُونَ(117)﴾

[  سورة المؤمنون ]

 أنت تحتاج إلى برهان. 


العلم هو الوصف المطابق للواقع وغير ذلك فهو جهل:


 إذاً: ﴿حَتَّى جَاءَهُمْ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ*وَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ﴾ يعني إذا قلت عن هذه الكأس إن هذا الماء الذي فيها ليس صافياً وهو صافٍ، فوصفك المغاير للحقيقة هل يغير من طبيعة الماء شيئاً؟ أبداً، من تعاريف العلم: أنه الوصف المطابق للواقع، فإن لم يكن الوصف مطابقاً للواقع فليس علماً، أصبح جهلاً، الجهل ليس فراغاً بل الجهل علاقات باطلة، والإنسان الجاهل عنده آلاف العلاقات، وآلاف التصورات، وآلاف المقولات لكن كلها غير صحيحة، أما الأمّي فهو الفارغ، فالأمي وعاؤه العقلي فارغ، أما الجاهل فعقله مملوء بعلاقات كلها باطلة، وبالتصورات الخاطئة، وبالأفكار الفاسدة، وبالعقيدة الزائغة، فهذا هو الجهل.

 لو أن مصباح الزيت الذي في السيارة، ظنه السائق مصباحاً تزيينياً، فإذا تألق، فهذا التألق من أجل أن يسليه أثناء القيادة فيكون هذا جاهلاً، فهو لديه معلومة، ولكنها خاطئة، هذا المصباح خطِر، وينبئك أن المحرك في خطر، بلا زيت، فالجاهل لديه تصورات ولكنها كلها باطلة.


القرآن كلام الله لا يليق به إلا أن ينزل على عظيم حسب نظرة الكفار:


﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ﴾ قولهم عن الحق أنه سحر لا يجعله سحراً، بل يبقى الحق حقاً والباطل باطلاً، والأسماء لا قيمة لها. 

﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ (23)﴾

[  سورة النجم ]

﴿  وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ(31)﴾

[  سورة الزخرف ]

 هم عندهم العظيم هو الغني، والعظيم هو الوجيه، والعظيم هو القوي، بمقياسهم إذا كان هذا كلام الله فلا ينبغي أن ينزل إلا على عظيم، وعلى رجل من أعلام القوم، فمن هو محمد  صلى الله عليه وسلم؟ فقير، يتيم الأب والأم، ليس من هؤلاء الكبار الأغنياء الأقوياء المسيطرين. 

﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ يعني لو أن هذا القرآن نُزِّل على الوليد بن المغيرة نقبله، هذا إنسان من زعماء مكة، لكن من هو محمد؟ يقول الله عز وجل:

﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32)﴾

[  سورة الزخرف ]


مقياس ربنا الطاعة ومقياس أهل الأرض الغنى والجاه:


 النبوة رحمة الله عز وجل هم يقسمونها؟ هذا شأن الله عز وجل، الله له مقاييس أخرى، مقياس أهل الأرض والناس الآن هو الغنى لكن مقياس ربنا الطاعة له، فقد تجد صاحب شركة ضخم حاجبه عند الله أعظم منه، ممكن فمقياس ربنا عز وجل الطاعة، في حين أن مقياس الناس الغنى، والقوة.

 سيدنا عمر رضي الله عنه قال لسيدنا سعد بن أبي وقاص: يا سعد لا يغرنك أنه قد قيل خال رسول الله، فالخلق كلهم عند الله سواسية، ليس بينه وبينهم قرابة إلا طاعتهم له فقط.

 فأنت بطولتك أن تعرف مقياس ربنا عز وجل، ابتغوا الرفعة عند الله، بينما هي عند الناس المال، عند الناس بالقوة.


عالم القيم وعالم الدين هو الحق عند الله عز وجل:


 أي شخص قوي يقولون هذا يده تصل إلى كل مكان فالناس يحترمونه كثيراً، كما يحترمون الغني والقوي وهذا المقياس مادي، لكن عالم القِيم وعالم الدين عند الله عز وجل، الإنسان لا يرقى إلا بمعرفته بالله وبأخلاقه الفاضلة، والدليل: أن النبي عليه الصلاة والسلام ألم يكن أعظم الخطباء؟ نعم، هو أعظم خطيب على وجه الأرض، ألم يكن أعظم العلماء؟ طبعاً.

يا أيها الأمي حسبك رتبة في    العلم أن دانت لك العلماء.

[ أحمد شوقي ]

 وبعد فقد تجد شاباً يحمل شهادة الليسانس في الشريعة، ثم يحصل على دبلوم في الشريعة، ثم شهادة ماجستير، وبعد ذلك يختار حوالي عشرين حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقوم بشرحها ويقول: هيأت أطروحة في الحديث الشريف، ونال على أثر هذه الأطروحة شهادة الدكتوراه. فمن هذا الدكتور، وماذا فعل؟ فهمَ بعضاً من أحاديث رسول الله، فأين هذا وغيره من النبي صلى الله عليه وسلم، إذا إنسان قرأ خمسين حديثاً وشرحهم وفسرهم ودرسهم فصار دكتور.

يا أيها الأمي حسبك رتبة في     العلم أن دانت لك العلماء.

 إنّ النبي عليه الصلاة والسلام كان أعظم الخطباء، شيء جميل، وأعلم العلماء، وأفقه الفقهاء، وأقضى القضاة، وأعظم المُفتين، وكان قائداً عسكرياً، وزعيماً مدنياً، ومصلحاً اجتماعياً، ولما أراد الله عز وجل أن يمدحه بماذا مدحه؟ قال سبحانه:

﴿  وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)﴾

[  سورة القلم ]

 فهذا مقياس ربنا.


الصفة المرموقة عند الله الخلق العظيم:


 الإنسان قد يكون ذكياً جداً، وطليق اللسان، وقد يكون لديه فهم عميق، ويحمل أعلى الشهادات، وهذه كلها صفات عقلية، وأما الصفة الراقية عند الله الخُلُق العظيم، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام:

(( وإنَّ مِنَ الإيمانِ حُسْنَ الخُلُقِ. ))

[ شعيب الأرناؤوط ]

ذهب حسن الخلق بالخير كله، فإذا أردت أن ترقى فكن ذا خلق عظيم، لأن الله عز وجل يمكن أن تعرفه، ويمكن أن تعرف أمره، ويمكن أن تعرف خلقه، أما خلْق الله عز وجل الفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك والهندسة والطب وعلم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والجغرافيا والفيزياء النووية والكيمياء العضوية والكيمياء اللاعضوية هذه علوم الأرض، هذه علم خلقِ الله، وأما علم أمر الله، فهو الشريعة والفقه والمقارن وأصول الفقه وأحكام الزواج والطلاق وأحكام العارية والبيوع...إلخ هذا علم الأمر والنهي وعلم الشريعة.

 لكن معرفة الله لا تحتاج إلى مدارسة بل إلى مجاهدة، جاهد تشاهد، إذا غضضت بصرك عن محارم الله فالله عز وجل ألقى محبته فيك، وتجلى عليك، وألقى في قلبك نوراً تعرفه به، هذا معنى: من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم. 

﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ*أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾   الشيء المتعلق بهم ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ﴾ وجعلنا فيهم غنياً وفقيراً، قوياً وضعيفاً، صحيحاً وسقيماً، إنسان دخله كبير، إنسان دخله قليل، إنسان على الخط الوسطي، إنسان فوق الخط الأحمر، تحت الخط الأحمر...إلخ. 

﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ فالشيء المتعلق بهم لا يستطيعون تدبيره، ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ﴾ ، فكيف بالشيء الذي يتعلق برحمة الله عز وجل! فقال سبحانه: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ﴾ .


هذه الآية فيها معنيان:


 هذه الآية من أدق الآيات:

﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ هناك معنيان للآية: أما المعنى الأول سأسمعكم إياه، وأما المعنى الثاني سأبينه لكم: 

1 ـ المعنى الأول:

 المعنى الأول: قد جعل الله غنياً وفقيراً لحكمة بالغة، وجعل قوياً وضعيفاً، وجعل صحيحاً وسقيماً، وجعل ذكياً وأقل ذكاءً، وجعل وسيماً وأقل وسامة، حظوظ الدنيا متفاوتة، شخص ما حجمه المالي ألف مليون، وآخر مئتا مليون، وآخر مليون، وآخر لا يكفيه راتبه يومين، هذه أرزاق متفاوتة، والعقول متفاوتة، والقوة متفاوتة، هذا هو المعنى الأول.  

2 ـ المعنى الثاني:

 المعنى الثاني: الله أعطى كل إنسان اختصاصاً، وباختصاصه تفوق على الآخرين، فأنت معك شهادة عليا، مركبتك توقفت تذهب إلى المصلح بكل أدب، فهذا الآن أعلى منك باختصاصه، وأنت بحاجة إليه، أنت معك دكتوراه بالحقوق وتعاني من صداع دائم تذهب للطبيب وتقف بأدب أمامه، فالطبيب الآن أعلى منك بالاختصاص

 هذه الآية تعني إذاً أن الله أقدر كلَّ إنسان على عمل، ويسره له، وبهذا العمل تفوق على بقية الخلق، فنحن دائماً سواسية، ولكن لكل منا اختصاص، وأنت بهذا الاختصاص سيّد، وبغير اختصاص أمي لا تفقه شيئاً، لو أعطوا عالماً من علماء الأزهر الكبار تخطيط قلب فماذا يفهم منه! يرى خطوطاً ليس إلا، بينما الطبيب ينظر إلى التخطيط فيقول: عند المريض تسرع في القلب، كما يفهم الطبيب منه أشياء كثيرة، فعالم الأزهر أمام التخطيط أُمِّي، وهذا الطبيب أمام معاني كتاب الله أُمِّي.  

﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ كل إنسان تفوق بشيء فهو سيد في مجاله، وافتقر لشيء فهو مَسُود، ولذلك قيل: "احتج إلى الرجل تكن أسيره، واستغنِ عنه تكن نظيره، وأحسن إليه تكن أميره" .

 فأنت ذو باع طويل بالعلم ولك شخصيتك عندك جهاز معطل، فلا بد لك من شخص مختص يصلحه، وتطلب منه هذا الطلب بإلحاج، لأنك لا تفقه تصليح هذا الجهاز، وهذا المعنى الثاني للآية: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ أن يكون الإنسان بخدمة أخيه، فأنت تتقن حاجة، فكل شخص له عمل، ولكنه بحاجة إلى مليون حاجة؛ فالزر اختصاص، والعروة اختصاص، الحذاء اختصاص، طبيب العيون اختصاص لضعف البصر، أحياناً يشعر بوهن بجسمه فيحتاج إلى طبيب مختص داخلية، أحياناً يريد أن يبني بيتاً فيحتاج إلى بنّاء، وإلى بلّاط، وإلى دهان، أحياناً يرغب أن يركب مركبة، فيكون لها مصلح وخبراء مختصة بالكهرباء، بالصاج، بالفرش، بالميكانيك، فأنت تتقن حاجة وبحاجة إلى مليون حاجة ولا أبالغ، فقد تشتري حاجة من السوق، فيقول لك البائع: عمر هذه الصناعة مائة سنة، مائة سنة خبرات متراكمة، فأنت تشتري هذه القطعة القائمة على خبرة العلماء والخبراء، والخاضعة للبحوث، وهذه البحوث نمت فتلافوا الأخطاء التي كانت فيها.

فهذه الآية تدل على أن تصميم ربنا عجيب؛ فقد يسّر لكل إنسان عملاً هو فيه سيّد، ومسخَّر فيه للآخرين، وهم مُسخَّرون له بمجال آخر، فقد يكون شخص لديه ابن بحاجة إلى معلم يعلمه الرياضيات، ووالد الابن قد يكون لديه معمل أو محل تجاري، والمعلم بحاجة إلى حاجيات من عنده.    


الله رفع بعض الناس فوق بعض درجات ليصبح المجتمع متكاملاً:


 المعنى بصورة عامة أن الله سبحانه وتعالى رفع بعض الناس فوق بعض درجات في الاختصاصات.

﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ ليصير المجتمع البشري متكاملاً، ولو كان كل فرد يتقن كل شيء لما بقيت حاجة ليعيش الإنسان مع أخيه، مثلاً أنت تشتري كيلو غراماً من الخبز، لو تأملت كم شخصاً عمل فيه بدءاً ممن فلح الأرض، ومن ألقى البذار، ومن حرثها، ومن سقاها، ومن سمّدها، ثم من حصد، ومن درس، ومن صوّل، ومن طحن، ومن عجن، ومن خبز، كم شخصاً؟ أنت أخذت كيلو من الخبز، أحياناً تشتري كيلو غراماً من المشمش، أين زُرِعت هذه الفاكهة؟ من سمّدها؟ من كافح الذبابة؟ من كافح المرض؟ خبراء اختصاصيون ومهندسون، وأنت بالنهاية أخذت كيلو غرامين جاهزين. 

هذه الآية: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ سخرياً؛ من السُّخرة لا من السخرية، أي الخدمة، أنت تَخدِم وتُخدَم، بهذه الطريقة الإنسان يُمتَحن، الإنسان يمتحن بالعمل، لكن الإنسان لو جعل اختصاصه لجمع المال، مسرور لأنه يملك ثروة طائلة، الله نبهه أنه ليس القصد أن تجمع الثروة من الاختصاص. 

﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ القصد من الحرفة أن تخدم بها المسلمين، فمن أين يأتي الجشع؟ حينما تريد أن تجمع ثروة طائلة من هذه الحرفة، أنت إذاً تفعل أشياء مخالفة للفطرة، ترفع الأسعار وتستغل وتطعن بغيرك، وتدلّس وتكذب وتوهم وتغش ثم تجمع ثروة طائلة، لكن: ﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ أنت قدِّم خدمات.


ليس الهدف من الحرفة جمع المال بل خدمة الناس:


 بالمناسبة أيها الإخوة، إليكم هذه الحقيقة الصارخة إن أيَّ إنسان بأي حرفة إذا وضع المادة أمامه سقط، أما إذا وضع خلفه ارتقى، وجاءته المادة، وكل إنسان صاحب حرفة مادي ينتهي إلى خسران، فاجعل همك الأول خدمة المسلمين، فإذا كنت بهذا الإتقان وبهذا الإخلاص أتتك الدنيا وهي راغمة، وإذا أردت الدنيا وحدها على حساب اختصاصك وإخلاصك وصدقك وإتقانك ذهبت منك الدنيا وذهب منك المال، واستحق الإنسان لعنة الناس، ولذا فكل إنسان يستغل حرفته لابتزاز أموال الناس، فهو ملعون عند الله وعند الناس، وكل إنسان يهدف إلى خدمة الناس والمادة وراء ظهره، يأتيه الثناء من الله ومن الناس وتأتيه المادة وهي راغمة، هذه نقطة مهمة جداً، أحياناً إخواننا الشباب يكون لهم اختصاص، فإياكم أن تجعلوا المادة كل شيء، اجعلوها وراء ظهوركم تأتيكم وهي راغمة، أما إذا جعلتموها أمامكم تذهب منكم، فالناس إذا عرفوا أن هذا الإنسان غشاش، يبتز أموال الناس، يكذب، يوهم، يبالغ من أجل أن يأخذ أموالهم فقد انتهى أمره، فأكبر رأسمال تملكه هو ثقة الناس بك، ولن يتحقق لك ذلك إلا بالتقوى، هذه الآية دقيقة جداً، والقصد منها أنك بحاجة إلى أخيك، وأخوك بحاجة إليك، وهو حينما يحتاجك تُمتَحن أنت، وحينما تحتاجه تُمتَحن، أحياناً يكون الإنسان مقصوداً في عمله فيرفع سعر البضاعة، ويخفف نوعيتها، ويقول: لا أحد يفهم، فالأسعار مرتفعة في الأسواق والذي يشتري لا يفهم شيئاً، أما إذا كان الإنسان مؤمناً لا يغير. 

فهذه الآية لها وقْع كبير ﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ شخص يرأس أكبر شركة دخله اليومي مليون ليرة، قل له: ﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ .

 عنده أرض ارتفع ثمنها مئة ضعف، لمرور شارع من أمامها ﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ لأن الإنسان عند الموت يفقد كل شيء، ولكن رحمة الله هي التي تبقى.


الاختصاصي يصل بإخلاصه إلى رحمة الله:


 من المعاني المستفادة من هذه الآية: أن الإنسان صاحب الاختصاص، كل إنسان له اختصاصه وعمله هو اختصاصه، ممكن أن يصل بعمله إلى رحمة الله، بإخلاصه وصدقه وأمانته ونصحه للمسلمين، وممكن بعدم إخلاصه وغشه وتلاعبه واحتياله أن يصل إلى المال الوفير، فربنا عز وجل يطمئننا أن رحمة الله خير من المال.

 أصحاب الاختصاص أحياناً يحتفظون ببعض الأسرار، فالطبيب قد يعطي المريض إبرة ماء مقطر فيقول المريض: والله انتعشت وصحوت، وهي عبارة عن ماء مقطر فقط، ولا شيء فيها، فالإنسان لا يعرف، أما صاحب الحرفة هو المختص.

 فصاحب أي حرفة على الإطلاق ممكن بحرفتك أن تصل إلى شيئين: إما إلى رحمة الله، أو إلى المال الوفير، لكن والله أطمئنك أنك إذا أردت الله، ونصحت المسلمين، ولم تبتز أموالهم، ولم تغشهم وصلت إلى رحمة الله، وإلى المال، أما إذا أردت المال وحده عن طريق ابتزازهم وغشهم والاحتيال عليهم، والله الذي لا إله إلا هو تخسر رحمة الله وتخسر المال، هذه النقطة مهمة جداً، فلا أحد يبتز، لا أحد يطلب أكثر من حقه، لا أحد يجعل اختصاصه استغلالاً لحاجة الناس إليه. 

الله عز وجل يقول: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ أحياناً الإنسان بخلل بسيط بدماغه يذهب اختصاصه، أنا أعرف رجلاً يحمل دكتوراه من النوع الذي نحن في أمسّ الحاجة إليه، وارتقى بالمناصب إلى منصب معاون وزير، وتزوج امرأة من أوروبا وعاش في بحبوحة ما بعدها بحبوحة، ثم فقد بصره وقبع في بيته، فصار يأتيه البريد إليه لمدة شهر أو شهرين، ثم سُرِّح من منصبه، أنقل لكم ما قاله لصديقه، قال له: والله أتمنى أن أجلس على الرصيف وأن أتسول، وألّا أملك من الدنيا إلا معطفي وأن يردّ الله عليّ بصري، فالإنسان إن كان مختصاً قد يذهب هذا الاختصاص بفقد حاسة من حواسه، قد يذهب بخلل بدماغه، أو قد يذهب بحادث سير، فيُصبح مشلولاً، فعلى الإنسان ألا يستغل اختصاصه بظلم الناس، أحيانً الإنسان يكون مطلوباً، وعنده قدره على إيذاء الناس، وابتزاز أموالهم، وأخذ ما ليس له، والآية دقيقة المعنى جداً ولئن كان قد رفعك بهذا الاختصاص، أو رفعك بهذه الوظيفة، فأنت بمنصب حساس، وتستطيع أن توقع بالناس كلها أشد أنواع الأذى، تبتز أموالهم أحياناً، قال تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ من أجل أن تخدم أخاك، لا من أجل أن تستغله: ﴿لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾


عطاء الله للإنسان امتحان له:


 حينما رفعك فوق منزلة أخيك فمن أجل أن تخدمه، ومن أجل أن ترقى إلى الله بخدمته، أعطاك اختصاصاً، فهذا طبيب، وهذا محامٍ، وهذا مهندس، وهذا يتقن هذه المصلحة، فقد أعطاك هذا الاختصاص، وهذه المهارة من أجل أن ترقى إلى الله بخدمة أخيك، فإذا أردت منه ابتزاز ماله، وتجميع ثروة طائلة ما أنزل الله بها من سلطان، فيقول لك الله عز وجل: ﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ فإخلاص الإنسان في عمله، وإتقانه لعمله وصدقه وأمانته ونصحه للمسلمين هدف سامٍ وكبير.

فممكن أن يكون عندك معمل غذائي توضع فيه مواد تالفة، مواد غير جيدة، مواد مؤذية أحياناً، إن بعض معامل الطحينة تضع إسبيداج في هذه المادة فتصبح بيضاء فيرتفع سعرها خمس ليرات بالكيلو، وهذه المادة تستعمل في الدهان، هذا يجعل كسبه للمال عن طريق تلوين هذه المادة الغذائية بلون يؤذي الناس، فكل إنسان عنده معمل، عنده صناعة غذائية، إذا استخدم مواد سيئة، مواد مهدرجة، مواد سمّيّة، مواد مسرطنة دون أن يدري أحد، ونسي أن الله يعرف كل شيء، والله شاهد عليه، وينتقم، فأنت حينما تخلص في خدمة المسلمين، أو خدمة الناس عامة يرحمك الله، ورحمته خير لك من المال كله.

 ما كل ربح هو مال، فأحياناً تربح رحمة الله، تربح محبته لك، تربح رضوانه، تربح الاطمئنان بالنوم، فليس لديك مشكلة، لم تبنِ ثروتك على أنقاض الناس، لم تأكل أموالهم بالباطل، من هنا تربح ﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾

الدرس القادم إن شاء الله تعالى:

﴿  وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ(33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ(34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ(35)﴾

[  سورة الزخرف ]

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور